في عالم التفسير
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة: 25)

 شرح الكلمات:

وقود: الوقود ما توقَد به النار من الحطب. (الأقرب)

الحجارة: جمعُ الحجر، وهو الجوهر الصلب المعروف. (المفردات)

والحجرانِ هما الذهب والفضة. (الأقرب)

أُعِدَّتْ: أعدَّه للأمر: هيّأه وأحضرَه. (الأقرب)

الكافرين: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم…..).

التفسير:

يقول الله تعالى في هذه الآية إنكم إن لم تستطيعوا أن تأتوا بمثل أيّ سورة من القرآن الكريم، ولم تقدروا على الإتيان بكلام متّسم بالمزايا المذكورة، ولن تستطيعوا ذلك أبدًا، فعليكم أن تدركوا أن القرآن كلام الله تعالى، وأنكم لا تبارزون الإنسان، بل إنما تبارزون الله تعالى، وعليه فاستعِدّوا للقاء ذلك العقاب الذي لا يلقاه إلا المعارضون للحقائق السماوية.

وقوله تعالى لن تفعلوا يمكن تفسيره بمفهومين: أحدهما أنكم لن تقدروا على فعل ذلك، والآخر أنكم لن تستعدّوا لفعل ذلك، والمفهوم الثاني يشير إلى أن الكفار كانوا يشركون بالله آلهة أخرى، ولكنهم كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن آلهتهم لا تستطيع إنزال وحي، ولا تُنزل الوحي أبدًا، فأنى لهم أن يدْعوا شهداءَهم لهذه المواجهة. إن إبراهيم لما قال للكفار اسألوا آلهتكم رأيهم في الأمر الفلاني، اضطُرّوا للقول: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (الأنبياء:66). وإلى هذا الأمر نفسه أشار القرآن الكريم هنا وقال للخصوم إننا نقدّم هذا الكلام على أنه وحي الله تعالى، فلا مناص لكم من أن تقولوا إن أصنامكم أو آلهتكم من دون الله قد علّمتكم أيضا المعارف كمثل المعارف المذكورة في هذه السورة، وها أنتم تقدّمونها ردًّا على التحدي القرآني، ولكنكم أيها الخصوم لن تستعدّوا لهذه المواجهة أبدًا رغم الدعاوي الكثيرة، لأنكم تدرون أن لا وجود لآلهتكم المزعومة في الخارج، إنما هي أوهام عقولكم، ولا تستطيع أن تتكلم كما يتكلم الإله الحي.

وقال الله تعالى في وصف النار التي أنذر منها: وقودها الناس والحجارة ، ولو فسّرنا النار بمعنى الجحيم، فالمراد أن الجحيمَ الذي يدخله الكفارُ وقودُه بعض الناس والحجارة، أي المشركون وأصنامُهم التي يعبدونها، كما ذكر الله ذلك في آية أخرى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (الأنبياء: 99). وقد يراد هنا الحجارة المعروفة، لأن نارها أشد حرارة، حيث نجد نار الفحم أو الكلس شديدة الحرارة.

وقد يكون الوقود هنا استعارة، والمراد أن العلاقة بين الناس والحجارة، أي الوثنية، هي التي ستكون سببًا لإيقاد تلك النار للكافرين.

وقد فسّر مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية قوله تعالى الناس والحجارة أنه إشارة إلى نوعين من أهل النار: نوع يضمرون في قلوبهم شيئًا من حب الله تعالى، ولم يخرجوا كليةً من مفهوم لفظ الناس الذي يدل على الحب، ونوع آخر منهم شُبّهوا بالحجارة لخلوِّ قلوبهم من حب الله تعالى تمامًا، فهي كالحجارة الصلبة إذ لم يبقَ في قلوبهم رأفة ولا شفقة. وهذا المعنى على درجة كبيرة من الروعة واللطافة، ويصدّقه القرآن الكريم حيث يقول عن اليهود: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (البقرة:75)، أي أنكم قد رأيتم آيات الله تعالى ومع ذلك قد أصبحت قلوبكم كالحجارة، بل صارت بعضها أشدَّ قسوة من الحجارة أيضا.

ونظرًا إلى هذا التشبيه، ستعني هذه الآية أنه سيُلقى في نار جهنم الكفار العاديون وكذلك الذين شابهت قلوبهم الحجارةَ قسوةً وشقاوة.

ولو قيل: كان المفروض في هذه الحالة أن تذكر الحجارة قبل الناس هنا، لأن الذين صارت قلوبهم كالحجارة هم أولى بالنار صليا؟ والجواب: لقد قال الله تعالى هنا (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)، أي عليكم أن تسعوا لإنقاذ أنفسكم من النار، والظاهر أن الذين لا يزالون متحلين ببعض الصفات الإنسانية إلى حد ما هُمُ الأحرى بالانتفاع من هذا الأمر الرباني، لذا كان ذكر الناس قبل الحجارة هنا هو الأنسب والأولى.

ولقد أطلق القرآن المجيد على الكفار نظرًا إلى شرورهم اسمينِ: الجن والإنس، وسماهم نظرًا إلى عقابهم على شرورهم باسمين أيضا: الحجارةَ والناسَ. قال الله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (الناس:6-7)، أي ألوذ بملاذ الله تعالى من الموسوس الذي يكون حينًا من الجن وحينًا من الناس. وقد ورد هذا التعبير في موضع آخر على لسان أهل النار عند إلقائهم فيها: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (فصلت: 30)، فهنا أيضًا سمى القوم الذين يغوون الآخرين باسمين: الجن والإنس. (للمزيد من شرح الجن راجع تفسير قول الله تعالى في سورة الحجر: والجانَّ خلقناه مِن قبل من نار السموم)

باختصار، جعل القرآن المجيد الكفار نظرًا إلى شرورهم نوعين: الجن والإنس، ونظرًا إلى عقابهم نوعين أيضا: الناس والحجارة. سبب هذا الفرق هو أن نشر الشر والفساد يتطلب الخفاء، ولفظ “الجنّ” يعني لغةً الخفاء والستر، فأهل الشر يضلون الناس من حيث لا يدرون، إذ لو أنهم حاولوا نشر شرورهم بطريقة مكشوفة لما اغتر بهم الناس، فنظرًا إلى دسائسهم السرية سماهم بالجن. أما عند ذكر عقابهم فكان ضروريًا الإشارةُ إلى قسوة قلوبهم تبريرا لشدة عقابهم، ولذلك أطلق لفظ الحجارة على نفس هؤلاء الناس الذين سماهم الجن نظرًا إلى شرورهم وفسادهم.

ولا يغيبنَّ عن البال أن هذه الآية وإن كانت تذكر النار، ولا سيما نار الحجارة، إلا أن ما ذكره القرآن الكريم عن العقاب والجزاء بعد الموت إنما هو مجاز واستعارة، كما سنذكر ذلك لاحقًا عند تفسير شتى الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، وقد استخدم القرآن الكريم هذه الكلمات والتعابير التي يفهمها الإنسان في هذه الدنيا، تقريبًا لصورة العذاب والعقاب في الآخرة إلى أفهام الناس إلى حد ما.

أما قوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فإشارة إلى أن عذاب الله لا ينزل نتيجة الإنكار والعناد فقط، وإلا فإن الله تعالى قد خلق الإنسان للنجاة.

تبطل هذه الفقرة ظنَّ بعض المسلمين الذين يزعمون أن كل إنسان، مؤمنا كان أم كافرًا، لا بد أن يذوق عذاب النار قليلًا أو كثيرًا، فإن الله تعالى قد صرَّح هنا أن جهنم إنما أُعِدّتْ للكافرين. ولكن هذا لا يعني أيضًا أن كلّ من يُدعى مؤمنًا لن يدخل النار، لأن الذين لا يعملون بتعاليم الإسلام حقًا، ولا يسعون لإصلاح أنفسهم، قد عدّهم القرآن بمنزلة الكفار. فالذين هم مسلمون عقيدة، ولكن أعمالهم كأعمال الكفار، لا يمكن أن يُعَدّوا من الناجين من العذاب بحسب مفهوم هذه الآية.

