في عالم التفسير
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصلاة وَآَتُوا الزكاة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (84)

شرح الكلمات:

ميثاق-الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد (المفردات).

التفسير:

ذكر الله تعالى في آيات عديدة سابقة ما ارتكبه اليهود من أفعال شنيعة ضد أنبيائهم، وبين أنه بسبب معاصيهم المتواترة نقل وعد النبوة في ذرية إبراهيم من بني إسحاق إلى بني إسماعيل.

والواقع أن إجرام اليهود ما كان قاصرًا على موقفهم المعاند من النبي وسعيهم الدؤوب للقضاء على الإسلام والمسلمين. وإنما كانت هنالك سلسلة طويلة لجرائمهم أدت في آخر المطاف إلى انتقال نعمة النبوة من بني إسحاق إلى بني إسماعيل. ولقد عدّد الله جرائمهم المتكررة حتى لا يقال إن النبوة انتزعت منهم لجريمة واحدة فقط، وقال إن معاصيكم المتوالية هي التي جلبت عليكم هذه العقوبة.

ثم بين الله أن حظ بني إسرائيل من النبوة لم يكن لفضيلة ذاتية فيهم، وإنما تشرفوا بها لوفائهم بالوعود الإبراهيمية، ولكنهم بعد ما ألقوها وراء ظهورهم وتنكروا لها لم يعودوا مستحقين لنعمة النبوة لمجرد كونهم من بني إسحاق.

ثم نبههم القرآن الكريم: إن جرائمكم اليوم ليست بأقل من الأمس، فها أنتم أولاء لا تنفكّون تقترفون ضد هذا الرسول ما كان شعبكم يقترفه في الماضي. ولو أن الله تعالى بعث فيكم اليوم نبيًا من شعبكم لفعلتم به الشيء ذاته. فقولكم أن تعاليم هذا الرسول ليست حجة علينا لأنه من بني إسماعيل قول باطل، ذلك لأن دأبكم في الماضي مع أنبيائكم السابقين شاهد على أنه لو بعث أحدهم اليوم فيكم نبيًا لعاملتموه بمثل ما عاملتم به هؤلاء.

وفي هذه الآيات ينبههم الله تعالى قائلا: دعوكم من هذا التعليم السامي الذي تختلفون فيه مع هذا الرسول، وتعالوا تحققوا معنا فقط في الأعمال التي ترونها أنتم أيضًا ضرورية للرقي القومي والأخلاقي، وأخبرونا: أتقومون بها أنتم؟ لقد سبق أن أخذنا عليكم عهدا مؤكدا يترتب على الوفاء به ثواب وعلى نقضه عقاب، فهل وفيتم به؟ وإذا لم تعودوا عاملين بدينكم، ومع ذلك تكفرون برسولنا هذا، فبوسعكم أن تقدروا مدى خطورة جريمتكم هذه عندنا.

والميثاق المشار إليه في هذه الآية ليس عهدًا معينًا ، وإنما المراد به عدة عهود أخذها الله تعالى من بني إسرائيل في مناسبات مختلفة ، وأوصاهم بالعمل بها؛ ولذلك لم تذكر هذه الوصايا في موضع واحد من التوراة وإنما توجد في مواضع متفرقة منها، وها هو القرآن الكريم قد جمعها في مكان واحد، تنبيها لهم بأنهم قد ابتعدوا عن دينهم بعدا شاسعا، فضلا عن أنه عرضها بأروع ترتيب مما يبرز حسنه وجماله.

أولا- ورد النهي عن عبادة ما سوى الله في أماكن عديدة من التوراة، بل جاء في الوصايا العشر لموسى عليه السلام: “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور. أفتقد ذنوب الأباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، واصنع إحسانا إلى الألوف من محبّي وحافظي وصاياي.” (خروج20 :3-6).

ثانيا- وجاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين أيضًا في هذه الوصايا العشر حيث قيل: “أكرم أباك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك”(خروج 2 :12).

كذلك جاء:”إذا كان لرجل ابن معاند ومارد لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه، ويؤدبانه فلا يسمع لهما، يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه، ويقولان لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد، لا يسمع لقولنا، وهو مسرف وسكير، فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت. فتنـزع الشر من بينكم، ويسمع كل إسرائيل ويخافون”(تثنية21 :18-21)

ثالثا- جاء الأمر بحسن معاملة ذوي القربى فقيل

“لا تسع في الوشاية بين شعبك. لا تقف على دم قريبك. أنا الرب. لا تبغض أخاك في قلبك. إنذارا تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطية. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك، أنا الرب”(لاويين19 :16-18).

علما بان كلمة ’أخ‘ وردت في التوراة عموما بمعنى الأقارب جميعا.

رابعا- أمروا بحسن معاشرة زوجة الابن فقيل”وان خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل بها” (خروج21: 9).

خامسا-أمروا بحسن معاملة الجيران فقيل:”لا تغصب قريبك ولا تسلب “(لاويين19: 13) [ورد في الطبعة الأردية:لا تغش جارك ولا تسلب منه شيئا].

سادسا- قد أمروا بحسن معاملة اليتامى فقيل

“…والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك، ويأكلون ويشبعون، لكي يبارك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل” (تثنية29:14).

سابعا- أمروا بشأن المساكين فقيل

“لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض لذلك أنا أوصيك قائلا افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك”(تثنية11:15).

ثامنا- كما أمروا بحسن معاملة الناس جميعا فقيل: “ولا تقبل خبرا كاذبا ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم. لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر. ولا تُجِبْ في دعوى مائلا وراء الكثيرين للتحريف. ولا تُحابِ مع المسكين في دعوى. إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردًا ترده إليه. إذا رأيت حمار مبغضك واقعا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد وان تحل معه. لا تحرف حق فقيرك في دعواه. ابتعد عن الكلام الكذب. لا تقتل البريء والبار لأني لا أبرر المذنب”(خروج 23: 1-7). وقيل أيضًا “لا تخاصم إنسانا بدون سبب إن لم يكن قد صنع معك شرًا”(أمثال30:3).

تاسعا –جاء الأمر بإقامة الصلاة فقيل:

“وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون”(تثنية4:13).

وكذلك جاء:

“الرب إلهك تتقي، وإياه تعبد، وباسمه تحلف”(تثنية13:6).

عاشرا- أمروا بأداء الزكاة فقيل:”وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها، وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك، وفضلتهم تأكلها وحوش البرية. كذلك تفعل بكرمك وزيتونك”(خروج23: 10-11)

ورغم هذه الوصايا الواضحة فان اليهود لم يعملوا بها بل، ساءت معاملاتهم يوما فيوما مع الأقارب والأباعد على السواء.

وقد قال بعضهم عن سيدنا عزير إنه ابن الله، ومن هؤلاء الذين اقترفوا هذا الشرك الفرقة الصدوقية التي كانت تقطن اليمن (الملل والنحل). وقد كان بعضهم يعتبر كل ما يأمر به علماؤهم كأنه وحي من الله، مع أنهم في نفس الوقت قد ألقوا تعاليم كتابهم وراء ظهورهم. وكانت معاملاتهم لليتامى والمساكين غاية في السوء، ولم يبق في قلوبهم أثر للعطف على بني الإنسان. وكانوا كسالى في أداء العبادات، ويتهربون من أداء الزكاة.

وهذا هو حال المسلمين اليوم، فانهم يدعون الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى يقعون في نفس المعاصي التي وقع فيها اليهود. أما اليهود فقد أخذ منهم الميثاق ألا يعبدون إلا الله، ولكن الله تعالى قد منَّ على المسلمين حيث أسس الإسلام على” لا اله إلا الله” أي أن لا معبود سوى الله تعالى الذي هو القادر المطلق، والذي يقدر على فعل كل شيء ولا يحتاج لأي مساعدة. فرغم أن الإسلام بني على “لا اله إلا الله” فإن الشرك اليوم في المسلمين يربو على ما في الأمم الأخرى منه. فالمسلمون يسجدون للقبور بدون أدنى حرج..حتى لا نكاد نجد أي فرق بين الساجدين لله تعالى وبين هؤلاء الساجدين للقبور. كنت أتعجب دائما وأقول: كيف يمكن لمسلم أن يسجد لقبر، وكنت لا أصدق هذا الأمر رغم شهادة الشاهدين حتى رأيت ذلك بعيني. كنت ذات يوم مع بعض الإخوة في جولة ببلاد الهند لزيارة المدارس الإسلامية، ولقد سرني ما رأيت في مدرسة(افرنجي محل) ببلدة لكناو … من كفاءة المعلمين وثقافتهم، ومن نشاط الطلاب وذكائهم. ولكن أثناء رجوعنا في المساء أدهشني رؤية شخص يسجد لقبر كسجودنا في الصلاة. فإذا به أحد الأساتذة بهذه المدرسة. فتعجبت من هذا المعلم الذي لم يستفد من علمه ولم يقدره حق قدره وسجد لقبر!…مع أن الله لم يسرد حال اليهود للمسلمين إلا تنبيها لهم بأنهم سيقعون يوما فيما وقع فيه اليهود.

ومن المواثيق التي أخذها الله من اليهود أن يحسنوا إلى الوالدين، فنسوه. وكذلك اندرست هذه الحسنة بين المسلمين في هذه الأيام. يرون أن من واجب الآباء الإحسان إلى أولادهم وتربيتهم والأنفاق عليهم، ولكن لا يرون ضرورة إحسان الأولاد إلى الآباء والبر بهم.

ومما عهد إلى اليهود أيضًا أن يحسنوا معاملة ذوي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس كلهم حسنا. وما أحسنه وأروعه من تعليم لا يثقل على النفس ولا يخالف العقل في شيء. وكما أن اليهود تركوا العمل بهذه التعاليم كذلك تركها المسلمون. ثم أمروا بالصلاة، ففرطوا فيها، كذلك أهمل المسلمون. فانظروا كم هو عدد المصلين من المسلمين اليوم. ثم أمروا بأداء الزكاة، ولكن ما أقل عدد الذين يواظبون على أدائها.

ويقول الله تعالى إن اليهود سمعوا هذه التعاليم وأعرضوا عنها ولم يعملوا بها ..وكذلك فعل معظم مسلمي اليوم وتولوا عنها، وجعلوا القرابة سببا للعداوة، فيخاصمون ويعادون ذوي قرباهم الذين أمرهم الله تعالى بحسن معاملتهم. لقد أمروا أن يترحموا ويتلطفوا باليتامى، ولكنهم تجاسروا على أكل أموالهم بصفاقة بالغة، وأمروا برعاية المسكين ولكنهم ينظرون إليهم نظرة تحقير ونفور. وأمروا بحسن القول لجميع البشر ولكنهم أهملوا هذه الوصية.

هؤلاء المسلمون يتهموننا بأننا نكفرهم، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء النظر في حالهم، وهل هم يعملون حقا بالإسلام. لقد تحدثت مع كثير من المسلمين غير الأحمديين، وكلما دخلنا في مثل هذا النقاش سألتهم: ما هي عقيدتكم ؟ فيقولون: نحن مسلمون. فأقول لهم: إنني أيضًا اعتبركم من المسلمين، ولكن بالله عليكم أخبروني.. هل يعمل المسلمون بحسب تعاليم الإسلام؟ فيضطرون إلى الاعتراف بأنهم لا يعملون بها، فأقول: هذا هو ما نقول عنكم: مسلمو اليوم لم تعد فيهم حقيقة الإسلام. وإلا فهم يقينا مسلمون بالاسم، ولا يسع أحد إنكار ذلك.

فكما أن المسلمين يدركون أن السرقة حرام، وان الكذب والافتراء حرام، وان غصب حقوق الناس حرام. ومع ذلك يرتكبون هذه المعاصي؛ كذلك تماما صار اليهود في زمن النبي مشركين عابدين أهواءهم، ومع ذلك كانوا يجادلون المسلمين الذين يعملون بهذه التعاليم، بل بما هو أكثر منها. فيخاطب الله هؤلاء اليهود ويقول: قد تتعللون بالفرار من العمل بتعاليم محمد وعيسى عليهما السلام لأنكم لا تؤمنون بصدق نبوتهما.. فما عذركم لمخالفة تعاليم التوراة وهي كتابكم؟ فإعراضكم عن هذه التعاليم إعراضا تاما رغم إيمانكم بها … إن دل على شيء فإنما يدل على أنكم لم يعد فيكم صدق.

غير أن القرآن –كما هو أسلوبه- عندما يعدد على اليهود سيئاتهم لم يعتبر أمتهم كلها في الإجرام سواء، وإنما استثنى منهم الصالحين فقال: (إلا قليلا منكم).

ويجب أن يلاحظ أنه كما روعي الترتيب في القرآن الكريم كذلك لوحظ ترتيب الكلمات بكل جمال في هذه الآية أيضًا. فقد أمر أولا بالإيمان بإله واحد وعبادته وحده حيث قال: (لا تعبدون إلا الله)..ذلك لأن التوحيد هو أصل أصول الدين، أو هو أصل أساسي مشترك في دعوة جميع الأنبياء. والذي يفهمه يمكن أن يفهم باقي مسائل الدين. ثم حث على حسن معاملة الآباء بقوله:(وبالوالدين إحسانا)..ذلك لأن العناية والعطف الذي يبديه الآباء نحو الأولاد إنما هو بمثابة الرعاية الإلهية. إن عطف الله تعالى هو العطف الحقيقي، أما عطف غيره فهو ظلي. ولما كان الآباء في معاملتهم لأولادهم مظهرا لصفات الله إلى حد ما.. لذلك ذكر حسن معاملة الآباء بعد ذكر التوحيد.

ويجب ألا ينخدع أحد بقول (وبالوالدين إحسانا) فيظن أن حسن معاملة الآباء يعني إحسانا بالمعنى المعروف لأن كلمة إحسان لم ترد هنا بمعناها العام.. وإنما وردت بمعنى آخر. فمن أساليب البيان في اللغة العربية أنهم يعبرون عن جزاء الفعل باستعمال نفس الفعل، كما يسمون جزاء الظلم ظلما …ولا يراد به الظلم، وإنما يراد به الانتقام من الظالم كما قال الله في هذه السورة نفسها: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (195). والواضح أن الانتقام من الظالم بقدر ظلمه لا يعتبر ظلما. فكلمة “اعتدوا” لا تعني هنا الظلم والعدوان وإنما يعني الانتقام. وبالمثل عندما يقال إن فلان أحسن إلى من أحسن إليه فإن معناه أنه فعل معه من المعروف ما هو نظير معروفه، ولا يعني أنه أحسن إليه فعلا. أما إحسانك إلى من لم يحسن إليك من قبل فيعتبر في الحقيقة إحسانا بالمعنى المعروف.

ثم أمر بحسن المعاملة مع ذوي القربى، ذلك لأن كل إنسان بطبعه يميل إلى الإحسان إلى ذويه وأقاربه بعد إحسانه إلى والديه؛ ولأنهم في غياب الوالدين يعتبرون كالآباء.

ثم يأتي دور عامة الناس اللذين لا يحسنون إليهم بالمعنى الحقيقي وإنما بمعنى أنهم من شعبهم، وقد ذكر منهم اليتامى أولا. ولم يأمر الإنسان بالإحسان إليهم لأنهم فعلوا به معروفا..وإنما لأنهم لا يقدرون بأنفسهم على أخذ حقوقهم لقلة حيلتهم وصغر سنهم، فتغتصب منهم بجسارة.

ثم إنهم يستحقون المحبة وحسن المعاملة أيضًا لأنهم قد حرموا من حنان الأبوين منذ طفولتهم، ولذلك يكونون أمانة ثمينة عند القوم. ولو عني الشعب بتعليمهم وتربيتهم وحماهم من الانحراف لصاروا جزءا مفيدا من القوم، ولن يتمكنوا من إصلاح حياتهم أو من العيش عيشة ناجحة فقط، وإنما يصلحون حياة الآخرين أيضًا.

ثم ذكر المساكين وهم أولئك الفقراء اللذين رغم فقرهم لا يشعرون أحدا بفقرهم عن طريق السؤال. وبذكر المساكين وجَّه الله نظرنا إلى ألاّ نكتفي بمساعدة من يمد إلينا يده ونغض النظر عمن يبقى صامتا، بل علينا أن نهتم بأولئك الذين رغم فقرهم يتحلون بالوقار ويؤكدون على سمو أخلاقهم.

ثم ذكر العطف على كل بني نوع الإنسان وقال: (وقولوا للناس حُسنا). وهناك قراءة أخرى تقول (وقولوا للناس حَسَنا). وقال البعض إن المراد: قولوا للناس قولا حسنا. بينما قال الآخرون: قولوا للناس قولا ذا حسن. وقد أخّر هنا ذكر عامة الناس لأن هؤلاء لا يكونون محتاجين للغير كاليتامى والمساكين وإنما يقدرون بأنفسهم على سد حاجاتهم.

فبالجملة، قد راعى القرآن في بيان كل هذه التعاليم ترتيبا رائعا. فبعد أن نبه الخلق على ضرورة عبادة ربهم وحده صنف الناس صنفين، صنف تجب معاملته بالعطف كحق مستحق لهم، وصنف يجب الإحسان إليهم رحمة وشفقة بهم. وقد قدّم الصنف الأول لأن فعل الخير بهم صار دينا علينا لا بد من أدائه وسداده، وأخّر الصنف الثاني لأن إسداء المعروف إليهم يعتبر رحمة وشفقة عليهم. ثم تناول ذكر هؤلاء بالترتيب الذي يستحقونه. ثم تناول العبادات، وقدم الصلاة والزكاة على غيرهما لكونهما ذروة العبادات البدنية والمالية، وأخرهما عن الإحسان إلى خَلْق الله لكونه أول خطوة إلى عالم الروحانية، ولأن الإنسان بفطرته وبدون أي توجيه من الشرع كثيرا ما يميل إلى فعله، أما القيام بالعبادات مفصلا فهو خطوة ثانية، فالذي يخطو الخطوة الأولى هو الذي سوف يتمكن من اتخاذ الخطوة الثانية.

وليكن معلوما أن القرآن أحيانا يقدم ذكر حقوق الله نظرا إلى علو شأنه وسمو مقامه، فهو سبحانه هو الأعلى والعبد هو الأدنى… لذلك ذكر حقوقه هنا قبل حقوق العباد بينما يقدم القرآن ذكر حقوق العباد في أحيان أخرى، وذلك نظرا لضعف حيلتهم.. كما فعل في نفس الآية عندما ذكر اليتامى قبل المساكين نظرا لضعفهم وقلة حيلتهم. وحيث إن الله تعالى ليس بضعيف بل قوي قادر، لذلك أخر ذكر حقوقه. أما في قوله تعالى(و أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فقد قدم حقَّه على حقوق العباد.

وقوله تعالى (أقيموا الصلاة) يتضمن معنى المداومة على الصلوات المفروضة بدون أي انقطاع، كما يدخل فيها أيضًا النوافل. وقوله تعالى (وءاتوا الزكاة) يعني الزكاة المفروضة إلى جانب الصدقات التابعة لها. فكأن الله تعالى قد جمع في قوله (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة)العبادتين البدنية والمالية كلتيهما.

وفي قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) حث على أمرين: الأول –حسن معاملة جميع بني الإنسان بدون تمييز بين دين أو شعب، والثاني- إعمال الفكر في رقي الإنسان وحث الآخرين على العمل لذلك.

على أي حال، فإن القرآن الكريم تناول التعاليم المبعثرة في التوراة هنا وهناك وقدمها بترتيب رائع كشف عن عظمتها أكثر.

ثم زجر اليهود قائلا: ما دمتم لا تؤدون حقوق الله وحقوق عباده ولا تبالون بأوامره مطلقا مع أنكم تعترفون بصدقها وصحتها، فكيف يصح القول بأنكم مع كل هذا مؤمنون.. وأن الأمة التي تسعى لإصلاح العالم كافرة؟ بل الحق أنه لم يبق بينكم وبين الله تعالى أي علاقة … وإنما ابتعدتم عن الحق كل البعد.

ويجب هنا الرد على تساؤل طبيعي: لقد قال الله (لا تعبدون إلا الله) بدل أن يقول: (لا تعبدوا إلا الله) فما السر في اختيار صيغة النفي بدل من صيغة النهي هنا؟

من أساليب القرآن وكذلك اللغة العربية أنه في بعض الأحيان يستخدم صيغة النفي بدل النهي تأكيدا لمعنى النهي نفسه، كقولنا للصبي مثلا: أرجو أنك لن تفعل كذا. أو قولنا: ما كنت لأتصور أنك سوف تفعل هذا. والواضح أن هذا الأسلوب أبلغ من قولنا: لا تفعل هذا. وهنا اختار الله نفس هذا الأسلوب وقال لا تعبدون إلا الله.. بدلا من قول لا تعبدوا إلا الله إظهارا لثقته فيهم واعتماده عليهم، وكأنه يقول: ما كنا نتوقع أبدا أنكم ستشركون بنا أحدا، وإنما أملنا أنكم دائما وأبدا تعبدون الله وحده؛ أي لا تشركون بي…. لا لكون الشرك إثما فحسب وإنما سوف تتجنبونه أيضًا بسبب العلاقة التي بيني وبينكم. ما أشد هذا الأسلوب وقعا في النفوس وإثارة لعواطف الحب! فمن خالف أمر الله بعد كل هذا الحث كان أشد جرما، لأنه خالف الأمر من ناحية، كما خيب فيه الأمل من ناحية أخرى.

لقد أبدى المفسرون في تعليل هذا الأسلوب عدة آراء أخرى، منها أن الفقرة كانت هكذا (على أن لا تعبدوا إلا الله) وحذفت “على” الجارة و “أن” الناصبة، فصارت (لا تعبدون إلا الله) تفسير (إملاء ما من به الرحمن). ولا بأس بهذا التأويل.. إلا إنني أفضل الرأي الذي ذكرته فهو جميل من حيث الظاهر ومن حيث المعنى أيضًا.

يقول الله تعالى: إننا توقعنا من بني إسرائيل أنكم تعبدون الله تعالى وحده، وتحسنون إلى الآباء، وترعون اليتامى والمساكين، وتقولون للناس حسنا، وتصلون وتؤدون الزكاة.. وهذه الأحكام لا تختلفون فيها مع المسلمين. أنتم تختلفون معهم في صدق محمد، وتختلفون معهم في صدق المسيح الناصري، ولكن هذه أمور لا تختلفون فيها، بل إنكم تُسلّمون بها. لقد قيل لكم أن تتمسكواربالتوحيد، وأنتم تعترفون بأن هذا ما أُمرتم به من قبل؛ ثم قيل لكم أن تحسنوا إلى الآباء، وأنتم تسلّمون بأن هذا هو التعليم الذي وجه لكم ؛ ثم قيل لكم أن تعاملوا الأقارب واليتامى والمساكين معاملة حسنة، وأنتم تعترفون بأن هذا صحيح؛ ثم قيل لكم ألا تؤذوا الناس، ويجب أن تراعوا مشاعرهم وتعاملوهم بالحسنى، وأنتم تعترفون بأن هذه هي الأحكام التي أمرتم بها. فالسؤال الآن: هل تعملون بهذه التعاليم؟ لو درستم أحوالكم لأقررتم أنكم لا تعملون بها.

لا شك أنه رغم تفشي الفساد عموما فإنه لا يزال في كل أمة أفراد يتمتعون بالصلاح والتقوى، ولكنها ككل تعتبر أمة ميتة، لأن الأكثرية منها تعرض عن أوامر الله تعالى، وهذا، بالضبط، كان حال اليهود.

وقد يتساءل أحد: لعل اليهود أعرضوا عن هذه التعاليم في الظاهر فقط بسبب أمر اضطراري أو لجهلهم بها، وإلا فإنهم كانوا يُكنون لها تقديرًا وتعظيمًا كما هو حال المسلمين اليوم. فكم منهم لا يصلون وكم منهم لا يصومون، وكم منهم لا يؤدون الزكاة، وكم منهم لا يحجون رغم قدرتهم على أدائه، ولكنهم مع ذلك يعترفون من الصميم بأهمية الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويرجعون سوء أعمالهم إلى الكسل والمعصية! ولإزالة هذه الشبه قال الله تعالى (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) فبكلمة (ثم توليتم) أشار إلى إهمالهم هذه الأعمال في الظاهر. وبكلمة (وأنتم معرضون) أشار إلى أن قلوبهم أيضًا لا ترغب فيها.. بل أهملوا الشريعة الموسوية كليا. فكأنه يقول: فأما في الظاهر فقد تفشت فيكم الإباحية واللادينية، وأما من حيث الباطن فقد متم موتًا روحانيًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك