في عالم التفسير
شرح الكلمات:
قتلتم: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم)، وقوله تعالى (ويقتلون النبيين بغير الحق).
ادّارأتم: أصلُه تَدارَأْتم، فلأن مخرج التاء والدال متقارب، فبُدّلت التاء إلى الدال، وأُدغمتْ، صار الحرف الأول ساكنا نتيجة الإدغام، وأضيفت الهمزة في البداية لسهولة القراءة.
يقال: درَأه يدرأه: دفَعه، وقيل دفَعه (دفعًا) شديدا. تَدارأَ القومُ: تدافعوا في الخصومة واختلفوا. الدرءُ: الميلُ والعِوج في القناة ونحوها، يقال: قَوَّمتُ درءَ فلانٍ بمعنى قوّمتُ اعوجاجَه. والدرء: الخلاف (الأقرب).
وقال الزجّاج: معنى فادّارأتم : فتَدارأتم أي تدافعتم، أي ألقى بعضكم إلى بعض (اللسان)، أي: اختلفتم واتّهمَ بعضكم بعضا بالقتل.
مُخرِج: أخرجَ الشيءَ: أبرزَه (الأقرب).
تكتمون: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (… وأعلم ما تبدون وما تكتمون).
التفسير:
أي اذكروا عندما قتلتم نفسًا ثم اختلفتم فيها واتهم بعضكم بعضا بقتله، أو قلتم: نحن لم نقتل بل قتلَه غيرنا، أو اختلفتم في قتله اختلافًا من نوع آخر. كل هذه المعاني تنطبق هنا لأن هذا هو معنى كلمة “تدارأتم” أو ادّارأتم .
والظاهر من القول قَتَلْتُمْ نَفْسًا أن اليهود هم القتلة، أو أنهم كانوا يساندون القاتل. لو كانت هذه الواقعة مِن قِبل فردٍ واحد لما نُسب القتل إلى الأمة اليهودية كلها. علمًا أن القتل هنا يمكن أن يراد به إرادة القتل أيضا. راجِع أيضا شرح الكلمات تحت قول الله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ في هذه السورة.
وقوله تعالى نَفْسًا يعني نفسًا عظيمة أو نفسًا غيرَ معروفة، لأن التنوين يفيد المعنيين.
والخطاب هنا لليهود حيث قيل لهم: تذكَّروا:
(1) عندما قتلتم نفسًا عظيمة أو أردتم قتلها.
(2) أو عندما ساعدتم أو حرّضتم على قتل إنسان عظيم أو محاولةِ قتله.
(3) أو عندما قتلتم أو أردتم قتلَ إنسان، ثم اختلفتم في قتله، أي قلتم: إنّا لم نقتله أو لم نساعد على قتله أحدًا، أو لم نحاول لقتله أو لم نساعد على قتله، أو قلتم لا علم لنا بالقتل والقاتل.
وأضعفُ هذه المعاني قتلُ إنسان مجهول، لأنه ما كان لليهود كأمّةٍ فائدةٌ في قتل إنسان مجهول لا أهمية له، ولا معنى لأن يختلفوا في قتله. فيبدو أن المراد من قوله تعالى نَفْسًا شخصٌ عظيم، ولم يُذكَر اسمه لأنه متبادر إلى الذهن تلقائيا.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ يعني سوف يفضح الله تعالى بطريق أو بآخر القاتلَ أو المحرّضَ على القتل، أو المتآمر على محاولة القتل. كما يمكن أن يراد بذلك أن الله تعالى سوف يُظهر ما تكنّه صدور القاتلين من بغضٍ دفينٍ وحقدٍ مكتومٍ دَفَعَهم إلى ارتكاب جريمة القتل أو محاولة القتل.
ولأن الموضوع المذكور في هذه الآية يكتمل في الآية التالية فلذلك سنذكره بكامله لاحقًا.
شرح الكلمات:
اضربوه: ضرَبه بيده وبالعصا: أصابَه وصدَمه بها. ضرَبه بالسيف: أوقعَه به. ضرَب الشيء بالشيء: خلَطهما. ضرَب له مثلاً: وصَفه وقاله وبيَّنه. (الأقرب).
ببعضها: بعضُ كلّ شيء: طائفةٌ منه، وقيل جزءٌ منه، ويجوز كونُه أعظمَ مِن بقيّتِه كالثمانية من العشرة (الأقرب).
يُحيي: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم…).
الموتى: جمعُ الميّتِ، وهو الذي فارق الحياةَ. (الأقرب). للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم).
آياته: الآيات جمع آية. للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
تعقلون: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).
التفسير:
أي قلنا لهم اضربوا القاتلَ ببعض المقتول أو بسببِ البعضِ.
علمًا أن الباء حرفُ جرٍّ يفيد عدةَ معان في العربية: منها الإلصاق حقيقةً نحو: أمسكتُ بزيد، وهو المـُفضي إلى نفس المجرور (أي أن جسمي التصقَ بجسمه)، أو مجازًا وهو المفضي إلى ما تقرّبَ منه، كمررتُ بزيد؛ (أي لم يلتصق جسمي بجسمه غير أني كنت قريبا منه)؛ والمعنى الثاني للباء هو: التعديةُ نحو ذهبتُ بزيد؛ والثالث: الاستعانةُ نحو نجوتُ بالفرار؛ والرابع: السببيةُ نحو لقيتُ بزيدٍ الأسدَ؛ (أي أن زيدًا كالأسد قوةً وشجاعة، وكأني قد رأيت الأسد من خلاله)؛ والخامس: المعيّة نحو اهبطْ بسلام؛ والسادس: التبعيض نحو شربنَ بماء البحر؛ والسابع: القَسم نحو بالله؛ والثامن: التأكيد (الأقرب).
ولا ينطبق هنا من هذه المعاني إلا معنى الإلصاق أو السببية. فإذا كان الباء في قوله تعالى اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا بمعنى الإلصاق فالمعنى: اضربوا بعضَها ببعض بقوة؛ أي ارموا عليه جزءًا منها بقوة، وإذا كان بمعنى السببية والتعليل فالمعنى: اضربوه بسبب بعض ذنوبه.
ولقوله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى في بادئ الأمر مفهومان: الأول: هكذا يُحيي الله الموتى الحقيقيين ويرجعهم إلى الحياة الدنيا، ولكن هذا المفهوم مرفوض بالطبع، لأنه ينافي القرآن الكريم الذي يؤكد في آيات أخرى أن الموتى الحقيقيين لا يرجعون إلى الدنيا. (راجع للمزيد تفسير الآية 56).
والمفهوم الثاني هو: كذلك يُحيي الله الذين يشْبهون الموتى، أو كذلك يقيم الله كرامة الموتى ويحفظها، أو كذلك يحفظ الله الناس من الدمار. وهذان المعنيان الأخيران يصدقّهما القرآن الكريم حيث قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة:180)، أي أيها العقلاء لو عاقبتم القاتلَ بعقوبة مناسبة لقلّت جرائم القتل في المستقبل، وأُنقذت أرواح كثيرة من الهلاك. ونظرًا إلى هذه المحاورة القرآنية سيكون المراد من إحياء الموتى هنا إنقاذ مَن يُحتمل قتله.
ومِن معاني قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ أن كرامة القتيل لا تضيع نتيجة القصاص، بل تبقى قائمة محفوظة، مما يزيل البغضاء والشحناء من قلوب أهله، أما إذا لم يعاقَب القاتل فتبقى الضغائن في قلوب أقاربه إذ يرون أن قتيلهم قد أُهينَ وأُذِلّ. وهذا تعبير شائع عند العرب، فقد قال الشاعر الحارث بن حِلِّزة:
أي: أيها الأعداء، إن نبشتم الأرض ما بين ملحة والصاقب لوجدتم هناك أمواتًا وأحياء. يعني ذوو بأس وشجاعة وحمية، وكلما قتلتم منا قتيلاً أحييناه بأخذ ثأره منكم، أما قتلاكم فظلوا أمواتًا وأذلاء لأنكم لم تقدروا على أخذ ثأرهم منّا.
وهذا البيت لأحد فحول الشعراء في الجاهلية، وقد ثبت من هنا أن إحياء الميت في العربية يعني أيضا أخذ الثأر للقتيل، وعليه فقول الله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يعني أنه يُحيي مَن يموت في سبيله بأخذ ثأره مِن القاتل.
أما المعنى الأول أي إحياء مَن يكون كالميت، فهو أيضا شائع بكثرة، حيث يطلق اسم الشيء على شبيهٍ له. فمثلاً إذا أصيب المرء بجرح كبير يسبب له ألمـًا شديدا قال: لقد مِتُّ، أي قد صرت كالميت من شدة الألم والكرب. وعليه، فمعنى الآية: هكذا يُحيي الله الذين يكونون كالموتى، أي الذين لا يبقى في حياتهم أملٌ، وتجزم العلوم المادية بهلاكهم، لكن ينقذهم الله تعالى بفضله.
ثم قال الله تعالى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، أي يريكم آياته كي ترتدعوا عن المعاصي والذنوب؛ ذلك أن العقل يعني ربْط الشيء ومنْعه، كما شرحنا من قبل، وتسمى قوة العقل عقلاً لأنها تمنع الإنسان من الأخطاء والذنوب.
يبدو من هذا القول الإلهي أن هذا الحادث آيةٌ ربانية يمكن أن يستفيد منها العقلاء ليتّقوا من الإثم والسوء، أو ينجوا من الكفر والعصيان.
والحادث الذي تتحدث عنه هذه الآية والتي قبلها يتعلق -عند المفسرين القدامى- بقتيل من بني إسرائيل، حيث يقولون أن رجلاً اسمه “عاميل” عند الكرماني، أو “نكار” عند الماوردي، قتَله ابن أخيه أو أخوه عند البعض، فأمر الله تعالى بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وقد مرّ ذكرُها آنفًا، ثم أمَرهم بضرب القتيل ببعض أجزائها. وهناك اختلاف كبير بين المفسرين حول (بعضها)، فقيل إنه اللسان، وقيل العَجْب، وقيل الفخذ اليمنى، ونُسب إلى ابن عباس إنه الغضروف الذي منه الأذن. فعندما ضربوه بجزء منها قام القتيل حيًّا وأخبرَ عن قاتله (تفسير فتح البيان).
ثم ذكر المفسرون سبب الاختلاف بين بني إسرائيل نتيجة هذا الحادث، فقالوا أن سببه هو أن القاتل كان قد ألقى جثة القتيل في مكان يقع بين مساكن قبائل مختلفة، فاتّهمتْ كلُّ قبيلة أختَها بقتله.
ثم ظل المفسرون يبحثون عن سبب قتله، فقال بعضهم أن القتيل كانت له بنت جميلة وأراد القاتل الزواج منها، فقتله للزواج منها. وقال غيرهم أن القاتل كان فقيرًا فقتَل عمه أو أخاه ليرث ماله.
أما القرطبي فقام باستخراج بعض المسائل الإسلامية من هذا الحادث!
والظاهر أن لا أساس من القرآن والحديث لأي من هذه التفاصيل التي أوردها المفسرون، ومن أجل ذلك نجد ابن الأثير يقول بعد إيراد هذه الروايات: “والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تُصدَّق ولا تُكذَّب، فلهذا لا يُعتمد عليها إلا ما وافق الحقَّ عندنا” (ابن كثير).
أما صاحب فتح البيان فإنه ذكر أولاً الروايات المتعلقة بأجزاء هذه البقرة -ومنها رواية تنسب إلى ابن عباس- ثم قال: “ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول: أمَرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها”.
وقوله هذا أيضا دليلٌ على أن هذه الروايات -رغم أن بعضها منسوبة إلى الصحابة- لا يجوز تسميتها روايات إسلامية، بل الحق أنها مرويات من كتب اليهود، فاعتمادها يماثل أن يعزى إلى الإسلام ما هو منافٍ لتعاليمه تمامًا ومكذِّبٌ للقرآن الكريم. والحق أن كلمات القرآن الكريم وترتيبها لا تقبل هذه الروايات البتة.
فأولاً يقول المفسرون أن الله تعالى أمَر بذبح البقرة بعد حادث قتل النفس، وذلك للعثور على القاتل، ولكن القرآن الكريم قد ذكَر حادث ذبح البقرة قبل حادث قتل النفس. والقرآن الكريم كتاب الله تعالى، ويفوق كل المعايير الإنسانية للفصاحة والبلاغة. ولن يروي هذا الحادثَ أيُّ إنسان -مهما كان بسيط العقل -بالترتيب الذي يقول به المفسرون. فلو أن أحدًا منا أراد ذكر هذا الحادث مستعينًا بعقله وبالمعنى الذي ذهب إليه المفسرون لقال: اذكروا عندما قتلتم نفسًا واختلفتم في قتلها، فأمرْناكم بذبح بقرة وضربِ القتيل بشيء منها، وعندما فعلتم ذلك قام القتيل حيًّا. ولكن القرآن الكريم لم يذكر الحادث على هذا النحو، بل ذكر حادث ذبح البقرة منفصلاً عن حادث قتل النفس، وذكر حادث البقرة قبل حادث القتل، فكيف يقال أن البقرة ذُبحت للعثور على القتيل؟ وحتى بغضّ النظر عما يوجد في القرآن الكريم من فصاحة وبلاغة، فإن هذا الترتيب المعكوس للحادثين لا يليق بكتاب عادي معقول أيضا؟!
ولستُ الوحيد في إثارة هذا الاعتراض، بل لقد تبادر أيضًا إلى أذهان بعض المفسرين القدامى، فقد أثاره الإمام الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب”، وحاول الرد عليه، ولكنه كان ردًّا واهيًا جدا، إذ قال: ليس ضروريًا أن يذكر القرآن الأحداث بترتيبها الأصلي، إذ قد يُذكَر السبب قبل الحُكم وقد يُذكَر الحكم قبل السبب.
لا شك أن الترتيب قد يتغير أحيانًا وتُذكَر الواقعة على عكس ترتيبها الواقعي أحيانا، ولكن سبب هذا التقديم والتأخير إنما هو ذكْرُ الأهمّ أولاً. فمثلا: إذا رأى المرء جثةَ قتيل، وأراد ذكر ذلك لزملائه فإنه يقول لهم أولاً: لقد مات فلان، ثم يبين التفاصيل بأنه كان ذاهبًا فرأى جثته في مكان كذا وكذا. أما المفسرون فلا يقدّمون ما وقع متأخرًا فحسب، بل يؤخّرون الأهمّ ويقدّمون الأقلَّ أهمية. ثم لا يوجد في قولهم أيّة حكمةٍ في التقديم والتأخير. فالقول بالتأخير والتقديم بدون ذكرِ حكمةٍ له، لا يجدي شيئًا ولا يُعتدّ به؛ بل لابد من إثبات الأسباب التي أدت إلى التقديم والتأخير هنا، وإلاّ للزم القول أن هذا الجزء من القرآن الكريم خالٍ من الحكمة، إذ قدّم وأخّر بلا مبرر. وقد أثبتُّ أن المبررات التي من أجلها يُقدَّم المتأخِّر على المتقدِّم لا توجد هنا، بل يوجد هنا مبرر معاكس؛ وهو ضرورة ذكر ما وقع أولاً قبل ما وقع متأخرًا، لأن الحادث الأول -أعني ذبْح البقرة- أهمُّ من حادث القتل، لذا كان لابد من ذكر الحادثين بترتيبهما الواقعي، وهذا ما فعله القرآن الكريم.
والأمر الثاني الذي يجب وضعه في الاعتبار هو أن القرآن الكريم قد بدأ حادث ذبح البقرة بقوله: إِذْ ، وكذلك بدأ ذكر حادث قتل النفس أيضًا بقوله إِذْ ، وقد ورد إِذْ في كل الآيات السابقة أيضا للإشارة إلى أحداث مستقلة منفصلة بعضها عن بعض، وهذا دليلٌ بيّنٌ على أن هاتين الحادثتين أيضا منفصلتان.
والدليل الثالث الذي يدعم رأيي هو أنه لا معنى لضرب القتيل بجزءٍ من جسم البقرة من أجل إحيائه، فلو أراد الله تعالى إحياء القتيل كمعجزة ما كان هناك داعٍ لذلك، إذ كان يمكن إحياؤه بدعاء موسى ، كما كان الموتى يُحيَون بدعاء عيسى عند عامة المسلمين.
وإن قيل أن هناك أثرًا طِبّيًّا في لحم البقر يساعد على إحياء الموتى، قلنا: لماذا لا يظهر هذا الأثر الآن؟
وإن قيل أن هذا الأثر الطبي كان في تلك البقرة ذات المواصفات المحددة، قلنا: لماذا أمرهم الله تعالى بذبح أية بقرة أولاً، ولِمَ لمْ يأمرهم بذبح البقرة المقصودة منذ البداية؟ ثم إن العثور على بقرة بتلك المواصفات ليس صعبًا اليوم، ليجرّبوا عليها بحسب عقيدتهم؟
باختصار، ليس هناك مبرر معقول يربط بين هذين الحادثين، اللهم إلا مبرر قبول الروايات الإسرائيلية! ولكن المشكلة أن الروايات الإسرائيلية المعتمدة أيضًا تخالف هذا الأمر، لأن الكتاب المقدس لا يذكر بتاتًا أيّ حادث ذُبحت فيه البقرة من أجل إحياء ميت فعاد إلى الحياة. لا شك أنه قد ورد فيه التالي:
والظاهر من هذه الفقرة أنهم لم يؤمَروا بذبح البقرة لضرب القتيل بجزء من جسدها، ولا تذكر هذه العبارات أنهم فعلوا هكذا، وأن القتيل قام حيًّا، وأنه أخبر باسم القاتل، بل كانت الحكمة في ذبحها (أولاً) محو تعظيم البقرة من قلوب بني إسرائيل، و(ثانيا) محاولة إجبارهم على قول الحق من خلال مطالبتهم بالإدلاء بالشهادة بعد غُسل أيديهم على البقرة التي كانوا يعظمّونها في أنفسهم.
فما دام هذا هو الأمر الواقع فأي مبرر لفرضِ معانٍ على القرآن الكريم يأباها ترتيب القرآن للأحداث، كما لا نجد في الكتاب المقدس ما يدعمها؟ لماذا نفسر هذه الآيات بما يرفضه العقل والنقل، ولماذا نتيح للعدو فرصة للاستهزاء بالقرآن الكريم؟ إن ما يقوله القرآن الكريم واضح تمامًا ومتسلسل تسلسلاً طبيعيًا. كان بنو إسرائيل في ذلك الزمن على استعداد صريح لعبادة البقر والعجل، ويوجد في الكتاب المقدس أمرٌ إلهي بذبح البقرة، وتتفق الحكمةُ التي يذكرها الكتاب المقدس من وراء ذبحها مع المفهوم القرآني، أي محو تقديسِ البقر من قلوبهم، فكيف يجوز بعد ذلك كله تفسيرُ هذه الآيات بما يثير الضحك، ونسبةُ ترتيبٍ غيرِ معقولٍ مخلٍّ بترتيب الآيات القرآنية اللطيف. وما دام قد ثبت أن القصص التي بسببها فسّر المفسرون هذه الآيات بهذا المفهوم الخاطئ باطلة، وأنها لا أثر لها في الكتاب المقدس، ولا يصدّقها القرآن الكريم، ولم يقل النبي عنها شيئًا، فلم يبق أمامنا إلا سبيل وحيد وسهل وطبيعي، ألا وهو أن نعدّ حادثتي ذبح البقرة وقتلِ النفس واقعتين منفصلتين لا صلة بينهما، ونفسّر الآية من منظور آخر، نابذين القصص الإسرائيلية التي يفنّدها الكتاب المقدس نفسه.
وحتى لو سلّمنا بآراء المفسرين جدلاً من أجل تفسير هذه الآية، فأيضا ليس المراد أن القتيل عاد إلى الحياة عندما ضُرب بجزء من جسم البقرة، لأن هذا المعنى ينافي القرآن الكريم منافاةً صريحة، وإنما نقول: عند ضربِ القتيل وقع أمرٌ عُرف به القاتل، وقد علّم الله تعالى موسى هذه الحيلة للعثور على القاتل. وهذا المعنى قد ذكره سيدنا المسيح الموعود في كتابه (إزالة الأوهام)، ولكنه ذكَره استدراجًا للخصم كما هو واضح من السياق، لأنه لم يقم بأي تفسير لهذه الآية من عنده، بل قال هذا تفنيدًا لقول الخصم الذي كان يستدلّ بهذه الآية على إحياء الموتى موتًا حقيقيًّا. لقد قال إن الآية لا تتحدث عن إحياء أحد الموتى حقيقةً، بل غاية ما يمكن أن يراد بها هو أنه حين ضُرب القتيل بجزء من لحم البقرة حدث أمرٌ عُرف به القاتل.
وفي بلادنا أيضًا يضع الناس صِبْغًا أسودَ على شيء ويتركونه داخل غرفة مظلمة من أجل العثور على السارق وغيره، حيث يطلبون من المشتبه فيهم أن يدخلوا ويلمسوا هذا الشيء، فمَن التصقتْ به يدُه فهو السارق. فيدخلون ويلمسه الجميع إلا السارق مخافة أن تلتصق به يدُه، ومِن ثم يخرج وليس على يده الصبغُ الأسود، فيُعرف.
فيمكننا أن نسلّم جدلاً بمثل هذه القصص لإفحام الخصم بسهولة، ونقول إذا كان الله تعالى قد علّم موسى حيلةً كهذه بدون أن يكون فيها خداع ولا مخالفة للحق، فليس في ذلك ما يدل على عودة الموتى إلى الحياة. أو يمكن أن نسلّم بأن الله تعالى أظهر عندها أمرًا عُرف به القاتل مِن بين الذين ضَربوا القتيل بقطعة من البقرة، فمثلا عندما ضرب القاتل القتيلَ بقطعة من البقرة أخذ يرتجف ذعرًا فعُرف، أو أنه لما ضرب القتيل بقطعة منها تحرّكَ جسد القتيل لسبب آخر، فظن القاتلُ أنه سينهض حيًّا، فأغميَ عليه هلعًا، أو اعترف بالجريمة بنفسه.
على كل حال، ليس في هذه الآية ما يدل على عودةِ ميّت إلى الحياة وإخبارِه القومَ بالجاني. غير أننا لم نأخذها بالمعنى الذي ذكره المفسرون جدلاً إلا لندرأ عن القرآن الكريم تهمةَ التناقض، إذ قد يقول قائل أن القرآن يقول في موضع إن الموتى لا يعودون إلى الحياة في الدنيا، ويقول في موضع آخر أن ميّتًا عاد إلى الحياة. وإلا فإني أرى أن هذه الآية تتحدث عن موضوع منفصل مستقل عن موضوع الآيةِ السابقة، ولا داعي لتفسيرها هكذا مستدلّين بروايات يهودية تتنافى مع ما ورد في كتبهم هم.
وقبل بيان المعنى الأصح عندي، أودّ أن أذكر هنا معنى آخر بيّنه بعض علماء جماعتنا، معتبرين هذين الحادثين منفصلين تمامًا. يرى هؤلاء العلماء أن المراد من قوله تعالى نَفْسًا هو المسيح الناصري ، وأن قَتَلْتُمْ يعني أنكم حاولتم قتله، أو جعلتموه شبيهًا بالقتيل، وأن مفهوم الآية هو: اذكروا يا بني إسرائيل حين حاولتم قتل نفس عظيمة، أي عيسى ، أو آذيتموه حتى كاد يموت، أي حاولتم قتله على الصليب.
أما قوله تعالى فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ، فيمكن إرجاع ضمير (هَا) إلى النفس أو إلى حادثة القتل، والمعنى عند هؤلاء العلماء: أنكم اختلفتم في هذه النفس بعد حادثة الصليب، أو أنكم اختلفتم في حادثة الصليب ذاتها، فالمعنى الأول نظرًا إلى الاختلاف في النفس هو: أنكم اختلفتم في المسيح، فقال بعضكم أن جثته سُرقت بعد أن مات، وقال بعضكم أنه أُنزل من الصليب حيًّا وفرَّ من القبر؛ والمعنى الثاني نظرًا إلى الاختلاف في حادثة الصليب هو: أن بعضكم ظن أن المسيح قد مات على الصليب، بينما ظن الآخرون أنه لم يمت على الصليب.
أما قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فيعني عند هؤلاء العلماء: أن الله تعالى سوف يميط اللثام عن حقيقة هذه الاختلافات يومًا ما. وها قد أماط الله تعالى هذا اللثام حيث إن مؤسسَ الجماعة الأحمدية المسيحَ الموعود قد أثبتَ في هذا الزمن من القرآن الكريم والأناجيل والتاريخ، أن المسيح ابن مريم قد عُلّق على الصليب ولا شك، ولكنه لم يمت عليه، وإنما أُنزل عنه حيًّا، ومكث في القبر حيًّا ثلاثة أيام، ثم لحق بحوارييه.
ويفسر هؤلاء العلماء قول الله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كالآتي: قد أَمَرْنا الملائكة أنْ اضربوا هذا الشعب بسبب جريمة محاولته لقتل المسيح، أي أن يُنزلوا عليهم العقاب والعذاب. وكأن ضمير المذكر (ه) في قوله تعالى اضْرِبُوهُ يرجع إلى شعب اليهود الذين سعوا لقتل المسيح، وأن ضمير المؤنث (ها) في بِبَعْضِهَا يرجع إلى جريمة القتل، والمراد من (بعض الجريمة) أن يعاقبهم الملائكة في الدنيا ببعض عقاب هذه الجريمة، وأما عقابها الكامل فينالونه بعد الموت في الآخرة.
ولسوف أتناول، إن شاء الله، واقعة صلب المسيح بالتفصيل عند شرح الآية رقم 158 من سورة النساء، ولكني أود أن أذكرها هنا بإيجاز لكي يفهم القارئ ما يقصده علماء جماعتنا هذه.
لقد اختلفت الأمم في واقعة صلب المسيح الناصري ؛ فيرى اليهود أنهم علّقوه على الصليب فمات عليه، ثم وُضعت جثته في قبر حيث سرقها مريدوه وأعلنوا بين الناس أنه عاد إلى الحياة ثانية، وذلك لوقايته مِن طعن اليهود بأنهم علّقوه على الصليب فمات عليه، لذا فهو كذاب وملعون، بحسب ما ورد في كتابهم المقدس أن من مات على خشبة فهو ملعون، حيث ورد:
وورد في الإنجيل:
أما النصارى فيرون أن المسيح قد عُلّق على الصليب، ومات عليه وصار ملعونا بلا شك، ولكنه صُلب بدون ذنب جناه، لذلك فقد صار ملعونًا من أجل الآخرين، ونجا نتيجة عودته إلى الحياة من اللعنة التي تحملها طواعيةً لتخليص الناس من عقوبة الخطيئة.
أما المسلمون عامة في هذه الأيام فيعتقدون أن المسيح لم يعلَّق على الصليب، بل عُلّق شخص آخر مكانَه، أما المسيح فرفعه الله إلى السماء حيًّا. ولكن هذه العقيدة لا تستند إلى أي حديث صحيح، وتفاصيل هذه الواقعة التي يذكرونها لا تُعزَى إلى الرسول . والحق أن تفاصيل الواقعات الماضية لا تُعلَم إلا بوحي نبي أو بالتاريخ الصحيح، وما دام الرسول لم يذكر أية تفاصيل عن رفع المسيح إلى السماء حيًّا، فلم يبق لنا إلا الرجوع إلى التاريخ، ولكنا لا نجد سندًا لهذه التفاصيل لا في تاريخ اليهود ولا في تاريخ النصارى. ومعنى ذلك أن بعض أشرار اليهود والنصارى وضعوا روايات مخالفة لتاريخهم ودسّوها في تراث المسلمين.
ولقد رفض مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية هذه العقائد الثلاث، وأثبت من القرآن الكريم والأناجيل والتاريخ أن المسيح قد عُلّق على الصليب، ولكنه -وبحسب أنبائه المذكورة في الإنجيل والتي لا تزال محفوظة إلى يومنا هذا- أُنزلَ من على الصليب حيًّا، ومكث في غرفةٍ مشابهة للقبر مغشيًّا عليه وفي حالة ضعف شديد مِن شدة آلام الجروح، وفي اليوم الثالث أفاق وخرج من القبر، ثم طبقًا لنبوءته: {وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا}(يوحنا 16:10)، ذهب بمساعدة حوارييه إلى قبائل بني إسرائيل العشر الضالة لدعوتهم إلى الحق، الذين يذكر الكتاب المقدس والتاريخ أن الملك بختنصر البابلي سباهم إلى العراق وبلاد فارس، ومِن هناك شتَّتهم في البلاد الشرقية من دولته، أي في أفغانستان وكشمير.
ويرى علماء الأحمدية هؤلاء أن الآية قيد التفسير تشير إلى هذا الحادث، وتقول لبني إسرائيل إن اعتداءاتكم لم تقتصر على زمن موسى فقط، بل امتدت إلى زمن المسيح أيضًا، حيث حاولتم قتله وجعله ملعونًا؛ ولكن الله تعالى سوف يكشف سرَّكم هذا في يوم من الأيام.
وهذا التفسير وإن كان ينطبق على هذه الآية إلى حد كبير، ولكن توجد فيه إشكالات، فمثلا قال الله تعالى بعد هذه الآية: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ (البقرة 75)، و(ثُمَّ) تأتي عادةً للترتيب أي لذكر واقعة أخرى. والآن لو فسّرنا قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ بأن الله تعالى أخبرهم أنه سوف يميط اللثام عن حقيقة هذا السر في عصر المسيح الموعود ، فلابد أن نفسّر قول الله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أن قلوب اليهود لم تقسُ بعد واقعة القتل المذكورة هنا، وإنما قست بعد كشف الله لهذا السر المكتوم في زمن المسيح الموعود . وهذا باطل بالبداهة، لأن قلوبهم كانت قد صارت قاسية حين ظلموا المسيح وعلّقوه على الصليب.
أتوجه الآن إلى بيان المعنى الذي أفضّله؛ ولإدراك هذا المعنى لا بد من معرفة أن المفسرين القدامى وقعوا في هذا الخطأ لظنِّهم أن الحادث المذكور في قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا يتعلق بزمن موسى ، مع أن هذا ليس صحيحا عندي، لأن الأحداث والاعتداءات الصادرة من بني إسرائيل في زمن موسى كان قد انتهى سردها إلى قوله تعالى وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (البقرة 72)، وابتداءً من قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا (البقرة 73) بدأ ذكر عصيانهم واعتداءاتهم الصادرة في عصر محمد رسول الله . والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول بعد سرد واقعة قتلِهم نفسًا: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ (البقرة 75)، أي لم تأخذوا عبرة من تلك الواقعة أيضا، ثم يقول في آخر الآية: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة 75)، مما يدل على أن الذين قست قلوبهم هم الذين قتلوا نفسًا أو حاولوا قتلها، وكانوا معاصرين للرسول ، ومن أجل ذلك حذرهم الله وقال: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . ثم قال تعالى بعد ذلك: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ (البقرة 76)، أي يا أصحاب محمد ، هل تطمعون في إيمانهم؟ فهذه الآية أيضا تتحدث عن قوم كانوا في زمن رسول الله .
وهناك حادثة من زمن الرسول لم تزل مثار اعتراض من قِبل أعداء الإسلام دائما، وهي حادثة قتل الزعيمينِ اليهوديين “كعب بن الأشرف، وأَبي رافع سلام بن أبي الحقيق”، بأمر النبي . يقول معارضو الإسلام: يجوز قتل أحد في الحرب أو بسبب الحرب، ولكن هذين الرجلين لم يشتركا في الحرب ولم يقوما بجريمة التحريض على الحرب، فلماذا قُتلا؟ وأرى أن آيتنا هذه تتحدث عن هذه الواقعة، حيث بيّن الله تعالى فيها أن هذا القتل قد تمّ بسبب جرائم قومية تقع مسئوليتها على اليهود، ولا اعتراض على تصرّف الرسول ، لأن ما نفّذه كان بأمر الله تعالى، وكان قصاصًا مشروعا لجرائمهم.
وبيان ذلك أن الله تعالى عندما كتب للمسلمين النصر العظيم في وقعة بدر، احترقت قلوب اليهود حسدًا، وهم الذين كانوا قد عقدوا اتفاقية سلام مع الرسول عند قدومه إلى المدينة. كما أخذت نار البغض تستعر في نفوس المنافقين. والحق أن وقعة بدر كسرت شوكة كفار مكة من ناحية، ومن ناحية أخرى أقضّتْ مضاجع اليهود والمنافقين، إذ كانوا يظنون أن قدوم المسلمين إلى المدينة أمرٌ مؤقت وتغيُّرٌ بسيط لا خطورة فيه؛ ولكنهم بعد وقعة بدر حسبوا للمسلمين ألف حساب، فشرع المنافقون في حبك المؤامرات السرية بين المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى أخذ زعيم اليهود كعب بن الأشرف في تأليب اليهود على المسلمين بطرق شتى، كما قام بتأجيج أهل مكة ضد المسلمين. وعاضدَه في ذلك الزعيم اليهودي أبو رافع ابن أبي الحقيق.
وقعت غزوة بدر في السابع عشر أو التاسع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وبعدها بادر كعب بالذهاب إلى أهل مكة يرثي قتلاهم بحماس، ويثير حميتهم، ويحرضهم على قتال المسلمين لأخذ الثأر منهم. واندفع في شرّه بالتشبيب بنساء المسلمين حتى إنه شبب بزوجة العباس عم النبي ، وكان أهل مكة يقرأون شعره هذا، فتمتلئ قلوبهم حماسًا ضد المسلمين ويزول رعبهم في نفوسهم. وقد أدّى ذلك إلى إثارة المسلمين من ناحية، ومن ناحية أخرى شجّع يهود المدينة على الشر حتى بدأوا يطعنون في النبي وفي المسلمين علنًا، ويسخرون من المسلمات في المدينة. فذات مرة ذهبت إحدى المسلمات إلى السوق للشراء، ثم أتت محل صائغ يهودي من بني قينقاع، وقد كانوا صاغة -وفي رواية أنها كانت قد طلبت منه صنع حلي لها- وسألته عن حليها التي تأخر في صنعها. ومع أن ذلك كان قبل نزول آيات الحجاب، لكن يبدو أن المسلمات كن يحتجبن ويسترن رؤوسهن ووجوههن إلى حدٍ ما حياءً منهن عند خروجهن إلى سوق اليهود. وكانت هذه السيدة أيضا تدلّي خمارها على وجهها احتشامًا من اليهود، فقال لها صاحب المحل: ارفعي حجابك عن وجهك، فرفضت. فربط خمارها بإزارها في حين غفلة منها، فلما قامت منصرفةً سقط عنها الخمار وانكشف وجهها، فضحك اليهود. فصرخت واستغاثت، وكان مسلم يمرّ قريبا من الدكان، فاشتبك مع اليهودي الشرير الذي فعل هذه الفعلة فقُتل بيد المسلم. فتكاثر اليهود على المسلم فقتلوه أيضًا. وكان هذا الحادث بمثابة إلقاء الوقود على النار، وتوتّر الجو وازدادت العلاقات بين المسلمين واليهود سوءًا. (السيرة النبوية لابن هشام، أمر بني قينقاع)
ولم يكن هذا الحادث عملاً فرديًا، بل انعكاسًا قوميًا كنتيجة لتحريضات ابن الأشرف ضد الإسلام بعد وقعة بدر، فكان اليهود يريدون في المدينة فتنةً تمكِّنهم من قتل النبي . يقول ابن سعد: “فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد” (الطبقات لابن سعد). وقد ازداد التوتر حتى إن الصحابة كانوا يتوجسون الخطر كل حين مخافة أن يهاجم اليهود النبي خداعا. فقد ورد في التاريخ أن الصحابي طلحة بن البراء مرض في تلك الأيام مرضا شديدا، ولما احتضر كان الوقت ليلاً، فأوصى أهله بألا يخبروا النبي بموته، بل يدفنوه بأنفسهم، لكيلا يأتي النبي إلى بيته للعزاء به، ولا يشترك في جنازته وقت الليل خشية أن يتعرض لهجوم مباغت من قبل اليهود، وقال: “فإني أخاف عليه اليهود وأن يُصاب في سببي”. (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني)
يتبين مما سبق مدى تمادي اليهود في شرورهم وفتنتهم حتى إن المسلمين كانوا في خوف دائم من أن يُغتال النبي . ومن أجل ذلك فإن النبي لم يعدّ انتهاكَ يهود بني قينقاع لحرمةِ السيدة المسلمة وقتْلَهم للمسلم الذي تقدم لإغاثتها حادثًا فرديا. وكل عاقل منصف سيستنتج حتمًا من كل هذه الأحداث وخلفياتها أن حادث قتل هذا المسلم لم يكن عملاً فرديا، إلا المؤرخون النصارى المتعصبون الذين يقولون إنه عمل فردي، وما دام كل فريق قد قتل شخصا من الفريق الآخر، فكان يجب أن ينتهي الأمر بعدها (حياة محمد، وليام موير). لكن كل إنسان منصف إذا وضع في الاعتبار (أولاً) الأوضاع كلها وتحريض اليهود لكفار مكة على الهجوم على المدينة، و(ثانيًا) تشبيبَ اليهود العلني بنساء المسلمين بين قبائل العرب بأقذر الأبيات، و(ثالثًا) اعتداءَهم الفاضح على حرمة نساء المسلمين في وضح النهار، و(رابعًا) مؤامراتِهم وسعيَهم لاغتيال الرسول ، أقول إذا وضع كلَّ هذه الخلفيات في الاعتبار فلن يعدّ هذا الحادث جريمة فردية، بل يعدّها جريمةً قومية من قبل الأمة اليهودية.
باختصار، عاقب الرسول أخيرًا بني قينقاع بإجلائهم من المدينة، وأمَر بقتل كعب بن الأشرف رأس الفتنة والشر، وبقتلِ أبي رافع صهرِه ومساعدِه الأكبر وزعيمِ قبيلة بني النضير، لأنهما القاتلان الحقيقيان للمسلمين حيث حرضّا على قتل الرسول ، فقُتل الأولُ بسبب جرائمه، والثاني بسبب إعانة الأول على جرائمه.
يصرخ المؤرخون النصارى حتى اليوم قائلين إنهما قُتلا بدون جرم ارتكباه، ولكن الحقيقة أن قتلهما ليس بشيءٍ أمام الفتنة الهوجاء التي تولّيا كِبْرَها.
أرى أن آيتنا هذه تشير إلى هذا الحادث نفسه وتقول: لقد ارتكبتم المعاصي والجرائم في زمن موسى، لكن قد هيأ الله لكم فرصة أخرى للتقرب إليه، ومع ذلك تأبون إلا الإصرار على شروركم السابقة، وتريدون قتل نفس عظيمة وتتآمرون لذلك، ثم ترفضون تحمُّل مسئولية هذه الجريمة محاولين التنصل منها؛ ولكن لن تنفعكم مكائدكم من الله شيئًا، لأنه يعلم رؤوس الشر والفتنة، وسيهتك سترهم وسيفضحهم، أي أن الله تعالى يعلم أن كعب بن الأشرف هو رأس هذه الفتنة، ولسوف يهيئ الأسباب لعقابه على بعض جرائمه.
لقد قال الله تعالى هنا قَتَلْتُمْ نَفْسًا ، ولكن ما ذكرته آنفًا يبين أنهم أرادوا قتل الرسول ولكن لم يتمكنوا منه، فكيف قال الله تعالى قَتَلْتُمْ نَفْسًا ؟ والجواب أن كلمة القتل لا تعني فقط القتل بالفعل، بل تعني أيضًا إرادة القتل أو محاولته، كما قال الله تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ (غافر:29)، فالقتل هنا بمعنى إرادة فرعون وأصحابه لقتل موسى . وهذا هو المراد هنا أيضا، أي أنكم صممتم على قتل هذه النفس العظيمة، وتآمرتم ودبّرتم المكائد لذلك، حتى كدتم أن تقتلوه بالفعل.
ثم إن اليهود كانوا بالفعل قد قتلوا نفسًا مسلمة، ومع أنه كان واحدًا من عامة المسلمين، ولكن قتله كان يستهدف في الواقع إثارة فتنة حتى يتمكنوا من قتل نبينا محمد . وعليه فيمكن أن يراد من قَتَلْتُمْ نَفْسًا ذلك المسلم الذي قتله بنو قينقاع؛ وكان “نفسًا عظيمة” من حيث أن قتْلها كان حلقة من سلسلة المؤامرات التي كان هدفها قتْل النبي .
ولا يظنن أحد أنه كيف يمكن لليهود، وهم قلّة، أن يجدوا في أنفسهم هذا الحماس والجرأة ضد المسلمين. لا شك أنهم كانوا قلّةً، ولكنهم كانوا واثقين من مساندة قوم لم يسلموا من أهل المدينة عمومًا ومِن المنافقين خاصةً، لأن أهلها كانوا حلفاء اليهود منذ سنين طويلة قبل هجرة المسلمين إليها. كما كان أهل مكة يحرضونهم على المسلمين. علاوة على ذلك، كان اليهود يعدّون أنفسهم أكثرَ ثقافة وتنظيما من غيرهم. ورد في التاريخ أنهم بدأوا يقولون بعد وقعة بدر: “يا محمد، إنك ترى أنّا قومُك!؟ ولا يغرُنّك أنك لقيتَ قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة. إنا واللهِ لئن حاربناك لتعلَمَنّ أنّا نحن الناس”. (السيرة النبوية لابن هشام، أمر بني قينقاع)
بعد هذ التمهيد أقوم بتفسير هذه الآية الكريمة بشيء من التفصيل.
إن المخاطبين في قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هم اليهود، والمراد بالنفس هو الرسول ، أو الشخص أو الأشخاص الذين قتلهم اليهود تمهيدًا لقتل الرسول .
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا يعني أنكرتم أنكم تآمرتم وكدتم لاغتيال النبي ، أو اختلفتم في قتل المسلم الذي قتلتْه جماعةٌ منكم، وتهرّبَ كل واحد منكم من تحمُّل مسئولية القتل زاعمًا أنه صادق فيما يقول، ولكن مثل هذا القول لا يكون إلا كذبًا.
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، أي أن الله تعالى يعلم مَن يحرّضكم على قتل هذا المسلم، أو على قتلِ النبي وعلى كل هذه الشرور، وسيفضحه الله تعالى. أو المراد أن الله يعلم أنكم تشبّبون بالمسلمات وتنتهكون حرمتهن، أو تهاجمون المسلمين في ظاهر الأمر، ولكن هدفكم الأساس هو قتل النبي ، ولسوف يفضح الله تعالى خطتكم الشريرة هذه.
وبالفعل قد كشفت الأحداث فيما بعد عن نوايا اليهود الشريرة؛ حيث دعا بنو النضير النبيَّ مرةً بحجة الحديث معه في بعض مسائل الدين لكي يغتالوه عند سنوح الفرصة، ولكن الله تعالى سلّمه منهم حيث أطلعه على خطتهم الخبيثة. (أبو داود، كتاب الخراج، باب خبر بني النضير).
ثم إن يهودية من خيبر دعت النبي للطعام، ودسّت السمّ في طعامه، وما إن أخذ النبي لقمة حتى أخبره الله بالوحي بذلك، فلفظها، وكان معه مسلمٌ آخر أكل منه لقمةً فمات (السيرة النبوية لابن هشام، بقية أمر خيبر).
وهكذا فإن قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني أنكم تريدون اغتيال الرسول، وحين تُسألون عن ذلك بناءً على القرائن الدالة على ذلك تنكرون، ولكن اعلموا أن الله تعالى سيهيئ من الأسباب ما يفضحكم به تماما ويكشف مؤامراتكم القومية هذه.
إذًا فقوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ كشَف ما كان يخفيه اليهود من نوايا خبيثة، كما كان بمنزلة نبأٍ مستقبليٍّ أيضا.
قد يعترض هنا أحد قائلا: تقول أن قول الله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ كان بمنزلة نبأٍ مستقبليٍّ، ولكنك قد اعترضتَ من قبل على المعنى الذي ذهب إليه علماء الجماعة وقلت أننا إذا ما اعتبرنا هذه الآية نبأً مستقبليًا يتحقق في زمن المسيح الموعود فلا ينسجم قول الله تعالى ثُمّ قستْ قلوبُكم مع باقي الآية؟
والجواب: لقد اعتبرتُ قول الله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ جملةً اعتراضيةً وقلتُ إنها بمنزلةِ نبأٍ مستقبلي، أما باقي الكلام فهو متعلق بوقت نزوله، والتقدير: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا- وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ…. وفي هذه الحالة تظلّ هذه الفقرات القرآنيةكلها منسجمةً بعضها مع بعض. أما هؤلاء العلماء فقد اعتبروا قول الله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا وقوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أيضًا نبأً متعلقًا بالمستقبل البعيد، ولكن في هذه الحالة لا يتماشى قولُ الله ثُمَّ قَسَتْ قلوبُكم مع باقي الآية.
وقوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا يعني: عند مؤامرة هذا الشخص لاغتيال محمد ، أو عند قتل أحد المسلمين تمهيدًا لقتله ، قلنا اقتلوا هذا الشخص بسبب بعض جرائمه.
وهذه الجملة بحاجة إلى مزيد من الإيضاح.
فأولاً: إن قوله تعالى اضْرِبُوهُ ، يُقال ضرَبه بيده وبالعصا ونحوها: أصابه وصدَمه بها. وضربه بالسيف: أوقعَ به (الأقرب).
فضرَبَه بالسيف يعني حاولَ قتله به. كان النبي قد فوّض مهمة قتْل كعبِ بن الأشرف رأسِ الفتنة إلى أحد أصحابه، وحيث إن المرء لو خرج لاغتيال أحد فليس من المؤكد أن يتمكن من قتله حتميًّا، بل غاية ما يمكن أن يفعله هو السعي لقتله، فلذلك قيل هنا: اضْرِبُوهُ ، أي هاجِموه بالسيف.
والحق أنه لا يؤمر بقتل أحد إلا مَن يكون قادرًا على قتله، كأنْ تأمُر الحكومة مسؤولها بقتل شخص تابع لها، ولكن كعب بن الأشرف لم يكن تابعًا للحكومة الإسلامية، فلذلك قيل: اضْرِبُوهُ ، أي اسعوا لقتله بالسيف.
والباء في قوله تعالى بِبَعْضِهَا تعليلية، والمعنى اقتلوه جرّاء بعضها، وهناك محذوف مضاف إلى ضمير المؤنث (ها) بحسب القواعد العربية، وهذا المحذوف هو الجرائم أو الآثام أو ما شابه ذلك، وتقدير الجملة: فقلنا هاجِموا القاتَل بالسيف جراءَ بعض جرائمه وآثامه.
وقيل هنا بِبَعْضِهَا ، لأن عقوبة جرائم كعب بن الأشرف لا تنتهي في هذه الدنيا، ولا يغطّي قتلُه عقوبتَه كلها، بل سيلقى على جرائمه عذابًا من عند الله في الآخرة أيضًا، لأن القرآن الكريم يصف عقوبةَ القَاتل كالآتي: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا (النساء:94)، والثابت من القرآن الكريم أن القاتل يُقتَل في الدنيا أيضًا. فثبت أن للقاتل عقوبتين: الإعدام في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة. وكأن الله تعالى يقول هنا: عاقِبوا هذا المجرم العقاب الدنيوي على بعض جرائمه، أما عقابه الباقي فسيكون بعد موته.
وأما قولي بأن الباء في قوله تعالى بِبَعْضِهَا تعليلية، أي أن معنى الجملة: اقتلوه جرّاء بعض جرائمه، فمثال الباء التعليلية في القرآن الكريم قولُ الله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ (المائدة 14)، أي لعنّاهم بسبب نقضهم عهدَهم.
أما قولي بأن هناك محذوفًا مضافا إلى الضمير (ها) في قوله تعالى بِبَعْضِهَا ، وهو الجرائم أو المعاصي، فمثال المحذوف المضاف قولُ الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (المائدة 4)، أي حُرّم عليكم أكلُ الميتة. ومثاله الآخر قول الله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا (يوسف 83)، والقرية مجموعة بيوت، والعير هي الحمير، ولا أحد يسأل البيوت ولا الحميرَ، إنما المراد: وَاسْأَلْ أهلَ القرية وأصحابَ العير.
ثم بعد ذلك يقول الله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ، أي أن الأعداء يريدون تدمير جماعات الأنبياء والقضاء على الأنبياء بقتلهم، ولكن الله تعالى يحفظ من الأعداء حتمًا أولئك الأنبياءَ الذين قد قضى بحفظهم من القتل، ويكتب لهم حياة جديدة حين يكونون في عداد الموتى في نظر العدو. فمن سنة الله المستمرة أنه لا يدع العدو يتمكن من قتل النبي الأول والنبي الأخير في سلسلةِ نبوةِ أيِّ أُمّةٍ، لأنهما النموذج الحقيقي لإحياء الأمة، ومثالهما موسى الذي كان الحلقة الأولى من سلسلة النبوة للأمة الموسوية، وعيسى الذي كان الحلقة الأخيرة منها، وإحياءُ بني إسرائيل كما تمّ على أيديهما لم يتمّ على أيدي سائر أنبيائهم، وقد حفظهما الله تعالى من الأعداء في كل موطن. وإلى ذلك يشير قول الله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى حيث بيّن أنه لا يتمكن أبدًا أحد من قتل الذين يريد الله حفظهم من الموت.
كما أن قوله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى إشارةٌ إلى الإحياء العام الذي يتمّ في الدنيا على يدي النبي الأول والنبي الأخير من أية سلسلة للنبوة، حيث بيّن الله تعالى أن الذين يريدون قتلهما يُبادون حتمًا، لأنهم إذا لم يُبادوا صار إحياء الدنيا محالاً، لذا فالاعتراض على إِهلاكهم حماقة، بل إن عدم إهلاكهم يجعل الله تعالى عرضة للاعتراض.
ثم بيّن الله تعالى بقوله وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أن الغرض من إراءة مثل هذه الآيات هو ردعُ الناس عن الشر وتوجيهُهم إلى الخير. لقد نال اليهود العقوبات وحفِظ الله رسولَه وجماعتَه عند كل الهجمات؛ سواءً العلنيّة منها أو السريّة، وكان في ذلك آية عظيمة لقوم يعقلون. وبالفعل قد أسلمَ بسببها بعض اليهود، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بها.
باختصار، إن الآيتين السابقتين ردٌّ على الاعتراض الشهير الذي لا يزال يروّج له كتّاب النصارى واليهود بأن النبي قتَل كعب ابن الأشرف وأبا رافع سلام بن أبي الحقيق بدون جريمة ارتكباها، حيث بين الله تعالى هنا أن شرورهما أدّت إلى قتل بعض المسلمين، بل لقد تآمرا وخطّطا لاغتيال الرسول . والتآمر لاغتيال إمام جماعة أو ملِكِ أو رئيسِ دولةٍ لهو بمثابة قتل الشعب كله. وقد أطلق أهل الغرب على هذه الجريمة اسمًا خاصا وهو (High T easion) أي الخيانة العظمى، ويعاقَب مرتكبوها بالإعدام، وليس ضروريًّا أن يكون المجرمون قد نجحوا فعلاً في تنفيذ مؤامرة الاغتيال. وفي هذه الأيام أيضًا -أيامِ هذه الحرب العالمية الثانية- يعاقَب الجواسيس بالإعدام على جرائمِ تجسسٍ بسيطةٍ. إن اليهود والنصارى يعترضون على قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع سلام بن أبي الحقيق، ولكنهم يغضّون الطرف عن تآمرهما وتخطيطهما وتحريضهما على اغتيال النبي . فهل في العالم دولة لا تنفذ عقوبة الإعدام في مَن يتآمر على قتل رئيسها وكبار المسؤولين فيها. الحق أن أي دولة لن تقصر في إعدامه إلا إذا كانت لا تعرف قيمة رئيسها، وتظن أن قتله لا يشكل جريمة كبرى ولا يضر بالبلد شيئًا. أما صحابة الرسول فقد كانوا عشّاقه، ويمكن معرفة مدى حبهم له بما ذكرناه آنفا عن الصحابي طلحة بن البراء الذي أوصى أهله ألا يخبروا النبي بموته مخافة أن يأتي إلى بيته لصلاة الجنازة بالليل شفقةً عليه، فيغتاله اليهود في ظلام الليل. ليس بوسع اليهود والنصارى أن يدركوا حقًا ما كان في قلوب الصحابة من قيمة لصلاة الرسول على أحد منهم، ومع ذلك لو أنهم فكّروا بدون تعصب في تضحية هذا الصحابي لأدركوا أن حياة النبي كانت في خطر شديد من قبل اليهود في ذلك الوقت حتى إن هذا الصحابي ضحّى بنعمة صلاة الرسول عليه التي كانت باليقين أحبّ وأعزّ إليه من ماله وأهله وأولاده بل ومن نفسه! ولو لم يكن هذا الخطر شديدًا وحقيقيًّا لما حرم هذا الصحابي نفسَه من نعمة صلاة الرسول عليه.