القتل باسم الدين

الفصل الأول

الدين يقطُرُ دمًا..

هل ابتدأ تاريخ البشرية بلعنة قابيل؟ إنه على أية حال رواية دموية للجريمة والاغتيال والتعذيب. سالت دماء غزيرة عبر تاريخ البشرية تكفي لصبغ الأرض كلها باللون الأحمر.. بل وتفيض. متى يتوقف الإنسان عن قتل رفاقه من البشر؟ ومتى يبلغ العطش الدموي حد الارتواء؟

كان هابيل أول قتيل بيد أخيه.. وبلا سبب. سجل القرآن والتوراة هذه الجريمة لتكون عبرة لنا جميعًا، وستبقى مثلاً إلى آخر الزمان. ادرس التاريخ البشري.. يتبين لك بوضوح أن الإنسان كائن عدواني.. لم يروض عدوانيته تقدم المدنية المستمر. لا يزال إنسان اليوم وحشًا قاسيًا كما كان منذ آلاف السنين. وقصة تجرده من الرحمة قصة طويلة مؤلمة: نار العدوان البشري لم تخمد بعد.. رغم انقضاء القرون الطويلة عليه وهو في حياة التوحش.

اغتيال الأفراد، وإبادة الجماعات أمر يتكرر عبر التاريخ. فطالما هاجمت الدول دولاً غيرها، وتحاربت الأقطار مع الجيران والأباعد، وغزت الجحافل البشرية القادمة من المراعي أو الصحاري بلادًا ذات حضارات قديمة. أسال قيصر والإسكندر الدم أنهارًا، وخرب هولاكو وجنكيز خان مدينة بغداد، وارتوت أرض كيروكشترا الهندية بدماء قبيلتي كاورافاس وباندافاس.

جرى الدم أحيانًا باسم الشرف، وأحيانًا أخرى باسم الانتقام من أخطاء مزعومة. واكتسحت الجموع البشرية الغاضبة أراضي مسالمة طلبًا للطعام حينًا.. وطمعًا في السيادة والتوسع أحيانًا. بيد أن الإنسان الذي خلقه الله على صورته كثيرا ما سفح دمه باسم خالقه! واتخذ الدين مبررا للقتل الجماعي. ومن ير هذا الجانب من الطبيعة البشرية يتساءل عما إذا كان البشر هم أحط وأعنف الأجناس على سطح الأرض! يُنتظر من البشر أن يتحضروا بتأثير الدين.. لكنهم، يا أسفاه، جعلوا الدين يقطر دمًا! تذكرنا هذه الحقيقة بالقصة التي وقعت عند خلق آدم ، والتي سجلها القرآن والتوراة، يقول القرآن المجيد:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: 31).

هذا الحوار فيما بين الملائكة والخالق جل وعلا يسبب الحيرة؛ لأن كل كتاب للتاريخ البشري يبدو في جانب الملائكة، ويؤيد أنهم كانوا على حق. وإذا كان الأمر كذلك.. فلماذا رفض الله تعالى (نصحهم).. ولم يقبل (اعتراضهم) على خطته؟ لم يقبل الاعتراض لأنه في واقع الأمر اعتراض على النبوة.. ثم هو في النهاية، اعتراض على نبوة خاتم النبيين محمد .

تاريخ الأديان في أي جزء من هذه الدنيا.. وفي أي فترة زمنية.. هو تاريخ التعذيب، والقهر، والقتل، والصلب. ومما يخيب الآمال أن الدين.. والأصل فيه أن يكون الملاذ الأخير للسلام في عالم من الحرب والصدام.. ما انفك ذريعة للتدمير وسفك الدماء. والحق أن الدين ليس في حد ذاته السبب الحقيقي وراء القتل الجماعي، ومن الخطأ أن نحسبه كذلك، فما شُرِّع الدين ليحث الناس على القتل.

يحس المرء بالرضا ممزوجا بالدهشة.. عندما يتبين له أن الله تعالى لم يجعل الدين لهذا الغرض.. وينبثق أمام الإنسان حينئذ بصيص من الأمل. فخليفة الله الذي اعترضت الملائكة على خلقه، هو في حقيقة الأمر مصلح عظيم.. دعا إلى دين اسمه الإسلام.. أي السلام.

ويبقى بعد ذلك هذا السؤال، لماذا يبدو للرائي من أول وهلة أن التاريخ يعطي انطباعًا بأن الدين يجيز إراقة الدماء والقتل باسم الإسلام؟ يجلّي القرآن المجيد هذه المسألة تمامًا، ويوضح السبب، ويجيب على السؤال. حكى لنا القرآن أحداث الماضي ليبين أن الذين يشرعون الوحشية باسم الدين.. إما أنهم كانوا أعداء للدين، أو أنهم فسدت فيهم عقيدتهم الدينية. نعم، هناك قيادات دينية حُرمت دفء المودة والشفقة والرحمة والتقوى.. وتقتضي الأمانة القول بأن هؤلاء منافقون.. شَبِقون إلى السلطة.. وتسيطر عليهم نزعة القوة.. ومن الخطأ أن تُنسب سيئات مثل هؤلاء الناس إلى الدين. الحقيقة الحقة أن الله تعالى (منبع الرحمة).. لا يسمح لأتباع دينه أن يضطهدوا خلقه.

يسوق القرآن المجيد عديدًا من الأمثلة التاريخية ليدلل على هذه الحقيقة. قص علينا أخبار الأنبياء السابقين، وقدمهم إلينا مُثلاً كاملة للإصلاح والدعوة الدينية. ولو كان الله تعالى يبيح استخدام القوة الجبرية في هذا المجال لكان بالتأكيد قد أجاز لمؤسسي الأديان هؤلاء استعمالها. إنه لمن البيِّن تمامًا أن الإكراه ممنوع البتة. وما لجأ إلى استعماله أتباع الأنبياء الذين بعد بهم العهد إلا لأنهم ورثوا الدين محرفا بفعل الزمن، أو أنهم أنفسهم كانوا فاسدين، فاستخدموا القسر باسم الدين مع أن الدين يرفضه.

تاريخ الدين في القرآن يقدم أمثلة وحالات ونماذج متعددة لأقوام لا دين لهم.. استخدموا الإكراه والعنف باسم الدين. وفي سبيل الله لقي الناس أشد العذاب على يد أقوام لم تكن لديهم أدنى معرفة بالله. دعا نوح قومه إلى الصلاح والتقوى.. وما كان ظالمــًا، ولكن الذين أرادوا كتم صوته كانوا خاطئين. لما سمعوا رسالته قالوا:

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء: 117).

تاريخ الاضطهاد الديني كما يحكيه القرآن.. يبين بوضوح أن متبعي الأديان السماوية الحقة كانوا دائمًا وأبدًا فريسة للعنف. يقدم القرآن إبراهيم كمثال، إذ دعا قومه إلى الله، متوسلاً بالحب والعطف والتواضع. لم يكن بيده سيف أو أي سلاح آخر، ولكن الملأ من قومه فعلوا معه ما فعله أعداء الدين مع نوح . قال له أبوه آزر: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ (مريم: 47). كلمات آزر هي عينها كلمات أعداء نوح . ولقي كل من نوح وإبراهيم عليهما السلام الإهانة والإذلال، والضرب والتعذيب، ولكنهما تقبلا ذلك كله بالصبر والثبات. لقد أشعل قوم إبراهيم في وجهه نار المعارضة والإيذاء، بل إنهم حاولوا إحراقه حيًّا. ولوط عارضه قومه، وما كانوا يفقهون عن الدين شيئًا.. عادوه وقاوموه مع أتباعه باسم الدين، هددوه باستعمال العنف معه، وأنذروه وأنصاره بالنفي، وفعلوا كل ما في وسعهم للحيلولة بينه وبين الدعوة إلى دينه. ويتكرر نفس المشهد مع شعيب .. إذ قال له معارضوه المستكبرون:

لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (الأَعراف: 89).

ويثبت القرآن بهذه الأمثلة أن للدين الحق أسلوبًا خاصًا للدعوة، وأن لأعداء الحق طريق الجبر لمناهضته. وجواب شعيب على تهديدات قومه يمثل موقف أنبياء الله جميعًا. قال شعيب: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين ؟! محال أن تغير القلوب بالإكراه. هل يمكن لإنسان أن يعود إلى دين نبذه بعدما تبين له زيفه؟ هل من المستطاع أن يصد المرء عن دين ارتضاه بعد أن عرف صدقه؟

لم يستطع طاغية أبدًا أن يخرج عن هذا المنطق. والحقيقة التاريخية تؤكد أن السيف أعجز من أن يتحكم في قلوب الناس. إذا استطاعت قوى القهر أن تخضع الجسد البشري فليس بوسعها أن تخضع الروح. والإيمان من أمور القلوب.. وهو من الفطرة البشرية التي لا تتبدل أبدًا. ولن ينفك الأبرياء، الذين حكم بإعدامهم باسم الدين من لا يعرفون الدين.. لن ينفكوا رافعين أصواتهم منددين بهذا الظلم المبين. وسيطرق الأسماع احتجاجهم: أولو كنا كارهين!؟ هل تريدون منا أن نستمسك بعقائد مجَّتها عقولنا؟ وكلما يُثار هذا التساؤل.. يهب أعداء الدين في كل الدنيا فيتهمون الأنبياء بالردة، ويحكمون عليهم بالقتل، ويبتكرون لهم من وسائل التعذيب والعقوبات ما هو مجرد عن الإنسانية.

وتمضي قصة العنف لا تلوي على شيء. ويلقى موسى وأتباعه نفس المصير على يد (أئمة) الدين في زمنهم: فرعون، وهامان، وقارون.. الذين قالوا:

اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ .

الأنبياء لم يعاقبوا أحدًا تحول من دين إلى دين، ولكنهم هم الذين عوقبوا مع أتباعهم بتهمة (الردة) المزعومة. وبعد موسى احتمل عيسى عذابًا مماثلاً، وعنفًا تصاعد حتى بلغ ذروته عندما حاولوا قتله على الصليب. كان سفك الدماء والعنف دائمًا باسم الدين، وكان الضحايا دائمًا يدانون بتهمة الارتداد.. ومع ذلك فما من كتاب سماوي شرع عقابا دنيويا على من يتحول من عقيدة إلى غيرها. وإذا كانت نصوص الكتب السماوية قد حرفتها أيد غير أمنية.. فليس اللوم على الكتب.. لأن الله تبارك وتعالى الذي أوحاها إلى أنبيائه لا يمكن أن يضمنها تعاليم تحض الناس على ممارسة العنف في أمور العقيدة.

وبقصص الأنبياء وتاريخ الأديان يدلل الله على أن النبيين ومتبعيهم كانوا دائمًا ضحايا للعنف، وأنهم تقبلوا تلك الوحشية بالصبر. وإذا كان التعذيب باسم الدين مرفوضًا ومستبعدًا من ناحية العقيدة، فإن أنبياء الله الذين بعثوا ليحولوا أقوامهم إلى دين جديد لا يمكن أن يقبلوا بهذا التعذيب.. لأنهم لو قبلوا به لصارت رسالاتهم هراء وحماقة. ويخبرنا القرآن أن أتباع أحد الأنبياء تلقوا الأذى في حياته.. واستمر الإيذاء واقعًا بهم مئات السنين بعد وفاته.. ومثل هذا الاضطهاد لا يمكن أبدًا أن يلقى القبول عند الله.

القصة القرآنية عن أهل الكهف.. وهم المسيحيون الأوائل.. تحكي لنا أنهم اضطهدوا لمدة ثلاثمائة عام. ولقد شاهدت بنفسي تلك الأماكن التي تعذب فيها أولئك المساكين.. مدرجات أعدوها لهم ليتصارعوا مع الثيران والأسود حتى الموت.. كانوا يلقون بهم عراة أمام الوحوش الكاسرة الجائعة. كانت الوحوش تعوي ثم تنقض لتجهز على المسيحيين المجردين من وسائل الدفاع. يجوعون الثيران أياما ثم يدفعون المسيحيين (المرتدين) أمامها. وتندفع الثيران الهائجة فتمزق أجسام الضحايا بقرونها، أو تحطم أضلاعهم بأظلافها. وينقلب الرومان ضاحكين متهللين بعد هذا الاحتفال الدموي.. الذي أنزلوا خلاله العقاب (الملائم) بالمرتدين. وبينما وقف (المرتدون) المساكين لا تقوى سيقانهم على حمل أجسامهم المرتجفة.. كانت قلوبهم تنبض قوية بالإيمان بالله.

استمر التعذيب ينزل بهم من حين إلى حين لمدة جاوزت ثلاثة قرون. كانوا يفرون إلى المخابئ كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ونزلوا إلى السراديب العميقة في باطن الأرض. وما تزال هذه المتاهات الجوفية قائمة إلى اليوم.. تذكرنا كيف عالج المسيحيون الحياة مع الحشرات والعقارب والثعابين.. مفضلين ذلك على حياة القهر مع (أئمة الدين) في عباءاتهم وملابسهم الموشاة الجميلة!

ويذكر القرآن بالإضافة إلى أصحاب الكهف فريقًا آخر من المسيحيين، آمنوا بالله وحده، أي ارتدوا بلغة قومهم.. فأنزلوا بهم عقوبة الإحراق بالنار. يقول القرآن:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (البروج: 2-10)

ومما يزيد هذه الشرور شناعة وقبحًا.. أن حماة الدين المزعومين هؤلاء.. هم في الواقع يمنعون الناس من عبادة الله، ويحس ضحاياهم بأشد الكروب، لأنهم يحال بينهم وبين العبادة، وهذا يؤلمهم أكثر من آلام التعذيب البدني على قسوتها. يقول القرآن:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا (البقرة: 115).

وإذن، فالقرآن يرفض تمامًا فكرة الإكراه وكبت الحرية الدينية، ويعلن أنه إذا كان الإكراه الديني يرتكب أحيانًا.. إلا أن المؤمن الصادق في دعوته إلى الله لا يسلك هذا السبيل بتاتًا.

كل ما روي حتى الآن يحكي قصة اضطهاد للأنبياء الذين بُعثوا قبل العصر الذي أراد الله أن يعم بنوره الدنيا كلها. وعندما أشرقت شمس الحقيقة السرمدية في سماء الجزيرة العربية.. سرعان ما استضاءت أرجاء الأرض كلها بنور الرسالة المحمدية.

لطالما تشوقت الدنيا إلى طلعة أعظم الأنبياء.. انقضت آلاف السنين، بعث خلالها مائة وأربعة وعشرون ألفًا من النبيين.. وأخيرًا، جاء الإنسان الذي خُلقت الدنيا بأسرها من أجله.. مظهر المجد الكامل لخالقه.. الأعظم بين الأنبياء.. صاحب الدين الكامل.. ولكنه أيضًا لم يسلم من الاضطهاد. لقي منه ما لا مثيل له. سيدنا ومولانا.. محمد رسول الله تحمّل من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد.. كل ما يتصور أن يتعرض له الأنبياء السابقون وأتباعهم.

أُلقي بالمسلمين الأوائل تحت لهيب الشمس المحرقة، ووضعوا على صدورهم أحمالا من الأحجار المتقدة.. سحبوهم في طرقات مكة كالحيوانات النافقة.. اعتزلهم قومهم، وحاصروهم، وحرموهم الطعام والشراب.. حبسوهم في سجون ضيقة.. صادروا ممتلكاتهم.. فرقوا بينهم وبين أهليهم.. أسقطوا النساء الحوامل من فوق الإبل، ووجدوا المتعة والبهجة في موتهن المحقق.. مثلوا بأجساد القتلى وقطعوها إربا.. أكلوا كبد حمزة عم النبي تشفيًا وانتقامًا.. أعملوا في الأجسام السيوف والحراب.. سلطوا الأراذل والرعاع والمجرمين ليرشقوا النبي بالأحجار.. طارده الغلمان والسفهاء حتى تخضبت حصباء الطائف بدمه الطاهر.. ألقوا على جسده فضلات الذبائح ونفاياتها.. ويوم أُحد، غارت حلقات المِغفر الحديدية في وجنته الشريفة وكسرت بعض أسنانه.

سالت كل هذه الدماء باسم الدين.. وجرم المسلمين أنهم قالوا: ربنا الله. وقعت هذه المظالم والاضطهادات والتعذيب باسم الدين.. لأن أهل مكة أدانوا النبي وأصحابه (بالارتداد)، وسموه (الصابئ).. تارك دين أجداده إلى دين جديد. اتخذ أهل مكة من وسائل القمع والتعذيب ما يتذرعون به للقضاء على هذا (الشر) القادم.. مثلما فعل أشياعهم من قبل. وتحمل محمد مع صحابته كل ما وقع بهم بصبر وجلد زمنًا طويلاً، وأثبتوا للدنيا كلها أن أعداء الدين هم الذين يرتكبون الشرور.. أما أهل الحق فهم برآء من ذلك.

ها هو ذلك النبي الذي آتاه الله الدرجة الرفيعة والمقام المحمود، لا يبدي نحو مضطهديه إلا فائق المحبة والرحمة والصفح في مقابل شرهم وعدوانهم. وعندما جاءه النصر الحاسم، وتحققت له الغلبة التامة على مشركي مكة.. أصدر عفوًا عامًا شاملاً عمن اضطهدوه.. فلا مذابح ولا انتقام، ولا اعتقال ولا إعدام.. بل إعلان قرآني رفيق:

لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (يوسف: 93).

في ذلك اليوم الأغر.. حظي بصفحه أعتى القساة، ونعم بتسامحه من عذبوا العبيد المساكين، ونال عفوه الذين سحلوا المسلمين في طرقات مكة. كان الغفران منه لمن رجموا المسلمين بالأحجار بمثلما كان لأهل السلم.. بل وفازت به المرأة التي أكلت كبد عمه!

لو أن صفحات تاريخ العالم منذ آدم فُقدت من كتاب الوجود.. وضاع معها سجلات الاضطهاد ومواثيق الحقوق الإنسانية.. لكانت نظرة واحدة على سيرة النبي فيها الكفاية وأكثر.. للتدليل على أن الدين الحق لا يتولد عنه في أتباعه أية بغضاء أو اضطهاد أو قمع أو حجر على الفكر.

لم تقتصر تعاليم النبي على دعوة التسامح الديني فحسب، بل أصدر القرآن بلاغاً عامًا. يتفق مع كون نبي الإسلام هو حقًا وصدقًا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 108). وما الحاجة إلى الإكراه بعد أن قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ، ولم يعد ثمة احتمال للخلط بينهما. ويبدو هذا الإعلان في ظاهره عجيبًا وفريدًا. فمن ناحية، كانت هناك سلطة استبدادية عقدت العزم بكل ما في وسعها من حيلة على استئصال جماعة صغيرة من الناس بسبب (ردتهم)، وفي الناحية الأخرى، عندما تصبح هذه الجماعة (الصابئة) ذات قوة وشوكة.. إذا بالقرآن يقول لهم:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا (البقرة: 257).

هذا الإعلان العام جاء في سورة البقرة.. التي نزلت بالمدينة على مدى سنتين أو ثلاث سنوات بعد هجرة الرسول إليها.. وكان المسلمون قد تخلصوا من اضطهاد أهل مكة، وصار لهم بأس ومنعة أيضًا. وأصبح بوسعهم أن يردوا الاضطهاد والتعذيب والقهر بمثله، وإذا بالإعلان القرآني يذكرهم بالمنهج الإلهي الثابت: (لا إكراه في الدين). فهل هناك ما هو أعظم رحمة وأبلغ كرمًا من هذا البيان.. يجري على لسان نبي.. كان قبل سنتين أو ثلاث يتعرض لأشد الاضطهاد بتهمة (الارتداد) عن دين قومه؟

إن الذين يضطهدون الناس باسم الدين إنما يجهلون جوهر الدين جهلاً تامًا.. لأن الدين توجه قلبي. إنه ليس عملاً من أعمال السياسة، ولا ينخرط أشياعه فيه على أنه حزب سياسي. وليس الدين قومية ذات ولاء محدود، وليس قطرًا له حدود جغرافية.. إنه انسلاخ يجري على القلب من أجل صالح الروح. إنه يحدث هناك في أعماق القلب، حيث لا تصل إليه سيطرة السيوف. وإذا كان الاضطهاد باسم الدين هو النغمة المزعجة الرتيبة في تاريخ العدوان البشري، فإن حرية العقيدة هي الترنيمة الجميلة.. التي تتردد في جنبات القرآن المجيد. طلب القرآن من النبي أن يردد على مسامع الناس توجيه الله تعالى:

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 30)

ومن البديهي أن الحق موضوع قلبي، لا علاقة بينه وبين الإكراه. ما أن يدخل الحق قلب الإنسان إلا ويستحيل على أية قوة أن تخرجه منه. لذلك يؤكد القرآن تأكيدا جازما.. أنه بعدما يتضح الحق فالناس بالخيار: يقبلون أو يرفضون.

وعلاوة على هذا، وفي موضع آخر، يزيد القرآن الموضوع وضوحًا حيث يقول:

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (المزمل: 20) و(الإنسان: 30).

وما من مادة في ميثاق لحقوق الإنسان تفوق وضوح التعبير القرآني: (فمن شاء).. فهي صيغة تامة شاملة للتعبير عن حرية الاختيار. ومن العجب العجاب بعد كل هذا البيان والوضوح تجاسر بعضهم على الزعم بأن الإسلام يبيح استخدام الجبر في أمور الدين.

وفي سورة أخرى يطلب القرآن من النبي أن يوضح موقفه الشخصي:

قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ، وأما أنتم أيها الناس.. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (الزمر: 16).

ولما كانت حرية العقيدة الدينية.. حرية الإيمان والدعوة.. هي حجر الأساس للدين؛ ولما كانت القوى المعادية للدين ترمي إلى قمع التحول من دين إلى دين، لذلك أكد القرآن تأكيدًا قويًا على حرية التحول هذه. وتختتم سورة (الكافرون) بآية رائعة تضع قاعدة عامة لجوانب الحرية الدينية، وتبين موقف الدين الصادق من هذه القضية، وتقول في إيجاز.. ولكنه بليغ جازم، وترفع شعار: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ .

وأيضًا يشير القرآن إلى هذه القاعدة، موجهًا خطابه إلى النبي في تساؤل بلاغي، يستنكر فكرة النزوع إلى الجبر، ويستبعدها تمامًا من مخيلة المسلمين، فيقول:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 100)

إنها مشيئة الله العزيز.. اقتضت أن يُفطر الإنسان متمتعًا بالحرية الكاملة في اختيار عقيدته الدينية.. إيمانًا أو كفرًا، قبولاً أو رفضًا، لا إكراه ولا قسر.. على الإنسان أن يستعمل ملكة العقل والفهم التي زوده الله بها. ثم إن الإيمان على أية حال إنعام رباني.. يهبه الله لمن كان مستحقًا له.

مائة وأربعة وعشرون ألفًا من النبيين.. بعثوا إلى هذا العالم عبر القرون الطويلة.. أظهروا بتعاليمهم وأسوتهم أن حمَلَة الهدي الإلهي تعرضوا للظلم والاضطهاد.. ولكنهم لم يكونوا أبدًا من الظالمين. كان النصر حليفهم الدائم، يصلون إلى القلوب بقوتهم الأخلاقية وتأثيرهم الروحاني.. من دون أي سلاح مادي.

إنها لمأساة حقًا.. أن يقوم كهنة مرسومون، ومشائخ موظفون.. باضطهاد الأبرياء باسم أنبياء الله الذين كانوا مضطَهَدين! إنهم يحتكرون الدين مع أنهم لا يعرفون عنه شيئًا. وزعموا أنهم، بإيذائهم خلق الله، وإشاعتهم أخبث الأكاذيب، وارتكابهم جرائم عنف أخجلت الإنسانية.. إنما (يدافعون) عن شرف الأنبياء. فعلوا كل هذه الفظائع قبل بعثة محمد وما زالوا يفعلون!

في أوروبا العصور الوسطى.. هب أتباع المسيح المزعومون.. باباوات وأساقفة، كرادلة وكهنة، وغيرهم من زعماء الكنيسة.. فكتبوا فصلا داميا في كتاب الإرهاب التاريخي باسم الدين.. فصلاً أطلق عليه (القديس) سانت أوجستين: (عقاب التطهير) الذي تنزله كنيسة المسيح بالعصاة. واليوم يعترف المؤرخون المسيحيون بأن (التطهير المقدس) ذاك الذي فعلوه باسم المسيح، كان عارا على الكنيسة المسيحية.

في متحف الشمع بمدينة لندن معرض عجيب، مؤثر ومرعب، يُجسِّم ذلك التعذيب.. (تأسس هذا المتحف أصلاً في مدينة باريس عام 1770م، وينسب إلى مدام توسو، ثم انتقل إلى لندن عام 1802م). على جدران المعرض تماثيل شمعية لأناس مشهورين وغير مشهورين. فيه غرفة الرعب عبارة عن جُب تحت الأرض تحتوي على تماثيل بلغت الغاية في الإتقان، حتى لكأن الزائر يراها حية تتنفس. وكم من المرات توقف بعضهم أمام موظف بشوش الوجه.. يسأله عن الطريق، لدهشته يكتشف أن الذي أمامه ليس إلا دمية لموظف.

وفي المعرض تجد (أقنعة الموت)، صاغتها (مدام توسو)، بنفسها من الشمع على وجه ملك فرنسا لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت بعد أن أطاحت المقصلة (الجيلوتين) برأسيهما. وفيه أيضًا مشنقة (أصلية)، ومعدات التعذيب على أشكال وأصناف.. منها ما يقيد الرقبة مع اليدين، وفلكة للقدمين، وعمود للجلد، ومقعد لتغطيس الضحية في الماء، وجهاز لشد العظام وخلعها، وسرير يدعى سرير (بروكرستينر) لسحب أطراف الضحية أو تقصيرها حسب مقاسه، والصلبان، وحبال المشانق.. وغيرها الكثير.. بعض هذه المعروضات تبدو فوق الاحتمال البشري، لذلك يسترونها عن الأطفال وذوي الحساسية من الكبار.

إنه عالم غريب. يرقى إنسان فيه حتى يبلغ قمة النبوة.. فيتخاطب مع خالقه؛ وينحط إنسان آخر إلى درك سحيق فيكون كاهنا.. ينظر بعين الريبة إلى (جان دارك) ويتشكك في رؤياها للملائكة. بل قد ينحط هذا أكثر وأكثر ليكون الكاهن قاضيًا في محاكم التفتيش!

تحكي أدوات التعذيب في معرض (مدام توسو) عديدا من المآسي التي جرت في محاكم التفتيش الإسبانية والفرنسية التي سميت أيضًا محاكم الاعتراف.. حيث حوكم الأبرياء بتهمة الارتداد و(التجديف)، وأُكرهوا على الاعتراف بأنهم ارتدوا عن (الدين الحق). ومن يرفض الاعتراف فليس أمامه إلا ضرب السياط، أو خلع الأعضاء، أو الوضع على (الخازوق)، أو الكي بالنار، أو الإحراق، أو القتل من غير محاكمة.. فلا مناص للضحية المسكينة سوى الاعتراف الذي يعقبه الموت ميتة تعيسة.

أصحاب المقامات الكنسية الرفيعة هؤلاء، في أرديتهم المبهرجة.. وهم يتلذذون بتعذيب المسيحيين الأبرياء.. يعيدون إلى الذاكرة مشهد المسيح ، وتاج الشوك يكلل رأسه، ودماؤه تنزف على الصليب.. يصبح بأعلى صوته: “إيلي إيلي، لم تركتني” (متى 27: 46). وأثناء طقوس العشاء الرباني.. يقوم هؤلاء القوم بتمثيلية ترمز إلى أكل لحم المسيح ، وشرب دمه، ولكنهم لا يتذكرون أن الفريسين طلبوا من بيلاطس النبطي، الحاكم الروماني، أن يصلب المسيح لكونه (مرتدًا) هجر دينهم. غير أن عملية صلب المسيح البغيضة لتتضاءل كثيرًا، من ناحية تكنولوجيا التعذيب.. إذا ما قورنت بما جرى بأمر محاكم التفتيش المسيحية.

وحُق للمسلم أن يحس بشعور الراحة ممزوجًا بشيء من الزهو.. لأن الإسلام عندما رفع شعار (لا إكراه في الدين) سد نهائيا باب كل تلك الشناعات والفظائع في وجه من يرتكبونها باسم الدين. ولكن ما أسرع ما يتبدد هذا الشعور الجميل.. ويُنغِضُ المسلم رأسه خجلا.. لمرأى (علماء آخر الزمان) وهم يتنافسون مع رجال الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى.. ويستبقون معهم في ارتكاب الفظائع باسم الدين، ويبتكرون ذرائع جديدة لكبت الضمير، وقمع حرية الفكر. ويتشدق هؤلاء (العلماء) بأنهم يذودون بذلك عن شرف النبي الذي وصفه الله تعالى بأنه (رحمة للعالمين).

يزعم هؤلاء (العلماء) أنهم الرحمة المجسمة.. مع أن قلوبهم خِلوٌ من الحنان والشفقة. إنها قلوب تفور بنار الغضب.. حتى أصبح استعمال العنف والجبر أساسًا في عقيدتهم الدينية. الله تعالى أنزل ماء وحيه الطاهر لتبترد به طباعنا، وتهدأ حدتنا، ولكنهم، باسم الله ووحيه، يوقدون نار الكراهية والحقد في قلوب الأبرياء من أتباع أمير السلام النبي محمد الذي طهر بدمه الزكي كل أرجاء الجزيرة العربية من الهمجية والتوحش. إنهم اليوم يحرضون على قتل الأبرياء العُزّل.. باسم من كان يحمي الضعفاء ومن لا حيلة لهم. إنهم اليوم يُغرون العامة لنهب بيوت المسالمين.. باسم من كان يحافظ على شرف النساء وإن كُنّ من نساء المجرمين. إنهم اليوم يفصمون عرى زيجات سعيدة هانئة لنساء مسلمات، ويصمونها بأنها سفاح حرام. إنهم اليوم يهدمون المساجد على رأس طائفة قليلة العدد.. وهبت حياتها لنشر كلمة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).. يفعلون ذلك باسم من بنى أول مسجد في المدينة، وسمح لنصارى نجران أن يتعبدوا فيه يوم أحدهم المقدس. إنهم اليوم يدمرون المساجد ويمحون كلمة التوحيد منها.. باسم من علم أتباعه احترام المعابد والكنائس.

ماذا يقول النبي يا ترى.. لو اطلع على (علماء السوء) من أمته، وسمع بذيء القول يخرج من ألسنتهم في حق الأئمة، والشتائم والإفك في حق النساء المحصنات؟

هل يدور بخلد أحد من المسلمين، ولو لحظة قصيرة، أن النبي نصح (علماء) أمته بإلقاء الخطب الاستفزازية المخربة؟ أو أنه أمرهم بإصدار توجيهاتهم النارية تحرض على إحراق القرى فوق رؤوس أهلها المساكين الفقراء؟ وإذا لم يكْفِ هذا، فيوصي حضرته (علماء) أمته بمعاملة من يخالف آراءهم من المسلمين على أنهم من الكافرين؟ وهل أباح لهم أمير السلام قتل مخاليفهم رجالاً ونساء، وحرق بيوتهم، ونهب متاجرهم، وهدم مساجدهم.. للقضاء على (ردتهم)؟

هذه المسألة جديرة بأن يتدبرها الجميع بجدية واهتمام، وينبغي على المسلمين أن يدرسوا موقف هؤلاء (العلماء).. لأن الاضطهاد، والتعذيب، والقتل، وإحراق المساكن، وهدم المساجد، لم يكن أبدًا من سنَّة النبي . يشهد كل حجر في طرقات مكة سُحل عليه (الصابئون) المؤمنون، وكل حبة من رمال الصحراء العربية.. عذب فوقها (المرتدون) المسلمون، وكل حصاة من حصى الطائف تندت بدم النبي تشهد كلها بأن مولانا العظيم.. المبعوث رحمة للعالمين.. لم يدعُ أبدًا إلى إيمان بالقهر، ولم يأمر بحرق بيت من بيوت العبادة باسم العبادة، ولم يسمح بقذف النساء في شرفهم باسم الشرف. إن المسلمين يطأطئون رؤوسهم اليوم خجلاً.. وتصرخ أرواحهم في وجه (أئمة) الدين المعاصرين.. من يدعو منهم إلى العنف باسم النبي قائلة: لقد افتريتم على تعاليم الإسلام، وكذبتم على سنة نبينا .

 

الفصل الثاني

رأيان متناقضان..

الرأي الأول:

“بعد ثلاثة عشر عامًا.. عندما فشلت كل وسائل الإقناع.. استل النبي سيفه.. السيف الذي أماط الشر والأذى، وأزال النجس والدرن من النفوس. بل وفعل السيف ما هو أكثر من ذلك، لقد أبرأ العُمي، فصاروا قادرين على رؤية نور الحق، وشفاهم من كبرهم.. ذلك الكِبْر الذي منع الناس من قبول الحق. فانحنت الرقاب الغليظة، والرؤوس المتغطرسة في اتضاع وانصياع”. (مولانا أبو الأعلى المودودي)”دعا محمد إلى الإسلام.. والسيف في إحدى يديه، والقرآن في اليد الأخرى..” (بروفسور ولفرد كانتول سميث)

الرأي الثاني:

“النقاد عميان.. فلا يستطيعون رؤية أن السيف الأوحد.. الذي استعمله محمد ببراعة.. كان سيف المرحمة، والعطف، والمودة، والتسامح. سيف قهر أعداءه، وطهر قلوبهم. كان سيفه أحد من الحسام الفولاذي. (جياندرا ديف شرما شاسترى)

رأيان متناقضان.. بشأن الطريقة التي انتشر بها الإسلام في العالم. النقاد.. والمستشرقون منهم على وجه الخصوص.. يقولون بأن الحروب التي خاضها نبي الإسلام كانت حروبًا عدوانية، وأن من دخلوا في الإسلام أُدخلوا بالقوة الجبرية. ويرى المؤرخون الموضوعيون غير المتحيزين.. أن هذا الرأي ليس له سند من الحقائق، وأن النبي لم يستعمل الجبر والإكراه في الدعوة إلى الإسلام. وأن معاركه الحربية كلها كانت معارك دفاعية، وأن انتشار الإسلام كان بفضل ما تمتع به النبي من قوى روحية وأخلاقية.

وللأسف.. هناك من القادة المسلمين من يعتنقون الرأي القائل بأن الإسلام انتشر بحد السيف، ويقسمون بعثة النبي إلى فترتين: مكية ومدنية. وعند أصحاب هذه المدرسة الفكرية كان النبي في الفترة المكية ضعيفًا عاجزًا، لذلك سعى إلى التوافق الذليل، وصولاً إلى المعايشة السلمية. ولكنه ما أن اشتد ساعده في المدينة حتى لجأ إلى السيف. ولولا هذا الأسلوب.. ما حدث ذلك الانقلاب الروحي في جزيرة العرب، وما وجد الإسلام سبيلاً للانتشار. مولانا أبو الأعلى المودودي من رواد هذا الفكر، المناصرين لهذا الرأي؛ ففي كتابه (الجهاد في الإسلام) يقول:

“لقد دعا رسول الله العرب إلى الإسلام ثلاثة عشر عامًا، واتبع معهم كل طريقة ممكنة للإقناع، وساق إليهم حججًا وأدلة لا مراء فيها، وأظهر لهم المعجزات، وقدم لهم سيرته مثالاً حسنًا للفضيلة والتقوى. وبالاختصار، فإنه حاول معهم كل وسائل الاتصال.. ولكن قومه رفضوا قبول الإسلام”. وإنه ليحزنني أن أقتبس لكم تتمة الفقرة.. ولكن بيان الموضوع يتطلب سردها:

“فلما فشلت كل وسائل الإقناع.. استل النبي سيفه.. السيف الذي أماط الشر والأذى، وأزال النجس والدرن من النفوس. بل وفعل السيف ما هو أكثر من ذلك، لقد أبرأ العمي فصاروا قادرين على رؤية نور الحق، وشفاهم من كبرهم.. ذلك الكبر الذي منع الناس من قبول الحق. فانحنت الرقاب الغليظة، والرؤوس المتغطرسة في اتضاع وانصياع. وحقق الإسلام في بلاد العرب وغيرها من البلاد انتشارًا سريعًا، حتى إنه في مدى قرن واحد من الزمان دخل في الإسلام ربع أهل الأرض. حدث هذا التحول لأن سيف الإسلام مزق الحجب التي كانت تغطي قلوب الناس”.

العبارة السابقة مُخزية خزيًا مضاعفًا حقًا.. لأنها صدرت من (عالم) مسلم، ادعى بأنه (مزاج شناس رسول).. أي أنه في انسجام تام مع الرسول روحًا وفكرًا.. حتى إنه اكتسب سلطانًا في معرفة المغزى الحقيقي وراء كلمات النبي وأفعاله. وهذا ادعاء لو صح.. لأتاح لهذا المدعي تمثيل النبي بقدر يساوي.. أو ربما يزيد عن حظ النبي في فهم كلام الله تعالى! وهذا يعني أن فهم مولانا المودودي فهم مأساوي بما يجل عنه الوصف.. لأنه صادر من زعيم مسلم.. يردد مقولة لا أساس لها.. ويؤكدها خصوم الإسلام والمستشرقون المتحيزون، الذين يتهمون النبي باستخدام القوة الجبرية لإدخال الناس في الإسلام. قد يبدو أسلوب مولانا وكأنه يمجد الإسلام، ولكنه في حقيقة الأمر يوافق ويصادق على اتهامات النقاد الأوروبيين ضد الإسلام.

قال دوزي R. Dozy:

“ونشر جنرالات محمد الإسلام بالسيف في يد والقرآن في اليد الأخرى”.

ويؤكد سميث Smith:

“إن محمدًا نفسه، وليس كبار قواده، هو الذي دعا إلى الإسلام بالسيف”.

وكتب جورج سيل George Sale:

“عندما زاد عدد أتباع محمد ادعى أن الله سمح له بمهاجمة المشركين، ليقضي على عبادة الأصنام، ويوطد أركان الدين الحق”.

أما القس دكتور فاندر Dr. C. G. P fender، فقد اشتغل بالتبشير المسيحي بين مسلمي الهند في أواخر القرن التاسع عشر، وكتب منشورات جدلية، أثارت اضطرابًا عظيمًا، أراد بها على حد تعبيره أن يكشف (نبي الإسلام المزيف). وفي أحد منشوراته هذه قال:

  1. دعا محمد إلى دينه الجديد ثلاثة عشر عامًا بأسلوب استرضائي وبصبر شديد.
  2. في المدينة صار (نبي السيف)، ومنذ ذلك الحين كان السيف أقوى حجج الإسلام.
  3. لو تأملنا مسلك أتباع محمد لتبين لنا أنهم لا يحتاجون اتباع قواعد دينية أو أخلاقية.. فإن إلههم لم يطلب منهم سوى أمرًا واحدًا: قاتلوا في سبيل الله بالسيف والسهم والرمح والخنجر.. واستمروا في القتل.

وبعد هذه المقدمة يختتم د. فاندر بقوله:

“عليكم أن تختاروا بين يسوع.. كلمة الرب، وبين محمد بن عبد الله؛ بين من وهب حياته للعمل الصالح، وبين من كرس حياته للسيف”.

وسار على نفس هذا المنهج سبرانجر  Alloy Springers، وكوبي Henry Copy.. وكثير غيرهما من نقاد الإسلام.. في تهجمهم عليه وعلى النبي .

وذهب إرفنج Washington Irving خطوة أبعد، إذ رسم على غلاف أحد كتبه رسمًا خياليًا للنبي ممسكًا بسيف في إحدى يديه والمصحف في اليد الأخرى.

فإذا قارنا بين ما ذكرناه آنفًا.. وبين العبارة المودودية التي أوردناها في صدر هذا الفصل، نقلاً من كتابه (الجهاد في الإسلام)، لتكشف لنا أن نقاد الإسلام على وفاق تام معه. مولانا المودودي والمستشرقون معًا.. يدًا في يد.. يؤكدون بأن الإسلام ذو طبيعة عنيفة. وبالرغم من اعتقاد المودودي بعنف الإسلام فإن مولانا من المؤمنين به.. في حين يكفر به المستشرقون! وبغض النظر عن الصياغة اللغوية.. ليس ثمة فرق بين الفقرات المأخوذة من كتاب مولانا وبين نظيراتها المنقولة عن القس فاندر آنفًا. ولكن على المرء أن يُظهر الإجلال للكاتب (المسلم)، ويبدي السخرية من الناقد الحقود اللدود!

وملاحظات المستشرقين التي يدسونها لبث الشك حول نبي الإسلام ليست مدهشة بقدر ما هي مسيئة. قد تصدر عنهم تلك التعليقات بسبب الجهل، ولكن الحقد وتعمد الإساءة كان الدافع الغالب. إن العداء للإسلام يطغى على موضوعية أشد المؤرخين اعتدالا.. ولكن المدهش والمؤلم حقا أن تصدر تلك الكتابات من مسلمين يدعون بأنهم أتباع مخلصون للنبي ثم إذا بهم يصورونه، جهلاً منهم أو مكابرة، وكأنه واحد من الهمج ممتشق سيفه.. ليُكره الناس على الدخول في دينه أو يغزو بلادهم!

لم يقتنع مولانا المودودي بالجمال الذاتي المتأصل في دين الإسلام، ولم يلحظ قدرة الإسلام على غزو القلوب بسلطانه الروحي.. لا في الماضي ولا في الحاضر.. فقال:

“إن العلاقات والروابط الإنسانية متكاملة إلى حد لا يسمح لأية حكومة أن تتصرف بحريتها الكاملة وفقًا لمبادئها الخاصة.. ما لم تكن تلك المبادئ عينُها نافذة في الدول المجاورة. ومن ثم فإن الجماعات الإسلامية لن تقنع بإقامة دولة إسلامية منفردة في منطقة واحدة، بل عليهم.. بقدر ما تسمح لهم مواردهم.. السعي للتوسع في كل اتجاه.. فمن ناحية تنتشر عقيدتهم، ومن ناحية أخرى يدعون الأمم جميعًا للدخول في دينهم.. لأن خلاصهم متوقف على هذا الدين. وإذا توفر للدولة الإسلامية ما يكفي من (الاقتدار) فلتحارب وتدمر الحكومات غير المسلمة، وتقيم بدلاً منها حكومات إسلامية”.

ومولانا المودودي يؤيد السير وليم موئير Sir William Muir.. في آرائه الملتوية عن النبي وعن الإسلام. ففي كتاب عن حياة النبي الذي كتبه موئير، بناء على طلب من القس د. فاندر، ليفضح (نبي الإسلام المزيف).. يقول:

“لم تعرف الدنيا حتى اليوم ما هو أشد عداوة للحضارة والحرية والحق من سيف محمد والقرآن”.

ولعل الزعيم الهندوسي الكبير مهاتما غاندي.. قد تأثر في أيامه الأولى بمعلومات مشوهة عن الإسلام كتلك التي اقتبسناها آنفًا من أقوال المستشرقين ومولانا المودودي، فقال:

“ولد الإسلام في جو من العنف.. وكان السيف قوته الحاسمة، ولا يزال الإسلام كذلك”.

ولكن مهاتما غاندي كان مراقبًا حاد البصيرة، ولذلك صحح نفسه وكتب في مجلة (يَنْجْ إنديا) Young India يقول:

“كلما توسعت في دراستي للإسلام كلما تكشف لي أن قوة الإسلام لم تعتمد على السيف..”.

وهناك في الهندوس والآرياسماج من درسوا الإسلام بموضوعية، ووافقوا غاندي على (اكتشافه). قال باندت ديف شاستري Pandit Gyanandra Dev Sharma Shastri:

“نقاد الإسلام المتحيزون، وخصوصًا من يسعون لإثارة الفتنة في البلاد بين الهندوس والمسلمين، يقولون إن حضرة محمد.. بعد أن حاز السلطان في المدينة.. لم يستطع أن يحتفظ بقناع الرحمة والشفقة الكاذب؛ فقد استخدم القهر والعنف، وصار نبيًا سفاحًا، كي يحقق هدف عمره من السلطة والجاه والثراء.. وفقد صبره على مثله الأعلى في الاعتدال والصبر. هذا الرأي صادر عن مراقبين متحيزين متعصبين، يتعمدون الإساءة، غطت بصائرهم غشاوة الجهل، يرون النار بدلاً من النور، والقبح في موطن الجمال، والشر في محله الخير. يشوهون كل مزية طيبة، ويعرضونها على أنها رذيلة عظمى. إنهم في الواقع يعكسون فساد نفوسهم.النقاد عميان.. فلا يستطيعون رؤية أن السيف الأوحد.. الذي استعمله محمد ببراعة.. كان سيف المرحمة والعطف والمودة والتسامح. سيف قهر أعداءه وطهر قلوبهم. كان سيفه أحدُّ من الحسام الفولاذي”.

أحكم أنت.. فليس عندي تعقيب!

فقط نتمنى لو كان مولانا المودودي، وهو من أتباع النبي محمد .. نعم، نتمنى لو أنه كان منصفًا مع النبي كما أنصفه بحق واحدٌ من أتباع كرشنا! لقد اعترف غير المسلمين.. الذين درسوا تاريخ الإسلام، بأن النبي كان شهمًا، رؤوفًا، رحيمًا، بل وكان مثالاً كاملاً للفضائل البشرية. كتب هندوسي آخر.. محرر في جريدة (سات يوباديش) Sat Upadaish:

“يقول بعض الناس أن دعوة الإسلام كانت بالسيف، ولكننا لا نستطيع الموافقة على هذا الرأي.. لأن الناس سرعان ما ينبذون ما استُكرهوا عليه، ولو أجبر الناس على الإسلام ما بقي في العالم مسلم واحد حتى اليوم. لماذا؟ لأن نبي الإسلام كان ذا قوة روحانية.. أحب الإنسانية، وهداها بأسوته الحسنة نحو الخير المطلق”.

وحركة آرياسماج معروفة بعدائها للإسلام، وكان مؤسسها سوامي دياناند شديدًا في انتقاده على الإسلام والنبي . ومع ذلك، فإن الأستاذ (رام ديف) الهندوسي في اجتماع نظمته آرياسماج في لاهور، قال:

“عندما كان حضرة محمد في المدينة، جمع حوله العرب مسحورين.. وملأهم قوة روحانية، قوة تجعل الرجال كالآلهة. ليس بصحيح الزعم بأن الإسلام قد انتشر بقوة السيف، فالحقيقة الواقعة أن السيف لم يُرفع أبدًا لنشر الإسلام. ولو كان من الممكن نشر الدين بالإكراه والجبر فليجرب أحدهم ذلك اليوم”.

هذه العبارة الأخيرة تحدٍّ لا يستطيع أحد أن يقبله، حتى ولو كان مولانا المودودي نفسه.. فإنه ما من سيف يقدر على تغيير ما في القلب، أو تبديل الإيمان كفرًا.

لقد بعث الله سلسلة طويلة من الأنبياء قبل نبي الإسلام ، ومن الحقائق التاريخية أن كل نبي لقي معارضة بالقول والفعل، وما من نبي دعا إلى دين حق إلا وقاوموه بالسيف.. ومع ذلك كان الدين الحق ينتشر.. وفي كل مرة كان السيف يفشل في تعطيل مسيرة الحق. وإذا كان جميع الأنبياء وأتباعهم قد أفلحوا في الصمود أمام قوة السيف، كيف يمكن لمحمد أن يسلك طريقًا مخالفًا لطريق الأنبياء، ويعمد إلى استعمال السيف وهو أداة القهر.. بدلاً من الاعتماد على قوة الحق!؟ سبحانك ربي، إن هذا لظلم عظيم وإفك مبين.. أن يتهم النبي باستخدام الإكراه لتغيير عقائد الناس!!

عالم آخر، غير مسلم، هو الدكتور ليتز Dr. D. W. Leitz، يدفع هذه التهمة الباطلة، مستندا إلى حجة من القرآن، فيقول:

“إن كل ما يُساق من أدلة لبيان أن الغرض من الجهاد هو نشر الإسلام بالقوة الجبرية ينقضه القرآن.. حيث يقرر بأن الهدف من الجهاد هو حماية البيع والصلوات والصوامع والمساجد..”.

يشير بذلك إلى قوله تعالى:

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا (الحج: 41).

بعد هذا الدفاع الناصع عن النبي ، ماذا يا تُرى جواب أولئك المنتسبين إلى الإسلام.. الذين يتهمونه باستعمال السيف؟ نود أن نسمع جوابهم في ضوء التساؤل القرآني:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد: 25).

لا شك وأن مولانا المودودي.. صاحب التفسير الضخم (تفهيم القرآن).. قد قرأ هذه الآية مرات عديدة. أفلم يخطر بباله أن تفسير القرآن لأغراض سياسية لا بد وأن يُوقع المفسر في مهاوي الضلال!؟

ثم يستطرد مولانا المودودي:

“كانت هذه هي السياسة التي انتهجها النبي ، وسار عليها خلفاؤه الراشدون. كان لزامًا على الحزب الإسلامي أن يثبت أقدامه في جزيرة العرب حيث ابتدأ تكونه. وبعد ذلك أرسل النبي دعواته إلى الأقطار المجاورة، ولكنه لم ينتظر قبول دعوته.. فما أن ملك القوة حتى بدأ الصدام مع الإمبراطورية الرومانية. وبعد النبي صار أبو بكر قائد الجماعة، فهاجم الروم والفرس كليهما. وفي النهاية، أحرز عمر النصر..”.

هذا القول هو في الواقع بمثابة إعلان الحرب على جميع الدول غير الإسلامية المجاورة. وبحسب قوله هذا، فإن هذه الدول ستبقى في مأمن فقط ما دامت الدولة الإسلامية ضعيفة. ولو كان كاتب هذه الفقرة مؤرخًا ماركسيًا من الحزب الشيوعي لنبذ قوله، وما استحق أن يعاود المرء النظر إليه.. ولكنه الرأي المعتبر.. من زعيم مسلم.. ذي منزلة مرموقة.. في درجة مولانا المودودي! وهذا في حد ذاته ما يجعله بالتأكيد أشد إهانة للنبي من كل ما كتبه نقاد الإسلام الألداء من أمثال موئير وفاندر وسميث وغيرهم.

وقد ترجمت الفقرة السابقة عن الأصل الذي كتبه مولانا في لغة الأردو. وقد تعمد المودودي أن يستعمل كلمة (الحزب الإسلامي)، وكأنه ينحط بالأمة الإسلامية إلى مستوى الحزب السياسي. إنه يعرف تمامًا الفرق بين الحزب والأمة، لأنه في كتاب آخر قال: “استعمل القرآن كلمة أمة مرادفة لكلمة حزب”. أما وقد سمى المسلمين حزبا سياسيا، فإن مولانا، عن غير وعي، والأغلب عن عمد، ساوى بين النبي وبين أي زعيم لحزب سياسي.. ناسبًا إليه بذلك أخلاقيات رجل السياسة؛ وإلا فكيف يفسر المرء الفقرة التالية مما كتبه مولانا؟:

“فما أن ملكا القوة حتى بدأ الصدام مع الإمبراطورية الرومانية.. إلخ”.

من المذهل حقًا أن يتجاسر عالم مسلم على قول يُوهم، ولو ضمنيًا، بأن النبي يرتكب جريمة الغزو العسكري على طريقة (هتلر). نعوذ بك اللهم من ذلك! كان النبي أمير السلام، ولم يكن أبدًا غازيًا منتهكًا للحرمات. وإنما مولانا المودودي هو الذي كان مشغوفًا بالقوة السياسية، فاصطبغ بها فهمه للتاريخ الإسلامي للأسف.

الإسلام ليس بحاجة إلى أساليب السياسة لينطلق. كان المسلمون في البنغال، بنغلادش اليوم، أقلية ضئيلة جدًا في منتصف القرن الثامن عشر، عندما استولى عليها البريطانيون من يد المغول. وفي عام 1947م استقلت البنغال، وإذا المسلمون فيها أغلبية عظمى. لم يكن للمسلمين أي نفوذ سياسي في المنطقة، ولم تحدث هجرات سكانية من الشمال إلى الجنوب خلال الحكم البريطاني.. ولكن حدثت هذه الزيادة في عدد السكان المسلمين نتيجة للحوار السلمي على أيدي التجار الصوفية، والدعاة الطوافين، وأئمة المساجد في القرى.

ولتوماس أرنولد Thomas Arnold تعليق على هذا الموضوع له شأنه، قال:

“لقد حاز الإسلام أعظم انتصاراته وأبقاها في مجال الدعوة.. في أوقات وأماكن كان نفوذه السياسي بها في أضعف حالاته..”.

ولعل مولانا المودودي لم يقرأ شيئًا عن تاريخ الإسلام في البنغال وماليزيا وأندونيسيا.. وإنما كان مفتونًا بالغزوات التركية والأفغانية والمغولية.. ولم يكن لديه وقت كاف ليلحظ أن الدولة الإسلامية الكبرى في عالمنا (إندونيسيا) لم تطأها قدم غاز مسلم، ولم يحدث بها قتال أو عمل من أعمال العنف. وهكذا كان الحال في ماليزيا أيضًا:

من الواضح أن النبي بريء.. لم يستعمل سيفه قط إلا للدفاع الشرعي عن النفس، وذلك بعدما تجاوز عدوان المعتدين حد الاحتمال، وهاك ما قاله أحد المراقبين من السيخ حول هذا الموضوع:

“منذ البداية وأعداء النبي يجعلون الحياة عسيرة عليه وعلى اتباعه، ولذلك طلب النبي من المسلمين أن يغادروا وطنهم ويهاجروا إلى المدينة. لقد فضل النبي الهجرة على مقاتلة قومه. ولكنه عندما اشتد بهم الاضطهاد حتى فاق الاحتمال حمل النبي السيف دفاعا عن النفس. إن من يحسبون بأن الدين ينتشر بالقهر أغبياء، لا يعرفون سبل الدين ولا سبل الدنيا.. إنهم يفاخرون باعتقادهم هذا لأنهم بعيدون بعدًا شاسعًا عن معرفة الحقيقة”. (عن ناوان هندوستان، دلهي،17/11/1947)

يا ترى.. من هو أكثر معرفة: الصحفي السيخي، أم (مزاج شناس رسول).. ذو الانسجام الكامل مع النبي.. روحًا وفكرًا!؟

(الفصل الثالث… يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك