الفضل ما شهِدت به الأعداء
قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (17)

 

شرح الكلمات:

لا أدراكم: دَرَى الأمرَ يدري دَرْياً ودِرايةً: عَلِمه. أدرى به إدراء: أعلمه (الأقرب)

فقد لبثت: لبثت بالمكان يلبث لَبثاً ولُبثاً ولباثاً: مكث وأقام (الأقرب).

و”قد” إذا دخلت على الماضي صيّرته ماضياً قريباً. فالمعنى أنني قد أقمت بينكم باستمرار إلى ما قبل نبوّتي ولم أغب عنكم في هذه الفترة.

التفسير:

قوله تعالى قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ . أي يا من تُطالبونني بتغيير القرآن أخبِروني شيئاً: لو كان في تغيير القرآن نفع، وكان استبداله كعلاجٍ روحاني لكم بعلاجٍ آخر مفيداً، أما كان حرياً بالله تعالى أن يصف لكم منذ البداية العلاج الناجع؟ وما الداعي لإعطائكم هذا العلاج العديم الجدوى؟

هذه الجملة تمثّل ضربةً قاضية على نظرية النسخ في القرآن. ذلك أنَّ النسخ إنما يكون في الأحكام والتعاليم لسببٍ واحد، ألا وهو أنَّ بعض التعاليم تنفع في ظروفٍ معينة ولا تنفع في ظروفٍ أخرى، فتمسُّ الحاجة إلى غيرها، أما إذا بقيت الظروف على ما هي عليه ونُسخ مع ذلك حكم وتعليم لأدّى هذا الاعتقاد بأنَّ ذلك التعليم لم يكن مفيداً في حدّ ذاته، وكان عرضه على الناس خطأ. وإلى هذه الحقيقة نفسها قد أشار الله هنا وأمر رسوله أن يقول لهم: ألا ترون أنه لو كان هذا التعليم عديم الجدوى بالنسبة لكم، بينما يوجد هناك تعليمٌ آخر قادر على إصلاحكم، لما عرضت عليكم هذا التعليم بأمرٍ إلهي ولما أنزله الله لكم، بل لأتى لكم بغيره.

وقوله تعالى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ يقدّم معياراً رائعاً لمعرفة صدق أي مدّعٍ بالنبوة، بل إنه يمكِّننا من معرفة أي إنسان على حقيقته شريطة ألا يطبَّق هذا المعيار على نحوٍ خاطئ.

لقد نبّه الله رسوله هنا إلى أن يعرض على الكفار صورة حياته التي عاشها بينهم قبل دعوى النبوة أو نزول القرآن كشهادة على صدقه، فيقول لهم: لقد عشتُ تلك الفترة بينكم مثالاً فريداً للطُهر والصدق وليس بين حياتي السابقة وبين دعواي أي فاصلٍ زمني غبتُ فيه عن أنظاركم لتظنُّوا أنني قد فسدت في فترة الغياب تلك. وما دمتم تُسلّمون وتعترفون بأنني عشت طوال عمري بينكم كإنسان صادقٍ بار حتى سمّيتموني “الصدوق الأمين” فكان ينبغي أن أنال نعمةً وفضلاً كجزاء على صالح أعمالي، بدلاً من أن أصير فجأةً مفترياً ماكراً. إذ كيف يمكن لمن كان بالأمس أصدَقَ إنسانٍ بين القوم أن يصبح في ليلةٍ وضحاها أكذب مخلوق على وجه الأرض، لأنه لا أحد يكون أكذَبَ ممن افترى على الله كذباً، وكيف يمكن لمن لا يكذب على الناس ان يتجاسر على الافتراء على الله عز وجل؟

الواقع أنَّ الفطرة الإنسانية لا يحدث فيها على العموم أيّ تغيير مفاجئ، سواءً إلى الخير أو الشر، وإنما يحدث ذلك تدريجياً وعلى فترةٍ طويلة من الزمن. وكلمات الآية تصرّح بأنَّ النبي ما غاب عن قومه في أية فترة قبل دعواه، بل كانت حياته كلها كتاباً مفتوحاً أمام شعبه. فالله تعالى يخاطب هنا أعداء رسوله ويقول: إنّكم تعزون إلى رسولي أشنع نوعٍ من الكذب.. وهو الافتراء على الله، ولكنكم لا تُشيرون إلى أي فترة من حياته كان قد تعوَّدَ فيها على الكذب، بل على النقيض من ذلك، تعترفون أنه عاش قبل دعواه بين ظهرانيكم دون أن يغيب عنكم، وكنتم تسمّونه صدّوقاً أميناً طوال تلك المدة، فكيف تسيغ لكم أحلامكم أن تقولوا عمّا أتاكم به من تعاليم أنه نتاج افترائه واختراعه.

وصرّح سبحانه بقوله من قبله بأنَّ لا قيمة لما يُثار ضده من اعتراضات بعد دعوى النبوة، لأنَّ مخالفة الرأي تُؤدّي دوماً إلى العداوة والاعتراض. ولنِعمَ ما أدرك الإمبراطور الرومي هذه الحقيقةَ، فإنه لما أمر أبا سفيان أن يُدلي بشهادته عن سلوك النبي سأله كيف كان عندكم قبل ادِّعائه النبوة؟ “هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل ان يقول ما يقول”؟ (البخاري، بدء الوحي)

وبيّن بقوله تعالى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أن كل ذي عقلٍ سليم لن يقبل الزعم أنَّ الإنسان يمكن أن يتخلّى فجأةً عمَّا تطبّع عليه به منذ زمان. كما ويُثبت علمُ النفس أنه من المحال أن يحدث تغيير مفاجئ غير عادي في شخص إلَّا لأحد السببين: الأول: أن يتعرَّض لحادث إصابة في المخ فتعطل إثرَه ذاكرتُه، فتفسد أخلاقه أو تصلح، والثاني: أن يتغيّر الإنسان كليةً بشكلٍ مفاجئ بتأثير انقلابٍ روحاني عظيم؛ كأن يُصاب بصدمةٍ شديدةٍ في الحياة تدفعه إلى اليأس والقنوط، فيميل إلى الشر كلية؛ أو أن تنكشف عليه حقيقةٌ من الحقائق السامية الروحانية فيرغب في الخير كليةً. أما بدون هذين السببين فلا يمكن أن يتغير الإنسان تغييراً مفاجئاً غير عادي، وإنما يتغير تدريجياً بصورةٍ عاديّة. ولكن الثابت من التاريخ أنَّ النبي لم يتعرَّض قبل دعواه لأي حادث من هذا القبيل قط، سواء من الناحية البدنية أو الروحانية. فكان متعوّداً حتى قبل النبوة بفترةٍ طويلة، على العبادة منفرداً منقطعاً عن الدنيا، وما كان قانطاً من قِبل أهله أو وطنه، وإنما كان مواسياً لهم، حريصاً عليهم، جاهداً في سبيل فلاحهم ورقيّهم. فمن المستحيل إذاً أن يُقال إنَّ هذا الذي كان بالأمس نموذجاً مثالياً للطهر والصدق قد أصبح اليوم أكذَبَ شخص على وجه الأرض.

ولقد استدلّ بهذه الآية مَن أقامه الله في هذا العصر إماماً مهدياً ومسيحاً موعوداً ، على صدق دعواه، ولكن المؤسف أن يلجأ معارضوه إلى نفس المعاذير الركيكة الواهية التي قدَّمها أعداء النبي (ستارة قيصرية، الخزائن الروحانية، ج 15، ص 283). ليت هؤلاء القوم فكَّروا أنَّ هذا الرجل الذي كان قبل دعواه أكبَرَ ناصر للإسلام ورمزاً للصلاح والصدق، وذلك بشهادة من أصبحوا فيما بعد ألدَّ أعدائه، ليتهم فكَّروا كيف يمكنه أن يفسد فجأة ويبدأ بالافتراء على الله كذباً؟!

وإليكم بعض الشواهد التاريخية على ما يسوقه القرآن هنا كدليل على صدق النبي :

  1. جاء في الحديث: “عن علي أنَّ أبا جهل قال للنبي : إنّا لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به” (الترمذي، التفسير، الأنعام)

ويتضح من هذا أنه حتى بعد إعلانه دعواه لم يجرؤ معارضوه على أن يطعنوا في سيرته قبل الدعوى، وإنما كانوا في بداية دعواه يرتدعون عن نسبته إلى الكذب.

  1. وهناك شهادة من النضر بن الحارث – وهو أحد التسعة المتآمرين على قتل النبي . كانت قريش تتشاور مرةً قبل موسم الحج وتقول: سوف تحضر القبائل للحج من خارج مكة، فماذا نقول لهم عن محمد؟ فأشار عليهم أحدهم سنقول: إنه كذّابٌ ساحر. فوقف النَّضر في حماسٍ وقال: لقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أَرْضاكم فيكم، وأصدَقَكم حديثاً، وأعظَمَكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدْغيه الشيبَ، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر. والله ما هو بساحر. (الشفاء ص 51)

هذه الرواية تتحلّى بعدة مزايا ولطائف منها:

(أولاً) إنها تتناول الحديث عن حياة النبي ما قبل دعواه، أي من الشباب إلى الكهولة دون الحديث عن صغره، إذ لا أحد من العقلاء يعترض على أفعال أحد في الصغر.

(ثانياً) إنها تذكر بالتفصيل أخلاق النبي وخصوصيّاته.

(ثالثاً) إنها شهادة شخص تآمر فيما بعد على قتل النبي ومات على كفره.

(رابعاً) إنها تكشف لنا مدى ما كان لأخلاق النّبي من تأثير عظيم في قلوب القوم، حيث يتفوّه أحدهم – وهو جالسٌ في بيته – بكلامٍ حلوٍ لا يخرج في الحقيقة إلا من فمِ شخصٍ كأبي بكرٍ .. أعني قوله “لا والله ما بساحر”. يبدو أنّ الأخلاق النبوية الفاضلة كانت آخذة بمجامع قلبه عندئذٍ بحيث خفّف ذلك من عداوته فاضطر للاعتراف بالحقيقة على الملأ.

  1. وجاءت شهادة السيدة خديجة رضي الله عنها تقول: “كلا، والله، ما يُخزيكَ الله أبداً، إنّك لَتَصِلُ الرَحِمَ، وتحمل الكَلَّ، وتَكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.” (البخاري، بدء الوحي)

وهذه الشهادة على طهارة أخلاقه هي من زوجته المطهَّرة، والزوجة هي أفضل شاهد على أخلاق زوجها.

  1. وهناك رواية عن أبي سفيان أنَّ هِرقل الرومي جاءته رسالة من النبي يدعوه فيها إلى الإسلام. فبعث رجالَه بحثاً عن أحد العرب ليخبره عن أحوال هذا المدَّعي. فأرسل إلى أبي سفيان في ركبٍ من قريش كانوا تجّاراً بالشام، ودعاهم إلى مجلسه. فأدنى أبا سفيان وجعل أصحابه وراءه، وقال لهم إنني سائلٌ هذا الرجل عن هذا المدَّعي، فإن كَذَبَني في شيءٍ فكذِّبوه فوراً. فسأله هِرقل فيما سأل: “فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ فقال: لا”. (البخاري، بدء الوحي).

وفي رواية أنَّ أبا سفيان قال: لقد حاولت أن أدسّ في شهادتي شيئاً من الكذب ولكنني خفت أصحابي أن يكذّبوني (البخاري، بدء الوحي).

  1. ومنها أنّ الله تعالى لما أمر نبيّه يقوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ صعد النبي جبلاً اسمه “أبو قبيس” ونادى القوم. فلما اجتمعوا حوله قال: أرأيتم، لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً. (البخاري، التفسير، الشعراء)

ويعرف المطّلعون على معالم مكة وأحوالها أنَّ سؤال النبي هذا كان سؤالاً عجيباً ومحرجاً لهم، لأنَّ الوادي الذي سألهم عنه وادٍ ترعى فيه مواشي القوم، وكان من المحال أن يختفي فيه جيشٌ من الفرسان، ومع ذلك أجابوه بنعم، سوف نُصدّقك في هذا المستحيل أيضاً. وهذا إنَّ دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على أنهم ما كانوا يرونه صادقاً فحسب بل وكأنَّ نسبة الكذب إليه محالٌ عندهم.

  1. وهناك شهادةٌ أخرى من عدوٍّ لدود آخر، هو أمية بن خلف الذي قال: “والله ما يكذب محمد إذا حدَّث”. (البخاري، المناقب).

لقد بسط بعض من الكتّاب المسيحيين ألسنتَهم بالطعن في هذه الآية، ومنهم القسّيس “وهيري” وهو صاحب تفسيرٍ للقرآن الكريم. فقد اقتبس مما قاله المستشرق الإنجليزي “سيل” في ترجمته للقرآن الكريم تحت هذه الآية مايلي: لقد عشتُ كلّ هذه السنين بين ظهرانيكم، لم أتعلّم فيها على يد أحد، ولم أُجالس عالماً، لم أقرض شعراً، ولم أُلقِ خطبةً، فكيف تزعمون إذَنْ بعد أن بلغت المشيب، أنَّ هذه العبارات القرآنية هي مما كتبته يداي هاتان”.

وبعد إيراد هذه العبارة من ترجمة “سيل” للآية يعلّق عليها وهيري معترضاً:

أولاً: أليس مما يُثير استغراب المرء أن يتربّى ويترعرع محمد وعليٌّ معاً في بيتٍ واحد، ومع ذلك يتعلّم علي ويبقى محمد أميّاً؟

ثانياً: كيف يمكن أن نُسلّم بأنّ محمداً لم يعرف القراءة والكتابة رغم ممارسته عملاً هاماً كالتجارة لسنواتٍ طويلة؟

ثالثاً: مما لا شكَّ فيه أنَّ محمداً كان يعرف هذا الفن في الأيام الأخيرة من حياته إذ جاء في الحديث أنه قد أمر معاوية وهو أحد كتّاب وحيه أنِ اكتُبْ “الباء” سويةً، وأبرِزْ أسنان السين!

رابعاً: لقد أمر محمد قبل وفاته بإحضار القلم والدواة، مما يدلّ على أنه كان يبغي كتابة شيء، وهنا ينشأ سؤال: من أين تعلّم فن الكتابة؟ يقول المفسّرون: إنَّ الله علّمه القراءة والكتابة بالوحي، ودليلهم على ذلك الآيةُ (اقرأْ باسم ربك الذي خلق). فالمفسِّرون أنفسهم يعترفون بكون محمد عارفاً بهذا الفن. غير أني أرى أنَّ الآية لا تدلُّ على تلقّيه هذا الفن عن طريق الوحي الإلهي كمعجزة، كما لا تدل على أنه كان جاهلاً به قبل نزول هذه الآية.

خامساً: ويستمر القسِّيس ويقول: ولو استدلَّ أحدٌ على كون محمد جاهلاً فنَّ الكتابة بوجود كتبةٍ عنده، فهذا أيضاً ليس بدليلٍ مقنع، لأنَّ الاستعانة بالكتبة كان عادةً شائعة بين كبار علماء زمانه.

ثم يُثير وهيري سؤالاً: إذن فمن أين أتت الفكرة بأنَّ محمداً كان يجهل القراءة والكتابة؟ فيردّ هو على سؤاله بنفسه قائلاً: الواقع أنَّ سبب ذلك هو أنَّ القرآن وصف محمد بكلمة (النبي الأُمّيّ)، فاغترَّ المسلمون به وظنُّوه أمّيّاً بالمعنى الشائع في هذه الأيام، مع أنَّ القرآن إنما أطلق هذه التسمية عليه، لأنَّ اليهود كانوا يسمّون العرب أميين. “فالنبي الأمي” معناه إذن نبي غير إسرائيلي أو غير يهودي، لا غير متعلّم.

ثم يستطرد وهيري ويقول: “إنَّ شيوع هذا الفهم الخاطئ لكلمة (النبي الأمي) ساعد كثيراً على انتشار دين محمد، لأنَّ الناس اعتبروه دليلاً على كون القرآن كلاماً إلهياً معجزاً، مع أنَّ إلقاء نظرة شاملة على حياته الأولى تؤكّد على أنه كان ملمّاً بفنّ القراءة والكتابة منذ صغره”. (تفسير وهري، تحت الآية).

هذا ملخص ما أثاره وهيري من اعتراضات وشكوك، وفيمايلي الردّ عليها:

لقد سبق أن ذكرتُ أنَّ الآية لا تتحدَّث عن كون النبي عارفاً القراءة والكتابة أم لا، بل تلفت الأنظار إلى حياته الطاهرة قبل دعواه، كما هو ظاهر من السياق. فما كانت مطالبة الكفار منه أن يغيّر الكتابة الظاهرة للقرآن، وإنّما أن يغيّر تعاليمه ومبادئه. وإنَّ الله تعالى لم يردّ على مطالبهم هذه بقوله: إنَّ رسولي لا يعرف فنَّ القراءة والكتابة، وإنّما قال: لو شاء الله لما عرض عليكم محمد هذه التعاليم، بل لم ننزّلها أصلاً. فالآية تتحدَّث عن قدرته على الكتابة أو عدمها، كما أنَّ الكفار لم يعترضوا بأنه يكتب هذه التعاليم بيده حتى ينفي الله عن رسوله تهمة كتابة القرآن بيده، وإنما كانوا يُطالبونه بتغيير التعاليم القرآنية، حتى إذا غيّرها بنفسه ثبت كذبه وظهر افتراؤه، وأما إذا لم يحرِّفها حرَّضوا عليه شعبه قائلين: انظروا إلى هذا المدَّعي، إنه لا يريد أن يُضحّي لأجل القوم بأمرٍ بسيط. فما دامت الآية لا ترمي إلى ما ذهب إليه القسّيس فقد بطل الاعتراض تلقائياً. ولو سلَّمنا جَدَلاً أنها تعني ما يزعمه القسّيس من أمر القراءة والكتابة فمع ذلك تبقى اعتراضاته واهية وأدّلته زائفة كما سنبيّن فيمايلي:

أولاً: لا قيمة ولا وزن لدليله الأول: ” أليس مما يُثير استغراب المرء أن يتربّى ويترعرع محمد وعليٌّ معاً في بيتٍ واحد، ومع ذلك يتعلّم علي ويبقى محمد أميّاً”؟

الواقع أنَّ قوله هذا يدلّ على جهله الفاحش بالتاريخ إذ يعرف كل من له إلمامٌ بسيط بالتاريخ أنَّ الفرق بين سنّ سيدنا محمد وعلي يبلغ 29 سنة. فالزعم أنّهما تربّيا معاً في بيتٍ واحد لزعمٌ يرفضه العقل والتاريخ، ولا يرضى به إلا القسّيس ومن كان على شاكلته ممن يجهلون التاريخ الإسلامي. لقد وُلِدَ سيدنا علي بن أبي طالب حينما كان سيدنا محمد متزوجاً بالسيدة خديجة رضي الله عنها. كان انتقل من بيت عمه أبي طالب إلى بيتها، وكانت قد وضعت كل ما تملك من أموال وثروات في يده الكريمة ، فكان يُعدُّ من أثرياء القوم. فادّعاء القسِّيس مرفوض عقلياً وتاريخياً. بل الأغرب أنَّ التاريخ يشهد على عكس ادِّعائه، إذ الثابت تاريخياً أنه ليس سيدنا محمد الذي تربّى وترعرع مع علي في بيت أبيه أبي طالب، وإنّما عليّ الذي تربّى في بيت الرسول . فالنبي عندما رأى فقر عمه أخذ عليّاً إلى بيته هو فشبَّ عنده. (حلي الأيام في خلفاء الإسلام ج1 ص126)

فإذا كان علي قد تعلَّم هذا الفن منذ الصغر فإنما ذلك بسبب تربية النبي له. ولا يمكن لعاقل أن يقول: ما دام محمد قد ساعد عليّاً على تعلّم هذا الفن فكيف يمكن ألا يعلِّم أبو طالب ابن أخيه محمداً الكتابة والقراءة؟ والواقع أنَّ تعليم الصغار يتوقف على الظروف السائدة في كل زمان ومكان، ويتوقف على ميول المربّي وأفكاره. ومحمد وعليّ يختلفان اختلافاً كبيراً من ناحية الظروف والمربّين. فقد كان النبي يحب العلم ونشره، فقام بتعليم علي . ولكن جدّ النبي وعمه لم يرغبا في تعليم الصغار بسبب ظروف وعادات عصرهما، فلم يحاولا تعليم النبي . وقد بلغ ولوع النبي بالعلم والتعليم درجة أنه حثّ عديداً من الصحابة على تحصيل العلم في سنٍّ متقدمةٍ جداً. حتى إنَّ سيدنا عمر تعلّم العبرانية في المدينة وقد بلغ سناً متقدمةً.

ثانياً: قال وهيري: كيف مارس محمد عملاً هاماً كالتجارة إذا هو لم يكن يعرف القراءة والكتابة؟

هذا الاعتراض نابع أيضاً عن قياسه حالات الزمن النبوي بالحالات الراهنة في أوروبا، مع أنه يوجد هناك حتى في زمننا هذا في البلاد الآسيوية أمثلة كثيرة لأُناسٍ غير متعلّمين يمارسون أعمالاً تجارية ضخمة. والثابت تاريخياً أنَّ أهل مكة ما كانوا يجيدون كثيراً القراءة والكتابة وما كان فيها إلا بضعة أشخاص ملمّين بهذه المهارة (تاريخ الأدب الجاهلي، الفصل الرابع) بيد أنه كان فيها مئات التجّار وأرباب القوافل التي تخرج قافة تلو الأخرى. فالقول بأن كل من خرج منهم تاجراً كان عارفاً بالقراءة والكتابة قولٌ باطل وخاطئٌ وقياسٌ مع الفارق.

ومما يدحض زعم القسّيس أيضاً روايةٌ تخبرنا أنَّ السيدة خديجة كانت ترسل مع النبي في أسفاره التجارية عبداً لها اسمه ميسرة وقد كان رجلاً متعلّماً.

ثالثاً: قال القسّيس إنه ورد في الحديث أنَّ محمداً أمر كاتبَ وحيه معاوية أن يُتقن كتابة الباء والسين مما يؤكد أنه كان يعرف الكتابة.

وجوابنا الأول: إنَّ هذه الرواية ليست فيما يبدو من الروايات الموثوق بها، ذلك أنَّ العباسيين كانوا يُعادون الأمويين، فوضعوا في زمن مُلكهم رواياتٍ عديدة ليُوهموا فيها الناس بأنَّ الأمويين ما كانوا يرغبون في العلم والثقافة كما أنَّهُم لم يكونوا ذوي فطنة وذكاء.

وأما إذا اعتبرنا هذه الرواية حديثاً صحيحاً فإنها مع ذلك لا تحقّق غرض القسِّيس. ذلك أنَّ الإنسان الذي ما كان له في الحياة لفترةٍ طويلة أيُّ عمل إلا هداية الناس ونُصحهم وإملاء القرآن على الكَتَبَة لا يمكن أن يصعب عليه التمييز بين الباء والسين، وبالتالي سيوجّه كاتبه لإتقانهما، ولا يشترط لذلك أن يكون ملمّاً بهذا الفن. فمن الممكن أن يكون أحد الصحابة قد تباطأ أمام النبي مرةً في قراءة ما كتبه معاوية من الوحي، فسأله عن سبب التأخير، فأجاب: لا أستطيع قراءة المكتوب أمامي لأنَّ الباء هنا ليست طويلةً بما يكفي، أو أنَّ أسنان السين ليست بارزة واضحة. فأدرك بذلك النبي أنَّ الباء يجب أن تكون منبسطة طويلة وأنَّ السين يجب أن تكون بارزة الأسنان، وبناءً على ذلك أمر النبي كاتبه معاوية َ بإتقان الحرفين كي لا يشتبه الأمر على القارئ. ففي بلادنا مثلاً يقول الرجل أحياناً لزوجته وهي تخبز: اجعلي الرغيف مستديراً فإنّه ليس مستديرا. فهل يستنتج أحد من قوله هذا أنّه خبَّاز ماهر إذ يرشد زوجته في هذا الفن. كلا فلا دليل إذن في الرواية على ما يزعمه القسِّيس.

رابعاً: يقول القسِّيس: إنَّ محمداً كان قد أمر بإحضار القلم والدَّواة قبل وفاته، مما يدل على أنه كان يريد كتابة شيء ما، وبهذا فهو كان يعرف فنَّ الكتابة.

إنَّ استدلاله هذا باطلٌ أيضاً، لأنَّ النبي في حياته النبوية كان يأمر دائماً صحابته بإحضار القلم والدَّواة، عندما أراد إملاء الوحي القرآني، فكيف يثبت من ذلك أنه كان ملمّاً بهذا الفن؟

خامساً: إنَّ آية اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لا تدعم زعم القسِّيس. ذلك أنَّ كلمة القراءة لا تعني دائماً قراءةَ عبارةٍ مكتوبةٍ فحسب، بل تعني أيضاً ترديد ما يقول الغير. فمثلاً إذا كان هناك أحدٌ يُجيد قراءة القرآن وإن كان كفيفاً فيقولون أيضاً: إنه يُحسن القراءة. فاستدلالهم من قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لا يستقيم بأي شكلٍ أبداً. والثابت من حديث صحيح أنَّ جبريل لما قال للنبي عند بدء الوحي: (اقرأْ) ما وضع أمامه أي عبارةٍ مكتوبة، وما كان جبريل يقصد بقوله هذا: اقرأ العبارة الموضوعة أمامك، وإنما يعني: ردِّدْ ورائي ما أقرأ عليك.

سادساً: أما قول القسِّيس: إنَّ الناس انخدعوا بقول “النبي الأُمي” فهو أيضاً قولٌ عجيب. أليس من المحيّر والمدهش الزعمُ أنَّ الناس لم يُدركوا رغم عيش النبي بينهم دون انقطاع، ما إذا كان مُلمَّاً بالقراءة أم لا، ولكنهم علموا بورود كلمة النبي الأمي علم اليقين أنه جاهلٌ بفنّ القراءة والكتابة.

إننا نسأل القسِّيس: من ذا الذي انخدع بكلمة الأمي؟ هل هم أولئك الذين عاشوا مع النبي أم الذين جاءوا بعدهم؟ فلو قيل: من عاش معه، قلنا: كيف انخدعوا بهذا الوصف مع أنهم رأوه بأم أعينهم يقرأ ويكتب كما يزعم القسِّيس؟ ولو قيل: لقد انخدع الذين جاءوا بعدهم، قلنا: إنّما دليلكم على أنَّ وصف “النبي الأُمي” هو الذي أدّى بالناس إلى الاعتقاد الخاطئ أنه يجهل فنَّ القراءة والكتابة، مع ذلك أتى بمثل هذا الكتاب العظيم، فاعتبروه – بسبب هذا الاعتقاد الخاطئ – معجزة. في حين أنَّ المعجزة القرآنية عُرضت أول ما عُرضت في زمن الصحابة، وسؤالنا: إذا كانت كلمة “النبي الأُمي” هي الخدعة التي جعلت الناس يعتبرون القرآن معجزة محمد، فكيف يمكن للصحابة أن يعتبروه معجزة محمَّدية مع علمهم أنَّ الرسول ملمٌّ بهذا الفن؟

وسؤالنا الثاني هو: إنَّ العرب قد أسلموا والنبي حيٌّ يرزق، وهم الذين كانوا في الحقيقة قادرين على إدراك الإعجاز القرآني من ناحية اللغة العربية الراقية، فما كانوا لينخدعوا بخدعة “النبي الأُمي” وحدها إذا كان القرآن خالياً من الإعجاز اللغوي. وأما الذين جاءوا من بعدهم من العجم فما كانوا في الحقيقة قادرين على إدراك محاسن اللغة العربية إلا ما شذَّ وندر. فكون القرآن معجزةً في لغة الضاد أو عدمه كان سواءً عندهم وما كانوا لتنطلي عليهم خدعة “النبي الأُمي” كما يزعم القسِّيس. فأين إذاً أولئك الذين انخدعوا بها وأساءوا فهمها، فظنُّوا خطأً أنَّ القرآن معجزة مع أنه في الحقيقة ليس كذلك؟

لا شكّ أنَّ كلمة “أُميّ” باللغة العرية تعني أصلاً من لا يعرف الكتابة والقراءة، نسبةً إلى الأم، لأنَّ الكتابة والقراءة مكتسبة، فهو على ما ولدته أمه من الجهل بالكتابة (الأقرب). غير أني أرى أنَّ هذه التسمية ترجع إلى ما في الطفل من براءةٍ وطهارة، إذ إنه يولد طاهراً بريئاً من المساوئ، وبهذا المعنى أُطلقت الكلمة أيضاً على النبي . أما اليهود فكانوا يُطلقونها على العرب على سبيل الاحتقار معيِّرين إياهم بالجهل والغباء. فهل يقبل أيُّ  عاقل أنَّ القرآن لم يستخدم الكلمة بمعناها الأصلي وإنما بالمعنى الذي كان الأعداء يُطلقونها على العرب احتقاراً لهم وازدراء بهم. ولنفترض أنَّ القرآن كلام محمد وليس بكلام الله تعالى، ومع ذلك فهل يُعقل أن يُطلق النبي على قومه وعلى نفسه هذه التسميةَ التي كان أعداؤهم يُطلقونها عليهم تحقيراً وتشنيعاً؟!

سابعاً: قال القسِّيس: لو قال أحد: كان محمد لا يعرف الكتابة ولذلك كان عنده كَتَبَةٌ يكتبون وحيه، فهذا أيضاً ليس بدليلٍ مقنع، لأنَّ الاستعانة بالكتبة كانت عادة شائعة بين كبار علماء زمانه.

إنَّ هذا خطأ تاريخي فاضح من القسِّيس. يبدو أنه قرأ حادثاً كهذا من العصر العباسي وقاسَ به الحالة السائدة في زمن النبي وأتى بهذا الاستنتاج الخاطئ. الحق أنه لم يكن بين العرب في زمن النبي علماء كهؤلاء، كما لم يكن عندهم أي كتبة. وما يزعمه القسِّيس أمرٌ لم يستطع المؤرِّخون المسيحيون إلى الآن أن يُبرهنوه ولو بمثالٍ واحد من التاريخ، ولم يقدروا على أن يثبتوا أنه كان عادةً شائعة في ذلك العصر. كان في مكة عندئذٍ عالمٌ واحد فقط هو ورقة بن نوفل، كما يذكر التاريخ، ولكنه كان يكتب بنفسه، ولم يستخدم أي كاتب (البخاري: بدأ الوحي)

فالأسف كل الأسف على أنَّ التعصُّب دفع هؤلاء الكتّاب المسيحيين لاختلاق أمورٍ زائفة من عند أنفسهم ليعرضوها على أنها حقائق تاريخية!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك