التفسير المقارن (الحلقة الثانية)

التفسير المقارن (الحلقة الثانية)

عبد الله أسعد عودة

النموذج الثالث

يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 261)

الجلالين:

خُذ أربعةً من الطيور إليك، وقطِّعهن، واخلطْ لحمَهن وريشَهن. ثم اجعَل على كل جبل من جبال أرضك منهن جزءًا. ثم ادعُهن إليك يأتينك سريعًا. واعلمْ أن الله لا يُعجزه شيء في صنعه. فأخذ طاؤوسا ونسرًا وغرابًا وديكًا، وفعل بهن ما ذُكر، وأمسَكَ رؤوسهن عنده، ثم دعاهن فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت، ثم أقبلت إلى رؤوسها.

البيضاوي:

فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ : هي الطاؤوس والديك والغراب والحمامة (ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة). وفي ذلك إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإمامة حب الشهوات والزخارف التي هي صنعة الطاووس، والصولة المشهور بها الديك، وخسة النفس المتصف بها الغراب، والترفع الموسوم به الحمام. وإنما خص الطير لأنه أقربُ إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان. ثم فرّق أجزاءهن على الجبال. قيل أربعة جبال، وقيل سبعة. ثم قال لهن: تعالين، فيأتينك ساعياتٍ مسرعاتٍ طيرانًا ومشيًا. ورُوي أنه أُمر أن يذبحها، وينتف ريشها ويقطعها، ويخلط سائر أجزائها، ويوزعها على الجبال. ثم ناداهن. فجعل كل جزء يطير، وأقبلن إلى رؤوسهن.

الأحمدي:

سؤال إبراهيم اللهَ تعالى: كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ يعني كيف يمكن إحياء أحد أو أمّة بعد أن انهارت وسقطت، ولم يعنِ الموتى الذين ماتوا موتا طبيعيا، لأن الله أكد في آيات عديدة من القرآن الكريم أن الأموات لا يرجعون إلى الحياة ثانية في هذه الدنيا.

والآية تشير إلى رؤيا رآها إبراهيم كما جاء في مستهل الآية (رب أرني). وفي هذه الرؤيا طلب الله من إبراهيم أن يأخذ أربعة من الطير. وهي إشارة بطريق المجاز إلى أن ذرية إبراهيم سينهضون ويسقطون بعده أربع مرات على مدى التاريخ، أو بعبارة أخرى سيموتون ثم يحيون أربع مرات. وقد حدث هذا فعلاً مرتين بالنسبة لذريته من إسحق، وكان لا بد أن يحدث مرتين أيضا بالنسبة لذريته من إسماعيل .

فبالنسبة لليهود أبناء إسحق فقد دمِّر ملكهم وهدم الهيكل مرتين؛ الأولى على يد نبوخذ نصر، والثانية على يد تيتوس الروماني. وبمقابل ذلك أنقذهم الله تعالى أو أحياهم وأعاد لهم سلطانهم مرتين؛ الأولى حين أعادهم من السبي ببابل، فبنوا الهيكل بمساعدة قورش ملك فارس، والثانية حين قبِلَ الأمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية التي هي في الواقع رسالة المسيح الإسرائيلي وفرع من الديانة اليهودية.

أما بالنسبة لأبناء إسماعيل وهم المسلمون أتباع المصطفى الذي كان من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام، فقد سقطت الدولة الإسلامية المرة الأولى حين غزا التتار عاصمتهم بغداد ودمروها. ثم نهضت الدولة الإسلامية حين دخل أولئك الغزاة التتار أنفسهم في الإسلام، وأعادوا للدولة الإسلامية سلطانها. أما سقوطهم الثاني فهو ما حل بالمسلمين في العصر الحديث من مهانة وضعف وانحلال سواء من الناحية الدينية أو السياسية، وامتد هذا السقوط إلى أيامنا هذه. والنهضة الثانية للإسلام التي مقدَّر من الله تعالى أن تعقب هذا الانحطاط فهي التي وضع أسسها مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في هذا العصر سيدنا أحمد .

ومن الممكن تفسير هذه الظواهر الأربعة (أو الطيور الأربعة) من زاوية أخرى؛ وهي أن بني إسرائيل كانوا في حالة انحطاط في مصر، فجاءهم موسى ، وأحياهم. ثم سقطوا دينيًا إلى أن جاءهم المسيح ابن مريم لإحيائهم من جديد. وكذا أبناء إسماعيل كانوا في الهاوية زمن الجاهلية فأحياهم محمد ثم سقطوا دينيًا فجاءهم الإمام المهدي والمسيح الموعود أحمد ليحييهم من جديد.

ومن يتفكر في حالات السقوط والنهوض المذكورة فيما ورد أعلاه يمكنه أن يعرف كيف تحيا الشعوب بعد الموت، إذ المقصود هو الموت الروحي وليس الموت الجسدي، والإحياء المشار إليه في الآية هو أيضا الإحياء الروحي وليس الإحياء الجسدي.

النموذج الرابع

يقول الله تعالى في سورة هود:

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (هود: 78-79)

الجلالين:

لما جاء رسلُنا لوطًا حزنَ بسببهم وضاق صدره، لأن هؤلاء الرسل كانوا في صورة أضياف حسان الوجوه. فخاف عليهم من قومه،  وقال في نفسه هذا يوم عسير. ولما علم قومُ لوط بهؤلاء الأضياف جاءوه في الأدبار. فقال لهم لوط: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهَرُ لكم لما تريدون من قضاء الشهوة، فتزوًّجوهن، ولا تُخزوني في ضيفي بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة بهم.

البيضاوي:

ساء لوطاً مجيءُ الرسل، لأنهم جاءوا في صورة غلمان (فظنّ أنهم أناس)، فخاف عليهم أن يقصدهم قومُه، فيعجز عن مدافعتهم، فضاق بهم صدره. جاء قومُه يُهرَعون إليه لطلب الفاحشة من أضيافه، وكانوا من قبل يعملون السيئات الفواحش، فتمرَّنوا بها، ولم يستحيوا منها. قال: يا قوم هؤلاء بناتي فتزوَّجوهن. وكانوا يطلبونهن من قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم. هنّ أطهَرُ لكم يعني أنظَفُ فعلا وأقل فحشًا.

الأحمدي

قديما كان لكل مدينة حكمها الذاتي، يدير شؤونَها إما شيوخ البلد على شكل جمهورية صغيرة أو ملك، وقد يلحق بها عدد من القرى المجاورة. وكذلك كانت تُحكم سدوم وعموره مسكن قوم لوط . (راجع سفر خروج 14) وكان سكان هاتين المدينتين من قطاع الطرق يعتدون على المسافرين، ولذا كانوا دائما على حذر من جيرانهم خوفَ الانتقام. ومن أجل سلوكهم هذا كانوا في حالة حرب وخصام دائم مع جيرانهم، وكانوا يغلقون أبواب المدينة ليلاً كي لا يدخلها الأعداء. أما لوط الذي كان يسكن سدوم فكان كغيره من أنبياء الله مِضيافا يهتم ويُعنَى بالأغراب. وقد طلب منه أهل سدوم أن يقلع عن هذه العادة كما جاء في الآية:

قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ؟ (الحِجر: 71)

وفي الحادثة التي نحن بصددها كان لوط منشغلا في استقبال بعض الضيوف في بيته. فأغضب تصرفُه هذا أبناء بلده، وأسرعوا إليه، وأرادوا معاقبته لإيوائه الأجانب في بيته خلافا لما كانوا يريدون.

أما قول بعض المفسرين أن هؤلاء الضيوف كانوا غلمانا يتمتعون بجمال المنظر، وأن قوم لوط هُرِعوا إليهم بقصد سيء لاقتراف الفحش معهم، فهذا قول لا يؤيده القرآن على الإطلاق، بل بعكس ذلك كان اعتراضهم على لوط لاستقباله الضيوف رغم تحذيرهم له كما جاء في الآية.

وأما قوله تعالى:

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (الحجر:68)،

فيشير إلى أن قوم لوط فرحوا لتلك المناسبة، إذ رأوا فيها فرصة ومبررا للانتقام من لوط على مخالفته لهم. كانوا غاضبين من جهة لأنه استقبل الأغراب في بيته، وفرحين من جهة أخرى لأنهم اعتبروا الحادثة فرصة مواتية تمكنهم من الانتقام من لوط. وفي قوله تعالى: وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ إشارة إلى أن لوطا كان قد خاف أن يمسوا ضيوفه بسوء، فيتسببوا بخزيه أمامهم، إلا أنه لا توجد إشارة أو تحديد لنوع السوء المشار إليه في الآية؛ أكان هو من عمل الفحشاء أم لا. وقد خاف لوط أذاهم لكونهم أناسًا أشرارا.

وأما قوله تعالى: هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ، فيشير إلى أن لوطا ذكرهم ببنتيه اللتين كانتا متزوجتين في المدينة. (تكوين 19:15) وقال إنهن أطهر بمعنى أنهم إن أهانوه أمام ضيوفه فإنهم تلقائيًا يهينون بنتيه وبالتالي يهينون أنفسهم، وأشار عليهم أن بنتيه هما ضمان كاف لحسن نيته لأنهما بمثابة رهائن عندهم وبإمكانهم أن ينتقموا منهما إن كانوا فعلا خائفين من أذى الضيوف أو من الخيانة والغدر من جانبه فذلك بالتالي يعتبر عقابًا له أيضا. بهذا الطريق الأفضل والأنسب حاول تجنب إهانته وإهانة ضيوفه.

وليس هناك أغرب وأسخف من القول أن لوطًا قدَّم بناته لقومه الأشرار كي يشبعوا بهن شهواتهم. فلا يعقل بل ولا يجرؤ على مثل هذا العمل الخسيس والمشين حتى أحط الرجال، فكيف يعقل أن يصدر هذا عن نبي مرسل من الله تعالى تتوفر فيه أقوى وأنبل الأحاسيس بالشرف والمروءة، وكيف يمكن أن ينحط لوط إلى هذا المستوى.

يبدو أن الرواية الواردة في الكتاب المقدس وجدت طريقها إلى عقول بعض المفسرين، فاستعانوا بها لشرح هذه الآية على هذا النحو المشين.

أما القول بأن لوطا عرض على قومه الزواج من بناته في هذه المناسبة وكان ممتنعا عن ذلك قبل فهو أيضا قول مردود، لأن القوم كانوا يريدون أن يأتوا الرجال من دون النساء. فبناته لم يكنّ رجالاً حتى يقبلهن قول لوط.

النموذج الخامس

(3) جاء في سورة يوسف قوله تعالى:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 25).

معظم المفسرين للأسف ينسبون ليوسف محاولةَ ارتكاب الفحشاء خلافا لقول الله تعالى للشيطان إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . فجميع أنبياء الله معصومون عن الفحشاء والمنكر.

الجلالين:

هَمَّتْ بِهِ قصدت به الجماع، وَهَمَّ بِهَا قصد منها ذلك لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ؛ قال ابن عباس؛ مثل له يوسف يعقوب (والده) فضرب صدره. فخرجت شهوتُه من أنامله، ولولا ذلك لجامَعَها.

البيضاوي:

هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا قصدت مخالطتَه وقصد مخالطتَها. والهم بالشيء قصدُه والعزم عليه، ومنه الهُمام وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. والمراد بهمته قيل الطبعُ ومنازعة الشهوة.

الزمخشري:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ معناه همت بمخالطته؛ وَهَمَّ بِهَا همَّ بمخالطتها. فإن قلت: كيف جاز على نبي أن يكون فيه المعصية وأن يكون قصد إليها، قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب.

البغوي:

عن ابن عباس: حل يوسف محلَّ الهَيمَان، وجلس فيها مجلسَ الخائن. وقال مجاهد: حلَّ سراويلَه وجعل يعالج ثيابه.

وهذا قول أكثر المفسرين إلا قليلاً منهم الذين يقولون خلاف ذلك.

الرازي:

إنه كان بريئا من العمل الباطل والهم المحرَّم. وأما ما روي عن ابن عباس فحاشا لله أن يقول ابن عباس هذا عن يوسف .

الأحمدي:

همّ معناه: قصد وأراد. وقد ورد هذا اللفظ بهذا المعنى في عدة مواقع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ (التوبة:13)، وقوله تعالى:

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ (النساء: 114).

إن الآية تشير إلى تصرف امرأة العزيز (الفرعوني) وكيف هي أرادت وقصدت من يوسف عليه السلام أمرًا وقصد هو منها أمرًا آخر. هي قصدت السوء والفحشاء ولكنها لم تفلح، وهو قصد شيئا مخالفا لذلك بأن يردها عما أراد من عمل السوء ولكنه هو لم يفلح أيضا فيما أراد. وفي الآية السابقة توضيح لموقف وقصة كل منهما حيث جاء:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ .

موقفان متناقضان تمامًا.

كذلك فإن الله قد نزه يوسف في الآية التي نحن بصددها حيث يقول سبحانه:

كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

كذلك لا يعقل أن يخضع ويستسلم أمام امرأة فاسقة كامرأة العزيز شخص كيوسف الذي حَظِيَ منذ الصغر برعاية الله وأحيط بعنايته ليصبح يوما نبيًا. لذا فإن الله قد عصمه من ذلك الذنب وحفظه من ارتكاب الفاحشة. ولا يمكن لعاقل أن يسلم بأن يوسف قد انحط إلى هذا المستوى من السوء والفحشاء بعد أن رأى من آيات ربه الكبرى من رؤى وكشوف في الصغر وكيف أن الله نجّاه من مكيدة إخوته حين ألقوه في البئر ليتخلصوا منه. وقد يكون من حكمته تعالى أنه هيأ لتلك الحادثة كي يبعد يوسف عن هذه الامرأة الخبيثة وصاحباتها وتأثيرهن بإخراجه من بيتها.

مشابهة عجيبة

وفي هذه الآية مشابهة بين يوسف والنبي الكريم محمد . فكما كانت هناك محاولة من قبل زوجة العزيز المصري إغراءه جنسيا وإبعاده عن مبادئه وطهارته، هكذا كانت محاولة من سادة قريش لإبعاد النبي عن مبادئه وعقيدته، حين عرضوا عليه ضمن ما عرضوا أجمل فتيات قريش. ولكنه أبى ورفض كما أبى ورفض يوسف من قبل، ورد عليهم بذلك الجواب المأثور الخالد: “والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أُهلَكَ دونه”.

النموذج السادس

يقول الله تعالى في سورة الحجر:

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (الحجر: 24).

الجلالين:

(المستقدمين) هم من تقدم من الخلق من لدن آدم، و(المستأخرين) هم المتأخرين إلى يوم القيامة. وقد جاء في أسباب النزول: روى الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله حسناء من أحسن الناس. فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر. فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن مردويه أنها نزلت في صفوف الصلاة.

الكشاف:

قيل المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين. ورُوي أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله . فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها والبعض يستأخر ليبصرها فنزلت الآية.

البيضاوي:

قيل: رَغِبَ رسول الله على الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت الآية. وقيل امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها، وتأخر البعض ليبصرها، فنزلت الآية.

الأحمدي:

هذه الآية نزلت لتجيب على السؤال: لماذا لم يعهد الله الحفاظَ على القرآن للمؤمنين أنفسهم، بل تولى بنفسه الحفاظ عليه كما قال:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 10).

فجاء الجواب هنا؛ حيث إن الإيمان يتعلق بالقلب وحالة الإنسان لا يعلمها إلا الله، لذا فإنه تعالى يعلم من هم المتقدمون بالإيمان ومن هم المتأخرون، ولأن الحفاظ على القرآن لا يعتمد على الوسائل الفكرية والأدبية بقدر ما يعتمد على طهارة القلوب التي هي في علم الله وحده، لذا فهو سبحانه الذي يعرف من هو صاحب القلب الطاهر ومن ليس بصاحب القلب الطاهر؛ أو بمعنى آخر إن الله هو الذي يعرف المستقدمين في الإيمان والمستأخرين. من هنا تولى الله سبحانه الحفاظ على القرآن وهو الذي يوكل هذا الحفاظ لمن شاء ولمن يعلم أن فيهم الطهارة والصلاحية الروحية المطلوبة للقيام بهذا الواجب العظيم.

إن من الغريب العجيب أن نرى المفسرين لا يحترزون عن وصف صحابة رسول الله بهذه الأوصاف الخسيسة وهم الذين قال عنهم : “أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتدَيتم اهتَديتم”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك