دعوات الأنبياء وخلفياتها

دعوات الأنبياء وخلفياتها

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة: كيف نتمتع بالصلاة

خطبة جمعة لمولانا إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، أيده الله بنصره العزيز ليوم 12/4/1991، جمعة الوداع من شهر رمضان، بمسجد فضل، لندن.

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . آمين

قطار العابدين

عندما يُتم قطار المسافرين رحلته، بعد توقف في الطريق عند محطات شتى.. نرى مشهدا مختلفا في بعض المحطات يركب القطارَ قليل من الركاب والمودعين، وفي البعض الآخر يكثر عدد الركاب والمودعين. والمحطات الكبرى أكثر حركة واشتغالا. وما دام القطار بالمحطة لم يتحرك بعد، تبقى المحطة مشغولة بحركة الناس وصخبهم، ولكن ما أن يتحرك القطار ويغادر المحطة حتى تبدو مهجورة.. قد انصرف عنها المودعون. وجمعة الوداع من رمضان هذه لها حال مشابه لذلك. فقطار العابدين الذي يتوقف عند محطة يوم الجمعة عندما يدخل في شهر رمضان المبارك.. تزداد الحركة والجلبة فجأة.. ثم عندما يأتي يوم الجمعة هذا..  جمعة الوداع.. آخر أيام الجمعة من شهر رمضان تكون الحركة والأنشطة على أشدها.. كأن الناس جميعا قد جاءوا ليستقلوا هذا القطار. ولكن بعدما يمضي القطار في طريقه ويصل إلى الجمعة التالية يتغير المشهد.. ويبدو كأن المسافرين خلال العام المنصرم كانوا قليل العدد، وكأن سائر الناس قد جاءوا للوداع.

واليوم حضر كثير من المؤمنين ليودعوا العابدين. ومع أنهم يشاركون في العبادة ولكن ذلك بصفة مؤقتة وللحظات معدودة. وما دام القطار متوقفا في صلاة الجمعة لهذا اليوم فسيبقون فيه، ولكن عندما يتحرك القطار سيغادرون المحطة ويعودون إلى بيوتهم. أما المسافرون في سبيل الله حقا فهم أولئك الذين يركبون قطار العبادة ولا ينزلون منه أبدا، وإذا غادروه عند موقف ما فذلك بصفة عارضة.. ويبقون فيه على سفر إلى الأبد. وبعد أن عقدوا صلتهم بالعبادة فإنهم لا يحلونها أبدا. هؤلاء العابدون لهم مواقف مختلفة تماما عن الذين يحضرون في مواقف الوداع ثم ينصرفون. لا شك أن في هؤلاء من يخلق الله تعالى فيهم اهتماما بموضوع هذا السفر، فيأتون إلى محطة للوداع، ثم يحضرون مرات ومرات، ثم يتفكرون: لماذا لا نكون من ركاب هذا القطار. كما من بين المؤمنين الصادقين من يعتريهم شيء من الضعف، ولكنهم يستجمعون قوتهم شيئا فشيئا.. ويتخلصون من عيوبهم.. وتحل التقوى مكانها بالتدريج، وبذلك يصير قطار المؤمنين الصادقين أكثر امتلاء بالركاب من ذي قبل.

دعاء بالابتلاءات

أما الذين يتخلفون عن القطار فلا يمكن الجزم بأن الله تعالى سوف ينزل بهم عقابه ويحل عليهم غضبه.. فهناك المحظوظون الذين تكون ساعة وفاتهم من ساعات السعادة.. إذ يدعوهم الله إليه وهم في حال التقوى. هؤلاء المحظوظون، مع أنهم يحضرون في مناسبات نادرة، يتوفاهم الله وهم بين الأبرار. ولهذا علمنا الله تعالى هذا الدعاء في القرآن الكريم: وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ . فعليكم أن تذكروا أولئك الذين ينزلون من القطار، وادعوا لهم خاصة أن تكون خاتمتهم في المتقين، وأن يتمكنوا من الاشتراك في رحلة أبدية للعبادة.

تناولت في عدد من الخطب السابقة في سورة الفاتحة، وكيف أنها تعلمنا أسرار العبادة، وتولد فينا متعتها. وتفكرنا معًا في الجزء الأخير منها.. أي في دعاء

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ،

وبينت لكم أن القوم المذكورين في قوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .. مع أنهم تلقوا نعم الله تعالى إلا أن حياتهم انقضت في عظيم الشدائد، وأليم التجارب، مرورا بابتلاءات كثيرة في سبيل الله تعالى. وهناك أناس مثل سيدنا إبراهيم .. تضرعوا إلى الله تعالى كي يدخلهم في الابتلاء.. كقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكًنَا .. أي اجعلنا نسير في درب المعاناة، فنبقى صابرين، ونحظى منك بمزيد من التكريم. تناولت بالبيان شيئا من هذه الأمور، ولكن لم أتمكن من بيان أشياء أخرى وكلها مذكورة في القرآن الكريم. وبإلقاء نظرة على كل تلك الأشياء والأحداث التاريخية.. وعندما يتفكر المؤمن فيها ويسعى للتقدم إلى الأمام.. يتولد في قلبه خوف يدفعه لِيُفكر: أي دعاء هذا الذي أدعو به الآن؟ إنه دعاء بالصعوبة والمشقة.. ومن المحتمل ألا أصبر عليه. واستدعاء المصاعب والبلاء على النفس يتطلب شجاعة عظيمة، ومع ذلك يفترض من المرء في كل ركعة من كل صلاة.. أن يدعو الله

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .

يبين القرآن الكريم تفاصيل هذا الدعاء بتوضيح مخيف.. بحيث يبدو كأن هذا الصراط معَدٌّ للمشقات العظيمة، ويمثل مغامرة بحياة السالكين فيه.

والسؤال الآن: كيف سار السابقون في هذا الصراط؟ وطبقا للقرآن الكريم فإنهم ساروا في هذا الصراط بنجاح، لأن الله تعالى علمَّهم كيف يسيرون فيه وكيف تهون عليهم هذه المصاعب، وكيف تتحول لهم النيران إلى جنات النعيم. قال الله لهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ..

يا عبادي، المؤمنون التمِسوا مني المعونة، وذلك بالصبر والعبادة والدعاء. فالدعاء لالتماس العون الإلهي الذي تعلمناه في سورة الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، يتكرر بتفصيل أكبر.

ثم علمنا الله تعالى معظم الدعوات بنفسه.. ولسوف أدخل بكم في موضوع هذه الأدعية التي توضح كيف سهل الله هذا الدعاء، وعلمهم أسلوب الدعاء، وتقبل دعاءهم الذي ينطلق من قلوبهم عفوَ الخاطر ووليد اللحظة. وحُفظ ذكرهم في القرآن الكريم بمودة ومحبة عظيمة. وليس هناك كتاب في الدنيا.. وأكرر: لا يوجد في الدنيا كتاب قدَّم لبَّ أدعية أنبياء الله جميعا بهذه الروعة وحفظها كما عرضها وحفظها القرآن الكريم. لقد حفظ لنا أعظم الأمثلة لكل صنوف الدعاء. فالذين يدعون

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

يجب عليهم أن يتعرفوا على فروع هذا الدعاء. إنه دعاء منه أدعية أخرى، ولولاها يكون الاستمرار في هذه الرحلة ضربا من المحال. وينبغي أن تحفظوا هذه الأدعية. وكلما تقدمنا في هذا الموضوع تحولت صعوبته يُسرا، وأنبتت مشقته سعادة ومتعة.

وبالنظر من هذه الناحية سأضع أمامكم أدعيتهم بترتيب تلاوتها في القرآن الكريم ولن أرتبها بحسب مواضيعها. وبادئ ذي بدء ينبغي إخباركم بأن الله تعالى وعد بقبول هذه الدعوات، فلا يقولن أحد يمر في مآزق أو يقع في ورطة: لقد دعوت طويلا، ولكن لم يُستجب لي. لذلك ينبغي أن تفهموا موضوع الدعاء كما تبينه الآية التالية، فتدركوا أيُّ الدعاء يُجاب وأي الدعاء لا يُقبَل.

شروط قبول الدعاء

يقول الله تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187).

فشرط الإجابة للدعاء أن يستجيب الداعي لندائي. يبعثون إليَّ رسالة من جانب واحد، وعندما أبعث لهم رسالتي يتراجعون؟ وشرط الإجابة الثاني أن يؤمنوا بي إيمانًا مخلصًا، ففي ذلك هُداهم ونجاحهم فيما يبغون. وصراط الرشد هذا هو صراط قبول الدعاء كما بينه الله تعالى لنا بالتفصيل، ودلنا عليه، ووصف لنا الذين سلكوه وكانوا من ذوي الدعاء المقبول.

وإذا كان ترتيب الآيات في المصحف لا ينطبق تمامًا على ترتيب نزولها، فإن هذا الترتيب النهائي كان بهديِ ووحي من الله تعالى، وهو ترتيب ذو حكمة عميقة، ويتسم باستمرارية الموضوع. وإذن فالدعوات القرآنية بحسب ترتيبها في المصحف لها حظها من الحكمة العميقة، ولذلك سوف أعرضها أمامكم بترتيب ورودها في المصحف بدلاً من تغييرها بحسب الموضوع.

دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام

أول هذه الدعوات دعاء سيدنا إبراهيم ، وهو دعاء واضح الأهمية. وسيدنا إبراهيم هو الحد الأعلى لسيدنا محمد المصطفى ، وهو المعروف بلقب “أبو الأنبياء”. يقول القرآن:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 127-130).

إعادة بناء الكعبة

يتعلق هذا الدعاء بالوقت الذي كان هناك بقايا لبناء الكعبة ببيت الله الحرام، والتي كادت أن تندرس وتختفي من الوجود. وبتوجيه من الوحي الإلهي ذهب سيدنا إبراهيم إلى الموقع، وتتبع آثار الكعبة. وهناك ترك زوجته السيدة هاجر ووحيدهما سيدنا إسماعيل. وعندما شبَّ إسماعيل وأصبح قادرًا على مشاركة أبيه، شَرَعَا معًا في إعادة بناء الكعبة. وفي هذا دليل على أن مشاركة سيدنا إسماعيل كانت لازمة لتجديد بناء الكعبة. أما وجه اللزوم فلاَّن النبي الأكرم محمدًا كان في كتاب القدر الإلهي من ذرية سيدنا إسماعيل. لذلك انتظر إبراهيم حتى يكبر طفله الذي قدر الله تعالى أن يكون الجد الجليل لأعظم الأنبياء على هذه الأرض، الذي من أجله بدأ بناء الكعبة، والذي قُدِّر أن يُوكَل إليه الارتقاءُ بالأهداف التي قام بيت الله تعالى لأجلها، ويسمو بها إلى أعلى عليين، وأن تسهمَ يده الشريفة في إعادة بناء الكعبة مرة ثانية.

وعندما يشير القرآن الكريم إلى إعادة بناء الكعبة يذكر النبيَّيْن الكريمين سيدنا إسماعيل إلى جوار أبيه سيدنا إبراهيم، ويُبين أنهما دَعَوَا معًا بهذين الدعاءين مع دعوات أخرى. يقول الدعاء: الله اجعلْ هذا البلد مكانًا للسلام والأمن، وارزُقْ قاطنيه المؤمنين منهم بالله واليوم الآخر بصنوف الثمرات. ويقول الله تعالى: بل من كفر منهم أيضًا سأرزقه من هذه الثمرات، ولن أصيبه بالعقاب لكفره فأكفَّ يدي عن رزقه.. فما دام الرزق مخصصا لهذه الحياة الدنيا فيحصل الكافر أيضا على نصيبه منه، ولكن ذلك لأجل محدود وليس دائما. سيأتي وقت يُحرَم فيه من هذه الثمرات.. ذلك بعد أن ينتهي أجله في الدنيا ويأتينا ماثلاً بين يدينا. ولا يعني حصوله على النعمة في الدنيا أنه ناجٍ من عقابي يوم القيامة، بل سأجعله ينتفع ببركات بيت الله الحرام، ثم يلقى العقاب على كفره وجحوده في الحياة الآخرة حيث يخلد في عذاب شديد بئيس.

لماذا هذا التضرع والبكاء؟

ثم تقول الآيات القرآنية: اذكُرْ يا محمد، جدَّيْك إبراهيم وإسماعيل عندما قاما سويًا بإحكام أساس بيت الله.. كان أول دعاء لهما أن تقبل يا ربنا دعاءنا. إنه شروع حكيم في الدعاء. أخبرَنا القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم جاء بزوجته وابنه إلى ذلك المكان الجدب المقفِر بعد صراعات شديدة. ثم صبر سنين طويلة يواجه الشدائد من جوع وعطش ومشقة. ثم عاد إلى المكان مرة أخرى بعدما وصل ابنه إسماعيل إلى سن العمل. وعندما شرعا في بناء البيت الحرام دَفَعه تواضعه لله تعالى أن يبدأ دعاءً تضرع فيه إلى الله تعالى: ربنا، تقبل منّا جهدنا هذا. نحن نببي البيت لوجهك الكريم.. ولكن لا يدري المرء جوهر نيته، ولا يعرف حقيقة طويته.. لذلك نضع كل جهدنا بين يديك، راجين أن تقبله منا فضلاً ومنًّا. إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .. تسمع دعاءنا، وتعلم حقيقة نياتنا ودوافعنا الباطنة التي تُخرج الدعاء من شفاهنا. رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك .. فأي نفع لساعات العمل والعبادة هذه إذا لم نكن في نظرك مسلمَين لك؟ فأجعلنا دائما في خضوع واستسلام لك لا ينقطعان. وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا .. ونحن على هذا الحال علِّمنا أسرار عبادك، وبيِّن لنا مناسكنا. والمنسك هو طريقة العبادة ومكان تقديم الأضاحي. وَتُبْ عَلَيْنَا .. اغفر لنا بفضلك.. إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .. أنت الذي تقبل التوبة بلا حدود، وترحم بلا نهاية. وهكذا طفقا بأدعية التقوى هذه، يبكيان ويتضرعان في تواضع، ويقران بأنهما مذنبان قائلين: إننا لا شيء، يا ربنا، ولسنا متأكدين من جدوى أعمالنا أم لا.

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

بهذه النغمة الأخيرة يختتم الدعاء ويصل إلى ذروته، وهنا نتعرف على أدق سبل التقوى. لماذا كل هذا الخشوع والتذلل؟ لماذا هذا الاهتمام الدائب لقبول الدعاء؟ لماذا هذا التطهر من أي أثر لغير الله، والتأكيد على أن يكون عملنا خالصا لك وحدك، وأن يحظى بالقبول منك؟ ذلك لأن هذا الدعاء يضع الأساس لخلافة سيدنا محمد المصطفى . إنه دعاء لمبعث نبي عظيم من أجله خُلقت الدنيا كلها. لذلك تطلب المقام أعلى درجات التقوى والخشوع. هذا مقام لا يمكن أن يتطرق إليه كبرٌ. كلما ارتقى المستوى الممنوح لهما كان التواضع الذي يتعلمانها أشد عمقًا.

وهكذا تضرعا إلى الله تعالى بكل خشوع، وقُبل دعاءهما كاملاً كما انبعث من قلبيهما، تَّم تحقيقه بطريقة مدهشة.. كلمةً كلمةً كما نطق بها سيدنا إبراهيم . ولكن لـمَّا كانت كلمات الدعاء تقوم على الفكر البشري، والنبي بشر على كل حال، لذلك أدخل الله تعالى تعديلاً في ترتيب عناصر الدعاء المـُجاب. ويتضح هذا التعديل في قوله تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الجمعة: 3).

دعاء سيدنا ابراهيم جري على النحو التالي: بعد أن يقوم النبي المرتقَب بتعليم الآيات والكتاب والحكمة.. تتولد في قومه صفات تعمل على تزكيتهم وتطهيرهم؛ أي عندما يتلو عليهم آيات الله ويبينها لهم ويعلمهم ما فيها من حكمة.. ينتهي بهم الأمر إلى التطهر والزكاة.. ولكن الله جل وعلا بيَّن المقام الحقيقي للمصطفى عندما يُقبَل الدعاء الإبراهيمي ويتحقق. قال الله تعالى إن محمد المصطفى له من الصفات ما يميزه ويرفع من قدره بين الأنبياء إلى درجة لم يتصورها حتى الأنبياء السابقون.. ذلك أنه قبل تعليم الكتاب والحكمة لأتباعه يزكِّيهم ويطهرِّهم ببركته الذاتية. نعم، تلاوة الآيات لها الأولوية على كل حال.. لأنه بدون تبليغ رسالة الله تعالى لا يؤتى المرء أي قوة. ولكن بعدها تكون شخصية المصطفى بذاتها عامل التزكية لهم.. حتى قبل أن يعلمهم الكتاب والحكمة.

والامتياز الثاني لصاحب الرسالة المنشودة هو أن الأقوام السابقين على بعثة أنبيائهم كانوا يدخلون مدارس النبوة ليحصلوا على التزكية.. وهي الهدف النهائي لهذه الرسالات، ولكن المدرسة المحمدية.. كما يقرر القرآن الكريم، مدرسة عليا وأسمى درجة.. ويلزم لمن أراد دخولها أن يتطهر أولا، وما لم يحضر المرء بين يدي المصطفى بقلب طاهر لا يفوز بشيء من مدرسته.

فالمعنيان والامتيازان صالحان في نفس الوقت. وها هي أهمية هذا الدعاء قد وضحت لنا. ومن البيِّن أن الخصال الأربع التي ابتهل سيدنا إبراهيم لتحقيقها، ووقف بين يدي الله في خشوع وتذلل من أجلها.. تشير كلها إلى بعثة محمد المصطفى فقد بعثه الله تعالى على نفس هذه الصفات، وطبقا للدعاء الإبراهيمي بشأن النبي المنشود بعثُه في ذرية سيدنا إبراهيم.

وهكذا ترون أي أثر جليل ذلك الذي فعله هذا الدعاء في تاريخ العالم. يموت الناس داعين لأنفسهم ولأبنائهم، ولا ينفعونهم إلا في دائرة محدودة ولوقت محدود، ولكن ترون كم كان دعاء سيدنا إبراهيم محسنا للإنسانية جمعاء. انتفع به العالم ولن يزال ينتفع به إلى يوم القيامة. إنه دعاء عظيم الشأن حقا، وحُقَّ للداعي، سيدنا إبراهيم، أن ينال شرفا لم ينله أحد من الأنبياء، اللهم إلا حفيده المصطفى .

دعاء حسنات الدارين

ثم يعلمنا القرآن الكريم هذا الدعاء:

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (البقرة: 202)..

يجري على لسان عباد الله تعالى بعد أن يتموا شعائر الحج.. ويعودوا ملتمسين الخير من الله.. خير الدنيا وخير الآخرة والنجاة من النار. وهناك فرق بين (الحسنة) و(الفضل).. يحسن أن يكون مفهوما لك حتى يكتمل دعاؤك. فالفضل يتصل عادة بالمكاسب الدنيوية وإن كان أيضا لغيرها. أما الحسنة فهي تتصل بالفضائل أكثر. وليس هناك نعمة من الحسنات تخلو من فضيلة. وكل ما في الحسنة من جمال لا يتوفر في الأدعية الأخرى لأن الدعاء يعني: اللهم أعطِنا كل ما هو حسن.. أعطِنا من حسنات الدنيا ما هو حسن بالنسبة للدنيا وتكون في نفس الوقت حسنة ومرضية في نظرك، وأعطِنا أحسن الأشياء في الآخرة أيضا، ووفقنا في دنيانا إلى كل عمل حسن.. أي ما يأتي في الدرجة الأسمى من التعليم.

لقد حض المهدي والمسيح الموعود على أن يلتزم كل فرد من الجماعة بهذا الدعاء ويكرره في جلسة الركعة الأخيرة من كل صلاة. فالذين لا يدرون بهذا الدعاء عليهم أن يعرفوه ويدركوا أهميته.

وقد رُوي عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي عاد مريضًا ضعيفًا يرقد بلا حراك كطير نُزعَ ريشُه. فسأله النبي : هل كنت تدعو بدعاء خاص؟ قال: بلى، أقول: اللهم ما قضيت عليَّ به من عقاب في الآخرة فعجَّله لي في حياتي. فقال النبي : سبحان الله! إنك لا طاقة لك بذلك. (ألا ما أعظم ما في هذه العبارة من محبة ورفق نبوق يصل إلى أعماق القلب: سبحان الله.. لا طاقة لك بذلك. ينبغي ألا تدعو الله بما لا تستطيع احتماله). هلا قلتَ: ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار؟ فهذا دعاء جامع لكل خير، وتدخل فيه الخشية من عذاب النار. ولو قُبل هذا الدعاء نجوتَ من عقاب الآخرة، ونلت الدنيا والآخرة.

هذه هي الأدعية وما وراءها من حكمة.. فَهمَهَا الصالحون الأتقياء، ونصحونا بشأنها. وكما قلتم إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ثم دعوتم بهذا الدعاء الصعب

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ..

ردَّدوا تلك الأدعية في صحبتها. بعد قراءة الفاتحة يأتي وقت تلاوة هذه الآيات القرآنية. وينبغي أن تتخيروا الآيات التي تتضمن هذه الأدعية. إذا فهمتم معنى أدعية القرآن وجدتم لكل حال دعاء مناسبا، ولكل حاجة ورغبة صالحة ما يفي بها من دعاء. وإذا فهمتم خلفية كل دعاء تحركت قلوبكم وذابت، وتولدت في أدعيتكم حياة جديدة. لن يكون دعاؤكم كالفروج الذي نزع ريشه وقبع في مكانه.. بل سيكون دعاؤكم نسرا قويا يحلِّق في الأعالي ويرقى في السماء.

دعاء طالوت

وهناك دعاء طالوت، وقيل اسمه جدعون.. حفظه لنا القرآن الكريم. عندما خرج طالوت لقتال جالوت الذي كان أكثر عددا وأعظم قوة، وكانت قوات طالوت فئة قليلة، وفشل أكثر جنوده في اجتياز ما تعرَّضوا له من ابتلاء، ولم يتمكنوا من مؤازرته حتى النهاية، خرج بهذا العدد القليل والعتاد الهزيل.. وتوجّه إلى الله تعالى مبتهلاً:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ،

أي اللهم هَبْ لنا القدرة على الاحتمال، واجعل خطواتنا قويةً ثابتةً، وارزقنا النصر على الذين رفضوا الحق. ويعلن الله تعالى أنّ هذا الدعاء فاز بالقبول الفوري، فقال : فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ . نعم، فازوا عليهم وهزموهم هزيمةً ثقيلةً بفضل التقدير الإلهي، ولولا ذلك ما كانت بهم أي قدرة للنصر على ذلك الجيش المتفوق عددًا وعُدّة.

دعوات المصطفى

ولقد قدَّم القرآن الكريم صورًا متعدِّدة لأدعية المصطفى . يحسب بعض الناس أنَّ في القرآن أدعية للأنبياء السابقين وليس فيه أدعية للنبي المصطفى . والحقيقة أنَّ هناك أدعيةً كثيرة لم يُذكر فيها اسم أحد من الأنبياء ونُسِبتْ للمؤمنين.. وهي أدعية سيدنا محمد المصطفى وصحابته. وكما أنَّ هناك أيضًا أدعية عديدة علَّمها الله للنبي الأكرم مباشرةً، آمراً له: قل كذا وكذا، وجميعها محفوظةٌ لنا في القرآن الكريم. وهناك أدعية لم تُذكر بطريقةٍ مفصّلة في القرآن الكريم ولكن موضوعها واضح. ولسوف أذكرها لكم فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فمن الأدعية التي علّمها القرآن الكريم للمصطفى ولصحابته قول الله تعالى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ..

لقد آمن الرسول وصحابته جميعًا بكل ما أُوحِيَ إليه من أمرٍ أو تعليم أو شرعٍ من عند الله تعالى. وآمن الصحابة بكل ما آمن به النبي .. وآمنوا أيضًا بالملائكة والكتب ورسل الله، وأكّدوا بقولهم لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ أنهم لا يفرِّقون بين الأنبياء بتفضيل أحدٍ منهم على الآخر من ناحية الوحي الإلهي. فكل ما نزل عليهم جاءهم من الله تعالى. وكل أمرٍ إلهي يصل إلينا.. بأيّ طريقٍ أراده الله تعالى.. سواءً عن طريق نبيّ رفيع القدر أو نبيّ دونه قدْرًا.. فهو أمرٌ حقيقٌ بالتكريم. كما أننا لا ندخل في مناظرةٍ بين الأنبياء لنقول من منهم أعلى قدْرًا ومن منهم أقل قدْرًا.

وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ :

كل ما سمعناه من وحي الله تعالى سلّمنا به وأطعناه، وشرعنا في العمل به، وبذلك نستحق يا رب مغفرتك، ونتوقع عفوك، فاغفِرْ لنا من فضلك، لأنّ مصيرنا إليك وحدك، ولا مهرب لنا سواك.

فضيلة الصحابة

ترون كيف يعبر هذا الدعاء عن شدّة الخشوع والتذلّل لله تعالى. فالمصطفى وصحابته آمنوا بوحي الله تعالى بإخلاصٍ وفهمٍ وروعة لم يرتقِ إليها أي قومٍ آخر في إيمانهم بما جاء نبيّهم من وحي. وبعد إيمانهم بأنبياء الله جميعًا وبملائكته وكتبه.. جعلوا دأبهم أن يعملوا فورا بمجرّد سماعهم به، ويستهدوا به فيما يسألون الله تعالى، ومع ذلك فإنّهم دائمًا يقولون: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا إننا لا نستأهل شيئًا، وكل ما لنا من قدرة فهو عطاءٌ منك وحدك، ولذلك نتوقع منك المغفرة والعفو عمّا يبدو منا من ضعف أو تقصير. وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فغايتنا النهائيّة إليك.. ولا مفرّ من ذلك، فلسوف نقف بين يديك. فيُجيب الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ؛ أعرف حالكم. فقد آتيتكم قدراتٍ متنوعة متقاربة. فمنكم من هو أعظم قدرةً ومنكم من هو دون ذلك. لذلك سوف أُحاسبكم بحسب قدراتكم. ولسوف أُعامل محمدًا رسول الله بحسب مقدرته، وأُحاسب صحابته بحسب مستوياتهم، الصدِّيقين طبقًا لرُتبهم، والشهداء والصالحين بحسب مكانتهم. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ؛ القانون أنَّ كل عمل صالح يعمله هؤلاء الناس أُثيبهم عليه. أما السيئات فسأحتسب منها ما كان متعمّداً مقصودًا. وكلمة (اكتسبت) تعبّر عن التعمُّد والقصد في الفعل. وهكذا ترون مدى ما في مغفرة الله تعالى من عطف. إنّ ذلك استجابة لدعاء غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ، فيقول جلَّ وعلا: سأُعاملكم بالمغفرة، فلو أنّ أحدكم عمل عملاً صالحًا، ولو كان ذلك عفو الخاطر، فسأحتسبه له، وتكتبه الملائكة في صالحه. وسأوصي الملائكة بالاحتراس فيما يتعلّق بالسيئات، فتنظر في نيته ومقصده. ومثالاً لذلك يقول الله تعالى في واقعة سيدنا آدم: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ، ولذلك عاملناه بالمغفرة والصفح بعد أن اختبرنا حاله، فلم نجد به عزمًا على فعل الخطأ، لقد تعثّر وأخطأ ناسيًا. هكذا جاءنا الجواب على دعاء: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا .

ثم ساق القرآن الكريم ذلك الدعاء الذي كان مفضَّلاً عند سيدنا محمد المصطفى وصحابته، وطالما تضرَّعوا باكين منتحبين: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، اللهم لا تسجّل علينا النسيان والتعثُّر والخطأ، بل اغفر كل ذلك، فلا تحسبه علينا أبدًا.

رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا .

الإصر هو نِيْرُ البدعات

والــمَلَلُ من أحكام الشرع

في هذا الدعاء مادتان: حملٌ وإِصْر. يقال أصَرَ الشيءَ؛ كسره، ولواهُ، وقيّدهُ. وأصر الشيءْ؛ إذا انتشر وامتد كأفرع الشجرة مثلاً، إذا التفّت حول بعضها فيؤذي بعضها بعضًا. واأتصر القوم، زاد عددهم. والمأصر: الحبل الذي يُمدُّ عبر الطريق ليوقف الناسَ والركائب والعربات كي تُحصَّل منها المكوس.. بمثل ما تُقام الحواجز والبوابات في عصرنا هذا. تُبيّن لنا هذه المعاني أنَّ الدعاء ليس لطلب عدم فرض شريعة علينا إذ يظنُّ بعض الناس أنّ الإصر يعني قيودًا يضعها الله علينا. والآية لا تعني ذلك أبدًا. وإنّما الدعاء يقول: ربنا لا تضع علينا قيودًا بحيث يتزيّد الناس فيها شيئًا فشيئًا فيجعلوا من الدين البسيط المستقيم حملاً معقدًا. ولبيان ذلك مثلاً.. يصف القرآن الكريم سيدنا محمدًا بأنّه

يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.. (الأعراف: 158).

وهي العادات والتقاليد والممارسات الزائدة التي أصبحت نِيرًا حول أعناقهم، جاء المصطفى ليُحرِّرهم منها فالدعاء يعني: لا تضع علينا مثل هذه الأحمال. لا تَدعنا نتجه إلى صراط هؤلاء الذين كانوا من قبلنا وتزّيدوا في التعاليم الإلهيّة حتى صارت بالتدريج حملاً ثقيلاً عليهم. لقد أضافوا أمورًا في الدين من عند أنفسهم، واتخذوا عادات وبدعًا لم يتمكنوا من الوفاء بها. كما أنَّ هناك أقوامًا أخذت تعاليمُهم طابع جمع المكوس والضرائب، فباتت حملاً بغيضًا عليهم، ولما طولبوا باتباعها ضاقوا بها ذرعًا وتضرَّروا منها. كان شعورهم إزاءها كشعور الناس زمن الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق عندما جعل الصلاة إجباريةً بالحكم العسكري في باكستان. لقد فرضها الله تعالى على الناس منذ أربعة عشر قرنًا، فيأتي ضياء الحق بعدها ليكرههم على أدائها. كتب إليَّ الناس وقتئذٍ، وقالوا: إنَّ شعورهم كم فُرضَ عليه دفع المكوس ويسعى جاهدًا للتخلُّص منها بقدر الإمكان. والذين كانوا يؤدون الصلاة من قبلها طاعةً لله تعالى شعروا أنَّ الأمر لا يعني شيئًا بالنسبة لهم. ولكن الذين أُجبروا على الصلاة فعلوها وهم كارهون. فقد كانت عليهم عبئًا إلزاميًا، ينظرون إليها كضريبة مفروضة عليهم.

من هنا تبيّن لنا مدى ما في هذا الدعاء من حسن، وكيف يُعلّمنا القرآن أنفع الدعاء. يقول الدعاء: ربنا إننا نتقبّل تعاليمك. لقد آمنا بكل ما ينبغي علينا الإيمان به، وعاهدناك على التسليم بكل ما نسمع منك ولكن دَعْنا نتفقْ معك على نظام التعامل: فأولاً لا تحسب علينا ما يكون فينا من ضعف، واعفُ على أي خطأ أو نسيان من جانبنا. وخلِّصنا من الوقوع فيما وقع فيه السابقون من خطايا، ونجِّنا من تحويل تعاليمك إلى عبء ثقيل حتى لا ننظر إليها كأنها ضريبة وحملاً.

نظرةَ الغفران بدل العقاب

ثم بعد ذلك رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ؛ نحن لا نعلم ما سيقع في المستقبل. ولقد تعلّمنا دروس التاريخ الماضي، ونحن واعون مُدركون لضعفنا، فلا تُحمِّلنا ما لا نُطيق حمله. لقد وعدتنا أنّك لا تُكلِّف نفسًا إلا وسعها، لذلك نلتمس منك ألا تُحمِّلنا ما فوق قدرتنا. حمِّلنا بما شئت، ولكن في حدود طاقتنا، ونبتهل إليك راجين أن تعاملنا بكَرمِك. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ؛ فتجاوز عن أخطائنا، ولو تعثّرنا في ذنب فاغفر لنا، وانظر إلينا بعين رحمتك كما لو كانت أخطاؤنا في ناحية ونظرتك في ناحيةٍ أخرى. فإذا وقع نظرك على خطأ منا فاغفره. ونظر الله تعالى لا تغيب عنه شاردة ولا واردة، ولكن الأسلوب مجازي يُراد به توضيح الأمر. فبعض الناس يُعاملون غيرهم بعطفٍ وتسامح، فيتجاهلون قصورهم ويُشيحون بوجوههم بعيدًا كأنّهم لم يروا خطأ. لا يلحظون السيئات إلا إذا أرادوا عقاب المسيء. هذا الأسلوب كان يتبعه معنا (والدنا) المصلح الموعود الخليفة الثاني لسيدنا المهدي . عندما كنا أطفالاً نفعل أشياء سخيفة، فكان يتجاهلها وكأنّه لم يرَ منها شيئًا. أما إذا رأى أننا تجاوزنا الحدود وأراد عقابنا رآها وأدَّبنا.

فنلتمس من الله تعالى ألا ينظر إلينا بإرادة عقابنا، وإنّما نسأله: وإذا نظرتَ إلينا، يا رب، فانظرنا بإرادة الغفران والصفح. وإذا ضبطتنا في أمرٍ مكشوف فاغفر لنا وارحمنا. إننا، يا رب، لا نملك قدرةً كاملة، ولن نبرح نقع في الخطأ، وسوف نقف بين يديك ولا نملك شيئًا، ولا حول لنا ولا قوة، وقد خالفنا عهدنا مرةً بعد مرة بعد أن قطعناه على أنفسنا.. فعامِلنا يا ربنا برحمة، وقل: هؤلاء خلقٌ ضعفاء، سجيَّتهم الوقوع في الأخطاء. قل، يا رب، كما جاء في إلهام الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام بالفارسية ما معناه: “إذا لم أغفِرْ لهذه الحفنة من التراب فماذا أفعل بها غير ذلك؟ ما قيمة هذا الإنسان الذي ليس إلا حفنة من تراب وهو غايةٌ في الضعف والنقصان؟ يُذنب وأقول: نغفر له” هذا معنى وَارْحَمْنَا.. أَنتَ مَوْلَانَا . تذكَّر يا ربنا، إنّك وحدك سيدنا ومالك أمرنا.

سرُّ قبول الدعاء

لقد أجمل في هذه الكلمة كل ما في الدعاء من مشاعر عميقة، وانكشف سرُّ قبول الدعاء. فبغضِّ النظر عن كل الأحوال لم نتطلّع إلى سواك، وبرغم كل ضعفنا وأخطائنا ثبتنا على إخلاصنا وإيماننا بك. كنتَ دائمًا سيدنا ومولانا الأوحد، ولم نضع في اعتبارنا أحدًا غيرك. وما دمتَ أنتَ مولانا فلمن نذهب غيرك؟

ترون نفس المعنى في دعاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . يا ربّنا، نعبدك وحدك ولا نعبد سواك، وما دام الحال كذلك فبمن نلوذ طلبًا للمعونة؟ مَن هناك غيرك؟ إلى أين نستطيع الذهاب وندع بابك؟ أين نجد السلام القلبي وراحة النفس بدونك؟ لا أحد غيرك.

لقد كشفت كلمة (مولانا) السرّ عن هذا الدعاء الغريب الذي لا يتفق مع ظاهر المنطق. لا تفعل بنا كذا وكذا وكذا. لم يعاملنا الله تعالى هكذا؟ تضرّعنا إليه: يا مولانا ويا سيدنا، ثم لو كان لنا مولىً سواه ما كان لنا حقّ في هذا الدعاء.. فإذا كان الله تعالى هو وحده مولانا حقًا وصدقًا فلسوف يقبل الدعاء لاريب. أما إذا كنتم في وقت الحاجة والمشاكل تسارعون إلى غيره.. إذا تورَّطتم في الشرك وأعماله.. إذا جعلتم من أهل الدنيا سادةً لكم.. ثم بعد ذلك دعوتم بدعوات محمد المصطفى التي كان يدعو بها ربه وحده.. فدعاؤكم عندئذٍ غير مناسب.. ولا علاقة بكم بربِّ محمد . وقانا الله شرَّ ذلك. أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .. آتنا النصر على من يرفضون الحق، ومن يجحدون نعمك.. لأنّك مولانا ولا مولى لنا سواك.

دعاء الراسخين في العلم

ويعلّمنا القرآن الكريم هذا الدعاء أيضًا:

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ .

هذا هو دعاء الراسخين في العلم.. الذين يؤمنون بالمحكَمات والمتشابهات من آي القرآن الكريم، والذين يقولون بأنَّ المحكم ذا المعنى الثابت الحاسم، والمتشابه الذي يتحمَّل وجوهًا عدة.. كلاهما من عند الله تعالى.

معنى المحكَمات والمتشابهات

من الضروري تناول هذا الموضوع كله بالشرح، لأنَّ عدم فهمه يعرِّض سهام دعائكم للطيش، فلا تصيب الهدف وأنتم لا تدرون السبب. فبعض الكتب الجامعة للأدعية القرآنية لا تبيّن حكمتها وخلفيّتها. يقرِّر القرآن الكريم أنَّ هذا الدعاء مقبول من المؤمنين بالمحكم والمتشابه من آيات القرآن الكريم أو مِنْ أقوال محمد المصطفى أو من كلمات أولي الأمر. فما كان واضحًا قاطعًا مفهومًا منها صدَّقوه بفكرٍ صافٍ وعقلٍ واعٍ.. وإذا وجدوا في شيء منه ما يشتبه عليهم لم يستسلموا للريب، ولم  يتّبعوا أهواءهم ونزواتهم، ولا يقول بعضهم: ربما لم يتحقق هذا الأمر أو لم تصدق هذه النبوءة، لقد حدث تسرّعٌ لا يتفق مع طِباعنا. تقول الآية القرآنية: إذا لم تؤمنوا بهذه المتشابهات التي تحتمل معاني وتفسيرات مختلفة.. كمن اعتاد أكل الحلوى فإذا صادفه أي تغيُّر طفيف في طعمها لفظها وأنكرها، فإذا كنتم لا تدعون هكذا فلا تدعوا بهذا الدعاء. إنّه فقط دعاء الراسخين في العلم الذين يؤمنون بالمحكمات والمتشابهات.

ماذا يقول الدعاء؟ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا . انظروا كم هو دعاءٌ ملائم، وجاء في الموضوع والوقت المناسب، وكم ينبغي عليكم فهم خلفيّته؛ ربنا لقد آتيتَنا الهدى، فلا تدَعْنا نحيد عنه، وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ، وعامِلْنا برحمةٍ منك. إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ أي الذي يُبدي رحمةً بلا حدود، ويهب معروفًا بلا نهاية، ويبدي العفو والمحبة. ومثل هذا الدعاء لا يُقبَل في صالح من يتعثّرون عند كل مرحلة، ويَدَعون القلوب تلتوي وتنحرف كلما سنحت فرصة لذلك. إذ يُعلّمنا الدعاء أنَّ الراسخين في العلم لا يفعلون ذلك، إنّهم يعلمون عدم قدرتهم على اجتياز المحن والبلايا دون ضرر ينالهم إلا بمعونةٍ من الله تعالى وقوةٍ يهبها لهم، ويعلمون أنّهم بحاجةٍ دائمة إلى الدعاء، ولذلك فهم لا يتعثّرون أمام المتشابهات. إنّهم يُدركون حقًّا أنّهم في خطرٍ دائم من غير سند الدعاء. فإذا كانت بك قدرة على اجتياز المتشابهات بصبرٍ وثبات فلنتفقد إيمانك مرةً بعد أخرى بسبب الشكوك، بل نال إيمانك بهذا الدعاء دفعةً وقوةً جديدتين، ونجوتَ من الوقوع في مواطن الخطر.

ثم يقول الدعاء:

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ؛

وهكذا ترون الحكمة العميقة وكيف ترتبط هذه الآية ارتباطًا مخفيًّا بالموضوع الذي ذكرته آنفًا. فمن وجه تقول الآية: إنّ موضوع المتشابهات من أمور الغيب، فيا رب اجمعَنْا وأدخِلْنا في جماعة أولئك الذين لم يقعوا في الشكّ أمام المتشابهات. فلسَوف يأتي يوم تزيل فيه كلّ شك، وما عجزنا عن إدراكه اليوم سوف يتجلّى غدًا، وينكشف خطأ المـُستَرِيب. ومن هنا ينبغي الانتفاع بهذا الدعاء بالاستغفار وطلب الصفح من الله تعالى، والسعي للنجاة من العثار. ومن وجهٍ آخر سوف يتجلّى حال المستريبين، وتنكشف حقيقتهم أمام الناس.. في يوم لا ريب في مجيئه، ولن يبقى شيء محلَّ شكّ. في هذا اليوم الذي يجتمع فيه الناس على اختلاف مواقفهم عامِلْنا، يا رب، بربوبيّتك. فالوجهان متطابقان: الأول أنه يومٌ فوق كلّ شكّ.. أي آتٍ لا محالة، ويتحقّق فيه كل ذلك، والثاني أنّ كل شيء سوف تنزاح منه الحجب، ولن يبقى هناك محلّ لشك.

دعاء المحظوظين برؤية الله

ثم هناك في القرآن دعاء المتقين، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، وقد تناولتُ معناه فيما سبق من أدعية.

وبعد ذلك يعلّم الله نبيّه هذا الدعاء:

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ،

أي كلّ سيادة وملكٌ تحت يدك. تؤتي الملكَ الدنيوي والعزّ الأخروي لمن تشاء. ولك السلطان والمقدرة لنزع ذلك ممن تشاء وعندما تشاء.. عندما قضيتَ أنّه لم يعد يستحقُّ ما أنعمت به عليه. وأنت الذي يُقدِّر العزَّ والكرامة لمن تشاء، وتُلحق الخزيَ والعار بمن تشاء. ولكنك سبحانك بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، فلا تفضَحُ أحدًا بمبادرة من جانبك وإنّما تَدَعه ليفضح نفسه ويجلب على نفسه العار. لو أراد أحدٌ بنفسه المعرّة، ووافق ذلك قَدَرُك.. تركتَه فيما أراد لنفسه، ففضح نفسه وأخزاها. أما يدكَ يا ربّنا فهي يدُ خير. إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ولما كانت يدك للخير فإننا نتوقع منها كلَّ خير، وأنت قادرٌ على ذلك.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ؛

الأوقاتُ في تغيُّرٍ دائم. يأتي النهار بعد الليل، ويُقبل الليل بعد النهار.. كلُّ ذلك بمشيئتك. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ؛ وبنفس الطريقة تُدخل الحي في عِداد الأموات، وتُقيم الحيّ من بين الأموات. وتحفظنا بفضلك وحدك في كل حين على الصراط المستقيم، وتجعلنا ممن يخرجون من بين الموتى ويدخلون في الأحياء. فلا تجعلنا نغادر الأحياء وندخل في الموتى.. واجعلْ أوقاتنا تتحوّل من ليلٍ إلى نهار، ولا تدَعْنا نخرج من النهار وندخل في الليل. وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ؛ إنّك تُعطي خلقَكَ دونما قيد، وترزقهم بلا حدود.

وقد رُويَ عن النبي أنَّ من قرا هذا الدعاء مع بعض أدعية أخرى بعد كلّ صلاة مكتوبة كان فيمن كُتبَ لهم الجنة.. الذين ينظر الله إليهم كل يوم 70 مرة. عن علي قال: قال النبي : “لما أرادَ الله تعالى أن يُنزِلَ فاتِحةَ الكتاب، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَ شَهِدَ اللَّهُ ، وَ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ وقلن يا رب: تهبط بنا إلى دار الذنوب ومن يعصيك؟ فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا يقرأكنّ عبدٌ عقِبَ كُلِّ صلاة مكتوبة إلا أسكنتُه حظيرةَ القدس على ما كان منه، وإلا نظرتُ إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيتُ له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذتُه من كل عدوّ، ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت”.

وعدد السبعين يعني الكثرة عند العرب وليس مدلول العدد فعلاً، فهناك من أهل الجنة من يحظى بالنظر الدائم من الله تعالى كسيدنا محمد المصطفى .

دعاء سعة الرزق

وقال النبي أنَّ هذا الدعاء لسعة الرزق. فالذين يُقاسون الشدائد عليهم بهذا الدعاء لينالوا ما ذُكر في آخر الآية وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . فبعد تلاوة الأدعية السابقة يصل إلى هذا الدعاء، فيقبل الله تعالى دعاءه ببركة سائر الأدعية ويوسِّع عليه رزقه.

لقد طال بنا الوقت وأودُّ إنهاء خطبة اليوم بعد دعاء أو دعاءين، ولكن سوف يمضي بنا الموضوع في الخطب القادمة، إن شاء الله تعالى. عندما بحثنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بدأنا بموضوع صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .. فإذا كان أعضاء الجماعة يعرفون ما هذا الصراط، وكيف سار فيه الذين صاروا أهل النِّعم والبركات.. فبوسعهم الانتفاع من الدعاء، وبدون ذلك يكون مجرّد التلفُّظ بكلماته قولاً لا معنى له. قد لا يكون المعنى غائبًا تمامًا وفي الدعاء ما فيه من البركة.. ولكن البركات لا تُنال ما دامت الأدعية الأخرى التي تحتها غير معروفة.. الأدعية التي كان يقولها السالكون في سبيل الله تعالى طول حياتهم وساروا في نجاحٍ دائم، وكانوا في حمى من التعثُّر، وخرجوا من كلّ ابتلاء بكرامةٍ وشرف، وكانوا أهلاً للتكريم والتشريف في ساحة المحكمة الإلهيّة، وأثنى عليهم الله بنفسه، وصلّت عليهم الملائكة. هذا هو الطريق الذي يجب على الجماعة أن تعرفه بكل تفاصيله.

دعاء لذُريّةٍ صالحة

وهناك دعاء سيدنا زكريا . تلقّيتُ هذه الأيام رسائل كثيرة من سيداتٍ وأيضًا من رجال، يريدون أن أدعو لهم في شهر رمضان خاصةً كي يُرزقوا بولد. ودعاء سيدنا زكريا له علاقةٌ وثيقة بهذه الرسائل.. إذ أنَّ أصحابها يُعبِّرون عن رغبتهم في المشاركة في مشروع “وقف نوّ” أي الوقف الخاص بالواقفين الجدد لخدمة الإسلام، ويؤكِّدون شوقهم الشديد للإسهام في هذا المشروع، ويقولون نستحلفك بالله أن تُدخلنا في مشروع الوقف الجديد.. ولكنهم يطلبون مني الجَملَ والزاد ثم حملهم عليه أيضًا! كل ذلك ليس في استطاعتي وحدي، لا بدَّ أن تشارك فيه الجماعة كلها وتساعدني في ذلك. ثم ما شاء الله كان وما يُقدّره سوف يكون.. لسوف يُرينا رحمته، ويملأ أحضاننا من فضله وكرَمِه بمواليد مخلصين.

بدأ سيدنا زكريا دعاءه عندما دخل غرفة السيدة مريم عليهما السلام. يقول القرآن الكريم

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا .

كان يذهب للاطمئنان عليها ورعايتها بعد أن نذرتها أمُّها قبل مولدها لخدمة الدين، وسلّمتها إلى سيدنا زكريا لتنال على يده التربية الروحيّة. فكان يجد عندها أصنافًا من الطعام.

دأب المفسرون على القول بأنَّ هذا الطعام كان من مصدر غامض وليس من عمل البشر ولكن دعاء سيدنا زكريا يُعلّمنا أنّ الحال لم يكن كذلك بالمرة. كانت الفتاة لصلاحها وتقواها يأتيها الناس كعادتهم يلتمسون دعاءها ويُقدِّمون لها الهدايا. ولما كانت السيدة مريم لا تنظر إلى صفاتها الشخصية، جاء ردّها على سؤال سيدنا زكريا كما تبيّنه الآية:

قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .

كان ما عندها رزقًا من الله، لا دخل لها به، لم تطلبه من أحد، ولم تتوقعه من الناس. لقد وضع الله حبّها في قلوب الناس، فأخذوا يُقدِّمون ما تراه عندها من رزق.

وفسَّروا الآية بمعنى آخر جيد، أي أنها ما برحت تتلقّى الطعام الروحاني وتجلّى عليها الله برحمته ومغفرته، فاراها الكشوف والرؤى وكشف لها عن رحمته ورضاه كثيرًا. وهذا من قبيل ما نلحظه في بعض البيوت الصالحة وأهل التقوى.. إذ يسألون أطفالهم ان يقصُّوا عليهم ما يكونون قد رأوه في مناماتهم كي يستشفِّوا منها آيات رحمة الله تعالى وما تتضمن من أنباء. ولذلك كانت السيدة مريم في براءتها وبساطتها تروي ما حدث لها في الليلة السابقة، وما رأت من الله تعالى، وما أسبغ عليها من آيات رحمته. وسيدنا زكريا نبي الله أحسَّ بالغبطة مما هي عليه.. لا لأنَّ السيدة مريم أُوتيت ما لم يكن له، وإنّما لأنّها جاءت هكذا بفضل إجابة الله تعالى لدعاء أمها.. جاءت طفلةً صالحةً قانتة.. في حين كان زكريا محرومًا من الذريّة الصالحة. فأحسَّ بشوق إلى ذريّةٍ صالحة مثلها يسعد بها.. ذريّة تتلقّى الغذاء الروحاني من يد الله تعالى وبنفس الطريقة. ولو لم يكن هذا هو المعنى المراد لكان الدعاء التالي مقطوع الصلة به. فالواقع أنَّ جوابها هو الذي وجّه نظره ليبتهل إلى الله تعالى:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ؛

عندما عبَّرت مريم عن مكانتها العظيمة من الله تعالى تولَّد في قلبه رغبةً شديدة وشوقٌ طاغٍ جموح ليتضرَّع إلى ربه سائلاً الله تعالى مجيبَ الدعاء الذريّةَ الصالحة. بعد ذلك توالت الأدعية في كلماتٍ مختلفة، وكانت ذات دلالات ومشاعر عميقة. ولما كنتُ أتتبع ترتيب الآيات في المصحف. فسوف أذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

لقد قدَّرتُ أن يستغرق هذا الموضوع خطبةً واحدة، ولكنه الآن مستمر وأما العباد المسافرون دائمًا في قطار العبادة.. فلا يجدون مشقة، ولا ينفكون في مسيرتهم، ويسمعون هذه الأمور وينتفعون بها. ويتعلّمون صيغًا جديدة للعبادة. وأما الذين نزلوا من القطار، أو هم على وشك مغادرته.. فأدعوكم أن تتصلوا بهم قدر استطاعتكم. إذا عرفتموهم فاسعوا لمقابلتهم، وأخبروهم بما تسمعون. فمن الممكن بعد سماع هذه الأدعية وما يتعلّق بها من أحداث ومشاعر أن تتولّد في قلوبهم رغبةً كتلك التي تولّدت في قلب سيدنا زكريا . فيدعوا الله ويطلبون نِعمَه وفضله. وادعوا الله تعالى لهؤلاء الذين يودِّعون ويرحلون.. عندما تُبلِّغونهم هذا الذي تسمعون هنا.. أن يخلق الله في قلوبهم الرغبة ليكونوا مسافرين دائمين، ومرافقين معكم في هذه الرحلة وفي هذا الاتجاه. وأسأله تعالى أن يُحدث يوم الجمعة هذا فيكم من الخير ما لا يُغادركم أبدًا ولا يودِّعكم أبدًا. فيكون خيرًا ملازمًا لكم وجزءًا لا يتجزأ من حياتكم، ولا ينفكُّ عنكم.. ويبقى معكم إلى الأبد! آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك