اقتبست لك

اقتبست لك

نسجت كثير من الشعوب الأمثال وصيّرتها في قوالب شتّى تتعدَّد أنماطها التعبيرية والتصويرية وفق تصوّراتٍ ثقافية واجتماعية تهدف إلى إيصال الفكرة الاعتبارية المثالية المستوحاة من صميم تجربة الإنسان وتفاعله مع الحياة. لهذا كان أدب الأمثال قاسماً مشتركاً بين جميع الأمم والشعوب تتشارك في صنعه وصياغته بما يغني الفكر الإنساني وموروثه الثقافي. ولعلّ قصة هذا المثل الذي بين أيدينا والمستوحاة من أشهر الكتب العالمية في القصص الأدبي الأصيل (كليلة ودمنة) تجعلنا نتفهّم الغاية التي ترمي إليها، فنستفيد لغة مشرقة، وأدباً عالياً، وحكمةً هادفة.

مثل الناسك والفأرة:

زعموا أنَّ ناسكاً كان مستجاب الدعوة، فبينما هو ذات يوم قاعدٌ على شاطئ النهر إذ مرّتْ به حِدَأة (1) في رجلها دَرْصَةٌ (2) فوقعت منها عند الناسك. فأدركَهُ لها رحمة، فأخذها ولفّها في رُدنِهِ (3) وأراد أن يذهب بها إلى منزله. ثم خاف أن يشقّ على امرأته تربيتها، فدعا ربّه أن يحوّلها إلى جارية. فتحوّلت جارية وأُعطِيتَ حُسناً وجمالاً. فانطلق بها الناسك إلى منزله، وقال لامرأته: هذه ابنتي فاصنعي بها صنعَكِ بولدِكِ. وربَّاها أحسن التربية، ولمْ يُعلِمْهَا قصتها وما كان منها.

فلما بلغت اثنتي عشرة سنة قال لها: يا بُنيَّة! إنّكِ قد أدركتِ، ولا بدّ لكِ من زوجٍ يقوم بأمركِ ويكفلكِ، ولنفرغ من الشغل بك. فاختاري من أحببتِ من الناس كلهم أُزوّجكِ منه. قالت الجارية: أريد زوجاً شديداً منيعاً، فقال الناسك: ما أعرف أحداً كهذا إلا الشمس.

فانطلق الناسك إلى الشمس فقال لها: إنَّ عندي جاريةً جميلة، وهي بمنزلة الولد لي، وأنا أسألك أن تتزوّجيها. فقالت الشمس: أنا أدُلُّكَ على من هو أقوى مني وأشدّ. قال الناسك: ومن هو؟ قالت: السحاب الذي يسترني ويذهب بضوئي. فأتى الناسك السحاب فسأله تزوّج الجارية. فقال أنا أدُلُّكَ على من هو أقوى مني وأشدّ: الريح التي تُقبِلُ وتُدبِرُ. فانصرف الناسك إلى الريح فسألها تزوّج الجارية، فقالت له: أنا أدُلُّكَ على من هو أقوى مني: الجبل الذي لا أستطيع أن أُحرّكه. فانطلق الناسك إلى الجبل فقال له مثل ما قالته الريحُ. فقال له الجبل: أنا أدُلُّكَ على من هو أقوى مني. الجُرذُ الذي ينقبني فلا أستطيع له حيلة ولا أمتنع منه. فقال الناسك للجرذ: هل أنت متزوّجٌ هذه الجارية؟ فقال الجُرذ: كيف أتزوّجها وجُحري (4) ضَيِّقٌ. فقال الناسك للجارية: هل لك أن أدعو ربي أن يُصَيِّرَكِ فأرةً وأزوّجك بالجرذ؟

فَرَضِيَتْ بذلك. فدعا ربّه أن يحوّلها فأرة، فتحوّلت فأرة فتزوّجت الجرذ.

فهذا مثلُكَ أيُّها المخادع في العَوْدِ إلى أصلِكَ.

(كليلة ودمنة، لابن المقفع)

شرح الكلمات الصعبة:  (1) الحدأة: طائرٌ يصطاد الجرذان والفئران. (2) الدرصة: الفأرة. (3) الردن: أصل الكم. (4) الجحر: الوكر.
Share via
تابعونا على الفايس بوك