ولنعلمْ أن العقاب عند القرآن الكريم ليس بدائمٍ أبديٍ، وليست غايتُه الانتقام والإيذاء دون مبرر، بل إنه بحسب الإسلام يهدف إلى تطهير الإنسان لكي يصلح للفوز بقرب الله تعالى، وما جهنم إلا كدار للاستشفاء والعلاج من آثار الأمراض الروحانية. (للمزيد من الشرح راجع تفسير قوله تعالى وأما الذين سُعدوا ففي الجنة…. إلخ في سورة هود)

  

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: 26)

 شرح الكلمات:

بشَّر: البَشَرة: ظاهرُ الجلد. وبَشَّرتُه: أخبرته بسارٍّ بَسَطَ بَشَرَةَ وجهِه، وذلك أن النفس إذا سُرَّت انتشر الدم فيها انتشارَ الماءِ في الشجر… وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فاستعارةُ ذلك تنبيهٌ أنَّ أسَرَّ ما يسمعونه الخبرُ بما ينالهم من العذاب. (المفردات)

والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشرّ إذا كانت مقيدة كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . والتبشير يكون بالخير والشر كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، وقد يكون هذا على قولهم: تحيّتُك الضربُ وعتابُك السيف… والتبشير في عُرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور؛ إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارةٌ عن الخبر الذي يؤثّر في البشرة تغيُّرًا، وهذا يكون للحزن أيضًا، فوجَب أن يكون لفظ التبشير حقيقةً في القسميْنِ (التاج).

الصالحات: جمعُ الصالحة. صلح الشيء: ضدُّ فسد، أو زال عنه الفساد. هذا يصلح لك: أي من بابتك (أي يناسبك)، وصالَحَه: وافقَه. والصالح ضد الفاسد. والصلاحية حالة يكون بها الشيء صالحًا. (الأقرب).

فالصالحات هي الأفعال الطيبة الملائمة والمفيدة التي لا فساد فيها.

جنّات: جمعُ الجنّة. والجَنّة مِن جَنَّ. وأصلُ الجَنّ سترُ الشيء، يقال: جنَّه الليل: ستَره، والجنّة كلُّ بستان ذي شجر يستر بأشجار الأرض. وقد تُسمّى الأشجار الساترة جَنّةً. وسميت الجَنّة إما تشبيهًا بالجنة في الأرض وإنْ كان بينهما بون، وإما لِسَتْره نِعَمَها عنّا المشارَ إليها بقوله تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (المفردات).

الأنهار: النهر مجرى الماء الفائض، وجمعه أنهار… وجعَل الله تعالى ذلك مثلا لما يَدرّ مِن فيضه وفضله في الجنة على الناس، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . والنهر: السعة تشبيهًا بنهر الماء. ونهْرٌ نَهِرٌ: كثيرُ الماء. (المفردات)

أزواج: الزوج كلُّ واحد معه آخَرُ مِن جنسه (الأقرب). وتخطئ العامة فتظن أن الزوج اثنان، والحقيقة أن الزوج واحد من اثنين، فتقول العرب: زوجان من حمام وزوجان من خفاف، ولا تقول للاثنين زوج حمام أو زوج خفاف، وقول الله تعالى في القرآن الكريم قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يوضّح هذا الأمر. لقد تبين من هنا أن الزوج لا يعني الذكر والأنثى، بل إما الذكر وإما الأنثى، ومن أجل ذلك جيء بكلمة اثنين ليبين أن المراد هما الاثنان الذكر والأنثى وليس أربعًا. وكان نوح قد أُمر أن يأخذ معه من الحيوانات الضرورية من الذكر والأنثى.

فالمراد من الأزواج في قوله تعالى ولهم فيها أزواج مطهرة أن لهم رفقاء من جنسهم، يُكْملون معهم كل نوع من الترقي والراحة. ويتضح من القرآن الكريم أن كل شيء دون الله تعالى بحاجة إلى زوج، وبناءً على هذا فإن أهل الجنة، رجالًا أو نساء، يكونون بحاجة إلى زوج. أما نوعية هذا الزوج فلا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وسوف ينكشف للإنسان عندما يدخل الجنة.

مطهَّرة: طهَر: ضدُ نجس. طهَّره جعَله طاهرًا. (الأقرب)

والطهارة ضربان: طهارةُ جسم وطهارة نفس. (المفردات)

فمعنى أزواج مطهّرةٍ رفاقٌ طاهرون.

خالدون: الخُلد البقاءُ والدوام. خلَد (يخلُد) خلودًا: دام وبقي. خلَد الرجل: أبطأ عنه المشيبُ، وقد أسنَّ. خلَد بالمكان وإلى المكان: أقام به. خلد إلى الأرض: لصِق بها واطمأن إليها. وفي كليات أبي البقاء: كل ما يتباطأ عنه التغيرُ والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم للأيام خوالد، وذلك لطول مكثها لا للدوام. (الأقرب)

والخلود هو تَبَرّي الشيءِ من اعتراض الفساد وبقاؤُه على حالته التي هو عليها. وأصل المـُخلَّد الذي يبقى مدة طويلة… ثم استُعير للمَبْقِيّ دائما. والخلود في الجنة: بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها. (المفردات)

التفسير:

تتضمن هذه الآية وصفًا مجملًا للنعم التي سينالها المؤمنون في الجنة. وقد كانت حقيقةُ نِعَم الجنة ولا تزال محلَّ الاعتراض من قبل أعداء الإسلام، وأهم اعتراضاتهم ما يلي:

  1. أن مثل هذه الوعود غاية في إثارة الطمع ومنافية للإيمان الكامل، لأن الإيمان المجلوب بالطمع لا يمكن أن يوصف بالإيمان الحقيقي.
  2. أن القرآن يقدّم النعم المادية جزاءً للإيمان، وهذا غير مقبول.
  3. أن الإغراء بالنعم المادية دليل على أن القرآن يقول ببقاء هذا الجسد المادي بعد الموت أيضًا، الأمر الذي يخالف العقل، لأن الجسم المادي مصيره الفناء. ثم إن أجزاء جسم إنسان واحد قد تُستخدم طِبّيًّا في أجسام كثير من البشر في الدنيا، فأنّى لذلك الجسم الفاني أن يعود إلى صاحبه؟
  4. أن هذه الآية والآيات الأخرى العديدة تتحدث عن وجود أزواج لأهل الجنة، وهذا يدل على وجود علاقات جنسية هنالك، والجنس محل للاعتراض، أما استثارة الشهوات الجنسية في الحياة الآخرة فهو أدعى إلى الاعتراض. ثم إن الغرض الأساسي من الاتصالات الجنسية هو التناسل وحفظ النوع، فهل يكون للإنسان ذرية ونسل في الجنة؟
  5. يتبين من صفات الجنة القرآنية أنها محل للانغماس في الملذات المادية، وليست مقاما للنعيم الروحاني.

تتلخص اعتراضاتهم في أن الإسلام -معاذ الله- قد أسَفَّ بحياة الآخرة إسفافًا بإثارته الأهواء النفسانية المنحطة، وبذلك أفسد معاني تلك الحياة السامية الطاهرة.

ولإدراك مدى بطلان هذه الاعتراضات، ينبغي أن نضع في الاعتبار جيدًا صورة الجنة كما يقدّمها القرآن الحكيم.

فأولًا يجب أن نتذكر أن القرآن الكريم قد بيّن صراحةً أن العقل الإنساني عاجز عن إدراك نعم الآخرة، فلا يصحّ قياس حياة الآخرة بالحياة الدنيا. قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (السجدة: 18). وقد تبين من ذلك أن كل ما ورد في القرآن الحكيم من وصف للجنة إنما هو على سبيل التمثيل والاستعارة لا غير، ولا يجوز أن يُستنتج من هذه التعابير ما نعني بها في هذه الدنيا. وقد قال الرسول في شرح هذا الموضوع فيما رواه عن ربه عز وجل، قال: قال الله تعالى: “أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ”. (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة. ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها).

فاتضح من ذلك أيضًا أن حقيقة نِعم الجنة تختلف كل الاختلاف عن حقيقة النعم الدنيوية. لو كانت في الآخرة جنات وأثمار وأنهار وأزواج مادية، لكانت مما رأته الأعين أو سمعت به الأذن أو خطرت على قلوب البشر.

ويتحدث القرآن الكريم مبدئيًا عن نعيم الجنة فيقول: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد: 36).

لقد بين الله تعالى هنا أن جنات الحياة الآخرة تختلف عن بساتين الدنيا، فثمارها دائمة لا تنقطع، وظلالها كذلك ثابتة لا زوال لها. ولكن الأشياء المادية عُرضة للزوال حتمًا، لأنها تتحلل باستمرار، وبالتالي فهي بحاجة إلى الغذاء، أما الأشياء التي لا تتحلل فلا تكون بحاجة إلى الغذاء أيضًا. فجناتُ الآخرة لا تحتاج إلى الغذاء ولا هي عرضة للفناء، ولا شك أن مثل هذه الجنات ليست مادية أبدًا.

وقد وصف القرآن الحكيم الجنة في موضع آخر فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ (محمد: 16). فأوصاف النعم المذكورة هنا تدلّ على أن هذه الجنات ليست مادية، لأن الماء الذي لا يأسن أبدًا، واللبن الذي لا يفسد أبدًا، والخمر التي لا تُسكر أبدًا، والعسل الذي هو صافٍ من شوائب الشمع وغيره، لا يمكن أن تكون من قبيل هذه الأشياء المادية الدنيوية.

لقد فسرتُ هنا قول الله تعالى خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أنها لن تُسكر الشاربين، ذلك لأن آية قرآنية أخرى تذكُر معنىً مشابهًا لذلك حيث قال الله تعالى يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ* لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (الصافات: 46 إلى 48). فهنا أيضًا ورد تعبير لذة للشاربين ، ثم بعدها شرَح اللذة بأنها لا تُحدث السُكر والغيبوبة، وبذلك قد أشار إلى أن خمر الدنيا لا تجلب لذة حقيقية، بل إنها تورث الغفلة عن الهموم والأحزان، أما خمر الآخرة فلا تسبب سُكرًا ولا غيبوبة.

وقال القرآن الكريم أيضا: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُوراً (الإنسان: 22)، أي أن ربهم سوف يسقيهم شرابًا طاهرًا مُطهِّرًا.

وكذلك قال الله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (المطففين:26-29)، أي أن المؤمنين يُسقون في الجنة شرابًا طيب الرائحة مختومًا، يكون آخره المسك، وفي ذلك فليرغب الراغبون. ويكون هذا الشراب مزيجًا بالكثرة والرفعة التي هي عينٌ يشرب منها المقربون.

وكذلك قال الله تعالى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (الطور: 24).

لقد تبين من هذه الآيات أن أهل الجنة يُسقَون من خمر لا سُكر فيها ولا عربدة، وستُقدَّم للمؤمنين بعد مزجها بماءٍ من ينبوع الكثرة والرفعة، وتنبعث منها رائحة طيبة من المسك، وهي طاهرة ومطهِّرة لشاربيها، فلا يهذون ولا يتشاتمون.

هذا هو وصف خمر الآخرة كما جاء في القرآن الكريم. فكيف خمر الدنيا؟ إنها تسبب السكر، وتبعث شاربيها على العربدة والبذاءة والتشاتم أحيانًا، وقد ورد عنها في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة:91-92). علمًا أن الأنصاب تعني معابد الأوثان، والأزلام تعني ألعاب من قبيل “يانصيب”.

لقد بين الله تعالى في هذه الآيات أن خمر الدنيا شيء سيءٌ وشربها عملٌ شيطاني، أي منافٍ للدين، يدفع إلى العداوة والبغضاء، ويمنع من ذكر الله والصلاة.

قارِنوا الآن ما تفعله خمرُ الدنيا مع مواصفات خمر الجنة، فتجدوا أن بينهما ما بين الظلمات والنور. فإذا كانت خمر الدنيا وصفت بالسوء والفساد، فإن خمر الجنة وُصفت بكونها طيبة ومطهِّرة. وإذا كانت خمر الدنيا تبعث على العداء والبغض، فإن خمر الآخرة تنجي شاربيها من اللغو والشتائم. وإذا كانت خمر الدنيا عُدّتْ من عمل الشيطان، فإن خمر الآخرة وُصفت بأنها سبب الكثرة والرفعة. وإذا كانت خمر الدنيا تولّد السكر والعربدة، فقد وصفت خمر الآخرة بأنها لا تُسكر ولا تُفقد العقل. وإذا كانت خمر الدنيا قد نُهينا عن تعاطيها، فقد قيل في شراب الآخرة أن من يرغب في شيء فليرغبْ في شراب الآخرة.

فثبت من هذا البون الشاسع بين مواصفات الخمرين أن نعمة الجنة التي سُميت خمرًا لا تختلف عن الخمر الدنيوية فحسب، بل ليست شيئًا ماديًا أيضًا، لأن الشيء المادي، مهما كان طيبًا، لا يقدر على تطهير القلب، ولا يبعث على الكثرة والرفعة، وإنما يحصل ذلك بشيء روحاني فقط.

خلاصة الكلام، أن نعم الجنة، وإن سُميت بأسماء نعم الدنيا، ولكن يراد بها النعم الروحانية، لا النعم الجسمانية، ناهيك أن تكون نفس الأشياء التي هي في هذه الدنيا.

ويؤكّد هذا المعنى ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء (تفسير ابن جرير ج 1)، أي أننا لا نعرف من نعم الجنة إلا أسماءها دون حقيقتها.

باختصار، ليس المراد من البساتين والأنهار والماء واللبن والشراب والعسل في الآخرة إلا أنها أشياء ستُحدِث تأثيراتٍ روحانية مشابِهة لتلك التأثيرات التي تُحدثها الأشياء المادية في الجسم المادي، باستثناء الخمر؛ فخمر الآخرة لا تُشبه خمر الدنيا في كل خواصها، بل في بعضها، ومن أجل ذلك قد بين القرآن الكريم الفرق بينهما مفصلًا، وذلك درءًا لأي التباس وسوء فهم قد يقع فيه البعض بسبب لفظ الخمر.

واللبس الذي كان من الممكن أن يقع فيه البعض لتشابه اسم الخمرين هو أن الخمر الأخروي أيضًا ربما يُغشّي العقل ويُسكر سكرًا ماديًا، فأزال الله تعالى هذا اللبس مبينًا أن خمر الجنة لن تشبه خمر الدنيا في هذا الوصف، بل تنحصر المشابهة بينهما في أن خمر الدنيا تؤثّر في عقل الإنسان وتولّد فيه التركيز، كذلك فإن قلوب أهل الجنة ستستولي عليها بعد الشرب من خمرها نشوةُ حب الله تعالى كلية، فيتبتّلون إليه عن كل شيء كلّ التبتل.

ويبقى هناك سؤال وهو: ما دامت نعم الجنة روحانية تختلف عن النعم الدنيوية كلية، فلماذا اختار القرآن الكريم لها أسماء نعم الدنيا؟

والجواب أن الدين هو لجميع طبقات البشر، الأصدقاء والمعارضين، والعِلْية والبسطاء أيضًا، والأمور التي يتعذر فهمها على الناس لا بد من ذكرها بلغة يفهمها الجميع، لكي يتم بها الرد على المعارضين، كما تكون مدعاة لاطمئنان البسطاء أيضًا، ولكي ينتفع بها عِلْية القوم أيضا. ومن أجل هذه الحكمة وصف القرآن الحكيم نعيم الآخرة بكلمات يجد فيها الجميع الطمأنينة والارتياح على قدر ذكائهم وثقافتهم ومكانتهم. كان الكفار يعترضون بأن محمدًا رسول الله يريد منهم التخلي عن كل أنواع النعم، وأن جماعته أيضًا محرومة منها كليةً، فتقريبًا لنعم الآخرة إلى أذهانهم استخدم الله تعالى أسماء الأشياء التي كانوا يعدّونها من النعم، وأخبر أن المؤمنين سينالون هذه النعم كلها. ومثل هذا التعبير كمثل أن يقول ثريٌّ لعالِمٍ: عندي مال كثير، فيردّ عليه العالم مشيرًا إلى مكتبته ويقول عندي كنز هو أكبر مما عندك. فجواب العالِم لا يعني أن في كتبه أموالا مادية، بل المراد أنه يملك ما هو أنفع مما يعدّه الثري كنزًا. وبالمثل عندما يقول القرآن المجيد إن للمؤمنين جناتٍ ذاتِ ظلٍّ ظليل، وأنهار جارية، ولبنٍ سائغ لم يتغير طعمه، وماءٍ غير آسن، وعسلٍ مصفى من الشوائب، وخمرٍ نقية لا تُسكر، مطهِّرة للقلوب، فإنه بذلك يردّ على المعترضين قائلا: إن الأشياء التي تعدّونها نعمًا هي أدنى من النعم التي سينالها المؤمنون في الجنة. إن أنهاركم التي تظنونها نعمة يأسن ماؤها ويتعفن، أما المؤمنون فسينالون في الجنة أنهارًا لا يأسن ماؤها، وإن الجنات التي تعدّونها في الدنيا نعمةً هي ليست بنعمة حقيقية، إنما النعمة تلك الجنات التي لن تطالها يد الخراب وسينالها المؤمنون في الآخرة. والخمر التي تعدّونها نعمة في هذه الدنيا، فالمؤمنون في غنىً عنها، لأنها رجس وآفة تعطّل العقل، أما الخمر التي سيهبها الله المؤمنين فهي تشحذ العقل وتزيد الطهارة والتقوى. والعسل الذي تتباهون به تشوبه الشوائب، ولكن الله تعالى سيطعم المؤمنين في الجنة عسلًا مصفى من كل شائبة. وإن الرفاق الذين تعتزّون بهم ليسوا في الحقيقة بنعمة لأنهم غير طاهرين، ولكن الله سيعطي المؤمنين رفقاء طاهرين. وإن الثمار التي تزدهون بها تنفد، ولكن الله تعالى سيعطي المؤمنين ثمارًا لا نفاد لها وسوف يجدونها كل حين وكلما أرادوها.

إن هذه المعاني واضحة كل الوضوح بحيث أن كل من أمعن النظر فيها متخليًا عن التعصب فَهِمَها وأدركَ ما فيها من إشارات لطيفة رائعة. أما المتعصب أو الجاهل فليس لعلاجه من سبيل.

إن المعارضين المسيحيين هم أكثر الناس طعنًا في هذه الآيات، ولكنهم لا ينظرون إلى ما ورد في كتابهم المقدس حيث قيل لهم: ‏{‏اكنـزوا لكم كنوزا في السماء‏}‏ (متى 6: 20). وقيل أيضًا: }فاذهَبْ وبِعْ أملاكك، وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنـز في السماء{ (متى 19: 21).

فإذا كان ادخار المال في السماء وحيازة الكنز بعد الموت ممكنا، فكيف كان نيل الجنات والأنهار والعسل واللبن والخمر التي لا تسكر أمرًا غير معقول؟

كذلك ورد في الكتاب المقدس أن المسيح “جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ” (الرسالة إلى العبرانيين 10 : 12). فإذا كان الله تعالى بحاجة إلى سرير يجلس عليه، وإذا كان المسيح أيضًا احتاج أن يجلس على السرير في السماء، فلماذا لا يحتاج المؤمنون إلى الجنات، وما الغرابة في ذلك؟

وإذا كان جوابهم أن الكنز المذكور في الإنجيل يعني أن الذي يتخلى عن كنزه في سبيل الله فإنه سيعطيه كنزًا روحانيًا، وأن السرير لا يعني سريرًا مصنوعًا من الخشب أو الذهب أو الفضة، بل هو سرير الجلال، فنجيبهم: لماذا لم تفسّروا على هذا النحو ما ذكره القرآن الكريم من ماء ولبنٍ وخمرٍ! ولماذا لم تدركوا أن المراد منها أيضًا أن المؤمنين قد حُرموا في سبيل الله من المياه، ونُهبت أموالهم، ومُنعوا من اللبن والعسل، وصاموا لوجه الله تعالى، وحرّموا على أنفسهم اللبن والعسل والماء ابتغاء مرضاته، فوعدهم الله تعالى أنه سيجازيهم باللبن الروحاني والعسل الروحاني والماء الروحاني. وحرّموا على أنفسهم الخمر طاعةً لأمر الله تعالى، فيسقيهم الله خمر محبته. وأُخرجوا من ديارهم في سبيل الله، أو جعلوا بيوتهم مأوى للفقراء ومكان راحة للضيوف، فسيُسكنهم الله تعالى في بساتين رحمته.

باختصار، إن الجنات والأنهار والأثمار واللبن والعسل والخمر التي يذكرها القرآن الكريم تختلف كلية عن بساتين هذه الدنيا وأنهارها وأثمارها، وأن لبن الجنة وعسلها وخمرها يختلف تماما عن لبن وعسل وخمر هذه الدنيا، وأن القرآن الكريم قد شرح بنفسه هذه النعم شرحًا لا يشكك بعده فيها إلا من أعماه التعصب. ولأن هذه التعابير قد وردت في الكتب السابقة فليس في هذه الآيات ما يصعب فهمه على الناس.

وأريد أن أوضح هنا أني لا أعني أبدًا بما سبق من البيان تجريد الحياة الآخرة من الجسم كلية، وكأنها ليست إلا روحانيةً، وأنّ نِعَمَها مقصورة على مشاعر القلب فقط. كلا، بل إن الروح لا بد لها من جسم في كل الأحوال بحسب القرآن الكريم، وإذا كان الجسم المادي الدنيوي سيفنى بعد الموت، فإن الإنسان سيحظى في الحياة الآخرة بجسم يختلف عنه كليةً. وتقريبًا لحقيقة الحياة الآخرة إلى الأفهام قد أوجَد الله تعالى لنا في هذه الدنيا عالَمَ المنام، لكي نستوعب به حياة الآخرة بعض الاستيعاب. لقد بين الله تعالى بكل وضوح في القرآن المجيد أن هناك علاقة عميقة بين عالم الآخرة وعالم المنام حيث قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر: 43)، أي أن الكفار ينكرون الحياة الآخرة وعذابَها، مع أنهم لو أعملوا فكرهم لوجدوا على ذلك دليلاً في حياتهم. إنهم يرون أن الله تعالى يقبض روح كل نفس عند موتها، أما النفس التي لا تموت فيقبض روحها في منامها، فأما النفس التي قضَى الله بموتها فيُمسك روحها عنده، وأما النفس الأخرى، أي النائمة، فيُطلق روحها لأجل مسمى. وإن في هذه الظاهرة آيات للذين يتفكرون.

لقد بين الله تعالى هنا أن الموت والمنام متشابهان، وإنما الفارق بينهما أن الروح تفارق الجسد المادي عند الموت فراقا أبديًا، أما عند المنام فتفارق الجسدَ فراقا مؤقتا، وترى الروحُ الإنسانية خلال هذا الفراق المؤقت مشاهد عديدة، وتجد لها جسمًا جديدًا وبيئة جديدة، فيمكننا أن نقيس على ذلك الكثيرَ من الحياة الآخرة.

والمناظر التي يراها الإنسان في المنام لا يمكن أن تُعَدّ روحانيةً محضة، لأن الرائي لا يرى في المنام الروحَ فحسب، بل يرى معها جسمًا أيضًا، ففي كثير من الأحيان يجد نفسه بين البساتين أو وسط الأنهار، ويأكل الأثمار ويشرب اللبن. وهذه المشاهد لا تكون روحانية محضة، بل تشبه في ظاهرها البساتينَ والأنهار واللبن والعسل وغيرها، ومع ذلك لا يمكن أن يقول أحد أن اللبن أو الماء الذي رآه في المنام هو لبنٌ ماديٌ أو ماءٌ مادي، بل يكون لهما تعبير آخر في العالم الروحاني. فمثلًا إذا رأى المرء نفسه في بستان يجري فيه نهر، ولم يكن منامه نتيجة تفكيره بل كانت رؤيا صادقة من الله تعالى، فتأويلها أن إيمانه جاذب لفضل الله عليه وأن عمله مقبول عنده تعالى، فهو يجد لذة روحانية برؤية البستان والنهر على النحو الذي يجذب إيمانه وعمله فضل الله تعالى. أو إذا رأى في المنام أنه يأكل المانجو، وكان منامه حقًا، فتأويله أن الله تعالى سيهب له أولادًا صالحين، أو قلبًا صالحًا بسبب أعماله الحسنة. أو إذا رأى أنه يأكل العنب، فتعبيره أن قلبه سيزداد خشيةً وحبًا لله، وأن الله تعالى سيُنزل عليه فضله. أو إذا رأى أنه يأكل الموز، فتأويله أن الله تعالى قد قضى بأن يرزقه رزقًا حلالًا طيبًا بدون مشقة وعناء. فالحق أن الإنسان عندما يأكل في المنام المانجو أو العنب أو الموز، فإن روحه تزداد صلاحية لتلقي الجوائز المشابهة لتلك الفواكه.

والخلاصة أن كون نعم الآخرة روحانية لا يعني أن الإنسان سيشعر بمجرد إحساس باطني بهذه النعم في الآخرة، بل الحق أن نعم الدنيا كلها تمثّلُ نعمَ الآخرة، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. فالأولى أن يقال إن نعم الآخرة هي الأصل بدلًا من أن يقال إن الحياة الآخرة تصوير لنعم الدنيا، فليس الماء واللبن والعسل والثمار في هذه الدنيا إلا صورة ممثلة للحياة الآخرة، ولم تُخلَق نعم الدنيا إلا لتصوير نعم الآخرة. إن هذه الدنيا مادية، فأُعطيت هذه النعم قالبًا ماديًا، وإلا فإن الله تعالى قد أراد بهذه النعم الدنيوية أن يقول لنا: ما دام التمثيل الدنيوي لنعم الآخرة شهيًا ولذيذا لهذه الدرجة، فما بالكم بلذة نعم الآخرة التي هي الأصل، لأن الروح أقوى شعورًا وإحساسًا من الجسد.

بعد هذا الشرح لا أرى داعيًا للرد على كل واحد من الاعتراضات المذكورة آنفًا ردًا منفصلًا، إذ شمل هذا الشرحُ الردَّ عليها جميعًا، ما عدا الاعتراض على الزوجات في الجنة، وسأردّ عليه لدى تفسير قول الله تعالى: وأزواج مطهرة .

والآن أقوم بتفسير هذه الآية.

يقول الله تعالى هنا إن الذين يؤمنون ويعملون الصالحات سوف ينالون الجنات.

لقد سبق أن ذكرنا أن صلاح الشيء يعني كونه مناسبًا للحال، فالأعمال الصالحة هي التي تكون مناسبة لمقتضى الحال. إنه لمما يميز القرآن الكريم عن الأسفار الأخرى أنها تأمر بالأعمال الحسنة، ويراد بها عبادةُ الله، وحسنُ معاملة الناس مِن صدقة وبر وعفو وإحسان وغيرها من الأعمال. ولكن القرآن الكريم يأمر بالعمل الصالح، ومفهومه أوسع وأشمل من العمل الحسن. ويرى القرآن الكريم أن مجرد العمل بشكله الظاهر لا يكفي لتطهير الإنسان، بل لا بد أن يكون هذا العمل مناسبًا لمقتضى الحال. على سبيل المثال، إن عبادة الله بظاهر شكلها غير كافية عند القرآن الكريم ما لم تكن خالية من الرياء والتظاهر. لا شك أن الصلاة عمل حسن، ولكن إذا صاحبَها الرياء لم تكن مقبولة عند الله تعالى، لأنها ليست عملًا صالحًا، مع أنها عبادة لله تعالى. أو مثلًا إذا كان هناك غريق يغرق، وأنت تجيد السباحة، وقد علِمت أن شخصا يغرق، لكنك بدأت الصلاة بدلًا من إنقاذه، فصلاتك في هذه الحالة ليست عملًا صالحًا رغم كونها عملًا حسنًا، لأن العمل الصالح في ذلك الوقت هو إنقاذ الغريق، لا أداء الصلاة. أو مثلًا يكون البعض رحيما بفطرته، فيرى شخصًا يظلم غيرَه، فلو أن هذا الرحيم عفا عن الظالم فعفوه ليس عملًا صالحًا في ذلك الموقف، رغم كونه عملًا حسنًا، فإنما العمل الحسن هو أن يتصدى للظالم دفاعًا عن المظلوم. أو مثلًا هناك قاضٍ جالس على كرسي القضاء بأمر الدولة لمعاقبة المجرمين، فلو أطلق سراح سارق أو لصٍّ بسبب طبعه الليّن، فلن يُعَد تصرُّفه عملًا صالحًا رغم أن العفو عمل حسن، ولن يكون عمله مقبولًا عند الله تعالى، لأن الأجدر بالجالس على كرسي القضاء هو أن يؤدي الواجب الذي أنيط به، وإن جاز له أن يعامل المجرم برحمته في حدود ما يسمح له القانون. أو مثلاً يترك شخص عندك ماله كأمانة، فتوزع هذه الأموال على الفقراء، فمع أن مساعدة الفقراء عمل حسن، ولكن تصرفك هذا ليس عملاً صالحًا، لأن الأنسب لك بصفتك مؤتمنا أن تحافظ على هذه الأموال، وإن كنت تعلم أن هناك فقيرًا يجب مساعدته، فعليك أن تنبه صاحب الأموال إلى الإحسان إليه، وليس أن تسلّم ماله للفقير. أو مثلاً هناك شخص يعمل حارسًا على باب سيده، فيعلم بحلول مصيبة عظيمة على الناس قد تُهلكهم، فرغم أنه مسؤول عن الحراسة، ولكن واجبه في ذلك الظرف أن يسعى لدفع ذلك الهلاك الواسع، لأن العمل الصالح في ذلك الوقت ألا يبالي بالضرر الصغير من أجل دفع الضرر الكبير.

وملخّص القول، إن العمل الصالح أوسع معنى من العمل الحسن. والعمل الصالح هو ما لا يكون عملاً حسنًا في ظاهره فحسب، بل يجب أن يكون حسنًا في حقيقته أيضا، ولا يكون حسنًا في ذاته، بل يكون حسنًا بالنظر إلى الظرف والموقف. والقائم بالعمل الصالح ليس من يتبع الكلمات على غير هدى، بل هو من يستعمل ما أعطاه الله من العقل ليرى كيف يؤدي عمله طبقًا لمقتضى الحال، أو لا يكتفي بالقيام بعمل حسن فقط، بل يقوم بكل أنواع الأعمال الحسنة التي هي ضرورية من أجل رقيه ورقي مجتمعه روحانيًا وماديًا. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الأمر بأسلوب رائع فقال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (الشورى:41)، أي أن المظلوم يمكن أن ينتقم بقدر ظلمه، ولكن الذي يعفو مراعيًا الإصلاح فأجرُه على الله.

لقد ذكرتْ هذه الآية العفو الذي هو عمل حسن، ولكنها بينت أن العفو لا يكون مرضيًا عند الله تعالى إلا إذا كانت نتيجته الإصلاح. ومثاله أن يلقىَ المرء في طريقه لصًّا قد خرج لنهب الناس في قرية مجاورة، وأخطأ اللص في تقدير قوة هذا الشخص فحاول نهبه، ولكنه صرع اللص، فمع أن عفوه عن اللص بعد صرعه عملٌ حسن في الظاهر، ولكن حيث إنه يعلم أن نية اللص سيئة، وأنه إذا تركه سوف يهاجم بعض الضعفاء والفقراء، ويلحق الضرر بماله أو نفسه، لذا لن يُعَدّ عفوه عملاً صالحا، إذ سيؤدي إلى الفساد بدلاً من الإصلاح.

ويتبين لنا هذا الأمر من أحاديث النبي ، حيث ورد عن أبي هريرة قال: سُئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله” (البخاري، كتاب الحج).

وقال ابن مسعود سألت رسول الله قلت: “يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم أي؟ قال: برُّ الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله”.(البخاري، كتاب الجهاد).

والذين لا يعلمون دقائق الشرع يرون في هذين الحديثين اختلافا، ويقولون كيف نرفع هذا الاختلاف، وأيّ الأعمال أفضل حقيقة؟ والحق أنهم لم يدركوا أن رسول الله لا يقارن هنا بين الأعمال الحسنة المختلفة، بل يقارن بين الأعمال الصالحة. فالرجل الذي أخبره النبي أن الجهاد خير عمل بعد الإيمان، فيبدو أنه كان يتقاعس عن الجهاد، وكان قلبُه منقبضا من القيام بهذا العمل الحسن، وكان بناءُ تقواه ناقصًا، لذا قال له النبي أفضل الأعمال الجهاد، فكأنه نبهه إلى إن الجهاد هو الأولى بك، لأنك تعمل الأعمال الحسنة الأخرى، ومقصّر في الجهاد.

وحينما قال المصطفى : خير الأعمال إقامة الصلاة على ميقاتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد، فيبدو أنه كان هناك ناس يتكاسلون في الصلاة، ولا يبرون الوالدين كما يجب، فكان الأَنسب لهم أن يؤمَروا بإقامة الصلاة على ميقاتها وبِرّ الوالدين، لكي تُسدّ هذه الثغرات في حسناتهم.

لقد بشّر الله تعالى في هذه الآية ذوي الإيمان والعمل الصالح بالجنات، وذلك لأن الإيمان كبُستانٍ يرويه العمل الصالح، فينمو وينضُر ويخضرّ. والذي لا يعمل بعد الإيمان تجفّ شجرة إيمانه وتذبل. وقد سبق أن بين الله تعالى عند ذكر المنافقين عمليًا أن إيمانهم سيضيع إذا لم يتوجهوا إلى صالح الأعمال. (راجع تفسير قول الله تعالى: أو كصيب من السماء….). وقال الله تعالى أيضا: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر:11)، أي إذا ادعى المرء الإيمان فإن إيمانه يصعد إلى الله تعالى، والعملُ الصالح هو الذي يرفع إيمانه إليه تعالى، بمعنى أن الإيمان يكتمل بالعمل الصالح، وبدونه يبقى الإيمان في الطريق، ولا يؤتي ثماره على ما يرام.

وقد شبَّه الله تعالى في آية أخرى الكلمةَ الطيبة، أي التعاليم الطيبة التي تكون نتيجتها الإيمان، بشجرةٍ طيبة وقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ (إبراهيم: 25)، يعني ألم تعلموا أن الله تعالى شبَّه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؟! فكما أن الشجرة بحاجة إلى الماء كذلك فإن مجرد الإيمان بالكلمة الطيبة لا يكفي، بل لابد من ريّه بماء العمل، وعندها ستبقى شجرة الإيمان مخضرّة نضِرة. فتبشير الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار إشارة إلى الأمر نفسه، أي أن هؤلاء المؤمنين سقوا زرع إيمانهم بماء العمل، فأسكنهم الله في جنات تجري من تحتها الأنهار، فجريانُ الأنهار في الجنات سوف يذكِّرهم دائمًا أن إيمانهم وعملهم لم يضيعا، بل أسفرا عن راحة أبدية، وظلالُ الجنات سيلفت أنظارهم إلى أن الإيمان هو الذي جَذَبَ فضل الله عليهم، وأنهارُ الجنة ستذكِّرهم بأعمالهم الصالحة التي أنقذت أشجار إيمانهم من الذبول والجفاف.

وقوله تعالى: أن لهم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ إشارةٌ إلى أنه سيكون لكل إنسان في الجنة نطاق عمل معين مستقل لن يتدخل فيه غيره، وجريان الأنهار تحت الجنات يعني أن لكل روضة نهر يسقيها ويخصها هي، ولن يكون كما نرى في هذه الدنيا أن نهرًا واحدًا يسقي عدة بساتين ومزارع، فيتنازع أصحابها في مياهه أحيانًا.

أما قوله تعالى: كلما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل فيمكن أن تكون رزقًا مفعولا مطلقا أو مفعولا به. وإذا كانت مفعولًا مطلقًا فالمعنى: أنهم يعطون منها عطاءً جميلا، أي كلما أُعطوا من الثمار شيئًا فيعطون بطريقة جميلة، وسيكون مفهوم الجملة أن المؤمنين لن ينالوا ثمرة إيمانهم فحسب، بل سينالون من الإكرام بحيث إنهم سيُعطَون ثمرة أعمالهم كاملة، وسيُعطَونها كما هو حق العطاء الإلهي.

أما إذا كانت كلمة رزقًا مفعولًا به فمعناها الشيء المرزوق، وعليه فستعني هذه الجملة: أنهم كلما رُزقوا شيئًا من قبيل الثمار يقولون هذا الذي رزقنا من قبل. فالتركيز هنا على (من ثمرة)، أي أن ما سيُعطون يكون نتيجة أعمالهم.

أما قول الله تعالى: قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ، فقال المفسرون إما أنه يعني أنهم سيقولون إن الثمار التي كان الله تعالى يعطينا إياها في الدنيا، فسوف يعطينا الثمار نفسها في الجنة أيضًا، أو المعنى أنهم سيُعطَون الثمار مرة بعد أخرى، فيقولون في كل مرة إننا نُعطى نفس ما أُعطينا من قبل، وفيه إشارة إلى إعطاء نعم الجنة بتكرار.

ولكني أرى أن كلا المعنيين غير صحيح، ذلك لأنه لو كان المراد أنهم يقولون إننا نُعطى نفس تلك الثمار التي أُعطيناها في الدنيا، فهذا يعني أن ثمار الدنيا وثمار الآخرة من نوع واحد، مع أن الله تعالى يقول في القرآن الكريم عن نعماء الجنة: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (السجدة: 18)، فكيف يصح القول بأن فواكه الجنة تكون مثل فواكه الدنيا؟

أما إذا فسرنا هذه الجملة بأنهم يقولون إن هذه الثمار قد أوتيناها في الجنة من قبل أيضًا، فيقع على ذلك اعتراضان: الأول: يخبر القرآن الكريم أنهم كلما أُعطوا الثمار في الجنة يقولون هذا الكلام، والواضح أنهم لا يستطيعون قول ذلك عندما يُعطون هذه الثمار أول مرة في الجنة، لأنه خلاف قولهم رُزقنا من قبل . والاعتراض الثاني هو أن هذا المفهوم ينمّ عن كفران بنعمة الله بدلاً من شكرها، ذلك أن المرء إذا أراد الشكر على الإحسان قال: “لم أرَ مِن قبل مثل هذا الشيء الرائع الذي أُعطيته اليوم”. لو قال الضيف للمُضيف مثلا: الطعام الذي تقدمه لي اليوم قد أطعمتني إياه من قبل أيضًا، فهذا سيُعَدّ هجوًا وليس ثناءً، لأن معناه: “أرجوك أن تطعمني شيئًا آخر، فإلى متى ستطعمني الطعام نفسه؟”

أرى أن قول الله تعالى: كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل له معنيان: أحدهما أن الجنّات تمثّل الإيمان، والثمرات تمثّل لذة الإيمان، وحينما سيؤتىَ المؤمنون ثمار الجنة يقولون: إنها حلاوة الإيمان نفسها التي وهبها الله لنا في الدنيا، فلم يضع إيماننا، بل ما زال يؤتينا أحلى الثمرات.

ومن البيِّن أن هذه الكلمات تفيض بعاطفة الشكر والامتنان، وهي الأولى بأهل الجنة وبعظمة الله تعالى. فإنهم كلما يُؤتَون من ثمار الجنة شيئًا يذكرون نعمة الإيمان، كما يذكرون فضل الله إذ أورثهم نعمة الإيمان هذه، كما لا يبرحون يشكرون الله على تلك النعمة التي سينعمون بها في الجنة دائما على صورة ثمار روحانية كنتيجة لذلك الإيمان.

والمعنى الثاني: أن قوله رُزقنا يعني وُعدنا به، فالمؤمنون كلما أوتوا من ثمرات الجنة قالوا هذه هي الثمار التي قد وُعدنا بها في الدنيا. واستخدامُ الفعلِ الماضي بمعنى الوعد ثابت من القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى للمؤمنين في سياق الحديث عن النساء اللاتي يرضعن أولادهم بالأجرة: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة:234)، فجملة ما آتيتم تعني ما وعدتم المراضع بإيتائه من الأجرة حسب المعروف وعدًا موثقًا.

وعليه يكون المراد من قوله تعالى الذي رزقنا : الذي وعِدنا بإيتائه، ومفهوم هذه الجملة أن الوعد الذي وعِدنا به في الدنيا قد تمَّ الوفاء به بهذه النعم. فكلما أوتيَ أهل الجنة من ثمارها، لم يلبثوا أن قالوا قد أوتينا هذه الثمار طبقًا للوعد الذي وُعدنا به في الدنيا. وهذا المعنى قد بينه بعض المفسرين السابقين أيضًا.

أما قوله تعالى: وأتوا به متشابها ، ففسّره البعض أنهم سيُعطون في الجنة ثمارًا مماثلة لثمار الدنيا، أو أن الثمار التي يُعطونها ستكون متشابهة في صورتها ومختلفة في طعمها.

لقد بينتُ من قبل ما في المعنى الأول من ضعف، وأما المعنى الثاني فأيضًا باطل إذ لا دليل عند المفسرين على تشابه تلك الثمرات صورةً، واختلافها مذاقًا.

وأرى أن المعنى الصحيح هو التالي:

أولا: أن ثمرات الجنة ستكون متشابهة في لذتها للعبادات والقربات التي قام بها المؤمنون في الدنيا. فالمؤمن عندما سيأكل شتى ثمرات الجنة ويتلذذ بها سيقول: هذه هي الصلاة التي صليتها في الدنيا، وهذا هو الصوم الذي صمتُه، وهذا هو الحج الذي أديته، وهذه هي الصدقة التي تصدقت بها، وهذا هو العفو الذي تعاملت به مع الخصوم، وهكذا فإن الأعمال الصالحة كلها ستتمثل لهم في الجنة، فتفيض قلوبهم بعواطف الشكر لربهم قائلين: لم ينسَ ربنا الرحيم كذا وكذا من صلاتنا، ولا كذا وكذا من صدقاتنا. أجل، إنهم سوف يشعرون في كل ثمرة يذوقونها بأن الله تعالى قدّر أعمالهم حق قدرها، وسوف يتذكرون عندها تلك اللذات التي تمتعوا بها عند فعل تلك الخيرات.

ونظرًا لهذا المفهوم، ينبغي للمؤمنين أن يدركوا مسؤوليتهم التي تقع عليهم عند قيامهم بالصالحات. فما دامت صلواتنا وصدقاتنا وصيامنا سوف تتمثل لنا في الجنة ثمراتٍ، فعلينا أن نُحسّن أعمالنا هذه في الدنيا، لأن لذة الثمرات التي نُعطاها في الجنة ستكون بحسب نوعية صلواتنا وصدقاتنا وصيامنا، فإذا كنا لا نقوم بهذه الأعمال بكامل الشوق والخشوع والتركيز فإننا نصنع غذاءنا الروحاني في الجنة أقلَّ لذة من غذاء الآخرين من أهلها. أما إذا كنا نحسّن أعمالنا من صدقة وعفو وخدمة خَلْقٍ وعبادات، فكأننا نصنع غذاءنا الروحاني في الجنة لذيذًا شهيًّا، لأن لذة ذلك الغذاء ستشابه اللذة التي نشعر بها عند قيامنا بالأعمال الحسنة في الدنيا.

والمعنى الثاني لقوله تعالى وأُتُوا به مُتشابِهًا هو أن ما يُرزَق به أهل الجنة من النِّعَم والثمرات سيكون متشابِهَ الخواص ومتوافق التأثيرات.

إن أطعمة الدنيا تكون متضادة التأثير في أحيان كثيرة، فبعضها يكون مفيدًا للمعدة، والآخر مجهدًا لها، وأحدها ينفع القلب والآخر يضرّه، وهكذا يفقد طعامنا كثيرًا من نفعه لعدم توافق تأثيرات الأغذية المختلفة، وبالتالي لا ينفع أجسامَنا إلا مقدار قليل جدًا من الأطعمة في الواقع. كذلك حال أعمالنا الروحانية في الدنيا، فنعمل عملا صالحا من ناحية، ومن ناحية أخرى يصدر منا عمل سيء أيضا، وهكذا فإن سيئاتنا تُقلّل من تأثير صالحات أعمالنا. لكن في الجنة ستكون أغذيتنا الروحانية متشابهة، أي أن كل غذاء منها يكون ممدًا للآخر بتأثيره، فلا يكون هناك غذاء يرفع من روحانيتنا، وغذاء آخر ينقص منها، بل جميع أغذية الجنة تكون متوافقة ومنسجمة ومتعاونة لتزيد رقينا الروحاني باستمرار، وهكذا تصبح الروح الإنسانية محمية من كل الأسقام الروحانية، ولا يصيبها أي سقم روحاني كما في الحياة الدنيا.

ومن معاني هذه الجملة أن غذاء الجنة سيكون بحسب القوى الروحانية لكل إنسان، فيرزق كل واحد من أهل الجنة من الغذاء ما يحتاجه من أجل رقيه الروحاني، فلن تزال قواه الروحانية تنمو وتترقى، ولن يحول دونها عائق.

ويمكن تفسير قوله تعالى وأتوا به متشابهًا أن ثمار الجنة تكون مشابهة لثمار الدنيا، لكن هذا التشابه يكون شكليًا فقط، وإلا فإنها تختلف عنها لذةً وتأثيرًا وطبيعةً، لأن ثمار الدنيا هي للجسم المادي، وثمار الجنة هي للجسم الروحاني.

أما قول الله تعالى ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة فمعناه: أنهم سيجدون فيها رفاقا مطهرين، أو أنهم سيجدون فيها زوجات مطهرة أو أزواجا مطهرين.

ولا مجال لأحد أن يعترض على المعنى الأول، إذ المراد أنه كما تكون أطعمة أهل الجنة متوافقة التأثيرات، كذلك أهلها كلهم رفاقًا متعاونين على التقدم الروحاني، وبتعبير آخر إنهم سيتمتعون فيها بأمن وتعاون باطني وخارجي.

والأزواج تكون بمعنى الزوجين أيضا، حيث إن زوج المرأة رجُلُها، وزوج الرجل امرأتُه، وعليه فلو أخذنا بمعنى الزوجين فالمراد: أنه سيكون مع كل واحد من أهل الجنة زوجه الصالح. وليس في هذا المعنى أيضا ما يدعو للاعتراض، بل هو حثٌ وتحريض بأن يهتم الرجل والمرأة كلاهما بصلاح زوجه، إضافةً إلى صلاح نفسه، لأنهما إذا كانا يريدان أن يكونا معًا في الآخرة كما هما في الدنيا، فعلى كل واحد منهما السعي لجعل زوجه صالحًا، كي لا يكون الرجل يوم القيامة في الجنة وامرأته في النار، أو العكس. وهذا أروع تعليم لنيل الطهارة الروحانية في الدنيا، وأجدرُ بالتنويه، دعْ عنك أن يكون مدعاة للاعتراض.

أما إذا فسرنا قوله تعالى ولهم فيها أزواج مطهرة أنه سيعطى كل رجل في الجنة زوجةً مطهرة وكل امرأة زوجًا مطهرا، فأيضا لا محل للاعتراض على هذا المعنى، إنما يصحّ الاعتراض لو كان هنا إشارة إلى أي فعل نجس. ما دام القرآن الكريم يصف هؤلاء الأزواج بالطهر، فلن يكون في الجنة ما ينافي الطهارة أبدًا، فلِمَ الاعتراض على ذلك؟

قد طعن المستشرق السير “وليام موير” في مضمون هذه الآية طعنًا قذرًا وقد أيده في ذلك القسيس “ريفرند ويري” كعادته، حيث قال وليام: تتحدث السور القرآنية المكية عن النساء في الجنة بكثرة وبحماس أكثر، بينما لا تتحدث عنها السور المدنية إلا في موضعين وباختصار شديد، حيث ورد فيها فقط أن المؤمنين سينالون في الجنة أزواجًا مطهرة. وسببه في رأيه -والعياذ بالله- أن محمدا (رسول الله ) لم تكن له في مكة سوى زوجة واحدة أسنّ منه، فكان يفكّر في النساء كثيرا، لكنه في المدينة وجد بُغْيته ووجد أزواجًا شابات عديدات، فقلّل من ذكرهن.

وأرى أن المستشرق وليام موير إنما رأى وجهه وصورته البغيضة في مرآة القرآن الكريم، أما القس ريفرند ويري فسَلَك مسلك التعصب المعروف لدى القساوسة. من العجيب أن هؤلاء يدَّعون الثقافة والتحضر، ومع ذلك تراهم يتهجمون، بناءً على قياساتهم الباطلة على الهداة المـُقدسين عند الملايين، بينما يكون هؤلاء المعترضون أنفسهم ملطّخين بحمأ الرذائل بما يندى له جبين الإنسانية. وما دفعهم على هذه الجسارة إلا شوكة الحكومات المسيحية في هذا الزمن. ألا يستحي هؤلاء المتهجمون؟! عندما كان المسلمون حاكمين على العالم وكان المسيحيون ضعفاء جدًا، ما صدرت من المسلمين قط إهانة أو كلمة نابية بحقّ المسيح الناصري . لقد حكم المسلمون البلاد المسيحية زُهاء ألف سنة، وظلوا يُكرمون سيِّدَ النصارى كل الإكرام. فيا ليت هؤلاء لم يتكبروا بحكمهم حوالي ثلاثة قرون وما تهجموا على مقام سيد الأنبياء كالذئاب الضارية. ليتهم تذكروا هذه المنة من جانب المسلمين إذ إنهم لم يتهجموا على يسوع قط، مع أنه كان يحقّ لهم أن يقولوا عنه أكثر مما قاله المسيحيون بحق النبي .

لقد أثار السير وليام هذا الاعتراض القذر دون أن يفكّر أن الفرق بين السور المكية والمدنية لا ينحصر في ذكر النساء، بل في أمور أخرى أيضا. فمثلاً تذكر السور المكية أنه سيكون في الجنة خمرٌ، ولكن لا تجد ذكر الخمر في أية سورة مدنية. وتذكر السور المكية أن في الجنة عسلًا مصفى، ولكن لم تذكر أي سورة مَدنية العسل أبدًا، كما هو ظاهر وثابت من الآيات المذكورة قبل قليل. فلو كان المنطق السخيف الذي يقدمه السير وليام موير صحيحًا، أي كانت عند محمد ( وعلى آله وأصحابه) في مكة زوجة واحدة، ولذلك كان يرى في خريطة الجنة النساء بكثرة، فكيف يمكن أن ينطبق منطقه السقيم هذا على ذكر الخمر؟ أعني هل يمكن أن يقال أن محمدًا كان لا يجد الخمر في مكة، ولذلك كان يراها في الجنة كثيرًا، ولأنه وجد الخمر في المدينة فحذف ذكرها من الآيات القرآنية خلال حياته الـمَدنية. أو هل يمكن أن يقال بناءً على منطقه السخيف أن محمدًا كان لا يجد اللبن في مكة، ولذلك فكّر أن اللبن سيكون متوفرًا في الجنة، أما في المدينة فوجد اللبن فضعف تفكيره فيه. أم هل يصح القول أن محمدًا كان يشتهي العسل ولكنه لم يجده في مكة، فكان يفكر أن العسل سيكون في الجنة بكثرة، أما في المدينة فوجد العسل فترك ذكره في الفترة المدنية! هل يمكن لمن يملك العقل السليم أن يقبل هذه الخرافات؟ إذا كان منطقه صحيحًا فليطبقه على هذه الأشياء كلها.

والحق أن النبي كان في مكة أرغدَ عيشًا منه في المدينة. فزوجتُه المطهرة السيدة خديجة (رضي الله عنها) كانت ثرية جدًا، والثابت من التاريخ أنها وضعت جُلّ أموالها في يده . وكانت بناته اللواتي بلغن الشباب وتزوجن بمكة، قد جُهّزن بأغلى الحلي، بينما تزوجت أصغرهن السيدة فاطمة (رضي الله عنها) بالمدينة ولم تجد في الجهاز ولا خاتما. وبالجملة كانت أوضاع النبي الاقتصادية في مكة أحسن منها في المدينة، ولكنه أنفق جميع ثروة السيدة خديجة (رضي الله عنها) في سبل الخير شيئًا فشيئًا، حتى لم يبق له ذلك الرخاء في حياته المدَنية. فلو كانت بعض الدواعي النفسية هي السبب وراء هذا الفرق في السور المكية والمدنية عند ذكر نعم الجنة، لكان الأمر على عكس ما يزعم وليام موير.

وإذا كان استدلاله هذا صحيحًا، فيحقّ لمعارضي المسيحية أيضا أن يقولوا لم يجد “يسوع” مأوى طوال حياته نتيجة فقره، ولذلك اضطر أن يفر من مكان إلى مكان خوفًا من اليهود، ولكي يزيل ما بقلبه من حزن وألم كان يحلم ويتبجح بأنه سيكون ملِكًا لليهود.

ثم لو سلّمنا بمنطق السير وليام هذا لجاز القول أن يسوع لم يقدر على الزواج، ولذلك ظل يفكّر بتأثير ما يجول في ذهنه من مشاعر أنه عندما يعود ثانية كعريسٍ سيأخذ معه خمس عذارى لا واحدة أو اثنتين، ويختفي بهن في بيته. إذ جاء في إنجيل متى قولُ يسوع:

{حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ} (متى: 25 من 1 إلى 12).

فلو استنتج وليام موير والقس ريفرند ويري وأمثالهما من هذا التمثيل الإنجيلي أن المسيح كان يفكر دائمًا في العذارى لِعدم زواجه، فهل يصح ذلك؟ وهل سيعُدّ العالم المسيحي مثل هؤلاء المعترضين عادلين؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فأقول لماذا لم يحارب هؤلاء المسيحيون مثل هؤلاء الطاعنين الذين وجهوا لمحمد رسول الله هذه المطاعن السخيفة والباطلة، ولماذا لم يتذكروا ما علّمتهم المسيحية: }تُحِبُّ جارك، قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ{ (متى 22 : 39).

ولو أن السير وليام والقس ويري فكّرا بتدبُّرٍ لعرفا السبب المنطقي وراء هذا الفرق الموجود بين السور المكية والمدَنية. وذلك (أولاً) أن كفار مكة عيّروا المسلمين بالذل والفقر وحرمانِهم مما يملكه الكفار من نعم ومتع مادية، فردّ القرآن في السور المكية على الكفار بأسلوبهم نفسه، مبينًا حقيقة الجنة التي وُعد بها المسلمون، وأخبر أنهم سينالون في الآخرة متاعًا ونعيمًا أفضل مما يباهي به الكفار. ولكن لما ثبَّت الله تعالى أقدام المسلمين في المدينة لم يَسَع الكفار أن يعيّروهم، تغيّرَ الأسلوب القرآني في الجواب. ووصفُ الجنة بالأسلوبين موجودٌ الآن في القرآن الكريم، فمن اعترض على المسلمين بأسلوب الكفار المـُعترضين في الفترة المكية، فترد عليه آيات الفترة المكية، ومن اعترض بأسلوب معارضي الإسلام في الفترة المدنية، فالرد عليه متوفر في آيات الفترة المدَنية.

و(ثانيا) كانت الفترة المكية تتطلب شرح العقائد، إذ لا بد في البداية من إصلاح العقائد والحث عليها، ولذلك نجد السور المكية تتناول شرح العقائد بتفصيل أكثر، والجنةُ ذات صلة وثيقة بعقيدة جزاء الآخرة، ولذلك أفاض القرآن الكريم في شرحها في السور المكية. أما السور المدنية فكان التركيز فيها على إقامة التمدن الإسلامي، ولذلك جاءت أحكام التمدن في السور المدَنية بتفصيل أكثر، أما المسائل المذكورة سلفًا في السور المدنية فاكتفى القرآن بالإشارة إليها عند الحاجة في السور المدنية، وهكذا ينبغي أن يكون الكلامُ الحكيم.

وقد قال السير وليام موير في طعنه أيضا أنه إذا لم يكن الأمر كما قال آنفًا، فيبدو أن محمدًا ( ) لما هاجر إلى المدينة غيّرَ وحيه عن الجنة متأثرًا باليهود والنصارى.

وللهِ دَرُّ مَن قال: إن اللص ضعيف الذاكرة. إن هؤلاء الكتّاب المسيحيين من ناحية يقدّمون بشدة اعتراض مشركي مكة بأن محمدًا (رسول الله ) يُعلّمه بشر، ويركّزون على أن بعض العبيد المسيحيين في مكة كانوا فعلاً يخبرون محمدا ما ورد في الكتب المسيحية، ومن ناحية يتهمون النبي أنه تعلّمَ دين النصارى في شبابه على يد راهب مسيحي، فنقل ما تعلم منه في القرآن. وقد أكد السير وليام موير في كتابه أن محمدا ( ) استقى المعلومات عن المسيحية مِن صُهيب ( ) الذي كان عبدًا روميًا يعيش في مكة (حياة محمد ص67). فلو صحَّ زعمهم هذا الأخير للزم القول أن النبي كان مُلمًّا بالتعاليم المسيحية قبل هجرته إلى المدينة، فكيف يصح إذًا قولهم أنه ( ) تأثر بالتعاليم المسيحية عن الجنة بعد هجرته إلى المدينة مع أن العبيد المسيحيين واليهود قد أخبروه بما ورد في الكتاب المقدس بعهديه، وتيسر له هذا العلم وهو في مكة!

لكن الأمر الواقع أن لا ذكر للجنة في أدبيات اليهود والنصارى. لقد أصيب بنو إسرائيل، بفرعيهم اليهودي والمسيحي، بمرض حب الدنيا بشدة حتى لا توجد في كتبهم تعاليم معينة عن الحياة الآخرة، وكل الوعود التي ذكرها الأنبياء عن الآخرة يطبقها هؤلاء القوم على هذه الدنيا، لذا فمن المحال أن يتأثر النبي من هؤلاء القوم. إن كتبهم لا تناقش هذه القضايا أصلًا، ولا يستطيع أحد أن يقتبس منها شيئًا عن الآخرة. إنهم مهتمون بهذه الدنيا فقط، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الكهف: 105)، أي تنصبُّ جهودهم على هذه الدنيا. فلو أراد أحد أن يقتبس منهم شيئًا في قضية الجنة فماذا يقتبس؟! إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي قد أفاض في ذكر هذه القضايا التي سوف نذكرها في مكانها.

وفي الأخير، لا يسعني إلا الاعتراف بأن المعارف التي قد بينتها في تفسير هذه الآية قد ذكرتُها على ضوء ما بينه مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في كتابه “فلسفة تعاليم الإسلام”. والحق أن ما ورد في هذا الكتاب عن عالم الآخرة لا يستغني عنه كل مَن أراد بيان شيء في هذه القضية.

أما قول الله تعالى وهم فيها خالدون فيعني أن أهل الجنة لا ينفكّون يعيشون فيها، ولن يذوقوا الفناء. وهذه هي النتيجة المحتمة للأمرين المذكورينِ من قبل، ذلك أن الإنسان يفنى إما بتأثير الأغذية المتناقضة، وهذا التأثير يظهر في صورة الموت أخيرًا، أو يفنى بالقتل. ولكن كل غذاء في الجنة يكون داعمًا للغذاء الآخر ومتوافقًا مع قوى الإنسان الباطنية، ويكون أهل الجنة رفقاء أخيارًا طيبين متحابين متطهرين، لا يضر بعضهم بعضًا، ومن ثَمَّ ستُغلق هنالك أبواب الموت نهائيا، وسيحظى الإنسان بالحياة الأبدية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك