التفسير المقارن الحلقة الأولى

التفسير المقارن الحلقة الأولى

عبد الله أسعد عودة

المقدمة:

أُقدِّم فيمايلي للقرَّاء الكرام بعض النماذج من التفسير المقارن. حيث سأُقدِّم تفسيراً لعدد من آيات القرآن الكريم كما جاء في بعض كتب التفسير المتداولة بين المسلمين، وبالمقابل أُقدِّم تفسيراً لتلك الآيات حسب مفهوم الجماعة الإسلامية الأحمدية، أو بالأحرى وفقاً لتفسير مؤسِّسها حضرة المرزا غلام أحمد المسيح الموعود والمهدي المنتظر عليه السلام. وهذه التفاسير قد جُمعت في عهد خليفته الثاني رضي الله عنه في كتابٍ يقع في حوالي 8000  صفحة باللغة الأردية والمسمَّى بالتفسير الكبير. لقد أخذت هذه النماذج عن تراجم ملخصة لهذا التفسير. ولكني قبل أن أشرع بتقديم هذه المقارنة أرى من الفائدة أن أعرض لموضوع التفسير عامةً في السطور القليلة الآتية.

فالتفسير هو الإيضاح والتبيين، وهو ذلك العلم الذي يبحث في القرآن من حيث دلالته والكشف عن معاني ألفاظه، وقد اعتُبرَ من أشرف العلوم الدينية إن لم يكن أشرفها، ذلك لأنّه يبيّن لنا ((مراد الله)) تعالى من كلامه العزيز.

ويُذكر مع التفسير عادةً ((التأويل)) وهو اصطلاح يحمل معنى التبيين والإيضاح أيضاً، إلا أنَّ البعض يرى في التفسير بياناً لما هو ظاهر بينما التأويل بيانٌ لما هو غير ظاهر. فيقول الألوسي مثلا: ((للتفسير صبغة أكثر ظاهرية بينما للتأويل صبغةٌ أكثر عمقاً)). ومع ذلك يمكن اعتبار التأويل معنى مرادفاً للتفسير.

وخلاصة القول فإنَّ التفسير مفتاح علوم القرآن وبدونه لا يمكن أن نصل إلى هذه العلوم ولو ردَّدنا ألفاظ القرآن كل يوم ألف مرة.

أنواع التفسير

ومن التفاسير ما لا تتجاوز شرح المفردات والألفاظ وإعراب الجمل القرآنية، وهي  أقرب إلى التطبيقات اللغوية منها إلى التفسير والتبيين عن مراد الله تعالى من كلامه العزيز. وهناك تفاسير تهدف إلى تجلية تعاليم القرآن وإظهار أحكام الشريعة، وهذه كما يقول الإمام الرازي هي الأجدر أن تُسمَّى تفاسير.

لقد جدَّ أسلافنا واجتهدوا في استخراج علوم القرآن، وكان همهم أن يفهموه قبل أن يحفظوه. فعظُمَتْ أفعالهم، وكانوا موضع إعجاب التاريخ والمؤرِخين. ثم أهملوا البحث والدراسة والتدبُّر وأغلقوا باب الاجتهاد واكتفوا بحفظ ألفاظ القرآن وترديدها في المناسبات، ونسوا أنَّ بركة القرآن في تفهُّمه والتدبُّر في ألفاظه، غافلين عن قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وأصبحوا كما وصفهم الزرقاني: ((أشبه بالعطشى يموتون من الظمأ والماء بين أيديهم)).

وقد قيل للإمام محمد عبده يوماً بأنَّ الشيخ فلاناً قد حفظ القرآن عن ظهر قلب. فأجاب: ((لقد زِيدَتْ نسخة في السوق)).

لقد جاء سيدنا أحمد عليه السلام مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية تحقيقاً لتطلُّعات المسلمين وأمانيهم. فكان همّه الأول إحياء علوم القرآن، وكان شعاره: ((ألا لا كتاب لبني نوع الإنسان إلا القرآن..)) وحين سُئل خليفته الثاني رضي الله عنه: ما الحاجة لتفسيرٍ جديد مع كثرة التفاسير الموجودة؟ أجاب: ((إنَّ الحاجة ملحة اليوم لتفسيرٍ جديد، لأن العلوم الحديثة والتطورات الحضارية قد وضَعتْ الكتب السماوية بتعاليمها وشرائعها أمام امتحانٍ مصيري وصعب. فإما أن تُثبت هذه الكتب جدارتها وأهميتها في وجه هذه التطورات العلمية الحديثة أو تتلاشى وتختفي عن الأنظار. وإذا قصّرنا، لا سمح الله، في هذا الأمر فلا يحقُّ لنا أن ندَّعي أنَّ القرآن يشتمل على تعاليم حيّة وثابتة)).

وهناك نقطة أساسية وهامة تجدر الإشارة إليها وهي أن من يُقدم على تفسير القرآن الكريم يجب أن تتوفر فيه أولا، وقبل كل شيء طهارة القلب وصلاح النفس، لأن كلام الله كما قال تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ . وفي إحدى خطباته الأخيرة قال إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية مولانا طاهر أحمد، أيّده الله: ((القرآن الكريم كلام الله، وليس ككلام البشر. ولذا لن يكون بمقدور أحد أن يفهمه أو أن يشرحه شرحاً صحيحاً، إلا إذا توفرت فيه درجة ملموسة من الصلاح والتقوى وطهارة النفس)).

يمكن تقسيم التفاسير إلى نوعين أساسيين: الأول تفسير ((نقلي)) والثاني تفسير ((عقلي)). ويعتمد التفسير الأول كليةً على ما رُوي عن السلف، سواء من عهد النبي الكريم أو الصحابة التابعين. وكان هذا النوع من التفسير هو السائد في صدر الإسلام. وأشهر هذه التفاسير تفسير الطبري، ثم تبعه تفسير ابن كثير والثعالبي.

أما التفسير ((العقلي)) فيعتمد على ما صحَّ عن السلف، لكن أصحاب هذه التفاسير قاموا باجتهادات شخصية استناداً إلى ما جاء في القرآن الكريم من حضٍّ على الاجتهاد كقوله تعالى:

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ .

وقالوا بأنَّ النبي كذلك حضَّ على الاجتهاد وإلا فما معنى قوله لعبد الله ابن عباس: [اللهُّمَ عَلِّمهُ التَأويل]. وهل التأويل غير التفسير بالاجتهاد والرأي. ومن أهم هذه التفاسير تفسير الإمام الرازي ((مفاتيح الغيب)) ثم تفسير الزمخشري ((الكشَّاف)). أضف إلى ذلك تفاسير الشيعة التي تتسم بنزعة اجتهادية ومن أهمها تفسير الطوسي ثم تفسير الطبرسي.

الإسرائليّات

وهناك ناحية أخرى لا بد من الإشارة إليها ونحن نتحدث عن التفسير والمفسرين هي ((الإسرائليات))، وهي الروايات التي أخذها المفسرون عن أهل الكتاب وخاصة علماء اليهود، وهو موضوعٌ لا زال مثار جدل بين علماء المسلمين. هذه الإسرائيليات أكثر ما نجدها في التفاسير النقليّة وأخصُّ منها الطبري. وقلما نجدها في التفاسير العقلية مثل الكشَّاف للزمخشري. ومن المفسرين من حذَّروا منها كالألوسي. فقد جاء في البخاري ((كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)) أنَّ النبي قال:

((لاتُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُهم، وَقُولُوا : آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا )).

  هذا ولا بدَّ من القول أنّه إذا وُجِدت في الإسرائيليات روايات لا تتفق مع الحقيقة فلا يعني ذلك بالضرورة أنَّ جميع من أسلموا من اليهود كانوا موضع شكٍّ وريبة. فقد كان منهم المخلصون والمقرَّبون إلى النبي وخلفائه أمثال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي من قبيلة بني قريظة. وقد برز من النصارى ابن جريح الرومي ويُقال إنّه أول من صنَّف الكتب في الإسلام.

يقول ابن خلدون:

((لم يكن العرب أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأميّة. فإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء من أسباب المكوّنات وبدء الخليقة سألوا عنه أهل الكتاب واستقبلوه منهم. فلما أسلم هؤلاء العرب بقوا على ما كان عندهم، فامتلأت التفاسير مما نُقِلَ عنهم)).

  ويقول المرزا محمود أحمد الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام في هذا الصدد:

((عندما كُتِبت التفاسير الأولى لم يكن الكتاب المقدَّس مترجماً بعد إلى اللغة العربية. فكلما نشأت حاجة لشرح أمرٍ يتعلق بالتوراة أو الإنجيل سألوا علماء اليهود والنصارى وقبلوا ما سمعوه منهم دون أن يتسنّى لهم دراسة النصوص الأصلية. ولكن هذه الشروح بدت أحياناً مخيّبة للآمال وهزيلة، لأنها كانت تصدر عن نوايا غير مخلصة. وقد أظهر المفسِّرون المسلمون في هذه المسألة سذاجة وعدم حيطة، بينما أظهر علماء اليهود والنصارى عدم الأمانة. أما اليوم فلدينا تراجم عديدة لنصوص الكتاب المقدَّس، وأصبح من الميسور التعرُّف على هذه النصوص من مصادرها الأولى)).

  إنَّ كل مسلم مُخلص غيور عندما يتصفح التفاسير المتداولة اليوم بين أيدي المسلمين لا بدّ أن يُصاب بشيءٍ من الحيرة والذهول، ليس لاختلاف آراء المفسرين، ولكن لكثرة الأخطاء الفاحشة التي لا يقبلها العقل السليم، خاصةً لما انطوت عليه هذه التفاسير من الطعن والمسِّ بمقام النبي الكريم وغيره من الأنبياء، وكذلك المسّ بالقرآن الكريم. ولا أتجاوز الحقيقة إن قلت بأنَّ بعضها مسّاً حتى بذات الله تعالى كما سيتبيّن للقارئ النزيه من خلال النماذج المعروضة.

مهمة التصويب

يبقى أمامنا السؤال الكبير والملحّ: من الذي يقدر على تصحيح هذه الأخطاء وتنقية هذه التفاسير التي تملأ المكتبات الإسلاميّة، والتي للأسف، لا زالت تكوِّن القاعدة والأساس لأعداء الإسلام وعلى الأخصّ المستشرقين المغرضين للانقضاض والهجوم على هذا الدين الحنيف ونبيّه الكريم .

إنّها ولا شكّ مهمة كبرى ورسالةٌ عُظمى لا يمكن أن يقوم بها إلا من كان حراً مستقلاً بعيداً عن السلطة والتيارات السياسيّة، والأهم من كل ذلك أن يكون تقيّاً نقيّاً ومؤيَّداً من الله تعالى. مثل هذا الرجل فقط يمكنه أن يأتي لنا بالتصحيح السليم لهذه الأخطاء ويقدّم للمسلمين المفاهيم الصحيحة حول الآيات المختلف عليها.

وإنّه لمن حُسن الطالع أنّ الله تعالى قد منَّ على المسلمين بظهور هذا المـُصلح العظيم والذي كان ينتظره المسلمون ويُعلِّقون على ظهوره الآمال الكبار. ألا وهو المسيح الموعود والمهدي الذي سينهض بالإسلام في الزمن الأخير والذي قد أنبأنا عنه النبي ووصَّى المسلمين بأن ((يُبايعوه ولو حَبواً على الثلج))، لأنّه ((نبيُّ الله))، ((والحَكَم العَدْل)). (صحيح مسلم).

وقد أعلن مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية المرزا غلام أحمد (1835، 1908) بأمرٍ من الله تعالى أنّه هو ذلك المهدي والمجدِّد الأعظم لهذه الأمة. وقد قال في كتابه التبليغ:

((لقد افترقت الأمة وتشاجرت الملّة. فمنهم الحنبلي، ومنهم الشافعي، ومنهم المالكي، ومنهم الحنفي، ومنهم حزب المتشيّعين. فأرسلني ربي لأستخلص الصياصي، وأستدني القاصي، وأُنذر العاصي، ليرتفع الاختلاف، ويكون القرآن مالك النواصي وقبلة الدين)).

وهذه النماذج من التفسير الأحمدي إنّما هي شواهد وحجج ناطقة على صدق دعواه وبأن علم القرآن وبيانه في هذا العصر إنما قد أُعطي له ولأتباعه.

لقد اعتمدت في هذه المقارنة على نماذج من كتب المفسرين الثلاثة المعروفين وهم: الزمخشري والجلالين والبيضاوي.

النموذج الأول

جاء في سورة الحج قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (53)} (الحج: 53

تفسير الجلالين

((ألقى الشيطان في أُمنيّته أي قراءته (أي قراءة النبي) ما ليس من القرآن مما يرضاه المرسل إليهم (أعني أهل قريش). وقد قرأ النبي في سورة النجم بمجلسٍ من قريش بعد الآية: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ بإلقاء الشيطان على لسانه. والآية تدلُّ على جواز السهو على الأنبياء وتطرُّق الوسوسة إليهم)).

   ثم يقول في أسباب النزول:

فلما بلغ (النبي) آخر آية: اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ألقى الشيطانُ على لسانه: ((تلك الغرانيقُ العُلى وإنَّ شفاعتهم لَتُرتَجَى)). فقال المشركون ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم. فسجد وسجدوا. فنزلت الآية (المذكورة أعلاه).

البيضاوي

((تمنّى النبيُّ لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يٌقرِّبهم إليه. واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم، فنزلت عليه سورة ((النجم)). وأخذ يقرأها حتى بلغ: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ . فوسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال: ((تلك الغرانيقُ العُلى وإنَّ شفاعتهم لَتُرتَجَى)). ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبقَ بالمسجد مؤمنُ ولا مشركٌ إلا سجد. ثم نَبَّهَه جبريل. فأغمَّ به فعزَّاه الله بهذه الآية. والآية تدلُّ على جواز السهو على الأنبياء وتطرُّق الوسوسة إليهم)).

الزمخشري

السبب في نزول هذه الآية أنَّ النبي لما أعرض عنه قومه وشاقّوه وخالفه عشيرته ولم يُشايعوه، تمنّى ألا ينزل عليه ما يُنفّرهم لعله يستميلهم. واستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه. فأخذ يقرأها ولما بلغ: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ألقى الشيطان في أُمنيّته التي تمنّاها، أي وسوس إليه. فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: ((تلك الغرانيقُ العُلى وإنَّ شفاعتهم لَتُرتَجَى)). فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم. وكان ذلك محنةً من الله وابتلاء زاد المنافقون به شكّاً والمؤمنون إيقاناً. والله له أن يمتحن عباده بما شاء)).

في هذه التفاسير مسٌّ واضح بقداسة النبي وعصمته ونقضٌ لما أكّده عنه القرآن الكريم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ . كذلك لا يتفق ما قاله هؤلاء المفسرون مع قوله تعالى للشيطان:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ،

وكم بالحريّ على عبده الأكرم والأسوة الحسنة .

التفسير الأحمدي

((لقد وقع بعض المفسِّرين وهم يشرحون هذه الآية في كثيرٍ من الحدس والتخمين نتيجةً لجهلهم وقلّة احترازهم. فجاء الكُتَّاب المسيحيون المتحاملون على الإسلام فأسأوا تفسيرها وشوّهوا معناها عن قصد.

فقد قيل إنَّ النبي وهو في مكة في أحد الأيام كان يُرتِّل الآيتين من سورة النجم:

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ،

فألقى الشيطان في لسانه العبارة الآتية: ((تلك الغرانيقُ العُلى وإنَّ شفاعتهم لَتُرتَجَى)). واعتبروا ذلك ((زلّةً)) من محمد أو ((مهادنة)) منه للوثنيين من قريش. بينما الواقع أنّه لم يُهادن النبي الوثنيين ولم تصدر عنه زلّةٌ قط. وإن كان هناك زلّة ما فقد حدثت في أدمغة أولئك النُّقاد أعداء الإسلام، الذين كانوا دائماً يترقّبون ويسعون لاكتشاف هفوةٍ أو زلّةٍ تصدر عن النبي. وحين لم يجدوها فإنّهم كانوا يختلقونها ثم ينسبونها إلى النبي الكريم .

يقولون: إنَّ الآية تُشير إلى تلك الحادثة. ونحن هنا سنترك تفسير الآيات الواردة في سورة النجم إلى مناسبةٍ أخرى ونكتفي بالقول إنَّ هذه القصة تؤكّد على حقيقة أنَّ سورة النجم حسب إجماع العلماء كانت قد نزلت في مكة وفي السنة الخامسة للدعوة. بينما نزلت سورة الحج التي جاء فيها فَيَنسَخُ اللَّه ُمَايُلْقِي الشَّيْطَانُ في المدينة المنوَّرة أو قُبيل الهجرة بقليل، أي بعد نزول سورة النجم بحوالي ثماني سنوات. فلا يُعقل أن يكون الله قد تمهَّل ثماني سنوات ليُشير إلى تلك الحادثة المتعلِّقة بسورة النجم. ويظهر بأنَّ هذه القصة قد نشأت استناداً إلى الرواية الكاذبة التي جاء بها الواقدي، والذي تشكُّ بأمانته جميع المصادر الموثوقة. فمن الغرابة بمكان أن تُنسب مثل هذه الروايات إلى ذلك النبي البريء غير المتهادن. الذي قضى حياته يحارب الوثنية والوثنيين.

وعدا عن ذلك فإنَّ نصَّ الآية يُكذِّب هذه القصة وكذلك الآيات السابقة واللاحقة بها، حيث تشتمل هي أيضاً على نفي قاطع للوثنية، بل يمكن اعتبار السورة كلها حرباً على الشرك والوثنية.

بالإضافة إلى ذلك فإنَّه ليس في ألفاظ الآية نفسها ما يدعو إلى تلفيق هذه الكذبة الصارخة. فقد جاء فيها بوضوحٍ تام أنّه كلما قام نبي، وسعى لتحقيق هدفه والدعوة لرسالته من أجل إقرار التوحيد على الأرض فإنَّ الشيطان يضع في طريقه الموانع والعراقيل؛ بمعنى أنَّ جميع قوى الشرّ يحاولون منع انتشار ذلك الحق بالتصدّي لذلك النبي ووضع جميع العراقيل في سبيل تقدُّم دعوته، أملاً منهم في إحباط مساعيه وإفشال رسالته. لكن إرادة الله لا يقدر على ردِّها وإبطالها أحد، وهو سبحانه كقيلٌ بإزالة كل العقبات لإظهار الحق. وهذا المعنى الواضح واليسير هو ما يتفق مع نصِّ الآية الكريمة. وفي قوله تعالى في الآية التالية: فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ تأييدٌ قويٌّ لهذا المفهوم.

ثم إنَّ الآية التي نحن بصددها تحمل معنىً كبيراً آخر وهو أنَّ مثل هذا التأييد الإلهي يحدث بالنسبة للأنبياء ككل، ولا يصحُّ القول بأنّها تتعلّق بالنبي الكريم فقط، والواقع التاريخي يؤيّد هذا القول. لكن أعداء الإسلام والمستشرقين الذين يطعنون فيه راحوا يُشوِّهون سمعة النبي بعد أن عِيلَ صبرهم في إيجاد خطأ أو زلّة ينسبونها إليه .

كما أنّه من الخطأ بمكان القول، كما جاء عند بعض المفسرين، بأنَّ الشيطان قد يتدخّل أو يمسّ طهارة وصفاء الوحي القرآني؛ لأنَّ الله تكفّل الحفاظ عليه من كل تدخُّل أو تحريف كما قال في سورة الحِجر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . وكما قال في سورة الجن:

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا .

النموذج الثاني

جاء في سورة الأحزاب قوله تعالى:

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّـهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ مَفْعُولًا . (الآية: 37).

الجلالين

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله قبل البعثة وأعتقه وتبنَّاه. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ ،

أي مُظهره من محبتها وأَنْ لو فارقها تزوّجتها. وَتَخْشَى النَّاسَ أن يقولوا: تزوَّج من زوجة ابنه. وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ في كل شيء وتزوَّجها، ولا عليك من قول الناس. ثم طلَّقها زيد وانقضت عدّتها.

قال تعالى: فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا حاجة زَوَّجْنَاكَهَا . فدخل عليها النبي بغير إذن وأشبع المسلمين خبزاً ولحماً.

لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ مَفْعُولًا

مضيه.

البيضاوي

ذلك أنه عليه الصلاة السلام أبصر زينب بعد ما أنكحها زيداً. فوقعت في نفسه، فقال:((سبحان الله مُقلِّب القلوب)). وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرت لزيد، ففطن، ووقع في نفسه كراهة صُحبتها. فأتى النبي وقال: أتريد أن أفارق صاحبتي؟ فقال: ما لكَ؟ أَرَابكَ منها شيء؟ فقال: لا، والله ما رأيتُ منها إلا خيراً، ولكنها لشرفها تتعظَّمُ عليّ. فقال له: أمسِكْ عليك زوجكَ واتقِ الله. فلما قضى زيد منها وطراً (حاجة) بحيث ملَّها ولم يبقَ له فيها حاجة. وطلَّقها وانقضت عدّتها، زوَّجناكها بلا واسطة عقد. فكانت تقول لسائر نساء النبي: إنَّ الله تولّى إنكاحي وأنتنَّ زوَّجكُنَّ أولياؤكُنَّ.

الزمخشري

أبصر رسول الله زينب بعد ما أنكحها لزيد، فوقعت في نفسه فقال: سبحان الله مُقلِّب القلوب، وذلك أنَّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك.. لا تريدها ولو أرادتها لاختطبتها. وسمعت زينبُ بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففطن، وألقى الله في نفسه كرهة صُحبتها والرغبة عنها لرسول الله . فقال لرسول الله: أُريد أن أُفارق صاحبتي. فقال: ما لكَ؟ أَرَابكَ منها شيء؟ فقال: لا، والله ما رأيتُ منها إلا خيراً، ولكنها تتعظَّمُ عليّ لشرفها. وتؤذيني. فقال له: أمسِكْ عليك زوجكَ واتقِ الله. ثم طلَّقها. فلما اعتدَّت قال رسول الله : ما أجد أحداً أوثق في نفسي أخطبه على زينب. قال زيد: فانطلقتُ فإذا هي تُخمِّر عجينتها. فلما رأيتها عظُمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمتُ أنَّ رسول الله ذكرها. فولّيتها ظهري وقلت: يا زينب أبشِري، إنَّ رسول الله يخطِبُكِ. ففرحت وقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أُؤَامِرَ ربي (أي أستخير). فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن: زَوَّجْنَاكَهَا . فتزوّجها رسول الله ودخل بها. وما أولَمَ على امرأةٍ من نسائه ما أولَمَ عليها؛ ذبح شاةً وأطعم الناس الخبزَ واللحم حتى امتدَّ النهار)).

مثل هذه التفاسير اتخذها أعداء الإسلام سلاحاً حاداً للطعن بشخص النبي الكريم واتهامه بأنّه كان رجلاً شهوانياً، والعياذ بالله. من هنا كان لا بد من الدفاع عن شرف ذلك النبي الكريم بكل قوة، لأنّه بريءٌ من هذه التُّهم الباطلة والملفقة أو المدسوسة. ومَنْ غير الجماعة الإسلامية الأحمدية يقوم بهذا العمل الشريف الجبار؟

تفسير الأحمدية

حيث إنَّ الآية وردت في حادثةٍ لها أهمية تاريخية كبرى فمن الضروري شرح هذه الآية بشيءٍ من التفصيل. زيد بن حارثة الذي تُشير إليه الآية: أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ كان ينتمي إلى قبيلة بني كلب. خُطِفَ وهو طفل وبِيْعَ في سوق العبيد بمكة. وقد اشتراه أخو خديجة وأسلمه إليها. وعندما تزوَّجت النبي أهدَتْهُ إياه. فأعتقه النبي في الحال. وكان زيد شديدَ التعلُّق بالنبي إلى حدِّ أنه حين قدِمَ أبوه وعمه ليُعيداهُ إلى أمّه التي حزنت عليه كثيراً وافق النبي دون تردُّد، لكن زيداً أبى أن يُفارق النبي قائلاً: إنّه أعزُّ عليه من أبيه وأمه. وقد كان النبي متأثِّراً من إخلاص زيد وحبه له حتى اتخذه ابناً له، وأصبح زيد بعدها يُعرف بأنّه ابن النبي. وقضى حياته صحابياً مخلصاً ومحبَّباً إلى النبي إلى أن ختم ذلك الولاء بتقديم دمه في معركة مؤتة.

أما زينب فكانت بنت عمّة النبي من دمٍ عربي عريق، فخورةً بنسبها ومركزها الاجتماعي العالي. وقد قدَّم الإسلام للعالم حضارةً وثقافةً لا طبقيّة فيها ولا سيادة ولا امتيازاً موروثاً. الجميع أحرار متساوون في نظر الله. وقد أراد النبي أن يبدأ بتطبيق هذه المبادئ السامية بين أفراد عائلته، فشاء أن يُزوِّج زينب إلى زيد الذي رغم إعتاقه وتبنّي النبي له ظلَّ يشعر بوصمة العبودية، تلك الوصمة التي سعى لإزالتها بذلك الزواج. ونزولاً عند رغبة النبي قبلت زينب العرض، وتحقَّقت غاية النبي، وتحطَّمت بذلك الزواج جميع الفوارق والتمييز الطبقي قولاً وعملاً. لكن الزواج لم ينجح، ليس بسبب الفوارق الاجتماعية بين زيد وزينب، بل بسبب عدم التوافق بين مزاجيهما، وإلى حدٍّ ما بسبب شعور زيد بالنقص إزاء زوجته رفيعة النسب.

حزن النبي على ذلك الفراق رغم أنّه حقّق غاية مفيدة أخرى حيث تزوَّج النبي نفسه من زينب فيما بعد كما جاء في آخر الآية، وبذلك اقتُلعت من جذورها عادةٌ كانت متأصلة عند العرب، وهي أنّهم اعتبروا من قبيل الدنس أن يتزوَّج امرؤٌ زوجةَ مَن قد تبنَّاه. وبذلك أُبطلت عادةُ التبنِّي ومعها أُبطلت أيضاً هذه الفكرة الخاطئة. وهكذا خدم زواج زينب غايةً نبيلةً، وخدم طلاقها غايةً نبيلةً أخرى.

أما قوله تعالى: وَاتَّقِ اللَّـهَ فيُشير إلى أنَّ زيداً كان يريد أن يُطلّق زينب، فطلب إليه النبي ألا يفعل ذلك، لأنَّ الطلاق بغيضٌ في نظر الله. وقوله تعالى: وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ، يمكن أن يُنسب إلى النبي وإلى زيد أيضاً. وفي حالة تعلُّق هذا اللفظ بزيد فيكون المعنى أنَّ زيداً لم يرغب أن يُظهر أمر الطلاق، لأنَّ السبب يقع عليه وليس على زينب. وأما إذا اعتبرنا اللفظ متعلِّقاً بالنبي فيكون معناه: حيث إنَّ الزواج بين زيد وزينب تمَّ بواسطته وبرغبته فإنّه لم يكن يتمنّى له الفشل، وخاف أن يُتّخذ ذريعةً لعدم نجاح التجربة الإسلامية ويُسبّب ارتباكاً فكرياً لدى ضِعاف الإيمان. هذا هو القلق الذي تُشير إليه الآية في قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ . وكما ورد أعلاه كان للهِ غايةٌ في فشل هذا الزواج إذ أراد سبحانه أن يُبيّن بأنَّ ليس فيه ما يخشى منه. بل كان فيه بركة خفيّة، وبأنّه سيخدم غرضاً عظيماً وسامياً.

لقد وجد بعض النُّقاد المعادين للإسلام في زواج النبي من زينب سبباً للتهجُّم على النبي، إذ قيل بأنَّ النبي حين رأى زينب فُتِنَ بجمالها، ولما علم زيد بحبِّ النبي لزينب ورغبته في الزواج منها حاول أن يُطلِّقها. لكن الحقيقة أنَّه حتى أعداء النبي الألدّاء الذين جرت هذه الحادثة أمام أعينهم لم يجدوا سبباً لأن يتهموا النبي وينسبوا إليه هذه الدوافع الدنيئة التي نسبها له هؤلاء النقاد بعد قرونٍ من الزمن. وهذه الحقيقة تهدم من أساسه ذلك الاتهام السافل.

لقد كانت زينب بنت عمّة النبي ، وكونها قريبةً له كان لا بدَّ أن رآها وأبصر جمالها مراتٍ عدّة، لأنَّ الحجاب لم يكن قد فُرِضَ بعد. عدا ذلك فإنَّ زواجها من زيد قد تمَّ بناءً على رغبته.

ومن الأمور المؤكدة أن زينب وأخاها كانا يرغبان أن يتم زواجها من النبي قبل أن تزف إلى زيد. فما الذي كان يمنع النبي يا ترى أن يأخذها لنفسه وهي ما زالت بكرًا؟ من كل ذل يتبين أن القصة بكاملها تلفيق واختلاق ومن نتاج خيال أولئك النقاد المعادين، وإنها لإهانة للعقل البشري أن تصدر منه مثل هذه الأباطيل.

ولكن مع وجود نقاد مثل ميور ومارجوليوث الذين يران في زواج النبي خطأ بل وذنبا، هناك آخرون أرجح علما وأكثر أمانة ونزاهة كالقس بوزوورت سميث المحترم الذي لا يرى في هذا الزواج عيبًا، وإليكم ما يقوله في كتابه “محمد والمحمدية”:

“يجب أن لا يغيب عن البال أن معظم زيجات النبي يمكن وصفها أنها كانت تتسم بالإشفاق على من تزوج منهن أكثر مما هو لدوافع أخرى. لقد كان أكثرهن من النساء الأرامل ولم يكن فاتنات لا لجمالهن ولا لمالهن، بل العكس صحيح. هذه الحقيقة تتجلى في إخلاصه لخديجة حتى بعد وفاتها بحث لم يتزوج من غيرها حتى وصل سن الخمسين. وفي ذلك عامل آخر يؤيد القول بأن سوء الفهم وسوء النية تدخلا في قصة زينب”  (البشرى، المجلد 48، الأعداد 1 إلى 6)

Share via
تابعونا على الفايس بوك