"الإسلام" في نظر عربي مسيحي الحلقة الثانية

“الإسلام” في نظر عربي مسيحي الحلقة الثانية

عبد الله أسعد عودة

قد نشرنا في عدد سابق من مجلة “التقوى” جزءًا من الرد على بعض ما جاء في الكتاب “الإسلام” للداعية المعمداني الدكتور شرّش، المليئ بالطعن في الدين الإسلامي، والنبي الكريم ، وكذلك في القرآن المجيد. وقد رأينا من الواجب الرد ولو على بعض هذه المطاعن في المرحلة الحالية. في الجزء السابق رددنا على بعض النقد الموجه للقرآن الكريم ومحاولة التشكيك في صحة نصوصه، واليوم نأتي على بعض هذه الاعتراضات، ذلك أنه كرس جزءًا كبيرًا من كتابه لمناقشة النصوص القرآنية وقد خصص في الصفحة 159 فصلاً بعنوان: “مشاكل القرآن”، ومن هذه المشاكل ما يلي:

المبالغة في النصوص القرآنية

يقول الكاتب: إن قصصًا بسيطة وردت في الكتاب المقدس قد بالغ القرآن في سردها وشوّه صورتها بحيث أصبح من الصعب تصديقها. ومثالا لذلك يأتي بالآية الكريمة 260 من سورة البقرة، ويقول مستغربًا: “هل يصدّق بأن عزرا أو العُزير وحماره قد ماتا مائة عام، ثم رجعا إلى الحياة” (ص160)

وفيما يلي نص الآية: أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنّى يُحيي هذه الله بعد موتها. فأماته الله مائة عام ثم بَعَثَه. قال: كم لبثت؟ قال: لبثتُ يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثتَ مائة عام فانظُرْ إلى العظام كيف نُنشزها ثم نكسوها لحمًا. فلما تبيّن له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير”.

أولاً: يجب الإشارة إلى أنه ليس من العدل والأمانة أن ينسب إلى القرآن ما لم يرد فيه كقول الكاتب: “يقول القرآن أن عزيزًا أو العزير وحماره قد ماتا مائة عام”. بينما لم يذكر القرآن في هذه الآية لا عزرا ولا العزير. فإن كان الكاتب قد علم من مصدر ما أن “الذي مرّ على القرية..” هو العزير فالواجب يقضي بأن يذكر ذلك المصدر، وإلا فمثل هذا الأسلوب غير المستقيم قد يحدث تشويشا وبلبلة لدى القارئ.

ثم إن كانت هذه الحادثة قد وردت في الكتاب المقدس “كقضية بسيطة” كما يقول، وهذا من مميزات الكتاب المقدس، فإنها في القرآن الكريم وردت كنبأ عظيم على لسان نبي من أنبياء بني إسرائيل، وفيها بشارة هامة وسارة عن مصير بني إسرائيل في تلك الحقبة الحرجة من تاريخ حياتهم. ولأن القرآن ليس كالكتاب المقدس بساطة وسهولة، يبدو وكأن المؤلف وجد نفسه أمام موضوع أكثر عمقا وبعدًا، فاستحال عليه إدراك ذلك العمق العظيم والنصوص المحكمة، وبالإضافة إلى الحقيقة أن القرآن لا يدرك معانيَه ولا يفهم مقاصده إلا المطهَّرون من قِبَل الله.

والآن أقدم للقراء ولصاحب هذا الكتاب مفهوم هذه الآية العظيمة وكلي أمل وثقة من أن مَنْ يطلع على هذا الشرح ستزول عنه الغمة وتتجلى أمامه الحقيقة، وبالتالي يُقر بعظمة القرآن الكريم. وكوني أحد أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية فإن ما أقدمه هنا استقيته من ينبوع تلك المعرفة التي جاءنا بها المجدد الأعظم لهذا الزمان ومؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا أحمد المسيح الموعود والمهدي المعهود .

تفسير الآية

القصة كما جاءت في الآية الكريمة تتحدث عن هدم هيكل سليمان المرة الأولى وسَبْي بني إسرائيل إلى بلاد بابل، ثم إعادة بناء الهيكل الثاني بعد مائة عام.

القرية المشار إليها والخاوية على عروشها هي القدس بعد أن دمرها نبوخذ نصر ملك بابل سنة 599 قبل المسيح. والذي مرَّ على القرية ليس عزرا ولا العزير بل نبي الله حزقيال الذي كان من بين من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل.  وكان قد مر على القدس أثناء الاعتقال، فرآها خرابا يبابًا. فحزن لذلك المنظر حزنا شديدًا، ودعا الله متضرعًا أن يعيد القدس ثانية إلى الحياة والازدهار. فسمع الله دعاءه، وأراه بصورة الكشف، ورؤيا الأنبياء صادقة دائما، بأن عودة بني إسرائيل إلى القدس وبناء الهيكل من جديد ستتم، ولكن بعد مائة سنة. وتوضيحا لذلك أراه الله في المنام أنه قد مات وظل ميتا مائة عام، ثم أحياه ثانية، وذلك على نحو ما رأى سيدنا يوسف حين قال لأبيه:

إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (يوسف: 5).

وكان حزقيال قد أدرك مراد الرؤيا وفهم منها أن بني إسرائيل سيظلون في حالة انحطاط قومي مائة عام، وبعدها فقط سيعيدهم الله إلى القدس لبناء الهيكل من جديد. وهذا ما حدث فعلاً. (ملوك الثاني24:1).

ولأجل تحديد المدة قد يكون حزقيال رأى الرؤيا في سنة 586 قبل المسيح، وقد شُرع ببناء الهيكل من جديد بمساعدة قورش ملك فارس وميديا سنة 537 قبل المسيح، وانتهى العمل في سنة 515 قبل المسيح. ثم مضت 15 سنة إلى أن استوطن بنو إسرائيل واستقروا في القدس من جديد. وبذلك تكون قد مضت مائة عام منذ هدم الهيكل حتى استكمال سلطة بنى إسرائيل في القدس ثانية.

وإنه من السخافة بمكان أن نفكر بأن الله أمات حزقيال فعلاً، وظل ميتا مائة عام، ثم أعاده إلى الحياة ثانية، لأن ذلك لا يكون جوابا من الله على دعائه له بأن يعيد إلى القدس مجدها لأن القدس كانت تمثل الكيان اليهودي. وحيث إن الذي حدث لحزقيال كان رؤيا ولم تستغرق إلا وقتًا قصيرًا، ولأجل أن يقرب الله فهم ما حدث لحزقيال جاء قوله تعالى في الآية بأن لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . وكذلك قوله تعالى:

فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ، وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ..

كل ذلك ليقرب الله فهم الموضوع للأذهان وحتى لايقع الناس في مفاهيم خاطئة لمعنى هذه الآية. فبقاء الطعام على حاله دون تلف، وبقاء الحمار حيًّا في مكانه يدل بوضوح على أن الأمر كان رؤيا وكشفًا لم يستغرق إلا وقتا قصيرًا من الزمن.

ويجب ألا يغيب عن البال أن سيدنا حزقيال بصفته نبيًا كان يمثل بشخصه الشعب اليهودي بأسره. فموته الذي عرض بصورة مجازية إلى المائة سنة يشير إلى معاناة اليهود في السبي، وبأنهم لن يرجعوا إلى أوطانهم إلا بعد هذه المدة. (راجع حزقيال:7)

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن القرآن مليء باللغة المجازية التي لا يصح أن تفسر وتشرح على ظاهرها كالآية المذكورة وكما جاء عن رؤيا يوسف . ولا يخفى على المؤلف أن المسيح كان يكثر من مخاطبة الناس بلغة المجاز والأمثال.

مناقضة نصوص القرآن للعلم

يستدل المؤلف على ذلك بالآية الكريمة

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (الكهف: 87)،

ويقول: “إن الذين يؤمنون أن الشمس قد تغرب في عين مُوحلة هم فقط أمثال الذين عاشوا زمن محمد، والمؤمنون بالخرافات”.(ص 162).

وهنا أيضا يبدو أن المؤلف سطحي جدًا في إدراكه وفهمه لآيات الله وأقواله وخاصة ما جاء في القرآن الكريم، ولا يكلف نفسه عناء التفكير الجدي ليصل إلى معرفة الحقيقة. والغريب أنه كيف يعزي هذا التناقض إلى كلام الله الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا ومن خَلْقِه الشمس التي تجري منذ الأزل لمستقر لها دون تغيير أو تبديل ودون أن تغوص في قعر البحار أو العيون الحمئة منها وغير الحمئة؛ والأغرب من ذلك أنه ينسب إلى صحابة النبي الإيمان بالخزعبلات كغروب الشمس في عين حمئة، مع أننا لا نزال حتى يومنا هذا نأخذ عنهم العلم الصحيح والفهم الصحيح لآيات الله تعالى. ولو سلمنا أنهم فهموا الآية كما فهمها صاحب هذا الكتاب المستنير أفلم ير أحد منهم شروق الشمس في اليوم التالي من حيث تشرق كل يوم؟ وإن كانت فعلا غاصت في قعر العين كما يتصور الكاتب فكيف ومن أين خرجت في اليوم التالي؟ وهل تغرب الشمس يا ترى يوميًا في هذه العين أم أن الغروب فيها حدث لمرة واحدة. إن المسلمين زمن النبي وبعده أدركوا معنى هذه العبارة غير ما فهمه صاحب هذا الكتاب حتى أن أحدًا منهم لم يسأل كيف حدث هذا الأمر الغريب حتى طالعنا اليوم وفي عصر العلم والنور الدكتور شرش بهذا السؤال الهام. أنا أعيش على السواحل الشرقية من البحر الأبيض المتوسط، وكنا في الصغر نتصور ونتخيل الشمس وهي تغرب يوميا أنها تغوص في قعر البحر. وكان يتخيل ذلك معنا أيضا بعض الناس. ولكن حين كبرنا وتعلمنا أن الكرة الأرضية مستديرة، وأن الشمس بعيدة جدًا عن الأرض وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليست الشمس حول الأرض، أدركنا ان الشمس لا تغوص في بحر ولا في عين عكس ما يبدو للناظرين، وأن هذه الحال قائمة منذ ملايين السنين دون تغيير أو تبديل. إن الذي وضع هذا النظام للكواكب هو الله خالق الكون، ومنزل القرآن الكريم الذي منه هذه الآية. وحاشا لله، أن يناقض قوله عملَه، لأن مثل هذا التناقض لم يثبته حتى الآن أي مخلوق على وجه الأرض. والقرآن لا يزال يتحدى العالم بأنه كلام الله، وأن هذا الكلام يتفق تماما مع نظام الكون الذي هو خلق الله. والإسلام قبل أي دين آخر مبني على أسس علمية، وهو الدين الوحيد الذي يمكن وصفه بدين علمي يقوم على الواقع والحقيقة.

تفسير الآية

إن الآية وما قبلها وما بعدها من آيات تتحدث عن زحف الملك قورش بجيوشه نحو الغرب حين وصل شواطئ البحر الأسود شمال شرقي تركيا، فكان يبدو لمن يقف على شواطئ البحر الأسود من الشرق أن الشمس تغرب في البحر الأسود عند الأفق المائي. والعين الحمئة (الموحلة) هو البحر الأسود، لأنه كان يبدو أسود اللون، كما أن البحر المتوسط سمي بالأبيض، والبحر الأحمر بالأحمر لأنهما كانا يتراءان للناظرين كذلك. واللفظ القرآني هنا جاء على سبيل المجاز وليس من الصعب إدراك المعنى الحقيقي، بل الصعب هو قبول ما يدعيه الكاتب المحترم.

نسخ آيات من القرآن!

يقول صاحب الكتاب: “لقد وجد المسلمون حلاًّ للتناقضات الموجودة في القرآن بقولهم أن آيات من القرآن نُسخت وأُلغيت بواسطة آيات نزلت بعدها وهي الآيات الناسخة. وهذا حسب ما علمه محمد في سورة البقرة آية 106 حيث جاء:

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

ويمضي صاحب الكتاب فيقول:

“إن هذه الفكرة مرفوضة، ولا يمكن أن ننسب إلى الله العليم الحكيم، والذي حسب هذا التعليم يُعرَض للناس كإله جاهل يملي أوامر خاطئة، ثم يصححها فيما بعد لأنها لم تثبت عمليا”.

ثم يقول:

“هناك شهادة أخرى على هذا الدين المتقلب وهو ما يتعلق في توجه المسلمين أثناء صلواتهم اليومية. لقد أمر النبي أصحابه الأوائل، وهم في مكة، أن يتخذوا الكعبة قبلة لهم أثناء الصلاة، ولكنه بعد أن هاجر إلى المدينة غيَّر هذه القبلة، وأمر بالاتجاه نحو القدس بدل مكة إرضاءً لليهود الذين كانوا مسيطرين في المدينة. وبعد 17 شهرًا غيَّر الله فكرته للمرة الثالثة، وأمره أن يتجه نحو مكة وليس نحو القدس”.

ثم يمضي إلى القول: “الإنسان يخطئ أحيانا وعليه أن يصحح خطأه، ولكن لا يمكن أن يكون مثل هذا الحال بالنسبة لله، لأن الله لا حدود لعلمه ولحكمته ولا يمكن أن يناقض نفسه. وإذا كان مثل هذا النسخ موجودًا فهل لله قرآنان؟ وما عسانا نقول فيما جاء مؤكدًا في سورة الأنعام آية 34: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ (ص 163).

أوافقك القول أن فكرة الناسخ والمنسوخ مرفوضة ولا يصح أن تنسب إلى الله العليم الحكيم الذي بحقٍ لا مبدل لكلماته. ومن هذا المنطلق لا يصح كذلك القول بأن الله أنزل على نبيه دينا متقلبًا كما يقول صاحب الكتاب وذلك بتغيير القبلة ثلاث مرات، لأنه تعالى عليم حكيم. وإذا كان هناك تناقض فليس هو بين آيات القرآن أو أوامر الله تعالى، بل التناقض هو ما بين أوامر الله وآياته وبين ما يفهمه ويدعيه بعض الناس ومنهم مؤلف الكتاب. وقد أشار الله إلى ذلك سلفاً بقوله:

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (البقرة: 143).

وفيما يلي الشرح الصحيح لموضوع الناسخ والمنسوخ وموضوع تغيير القبلة.

لا نسخ في القرآن

إنه لا أساس لذلك الاستنتاج الخاطئ أن آيات من القرآن الكريم تنسخ وتبطل آيات أخرى، ولا يوجد في الآية:

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا

ما يشير إلى أن المراد من آية هنا هو جملة أو آية من القرآن الكريم. إن لفظ (آية) يتضمن أيضا معنى رسالة أو تعليم لغويًا.

الآية السابقة واللاحقة تتحدث عن أهل الكتاب وعن حسدهم للوحي الجديد الذي نزل على رسول الله . وهذه الآية مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ … تشير إلى الوحي السابق أو الشرائع السماوية السابقة.

وهذه الشرائع كما جاءت في الكتب الدينية السابقة تشتمل على نوعين من الأوامر أو التعاليم الإلهية، الأول: تلك التعاليم التي نتيجة للأوضاع المتغيرة وبعد نزول الشريعة الجديدة الشاملة أي الشريعة الإسلامية، اقتُضِيَ إلغاؤها أو نسخها، والنوع الثاني: هو تلك التعاليم المشتملة على عقائد ثابتة ودائمة التي تحتاج فقط إلى إحياءها وتجديدها وتذكير الناس بما نسوا منها لذا كان ضروريا أن يُلغى قسم من هذه التعاليم وأن تستبدل بتعاليم جديدة وإعادة ما قد ضاع منها. هكذا استبدل الله قسمًا من هذه الشرائع السابقة بما هو أحسن منها، وأكد وأثبت تلك التعاليم التي أُهملت بتعاليم مثلها. وهذا ما يتناسب مع نص وروح التعاليم القرآنية. فالقرآن نسخ جميع الكتب الأولى، لأنه جاء بشريعة تتناسب مع الأحوال الجديدة، وتناسب الناس جميعًا، وتلائم جميع العصور والأزمان. وكل تعليم أو شريعة محدودة وبسيطة يجب أن تُفسح المجال أمام الشريعة العالمية والأكثر شمولاً. ويقر علماء اليهود أنفسهم أن نصوص التوراة قد ضاعت بكاملها بعد أن سباهم ننوخذ نصر إلى بابل. (موسوعة الكتاب المقدس).

القبلة

لا يوجد في القرآن نص أو أمر عن تعيين القبلة غير قوله تعالى:

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (البقرة: 145).

هذا هو الأمر الوحيد الوارد في القرآن عن تعيين القبلة. ولذا ليس في هذا المجال أي تناقض في أقواله وأوامره تعالى.

لقد كان النبي، وهو في مكة يتجه في صلاته نحو القدس التي كانت قبلة لأنبياء بني إسرائيل. وكان الله يعلم بذلك ولم يمنع النبي، ولكن لما كانت هذه القبلة (القدس) ذات صبغة مؤقتة، لم ينزل الله فيها نصًا قرآنيًا، الأمر الذي يدل على أن كل تعليم سماوي لا يتسم بصبغة دائمة لم يشمل في القرآن. ومن هنا فإن فكرة أن في القرآن آيات منسوخة لا أساس لها من الصحة. وكما جاء في البخاري، كان العرب يقدسون الكعبة منذ إبراهيم .

لذا فإنهم وجدوا أنفسهم أمام امتحان حين أُمروا من الرسول بالتوجه إلى القدس وهم في مكة. وهكذا جاء أيضًا في قوله تعالى:

وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ .

ومن هنا نخلص إلى النتيجة بأن النبي لم يكن يتجه إلى القدس القبلة الأولى موافقة لأهل الكتاب. مما يدل أنه لم يكن يداهن أهل قريش وهو في مكة، رغم حالة الضعف التي كان فيها، بعكس ما يدعيه بعض النقاد من أنه كان يتجه إلى الكعبة وهو في مكة لمداراة أهل مكة، ولما هاجر إلى المدينة حول القبلة إلى القدس لمداراة اليهود فيها ولاستمالتهم إليه.

لقد استمر النبي في التوجه إلى القدس مدة من الزمن بعد أن هاجر إلى المدينة (17 شهرًا كما يعترف صاحب الكتاب). ثم نزل الأمر الإلهي بأن تكون الكعبة هي قبلة المسلمين. فجاء هذا التغيير مفاجئًا لليهود وامتحانًا لهم، كما كان توجه المسلمين، وهم في مكة، نحو القدس امتحانًا للعرب. وفي الحالتين لم تكن محاولة لمداهنة واستمالة اليهود في المدينة ولا لمداهنة قريش في مكة، بل العكس من ذلك تمامًا.

ثم إن نزول الأمر بالتوجه إلى الكعبة في الصلاة، رغم أنها كانت لا زالت مليئة بالأوثان، إشارة ونبأ من الله بأن الكعبة ستخضع لسلطة النبي والمسلمين لا محالة واحتلال مكة من قبل المسلمين في بضع سنين بعدها وتحطيم الأوثان فيها بيد النبي نفسه. هذا هو من الدلائل القاطعة على صدق القرآن، وعلى أن الله منزل القرآن عليم بما كان وبما سيكون. ومن هنا فإن القول بأن آيات جاءت في القرآن الكريم نسخت آيات سبقتها وألغت مفعولها هو قول عقيم لا يقوم على دليل أو حجة. ونذكر القراء بأن الله سبحانه صدق فيما قاله عن هؤلاء المتشككين في أمر القبلة بأنهم “السفهاء”.

هل كان القرآن معجزًا

يقول صاحب الكتاب: “يدعي علماء العرب أن أسلوب القرآن الأدبي يفوق كل ما كتب في اللغة العربية. وهذا ادعاء ليس صحيحًا بالمعنى الكامل. فالقرآن لا يزيد في إلهامه وتأثيره عن رجل يبرز حكمته بقدرته الخاصة أو امرأة تظهر حسنها وفضلها بجمالها. فالكتاب يُعرف ويحكم عليه بتعاليمه والمبادئ التي ينادي بها، وليس ببلاغة عباراته وقوته الشعرية. والقرآن لا ينفرد في هذا الأسلوب الرفيع. فهناك مؤلفات عديدة امتازت بجمالها، سواء كانت مؤلفات شعرية أو دينية قديمة من قبل ظهور القرآن مثل “الفيدا” للآريين في الهند، و”الإلياذة” لهوميروس اليوناني، وشرائع حمورابي، وكتاب الأموات للمصريين القدماء. فهذه المؤلفات رغم أنها تتصف بالبلاغة النادرة لا يكفي ذلك لاعتبارها وحيًا من الله.” ثم يمضي الكاتب ويقول: “هناك أربع آيات من سورة القمر هي الآية: 1، 29، 31، 36، قد أخذها محمد وأدخلها إلى نصوص القرآن.” (ص 192)

وفي الصفحة 199 ينتقد الكتاب قواعد النحو في القرآن بأنها ضعيفة مشيرًا إلى الألفاظ الآتية:

  • في الآية 178 من سورة البقرة جاء لفظ (صابرين) والأصح أن يقال “صابرون”.
  • في الآية 160 من سورة الأعراف جاء لفظ (اثنتي عشرة أسباطا) والأصح أن يقال “اثني عشر سبطا”.
  • في الآية 162 من سورة النساء جاء لفظ (المقيمون الصلاة) والأصح أن يقال “المقيمين الصلاة”.

د. في الآية 69 من سورة المائدة جاء لفظ (الصابئون) والأصح أن يقال “الصابئين”.

ه. في الآية 10 من سورة المنافقون جاء لفظ (أكُن) والأصح أن يقال “أكون”.

و. في الآية 59 من سورة آل عمران جاء لفظ (كن فيكون) والأصح أن يقال “كن  فكان”.

وجوابنا على ما جاء أن القرآن كان وما زال قمة في البلاغة والفصاحة العربية إلى حد الإعجاز، وهذا أمر مفروغ منه. وقد اعترف بإعجازه العرب وغير العرب، وكتب في هذا الباب كثير من العلماء والأدباء أمثال أبي بكر الباقلاني والقرطبي والتبريزي والأنباري وغيرهم، وجميعهم أقروا واعترفوا أن القرآن أرفع وأسمى ما وصلت إليه اللغة العربية. كما اعترف بهذا الواقع مستشرقون كثيرون، ومن ذلك ما قاله وليم ميور، وجاء في كتابه صفحة 159: “لقد كان القرآن قمة في البلاغة العربية، وجاءت لغته بأسلوب نفيس وأكثر ما تكون تأثيرًا في الخطابة العربية”. وعلى نحو ذلك قال كل من كارل بروكلمان وزيسكين فلن يضير القرآن بشيء إن لم يعترف مؤلف الكتاب وأمثاله بهذه الحقيقة، لأنه لا وزن ولا اعتبار لتقييمهم الخاطئ هذا، بل وليسوا أهلاً لمثل هذا التقييم.

ثم ليس هناك مقارنة ما بين القرآن الكريم وكتاب الفيدا أو الإلياذة وشرائع حمورابي، ولا مجال لتشبيهها بالقرآن الكريم. قد تكون هذه المؤلفات أهم ما جاء في تلك اللغات ولتلك الأقوام، إلا أن القرآن يمتاز عن هذه جميعًا سواء من ناحية بيانه أو من ناحية مضمونه. فمن ناحية المضمون جاء القرآن يحمل للبشرية جمعاء شريعة من السماء بعكس جميع ما ذكر، فإن كان منها ما تضمن مبادئ وشرائع فقد كانت خاصة ومحدودة لتلك الأقوام. وحتى لو نظرنا إلى الإعجاز اللغوي فبالإضافة إلى كونه قمة في الأدب العربي، فقد جاء القرآن الكريم في اللغة العربية وليس بغيرها، لأنها هي أم اللغات ولا تضاهيها لغة في العالم من ناحية قوة بيانها وتعبيرها. وكُتبت مؤلفات في هذا المضمون تدلل علميًا أن العربية مصدر اللغات كلها. ولذا قال في كتابه العزيز بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . والعربي من يُحسن الإبانة والتعبير.

يبقى لي سؤال أرجو أن أعرضه للكاتب المحترم: لماذا لم يدرج ضمن قائمة المؤلفات الرفيعة المستوى الكتاب المقدس؟ ألا يرى فيه إعجازًا كما يرى في المؤلفات الأخرى التي ذكرها ومن ضمنها، “ولو إلى حد معين” كما يقول القرآن الكريم أيضًا. هل يرى في الكتاب المقدس ما هو فوق الإعجاز أم العكس من ذلك.

أما بشأن اعتراض صاحب الكتاب على بعض التعابير القرآنية من الناحية اللغوية وأنها تتنافى مع قواعد اللغة العربية، فهو اعتراض إن دل على شيء فإنما يدل على جهل الكاتب بقواعد اللغة العربية. وهذا لو أشار إلى المصادر التي اعتمد عليها في هذا الادعاء، إن كان هناك مثل هذه المصادر. ألا يتذكر أن القواعد النحوية وضعت بعد نزول القرآن بمدة طويلة، بل لقد جعل العلماء القرآن أساسًا لهذه القواعد. يذكرني اعتراف المؤلف هذا بما جرى بين الفرزدق وبين نحوي قليل العلم سريع الاعتراض. أنشد الفرزدق أبياتًا فقال النحوي للفرزدق: أنت أخطأت في بيت كذا وكذا من الناحية اللغوية. فأجابه: نحن أهل اللغة وأنتم أصحاب القواعد. علينا أن نقول وعليكم، أيها النحويون، أن تصححوا قواعدكم حسب كلامنا. فيا أيها العلامة النحوي صحح قواعدك النحوية حسب ما ورد في القرآن، لأن “نحوك” جاء بعد القرآن وبمساعدة القرآن.

هنا لا بد لي أن أعرف الكاتب بمؤلف صدر حديثًا “الإعراب في القرآن” للدكتور جمال قعوار ابن بلده الناصرة ومن أبناء ملته النصرانية. وكان هذا موضوع بحثه لأطروحة الدكتوراه في الأدب العربي. وفيه يقول: “النحو العربي نشأ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالقرآن. بدأ على يد أبي الأسود الدؤلي بنقط المصحف نقط إعراب بعد اللحن فيه. ثم ازدهرت الحركة النحوية بقيادة الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه. وكانت آيات القرآن الشواهد الرئيسية لعلماء النحو الأوائل مثل سيبويه صاحب أول كتاب كامل وصلنا في هذا العلم، وكذلك شواهد المدارس النحوية الأخرى. ولذا أُدخل علم الإعراب في علم التفسير حتى اعتبره البعض فرض كفاية.”

وليت الكاتب، لزيادة المعرفة، تصفح مؤلف الشيخ ناصيف اليازجي “عقد الجمان في علم البيان” الذي ضمنه أمثالاً وشواهد من آيات القرآن الكريم من أوله إلى آخره، حتى لا يُفضَح.

من هنا يبدو لي أن محاولة صاحب الكتاب للتشكيك في سلامة لغة القرآن العربية جاءت أشبه بمحاولة مسيلمة الكذاب تنصيب نفسه نبيًا وتحديه فصاحة القرآن وبلاغته بتأليف عبارات ركيكة تخلو من المضمون والمنطق مثل قوله: “يا ضفدع لِم تنقنقين؟ لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين.”

والآن إليكم ردًا موجزًا لتلك الاعتراضات العقيمة. وقد اعتمدت فيه على شرح الزجاج لآيات القرآن الكريم وتفسير الجلالين.

  • كلمة (الصابرين) في الآية 178 من سورة البقرة جاءت منصوبة على المدح أو التخصيص بمعنى أخص أو أمدح. ..وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ .
  • (اثنتي عشرة أسباطا) في الآية 160 من سورة الأعراف. كون هذا اللفظ جمع تكسير يجوز اعتباره جمع مؤنث وأن يقال وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا .

ج.   (المقيمون الصلاة) في الآية 162 من سورة النساء. حيث أن لفظ “لكن” في الآية خفضت يلغى عملها ويكون إعمالها جوازًا لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا .

د.  (الصابئون) في الآية 69 من سورة المائدة. الصابئون في الجملة “الصابئون والنصارى من آمن بالله (منهم) واليوم الآخر” جاءت مبتدأ مرفوعًا. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

ه. (أكُنْ) في الآية 10 من سورة المنافقون. في مواضع مختلفة من القرآن الكريم تحدف جمل وحروف كقوله تعالى: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ أي (يقيموا الصلاة) (إبراهيم: 31)

و. (كُن فيكون) في الآية 59 من سورة آل عمران. إن ظاهرة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ظاهرة غنية في القرآن. من ذلك قوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ

وقوله في سورة النمل: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ، ثم بالنظر إلى التوخي الزماني بين إنشاءٍ وإيجاد الروح فيه ثم تصييره لحمًا ودمًا زمان طويل ولكونه يتكون شيئا فشيئا اختير من زمن المضارع وليس الماضي.

ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ

هذا ما يتعلق بإعجاز القرآن من الناحية اللغوية وهو الإعجاز الأصغر. أما إعجازه الأكبر فهو في مضمونه والتعاليم والمبادئ التي حملها لنا وإني أوافق صاحب الكتاب بأن هذه الناحية هي الأهم والأعظم. وفي هذا لا يسعني إلا أن أكرر ما أعلنه وأكد عليه القرآن بأنه هو الشرع الإلهي الأكمل لكافة الناس لم ولن يرقى إلى مستواه كتاب أو شرع آخر. لم يكن هذا مجرد ادعاء وإعلان، بل جاء معه تحدِ قاطع لا زال قائما منذ أن نزل القرآن وحتى يومنا هذا كما جاء في الآية الكريمة:

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا

ولقد مضى على هذا التحدي ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمن ولم يقم بعد من ينبري لهذا التحدي ويقدم للعالم مثيل هذا القرآن في شرعه ومبادئه وقوة بيانه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك