الإسلام والسلطة السياسية

في مناسبات عديدة يجلس إمام الجماعة، سيدنا مرزا طاهر أحمد، خليفة الإمام المهدي، ليجيب على أسئلة أبناء الجماعة. ونقدم للقارىء الكريم أحد الأسئلة الهامة وجوابه، وقد طرح في إحدى الندوات من شهر أكتوبر عام 1984.

ألا ليت المسلمين ينتفعون بتعاليم الإسلام الصحيح التي جاءهم بها الإمام المهدي من “الثريا”.. فينجوا من المهالك ويسلموا من الشرور! (المحرر)

س: ورد في حديث أن الله تعالى يَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .. بمعنى أن الله تعالى يُقيم أمورًا عن طريق السلطة السياسية لا تُقام بالقرآن وحده. لذلك يرى بعض المسلمين ضرورة أن يكون الهدف الأول للمسلم هو الوصول إلى السلطة والاستيلاء على الحكومة. وبعد تحقق هذا الهدف .. يمكن تطبيق القرآن الكريم ونشر أنواره. نرجو توضيح هذه المسألة.

ج: هذا هو رأى المودودي وأمثاله. وهذا الرأي لا علاقة له بسُنة سيدنا محمد المصطفى .. لأنه أرسى تعاليم القرآن الكريم قبل أن يحقق أي سلطان سياسي. وكانت تعاليم القرآن تُتَّبع برغم أن السلطة السياسية السائدة كانت تعارضهم. إن مسلك النبي هو منبع النور الوحيد لنا. وإذا أسيء فهم حديث منسوب للنبي ويقف متعارضا مع ما ثبت من سنته .. فحتى لو أجمع علماء المسلمين على هذا الفهم .. لكان من الواجب رفضُ مثل هذا الحديث باعتباره مُحرَّفًا أو موضوعا ولم يقله المصطفى أبدا. أو على الأقل يجب رفض هذا الفهم للحديث، ومحاولة التوفيق بين نصِّ الحديث وبين سنة النبي الثابتة، مع الأخذ في الاعتبار أيضا تعاليم القرآن المجيد.

فهذا الزعم أولا يتعارض مع حديث النبي وسنته الثابتة، ويتعارض ثانيا مع آيات القرآن الكريم الأساسية التي تقرر أنه لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ . ثم يخبرنا القرآن المجيد أنه

لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ..

بيد أن مجريات الأمور غير ذلك . لا يتأسس الإيمان بالقوة. ولقد وضح هذا تماما في القرآن الكريم ، ليس في الآية التي تلوتها وحدها.. وإنما في آيات أخرى كثيرة.

وفي القرآن يخاطب الله جلاله نبيه المصطفى ويقول له:

إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ..

ما هو الفرق بين المذكِّر والمسيطر؟ إذا فسرنا الحديث الذي ذكرته بالمفهوم المقترح.. لكان ذلك نَسخا وإبطالا لهذه الآية. ولحسن الحظ، لا تَدخل هذه الآية الكريمة ضمن الخمسمائة آية التي قال بنسخها الزاعمون، ولا يستطيع خيال أي واحد من القائلين بالنسخ أن يمسها، وتنهض الآية محكمة في رأي كل العلماء. وهكذا نشهد موقفا مشوقا للغاية: فإما أن نقول بلزوم نسخ الآية .. أو نقبل بأن المذكر والمسيطر لا يتفقان أبدا، وأنهما شيئان متميزان منفصلان.. إذا أنكرنا أحدهما ثَبَت الآخر.

ويؤكد القرآن للنبي

إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ..

وهذا يعني أنه حتى عندما أصبح صاحب سلطان لم يكن مسيطرا .. كان سلطانه في تدبير شئون الدولة.. ولكنه لم يفرض به القرآن على الآخرين.. بل كان أمرا مستقلا تماما. وفيما يتعلق بالدولة فإن قسطا من القرآن الكريم يتناول أمور الدولة، وبالطبع فإن هذا القسط كان مطبقا من أجل الدولة، وهو يتطلب قانونا ونظاما وإقامة العدل بين الناس. ولكن الجزء الخاص بتطهير الناس وعلاقتهم بالله تعالى، وموقفهم الباطني إزاء المسائل الأخلاقية وغيرها .. في هذا الجزء لا يكون إكراه من أي نوع. أما فيما يتصل بأمور الدولة، فالجبر موجود في كل بلد من العالم وفي كل حكومة. ولكن هذا الجبر هو في الواقع ذو طبيعة مختلفة، لأن الحرية شيء ينبغي فهمه قبل أن يوجه المرء سؤالا عن الإكراه من جانب الدولة.

الحرية مسألة نسبية عندما يستخدمها شخصان.. نفترض أن [ا] حرف و [ب] حرف كذلك. فإذا قام [ا] بضرب [ب] فإنه يتصرف بحريه، ولكن [ب] لم يعد حُرًا لأن[ا] قد اعتدى على حريته. فإذا تصادمت حريتان فلا بد أن تتدخل الدولة لتوطيد الحرية. وإذا كان من الضروري إقرار الحرية بالقوة فهذا ليس إكراها يتعارض مع قول الله تعالى لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ . إن مثل هذا الجبر يستخدم لتوطيد الحرية، وهذا هو المبدأ الذي تقوم عليه الحكومة.

عند تصنيف الحقوق.. فردية أو لمجموعات من قطاعات المجتمع.. تعد هذه الحقوق الأساسية.. ويحق لكل فرد أن يمارس حقوقه. وعندما يتخطى أحد حق غيره وجب إيقافه وردعه. ومن ثم يكون هذا الإكراه عاملا مشتركا بين الحكومات في كل إنحاء العالم، وليس سمة للإسلام . فعندما يأخذ الإسلام السلطة في يده. فإن جزءا من مسئوليات الدولة الإسلامية أن تستخدم الجبر لإقامة القانون والنظام وتوطيد حكم القانون. ويجب ألا نخلط هذا الجانب من الإسلام مع الجانب الديني.

ومثل هذا الجبر ليس ممكنا بدون الوصول إلى السلطة، وقد أدى الخلط حول الحدود المسموح بها من الجبر إلى رأي خاطيء تماما. فبالنسبة لترسيخ الإسلام مثلا؛ وعندما أقول ترسيخ الإسلام فأعني العقائد والأفكار والإيمانيات فضلا عن شئون الدولة .. لم يستخدم الرسول أي جبر مطلقا لتمكين هذه الأمور.. لا قبل ولا بعد أن وُضعت سلطة الدولة في يده. لم يكن ثمة تغيير في سيرته مطلقا.. وظل نفس النبي محمدا هو هو لم يتغير، وكان موقفه إزاء العقائد الدينية والأفكار والإيمانيات في المدينة كما كان في مكة تماما.

فالذين ينسبون إليه مثل هذا السلوك.. أعني استخدام سلطته الحكومية في تمكين الإسلام من الناحية العقائدية الدينية.. هؤلاء مخطئون تماما، ويلصقون به مزاعم باطلة. ففيما يتعلق بالدين.. فإن الفكرة والمسلمة العقائدية والفلسفة لم تتعرض قط لاستخدام الجبر. يمكن وصف الدين بأنه أسلوب للحياة. وفرض أسلوب للحياة كفلسفة أو مجموعة معتقدات على شخص آخر غير مسموح به في الإسلام. ولم يحدث قط أن فعل نبيا المصطفى شيئا كهذا. ظلَّ قول الله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين الذي نزل عليه في مكة كما هو ولم يتبدل في المدينة.

والجزء الثاني هو علاقة الانسان بربه. وفيما يختص بهذا الجزء فإنه أيضا يدخل في بند الدين.. فلا إكراه فيه. ولم نلحظ أي فرق في سيرة النبي وهو في مكة أو في المدينة بالنسبة لفرض علاقة بين الإنسان وبين الله تعالى. إذا أدى المرء صلاته فهو حر في المدينة كما كان حرا في مكة. وإذا لم يؤد صلاته فلم يكره أبدا على فعل ذلك .. ولم يضرب أحد قط لأنه لم يفعله. وإذا صام أحد فهو حر أن يصوم أو لا يصوم. نعم، كان هناك إلزام بالنسبة للزكاة.. ولكن لم يكن الحال هكذا في الحج أو الصوم أو الصلاة.. ولم تستخدم القوة مطلقا في إقرارها. كانت الزكاة إلزامية على كل المواطنين لأنها حق للمجتمع. إنها كالضرائب التي تجمعها كل حكومة وتفرضها بالإلزام. وأريد هنا أن أؤكد على حقيقة واقعة .. تلك هي أن المجالات التي يسمح فيها الإسلام بالإلزام هي تلك المجالات التي مارست.. وتمارس فيها كل حكومة أخرى في العالم حق الإلزام بالقوة. ومن ثم فهي ليست سمة خاصة يتميز بها الإسلام . إنها سنة يتبعها الناس في كل مكان من العالم.. ترسخت حقًا للحكومة كحقوق الإنسان. فالذين يقولون أن الاسلام يفرض عقائده بالجبر مخطئون كليا.. وهم لا يستطيعون أن يستشهدوا بمثال واحد لا تفرض فيه الدنيا الإلزام ولكن الإسلام يفرضه. لا يمكن أن تجد في العالم مثل هذا الوضع.

فإذا فهمت أصول سياسة الدولة وأين تنطبق وما هي حدودها.. استطعت أن تفهم أن الإسلام -لكونه مجموعة من المبادىء الكاملة للحياة- يتحدث أيضا عن الشئون الخاصة بالدولة. وفي قواعد سياسة الدولة في كل مكان من العالم سوف تجد عنصر الإجبار؛ وتكمن فلسفة الإلزام في شئون الدولة في إطار مشهد الحرية نفسه. إن تمكين الحرية وإقرارها بين الفئات يتطلب الإجبار.. ليس لسلب حقوق شخص ما، وإنما لإعادة هذه الحقوق إذا سلبها أحد منه، ولرد حقوق جماعة إذا سلبها أحد منه، ولرد حقوق جماعة إذا سلبتها جماعة أخرى. فعندما توضع القواعد والقوانين الواضحة التي تتعلق بحقوق الأفراد والجماعات تبدأ شوؤن الدولة. وقد يبدو هذا لإقرار الحقوق، وليس لسلبها.

فمولانا المودودي وأولئك العلماء الذين يقترفون مثله هذا الرأي الذي ذكرته.. سواء أكان هذا ناشئا عن تشويش في فكرهم، أو صادرا عن قصد منهم بغرض الاستيلاء على السلطة والاستعلاء فوق الناس وليكونوا متزمتين متعصبين في الدين، ويفرضوا على الآخرين آراءهم الشخصية عن القرآن الكريم – وإذا حدث ذلك عن عمد فإنه لا شك فعل خبيث للغاية.. ولكن سواء كان ذلك مقصودا أو سهوا .. فإن الحقيقة تبقى بأن هؤلاء العلماء أنفسهم يشوهون وجه الإسلام بعيب هو منه براء تماما. ويذهب مولانا المودودى إلى حد القول بأن سيدنا ونبينا المصطفى حاول لمدة من الزمن استخدام الحجة وقوته القدسية والإغراء .. ولكنه فشل تماما في إدخال الناس في الإسلام. ولكنه -هكذا يقول، ونعوذ بالله من قوله هذا- عندما أخذ السيف في يده جعل الناس يفهمون الأمور، وأزال التشويش من العقول، وبدأ الناس يرون النور تحت حد سيف النبي . وكأن المتحدث عدو لدود للمصطفى . فهذه هي الصورة التي طالما سعى المستشرقون لرسمها للنبي .. بأنه مؤسس دين كان السيف في يده والقرآن في يده الأخرى.. يقول لكل من يلقاه: آمن بالقرآن المجيد أو يلحق بك السيف ويجبرك على الإيمان!! وهذا المفهوم مختلف تماما للقرآن المجيد ولسنة النبي الكريم ، وهذا المفهوم مسبَّة للإسلام.. اقترفوها مقترفوها لأسباب شخصية في رأيي. إن العلماء -من خلال هذا المدخل القهري- ينشدون اكتساب السلطة السياسية ، وفرض أفكارهم على الآخرين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك