نفحات قرآنية حول تفضيل الرسل بعضهم على بعض
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (254)

التفسير:

يقول الله تعالى أنَّ هؤلاء الرسل الذين سبق ذكرهم، كان بعضهم أفضل من البعض الآخر مقاماً ومكانةً. وقال هذا لأنه بذكر الأنبياء السابقين نشأ سؤال طبعي: هؤلاء الأنبياء السابقون قد بُعثوا إلى أُممهم، وعارضتهم أُممهم فقط، ولم تكن مواجهتهم معارضة عالمية، ولكن محمداً يُعلن أنه مرسلٌ إلى العالم كله بشيراً ونذيراً (الفرقان: 2).. فكيف يمكن أن يتغلب على العالم كله؟ فردّ الله أنَّ للكمال آلاف الدرجات، وهناك مدارج مختلفة تمتّع بها الأنبياء بحسب درجاتهم، وكون الرسول نبياً منهم لا يعني أنه لا يفْضُلهم، فَداود كان نبياً وملكاً أيضاً وبذلك كان له فضلٌ على بعض الأنبياء؛ وكذلك فُضِّل محمد. كان داود أفضل من بعض الأنبياء ولكن محمداً أفضل الأنبياء جميعاً. ولقد صرَّح النبي أنه “لو كان موسى وعيسى حيَّيْن لما وسِعهما إلا اتباعي” (اليواقيت والجواهر للشعراني، وابن كثير) .

قال البعض عن قوله مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ أنَّ معناه إنَّ الله تعالى كلمهم مشافهةً بدون واسطة جبريل. وأرى أنَّ المراد منه الأنبياء الذين جاءوا بشرعٍ جديد. أما من ذُكروا في وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فَهم الذين لم يأتوا بشرعٍ جديد. ذلك لأنَّ كلام الله يتم مع كل رسول.. وإلا لا يمكن أن يكون نبياً. ثم إنَّ كل نبي هو على درجةٍ عالية عند الله.. لكن تكون المقارنة بينهم على ضوء الشرع، فبعضهم أصحاب شرعٍ جديد، وبعضهم نال النبوة بدون شرعٍ جديد.. مثل عيسى بن مريم، فإنه لم يُعطَ شرعاً جديداً. وإنّما أُعطيَ النبوة فقط.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه قوله تعالى عن موسى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (النساء: 165). ويؤكّده أيضاً حديثٌ للنبي عن أبي ذرّ أنّ رسول الله قال: “أول نبي كان آدم، فقلت: ونبيٌّ كان؟ فقال: نعم، نبيٌّ مكلَّم” (مسند أحمد). فثبت من ذلك أنَّ من الأنبياء من ليس مُكلَّمَاً. ولما كان جميع الأنبياء يتشرَّفون بكلام الله.. كان المراد من الكلام هنا كلام الشرع الجديد.

ومعنى قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ أنهم وإن لم يكن لهم شرعٌ جديد ولكنهم نالوا درجة النبوة الرفيعة، كما قال الله في موضعٍ آخر: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ (البقرة: 88).. أي آتينا موسى شرعاً، ثم بعثنا بعده أنبياء كثيرين على التوالي لنشر تعليمه وشرعه. كل هؤلاء الأنبياء لم يكن لهم شرعٌ جديد، وإنما كانوا تابعين لشرع موسى – عليهم السلام.

قوله وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . لنتذكّر أنَّ الخطاب هنا لليهود، ولذلك ذكر المسيح ببعض صفاته لإقامة الحجّة على اليهود. ولم يكن القصد من ذلك بيان ميّزة خاصة للمسيح لا توجد في الآخرين كما يظنّ المسيحيون.

وبقوله وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يُشير أيضاً إلى أنَّ المسيح لم يأتِ بشرعٍ جديد، وإنّما قدَّم بعض ما جاءت به التوراة بصورةٍ بارزة، وكان الله تعالى يؤيّده. ذلك لأنَّ شرع بني إسرائيل كان قد اكتمل وقتئذٍ، ولكنهم بالتدريج أهملوا مغزى الأحكام واكتفوا بالقشور. فجاء عيسى – عليه السلام – لدعوتهم إلى العمل بالتوراة كما قال المسيح نفسه “لا تظنُّوا أنني جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئتُ لأنقض بل لأُكمِّل” (متّى 5: 17).. أي أنه لم يُبعث لنسخ شريعة التوراة وكُتُب الأنبياء وإنّما بُعِثَ لإكمالها. وفي الجانب الآخر كان لا بدّ أيضاً من إصلاح الذين تمسَّكوا بالقشور دون مغزاها، وأن يبيّن لهم صراحةً أن الهدف من ظاهر الشرع هو إصلاح الحياة الدنيا والاستعانة به على إقامة الشرع الباطن.. لأنّ الأصل الحقيقي هو الطهارة الباطنة والقداسة الروحية. وهذه المهمة أناط الله بها عيسى. فهو من ناحية قدَّم للناس التعاليم الموسوية بالصورة الأصلية، ومن ناحيةٍ أخرى بيّن للمتمسِّكين بالقشور أنَّ لهذا الظاهر باطناً أيضاً، ولو لم تراعوا الباطن والمغزى فسوف يصبح الظاهر لعنة (متّى 6: 4-18). مثلاً الصلاة خير، ولكن إذا اكتفيتم بأداء الصلاة الظاهرة، ولم تُقيموا الصلاة الباطنة.. فسوف تصبح هذه الصلاة لعنة لكم. والصوم عملٌ طيب، ولكنكم إذا اكتفيتم بالجوع ولم تصوموا صوماً باطناً.. فسوف يصبح صومكم لعنة. وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بكلماتٍ أخرى فقال وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (الماعون: 5).. أي هناك من المصلّين من تكون صلاتهم لعنةً لهم. وقد وضّح الرسول للمسلمين هذه الأمور تماماً ولذلك لم ينخدعوا. إنَّ قيام الرسول بتوضيح هذه الأمور مذكورٌ في نبأٍ للمسيح ابن مريم فقال: “وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يُرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به” (يوحنّا 16: 13). ومع أنَّ الرسول قد قال نفس ما قاله المسيح – عليهما السلام.. إلا أنّه وضّحه للمسلمين إيّما إيضاح، ولذلك لم ينخدعوا ولم يعتبروا الشرع لعنة.. وإنّما اعتبروا الشرع لعنة إذ كان العمل غير مصحوب بطهارة القلب والإخلاص والتقوى. أما المسيحيون فقد انخدعوا بكلام المسيح عندما ضعُفت فيهم الروحانيّة، وأساءوا التأويل واعتبروا الشرع لعنة، ولم يفكّروا أنَّ الشرع لو كان لعنة فلماذا صام المسيح وحوّاريوه، ولماذا عبدوا الله تعالى، هذا يؤكّد أنّهم لم يعتبروا ظاهر الشرع لعنة، وإنما كانوا يرون أنه إذا لم يصحب العملَ الظاهري إصلاحُ الباطن يصبح لعنة.

فيقوله وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني أننا أخبرنا عيسى بأسرارٍ خاصة لطهارة القلب، وأمرناه بالتركيز على الطهارة الباطنية، وعلَّمناه حِكماً خفيةً لأحكامٍ ظاهرة. وكأنه في زمنه بدأ التصوّف يدخل في مرحلة البلوغ.

وقوله وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ اخْتَلَفُوا .. يعني أنه بعد رؤية كل هذه الأحداث التي وقعت للأنبياء كان على هؤلاء الناس أن يرجعوا إلى الصواب ولا يميلوا إلى المعارضة في المستقبل، ولكن عندما بُعث هذا النبي أيضاً اختلفوا معه، فبعضهم آمنوا به وبعضهم رفضوه.

ثم قال وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ . لو أراد الله أن يهدي الناس بالإكراه لهداهم ولم يختلف أحد، ولكن لما كان الهدف من خلق الإنسان أن تتاح له فرصةٌ لعمل الخير أو الشر بكل حرية، وما دام قد قرّر أن يمنح الإنسان القدرة على فعل الخير أو الشر، ثم يحاسبه بحسب ما يختار، لذلك فإنه يعمل بحسب قراره هذا، ولا يُبالي باعتراض الناس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك