إدراك الإنسان لقرب الله عز وجل
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (187)

شرح الكلمات:

أجيب-الإجابة العطاء من الله والطاعة من العبد (المفردات). فمعنى قوله (أجيب دعوة الداع إذا دعان) أنني أسمع دعاءه وأجازيه.

فليؤمنوا –آمن به: صدَّقه؛ اعترف بصفاته.

لعلَّكم-ذكر بعض المفسرين أن (لعل) من الله واجب (المفردات).. أي إذا وردت (لعل) في حق الله فهي بمعنى اليقين.

التفسير:

يقول الله تعالى: يا أيها النبي، إذا سألك عني عبادي.. أي عشاقي، وقالوا: أين ربنا.. كما يسأل العاشق الولهان عن حبيبه، فقل لهم: لا تُراعوا فإنه قريب جدا، فإني لا أكسر قلوب عشاقي ولا أخيّبهم. والدليل على كوني قريبا منهم أني (أجيب دعوة الداع إذا دعان).. عندما يتوسل إليّ أحد في اضطراب ولوعة وحرقة، فإني أستجيب دعاءه وأقبله. لو كنت بعيدا عنه فكيف سمعت صوته الخافت وهو في السجود؟ لو كنت بعيدا عنه كيف وصل إلى سمعي ابتهاله وهو في خلوة يرفع أكفَّه؟ إن سماعي دعاءه واستجابتي له لدليل على أنني قريب منه.

وإلى نفس هذه الحقيقة أشار الله بقوله (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق: 17)، ومعنى ذلك أنه ليس قريبا فقط، بل هو موجود داخل الإنسان. والظاهر أن الجالس بالقرب يسمع الصوت الخارج من الفم، أما الجالس في داخله فإنه يسمع ما يقوله قلبه. فكأن الله فسّر هنا معنى قربه.. وقال: قُربي يعني أنني أقرب إلى الإنسان من شريان حياته، وأسمع دعاء الداعي سواء ناداني بلسانه أو تمثَّل النداء رغبة في قلبه.. لأنني شديد القرب منه، بل إنني في قلبه.

يقول البعض: إننا دعونا الله بكل اضطرار، ولكن لم تُستجب دعواتنا.. فكيف تصح هذه الآية؟

صحيح أن معنى ’الداعي‘ لغةً هو من يدعو، ولكن الداعي هنا يعني من يدعو الله تعالى متصفا بالصفات المذكورة هنا. فالمعنى أن الذين يدعونني للقائي، وينسون لأجلي كل شيء، يطلبون مني قربي ووصالي فقط.. فإنني أستجيب لدعائهم وأقربهم مني. لذلك قال (وإذا سألك عبادي عني).. أي أنهم يبحثون عني، ولا يبحثون عن الخبز أو الوظيفة. فالذي يسأل الله قُربَه ولا يستجاب دعاؤه فله حق الاعتراض، أما الآخرون فلا مجال لاعتراضهم.

كما أن أسلوب العبارة في الآية يتضمن معنى الاضطراب والقلق. هناك بعض المفاهيم لا يعبَّر عنها بالكلمات، وإنما هي مستورة في العبارة، وهذا هو الحال هنا. يقول الله، عندما يجري عبادي إليَّ باضطراب وعشق ووله.. ويتلهفون: أين ربنا؟ فقل لعبادي هؤلاء إنني لا أردّ دعاء هؤلاء الداعين أبدًا، بل أسمعه وأقبله. وقد ورد نفس هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت: 70).. أي أن الذين يسعون جاهدين للقائنا.. فنقسِمُ أننا لا بد أن نوفقهم لسلوك طرق تؤدي بهم إلينا. وهذا يبيّن أن الله مستعد ليدلّ كل إنسان، أيّا كان دينه وثقافته، على طرق قربه، ويستجيب لدعواته باليقين.. شريطة أن يبذل الإنسان الجهود لذلك. أما الأدعية الأخرى فإن الله يضع في الاعتبار مصالح الإنسان بصدد قبولها. فإذا كان ما يسأله الإنسان مهلكا وضارا به في علم الله فلا يعطيه ما سأل. وبعض الأحيان تكون الوظيفة الشاغرة واحدة، ويكون لها اثنان من الطلاب، فلا بد أن توهب لمن هو أحق بها. وإذا كانت ضارة بمن يطلبها، فإن الله تعالى مع ذلك لا يعطي عبده المؤمن إياها. لأن الصديق لا يمكن أن يضر حبيبه، فكيف يمكن أن يعطيه إياها مع أنه يراها بمثابة النار لمن يحب. إذن فهناك عوائق في طريق قبول بعض الأدعية.

ولكن هناك مطلبا لا بأس بأن يطلبه الإنسان، ولا يحول دون سؤاله وقبوله حائل، وهو مطلب لا ينقُص إذا وُزِّع على الناس جميعا.. ألا وهو الله –جل شأنه. الأشياء الأخرى محدودة، وأحيانا تكون ضارة بالإنسان. كل شيء في الدنيا يمكن أن يكون فيه شر وسوء، مثلا يقول الله: (ويل للمصلين) (الماعون: 5).. فهناك نوع من الصلاة تُهلك أصحابها. ولكن لا ويل لمن يسأل الله إيّاه. لم يحدث قط أن سأل أحد اللهَ إيّاه ولم يشرفه الله بلقائه مخافة أن يُهلِك السائلَ هذا اللقاءُ.. أو ينقص هذا من ذات الله تعالى ولا ينقص هذا من الله شيئا. يتنفس كل كائن في هذا الهواء ولا ينقص الهواء.. كذلك كل إنسان يستطيع لقاء الله تعالى ولا ينقص هذا من الله شيئا. كل الخلق يتمتع وينتفع بأشعة الشمس ولا يترتب على هذا نقص في أشعة الشمس، ويستمتع الناس بنور القمر ويجلسون فيه ساعات وساعات ولا ينقص هذا من القمر شيئا، وتبقى أنواره كما هي. والله تعالى أكمل موجود، ولا ينقص منه شيء لو لقيه الناس جميعا. يقول الله تعالى لعباده: حاولوا أن تسيروا إليّ.. وعندئذ ترون كيف تسرع خُطاكم في طريق يصل بكم إلي وتنالون قُربي. إنني لا تدركني الأبصار.. إلا أنكم سوف تنالونني وتحظون بوصالي.

أي أن الذين يسعون جاهدين للقائنا.. فنقسِمُ أننا لا بد أن نوفقهم لسلوك طرق تؤدي بهم إلينا. وهذا يبيّن أن الله مستعد ليدلّ كل إنسان، أيّا كان دينه وثقافته، على طرق قربه، ويستجيب لدعواته باليقين.. شريطة أن يبذل الإنسان الجهود لذلك.

الحقيقة أننا لو تدبرنا في الآية لوجدنا أنه ذكرت ثلاثة تغيرات لا بد منها لمن أراد رُقيّا روحانيا ووصالا بالله تعالى، وبدونها لا يمكن أن يتحقق هذا لأحد.

أولها– أن تتولد في قلب الإنسان رغبة صادقة للوصال بالله تعالى والتقرب إليه. ولكن الواضح أن مجرد الرغبة لا يمكن أن توصل الإنسان إلى الله عز وجل، بل الضروري أن يتيسر له هادٍ يأخذ بيده على طريق النجاح في هذا الهدف ويزيل مشاكله.

وثانيها– لقد اعترف الإسلام بأهمية هذا المقتضى الفطري، وقال: صحيح أن هؤلاء قد تولدت في قلوبهم رغبة للوصال بالله تعالى، ولكن يجب أن يحدث في قلوبهم تغير آخر.. هو أن يسألوك عن الله. فليتجهوا إلى نبيهم محمد ويسألوه: أين يجدون حبيبهم الحقيقي؟ وكيف يهتدون إليه؟ فكما أن شفاء المريض يتطلب أن يعرف أنه مريض، ثم يسلِّم بضرورة ذهابه إلى الطبيب الحاذق.. كذلك يتطلب الوصول إلى الله أن تتولد رغبة صادقة في قلب الإنسان للوصال به عز وجل.. ولا يكفي هذا، بل عليه أن يتبع محمدا لتحقيق هذه الرغبة، فهو الذي يوصله إلى الله تعالى.

والتغير الثالث الذي لا بد من حصوله في طالب القرب الإلهي هو ما تشير إليه هذه الآية: أن يسأل عني، وأن يكون هدفه الوصال بي فقط. الناس يدخلون في دين ما بأهداف مختلفة: فبعضهم يدخلون فيه لينخرطوا في سلك جماعة، وبعضهم يقبلونه للتحلى بأخلاق سامية، وبعضهم ينضمون إليه من أجل الاجتماع والحضارة. ولكن الله يقول: يجب أن يدخل الإنسان في دين صادق بهدف الاتصال بالله تعالى والتقرب إليه. ولا يكون وراء دخوله أي رغبة أخرى. نعم، إذا تحققت له منافع ضمنية أخرى فلا بأس، ولكن يجب أن يكون هدفه الحقيقي هو الوصال بالله تعالى. ومن قواعد اللغة العربية أنه إذا جاءت الفاء بعد إذا فهي للعاقبة والنتيجة. فمعنى قوله (إذا سألك عبادي عني فإني قريب) أن هذه التغيّرات الثلاثة إذا اجتمعت في أحد.. أي إذا بدأ أحد يسأل عن الله تعالى، مدركا ضرورة الوصال به عز وجل، ثم جاءك ليسألك أنت، لا يسأل الفلاسفةَ والعلماء، ولا موسى ولا عيسى ولا غيرهما، بل جاءك أنت يسأل، أو يسأل القرآن الذي جئت به، أو يسأل خلفاءك، ولا يكون سؤاله عن شيء سواي.. بل يسأل عني وحدي.. فلا بد أن يجدني قريبا منه.. وأريه وجهي.

هناك سؤال يجب الرد عليه: لقد سبق أن قال الله في سورة (ق) وهي مكية (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فما الداعي أن يقول في سورتنا هذه وهي مدنية، ومتأخرة نزولا(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) ؟ ما داموا قد عرفوا في سورة مكية أن الله تعالى قريب جدا.. فلماذا يسألون هذا السؤال؟ ولا حاجة لإنزال هذه الآية. لو أن أحدا سأل النبي عن ذلك لأخبره بقول الله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولا يكون فيه شيء بدون ضرورة وداعٍ، فلا بد أن هناك حِكمة في ذكر الناس هذا السؤال والجواب عليه. ولا بد أن يكون لكلمة ’قريب‘ معنى خاص غير معناها العادي.

ولنتذكر هنا أن الله جعل فرقًا غريبًا بين الآيتين.. ذلك أن القرب والبعد أمر نسبي على الدوام. فهذا الشيء قريب مني وهو بعيد عن غيري. عندما نقول عن شيء إنه قريب فذلك من جهة، ولكن من جهة أخرى يعتبر نفس الشيء بعيدا. في سورة “ق”يقول الله (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فهو أقرب بالنسبة لذلك الإنسان. وفي قوله تعالى (وإذا سألك عني عبادي فإني قريب) لم يذكر أي نسبة أو جهة، فهو قريب مطلقًا دون تحديد. وفي عدم التحديد هذا نكتة لطيفة جدا.. ذلك أن الإنسان يسأل ربه حاجات مختلفة في أوقات مختلفة، أحيانا يطلب منه ما يتعلق بالناس، وأحيانا ما يتعلق بالحيوانات، وأحيانا بالجمادات، وأحيانا ما يتعلق بالله، وأحيانا بالملائكة، وأحيانا بهذا العالم، وأحيانا بالآخرة. فحاجات الإنسان واسعة ولا يمكن أن تحدَّد. ولكن من فطرة الإنسان أنه عندما يطلب شيئا يبحث عن أقرب وسيلة للحصول عليه. وهذا القرب له جهات مختلفة، فمن القرب أن يجد بأسرع ما يمكن ذريعة تقربه من الغاية؛ ومن القرب أيضا أن يجد وسيلة تقربه من غايته في أقرب وقت ممكن. فهناك معان مختلفة للقرب ينظر إليها الإنسان، وإذا وجد في وسيلة كلَّ هذه المعاني للقُرب.. اختارها للحصول على غايته، وهذا ما يقول الله هنا (إذا سألك عبادي عني فإني قريب).. أي أن الإنسان يهدف إلى غايات مختلفة، وينظر إلى الوسائل المؤدية إليها، فيختار منها الأسرع، فإذا رأى بعد التفكير في وسائل مختلفة أخرى أن يدعو الله.. فقل له (إني قريب). لم يقل هنا “إني قريب إليه “.. لأن الله ليس قريبا من هذا الداعي وحده، بل إنه قريب من كل شيء.. وهو أقرب وسيلة للحصول على أي غاية. فكون الشيء قريبا من شيء أمر. ولكن تقريب أحد من هدفه فأمر آخر. لذلك يقول الله تعالى (إني قريب) أي قريب منكم، وأيضا قريب من غايتكم التي تريدون تحقيقها. كأن هذه الآية لا تتحدث عن قرب مكاني، وإنما تبيّن أن كل أنواع القرب التي يحتاج إليها الإنسان للحصول على غايته موجودة في الله تعالى. مثلا يكون لنا صديق في الخارج محتاج للمال، ويكتب لنا طالبا المساعدة.. ولو أردنا إرسال المال إليه لاستغرق ذلك أياما، ولكن لو دعونا الله لأجله.. فمن الممكن أن يحقق الله له أمنيته ويهيئ له المال بمجرد خروج كلمات الدعاء من فمنا.

يقول الله تعالى إذا أردتم المعونة فقولوا لي. والمثول بين يدي الله تعالى لا يحتاج من الإنسان تحريك يد أو رجل.. بل يستطيع أن يمثل أمامه بالقلب، لأنه يقول (إني قريب).

ثم إن الله ليس قريبا من الإنسان فقط، بل إنه قريب أيضا من غايته أيضا، وما أن يدعو ربه ليعطيه شيئا.. فإنه تعالى يخصصه له.. وإن كان هذا الشيء على بعد آلاف الأميال، لأنه كما كان قريبا من الداعي كذلك هو قريب من الشيء الذي دعاه لأجله. وهذه أكبر وأنفع الوسائل لتحقيق أي نجاح.

كما أن الله بقوله (إني قريب) وجّه الأنظار إلى موضوع آخر لطيف، وهو أنكم إذا لم تستطيعوا رؤيتي فلا تظنوا أني بعيد عنكم. بل إني قريب جدا منكم، ولنفس السبب لا تستطيعون رؤيتي.. إذا لا يستطيع الإنسان رؤية الأشياء البعيدة عنه جدا، كما لا يستطيع أيضا رؤية الأشياء القريبة جدا منه. لذلك لا يستطيع سماع الصوت الناشئ في باطنه. هناك صوت للضمير، ولكن آذانه لا تسمعه، لأن الآذان تسمع الصوت الصادر من بعيد. عندما نسمع صوتا فمعنى ذلك أن الهواء هو الذي حمل الصوت الخارج إلى الأذن. لقد خلق الله طبلة الأذن بحيث تتلقى الموجات الصوتية القادمة إليها من بعيد فتحدث فيها ذبذبات تنتقل إلى المخ فيترجمها إلى أصوات مفهومة. كذلك يتلقى المذياع الموجات وذبذباتها وتحولها صماماته إلى كلمات مسموعة. فالأذن بمثابة المذياع (جهاز استقبال) في الإنسان ، وأعصاب السمع بمثابة صماماته التي توصل الذبذبات إلى المخ فيترجمها في صورة كلمات.

فالصوت يعني الشيء القادم من الخارج، وعندما نسمع صوتا فذلك يعني أن شيئا جاءنا من الخارج.. لأننا إنما نسمع من الأصوات ما يأتينا من الخارج. أما الأصوات الداخلية كصوت الغازات في الأمعاء فنسمعها لأن ذبذباتها تصل إلى الخارج وترتد إلى الأذن، وإلا فإن ما يحدث من أصوات في داخلنا لا نستطيع سماعه لأنه شديد القرب منا، فكما لا نستطيع رؤية شيء بعيد جدا، ولا نستطيع رؤية شيء قريب جدا.. كذلك لا نستطيع سماع صوت بعيد جدا أو قريب جدا. الذين لا يعرفون هذه الأمور سوف يتعجبون لها، ولكن هذا النظام جميعه قائم بالفعل على الحركة والموجة. ما تسمعونه هو حركات “ذبذبات” يترجمها المخ إلى أصوات، وما ترونه أيضا حركات “ذبذبات” تحولها العيون والمخ إلى صور. ما ترونه أمامكم ليس بصورة وإنما هي نقوش تصل إلى المخ عن طريق الأعين فتحولها إلى صورة. لذلك بدءوا بجهاز المذياع ينقلون الصور أيضا. وقاعدة هذه الحركات كلها، سواء كانت حركات الأذن أو العين، أن لها حدا أدنى وحدا أعلى. فالموجات الضوئية أو الصوتية التي تقع بين الحدين يمكن للعين أن تراها وللأذن أن تسمعها. أما ما فوق هذا الحد أو دون ذاك الحد فلا يُرى ولا يُسمع. هناك كثير من الأصوات التي تتولد في جو السماء نتيجة تصادم السحب أو الأجرام الفلكية، ولكنها شديدة جدًا لذلك لا نسمعها. وكما أن الآذن لا تسمع ترددات فوق طاقتها أو دونها كذلك لا تستطيع العين رؤية شيء فوق طاقة العين أو دونها.

أشار الله بقوله (إني قريب) إلى أن عدم رؤيتكم أو سماعكم لي ليس بسبب بعدي عنكم، فلست ببعيد عنكم، وإنما أنا قريب منكم قُربا شديدا لذلك لا تستطيعون رؤيتي ولا سماع صوتي.

وهنا سؤال: ما دام الإنسان لا يستطيع رؤية الله، فلماذا قيل هنا (وإذا سألك عني عبادي فإني قريب).. فالإنسان يسأل ويبحث عمن يستطيع رؤيته.

فلنتذكر أن السؤال يكون أحيانا عن شيء مبهم، كأن يكون أحد مسافرا في ظلمة الليل ويشعر بخطر فيقول: هل هناك أحد؟ ولا يعني ذلك أنه متأكد من وجود إنسان يراه بعينه، وإنما ينادي على افتراض أنه لو كان هناك أحد فليأت لنجدته.. حتى يزيل عنه وحشته وخوفه من الظلام. كذلك يقول الله هنا: إذا شعر أحد بالوحدة في الدنيا، ورأى أنه بحاجة إلى نجدة، وناداني وهو لا يراني: إذا كان هناك إله فليأت لنجدتي؛ فقل لعبدي هذا: إني قريب منه ولست بعيدا عنه.

أحيانا لا يفكر في نجدة المستغيث ويقول: فليمُتْ، ولا حاجة لي لمساعدته. وأحيانا لا يقدر هذا القريب على مساعدة المظلوم ضد المعتدي،كأن يدخل أسد في قرية ويهاجم أحد سكانها، فيفرون بدلا من السعي لنجدته. ولكن لا يحدث هذا من الله. إذا نادى أحدٌ ربه وهو خائف لوجد الله هناك. يقول الله: إن عبدي هذا.. وإن كان نادى نداء مبهما، ولكنني أعتبر نداءه موجها إليّ، وأرى أنه يخاطبني أنا.. بغض النظر عن أن نداءه فيه إبهام وخيال.. لا أبالي بهذه التفاصيل، وإنما أُسرع لنجدته. لذلك إذا سأل عني فقل له: إني قريب ولست ببعيد. صحيح أن الناس لا يأتون أحيانا لنجدة المستجير وإن كانوا على مقربة منه. أو لا يستطيعون نجدته.. أمّا أنا فإنني مصمم على نجدته وقادر على مساعدته أيضا.

ويتبين من هذا أن الله لا يستجيب دعاء المسلمين فقط، بل إن أي إنسان.. سواء كان مسيحيا أو هندوسيا أو سيخيا أو آريا.. لو دعا الله وتوسل إليه في ضراعة وابتهال وبقلب صادق، واستغاثه بضعف حيلته، فلا بد أن يسمع الله دعاءه ويقبله. صحيح أن الله يستجيب لأدعية المسلمين الصادقين أكثر من الآخرين.. ولكن هذا لا يعني أنه سدَّ باب رحمته على الأمم والأفراد الآخرين. بل كل من يقرع بابه ويخر على عتبته فإنه يرحمه ويسد حاجته. إنه يقول بكلمات صريحة: (أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ).. كل من يناديني لنجدته فإنني أستجيب لندائه، ولا أرده من عندي خاوي الوفاض .

ثم يقول (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي). ما دمتُ أسمع دعاءكم وأستجيب له.. يحب عليكم أن تقوموا بما يجعلني أستجيب دعاءَكم. ولا تظنوا أني أقبل كل دعاء، بل كل دعاء يخالف أحكامي ونظام الأخلاق لن أقبله. كيف يمكن أن أقبله وأهلِك رسولي؟ هل أقبله وأفسد نظام الأخلاق؟ إذا أردتم أن تستجاب دعواتكم فينبغي ألا يتعارض دعاؤكم مع نظامي وديني وأخلاقي.

يقال إن أحد العرب ذهب إلى الحج وأخذ يدعو الله دعاء فاسدا وهو واقف في الكعبة. فسمعته الشرطة واعتقلته. كان يدعو: يا إلهي، ليت حبيبتي تغضب على زوجها وتأتي إلي!! وكأنه-والعياذ بالله –يريد أن يشترك الله معه في هذه السيئة! كذلك قال أحد السارقين مرة: قبل خروجي للسرقة أصلي ركعتين حتى أستعين بالله وأنجح في سرقاتي!

هناك إعلانات تُنشر في الجرائد عموما عن أنواع التمائم والتعاويذ، ويقولون عنها إن من احتفظ بواحدة منه فبوسعه أن يدعو أي امرأة فتأتي إليه تلقائيا بتأثير التميمة! ويعلّلون ذلك بأن فلانا من أولياء الله هو الذي أعدّ هذه التعاويذ بما يعلمه من أسرار الكلام! هذا استهزاء وسخرية بالدين. إن الله سبحانه لا يشترك في ارتكاب المساوئ والسيئات كهذه؛ ومهما قال القائل فهذا خطأ.

فالله يقول: لا تظنوا من قولي (أجيب دعوة الداع إذا دعان) أنني أسمع كل دعاء. إنما أسمع الدعاء بشرطين: أولهما –أن يكون الداعي مستجيبا لندائي. وثانيهما –أن يستيقن بي ولا يسيء بي الظن. إذا كان الداعي لا يؤمن بقوتي وقدرتي.. فكيف يمكن أن أستجيب لدعائه؟ لقد عرَّف كلمة الداعي بـ “الـ” دلالةً على أنه داعٍ خاص.

ثم ذكر بعد ذلك شرطين يجب وجودهما في الداعي وهما: أن يكون نداءه بحسب ما وضعت من قواعد ومبادئ، فلا يكون الدعاء في حرام، ولا يتعارض مع الأخلاق ولا مع سنتي. لو دعا أحد: يا رب أحْيِ أخي الذي مات، فهذا دعاء يتعارض مع القرآن الكريم وتعاليم الرسول . وما دام الداعي لم يعمل بالقرآن، ولم يقبل قول الرسول.. فلماذا يستجيب الله لدعائه هذا؟ هناك شرطان لقبولية الدعاء: (فليستجيبوا لي): أن يقبلوا ما أقول؛ (وليؤمنوا بي) ويوقنوا بي. والذي لا يستوفي هذين الشرطين ليس مؤمنا ولا يتبع أوامري، لذلك لا أعِدُه بقبول كل دعاء منه. صحيح، أنني أقبل أدعيته أيضا، ولكن بحسب هذا القانون لم أقبل كل دعاء له. أما الذي يتبع هذا القانون ثم يدعوني فأقبل كل دعاء له.

حكى سيدنا الإمام المهدي أن بعض التجار الهندوس كانوا جالسين يوما في السوق يقولون: هل هناك أحد تناول نصف رطل من حبات السمسم؟ رأوا أن أكل هذا القدر من السمسم أمر صعب! وأعلن أحدهم عن جائزة قدرها خمس روبيات لمن يفعل ذلك. ومر بهم فلاح قروي، فلما سمعهم لم يفهم الأمر وتحيّر، وحدَّث نفسه: أي صعوبة في تناول نصف رطل من السمسم حتى يضعوا له هذه الجائزة؟ لا بد أن هناك شرطا آخر أيضا. فتقدم وسأل: هل تشترطون أكل السمسم بقشره أم مقشورا؟! كان هذا الفلاح لا يرى أي صعوبة في أكل هذه الكمية من السمسم، أما هؤلاء فكانوا تجارا هندوسا لا يستطيع أحدهم أن يأكل أكثر من نصف رغيف. فقال التاجر صاحب الاقتراح للفلاح: يا سيدنا الفلاح، دعك من هذا، فنحن نتحدث عن الآدميين!

فعندما يقول الله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان) فإنه يخاطب الآدميين، ولا يخاطب الحيوانات. إنه لا يستجيب دعاء كل داع، وإنما يستجيب دعاء داع يشعر ويدرك أن عليه أيضا بعض الواجبات.. وليس على الله وحده. فمثلا لو دعا أحد أن يمكِّنه الله من خطف ابنة فلان، أو سلب مال فلان، أو هلاك عدوه فلان.. فإن الله تعالى لن يعتبر نفسه مخاطبا بمثل هذه الدعوات. فقوله (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) يعني أن من يتبعون أوامره، ويؤمنون بقدرته لا يسألونه بمثل هذه الأسئلة. هل كان النبي وأصحابه يدعون الله بأن يعطيهم مال أحد ظلما؟ فالله يخاطب الناس ولا يخاطب الأنعام ولا يَعِدهم، وإنما يشترط أن يكون الداعي تابعا لأوامره تماما، وأن يكون مستيقنا بقدرته. فثقته هذه تستثير الله لقبول دعائه.

سئل ابن عباس رضي الله عنهما: من ذا الذي تدعو له أكثر؟ فقال: الذي يأتني ويقول: ليس هناك من يدعو لي، فادْعُ لي. وما دام يعتمد عليّ ويثق فيّ رغم عدم معرفته بي، فلماذا لا أثق به؟ كذلك يقول الله: من يثق فيَّ ويعمل حسب مشيئتي.. أستجيب لدعائه. ولكن الذي لا يثق بي ولا يعمل بأوامري فلا أستجيب لدعواته. وإلى ذلك يشير حديث الرسول : (لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ (مسلم، كتاب الذكر والدعاء). فيستلزم قبول الدعاء أن يكون الداعي مؤمنا واثقا تمام الإيمان والثقة بالله تعالى، ولا يَدَعُ اليأس يقترب منه.

ثم يقول (لعلهم يرشدون): والرشد يعني أن يعرف الإنسان الطريق الصحيح (الأقرب). فالمراد من قوله (لعلهم يرشدون) أنهم نتيجة لذلك سوف يعرفون الطريق الذي يؤدي بهم إلى الفلاح والنجاح يقينا. وكلمة “لعل” تُستخدم عموما للرجاء والأمل، ولكنها لم تَرِد هنا بهذا المعنى، وإنما بمعنى اليقين.. كأسلوب كلام الملوك والحكام الذين عادة يقولون: لو قدمت الطلب فربما ندرس الأمر. ومثل هذه الكلمات لا تدل على الرجاء والاحتمال، ولكنها في الحقيقة تعني اليقين واللزوم. أي أننا سوف نحقق ما تريد. ويقول اللغويون أيضا إن “لعل” إذا استخدمها الله في كلامه فهي بمعنى الوجوب واليقين (المفردات).

فقوله تعالى (لعلهم يرشدون) يعني: من قبل كنت أنا آتيهم لنجدتهم، ولكنهم عندما ينالون هذا المقام سوف يتمكنون بأنفسهم من الوصول إلي.

كان أشار بقوله (إني قريب) إلى أنني أتيهم، أما بقوله (لعلهم يرشدون) فبيّن أن العبد يترقى بالتدريج حتى يتخذَ لونا من صفات الله تعالى. في البداية كان كالأعمى يجلس صديقُه بجواره، أما بعد نوال هذا المقام فيصبح بصيرًا يجلس بقرب حبيبه. وإلى هذا المقام أشار النبي في قوله: “تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (البخاري، الإيمان). ورؤية الله تعالى إنما تعني أنه صار قريبا من العبد.. وإلا فإنه يراه من العرش أيضا. فالمعنى أن الله يقترب من العبد في البداية حتى أنه يستيقن بأن الله يراه.. ثم يرتقى العبد ويحوز مقاما يشعر فيه أنه هو يرى الله تعالى.. وهكذا يصل إلى أسمى درجات الروحانية.

ولما كانت هذه الآيات تتحدث عن الصيام.. فإن الله تعالى قد وجّه فيها أنظار المؤمنين إلى أنه يستجيب عموما لدعوات عباده ويسد حاجاتهم، ولكن أيام رمضان أيام استجابة الدعاء على وجه الخصوص، فعليكم بالانتفاع من هذه الفرصة والتقرب إلى الله، أما إذا خرجتم من شهر رمضان أيضا أصفار الأيدي فلن يبقى شك في شقاوتكم. كل عمل في الدنيا مرهون بوقته، وإذا لم يُنجز في موعده فلن يأتي بنفس النتائج الجيدة التي تتحقق لو تم في موعده.

ورؤية الله تعالى إنما تعني أنه صار قريبا من العبد.. وإلا فإنه يراه من العرش أيضا. فالمعنى أن الله يقترب من العبد في البداية حتى أنه يستيقن بأن الله يراه.. ثم يرتقى العبد ويحوز مقاما يشعر فيه أنه هو يرى الله تعالى.. وهكذا يصل إلى أسمى درجات الروحانية.

هناك موسم خاص لزرع الغلال والخضار، وإذا لم يُراع هذا الموعد فلا ينبت منها شيء. ولكن هذا لا يعني أن هذا الموعد بمثابة السحر والتميمة.. أي له تأثير خاص يتمم العمل، وإنما المراد أنه حينما تتيسر الأسباب لنجاح عمل فهو الموعد لإنجازه. إذا كان لنمو حبات القمح وقت خاص فلا يعني ذلك أن شيئا خاصا يحدث في البذرة عند ذلك الوقت، وإنما يعني أن الأسباب اللازمة لنموه تتهيأ عندئذ. ولو تيسرت تلك الأسباب في موعد آخر لنبت القمح في ذلك الموعد أيضا. إذن هناك موعد تتيسر فيه الأسباب لإنجاز جميع الأعمال. وكذلك للدعاء موعد محدد، وإذا تم الدعاء فيه أتى بنتائج رائعة. قال النبي : “اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب” (البخاري، المظالم).. ذلك أن المظلوم يرى نفسه محاصرا بين المصائب ولا يجد من ينصره.. فيتجه كلية إلى الله ويخر على عتبته، وكل دعاء يدعوه يستجاب.. لأن من أفضل أسباب استجابة الدعاء أن ينقطع فكر الإنسان عن أي جهة أخرى إلى الله وحده. فقبولية الدعاء لها أوقات ومواسم. لكنها لا تتحدد بالأسباب الظاهرة، وإنما لها علاقة لما يطرأ على قلب الإنسان من أحول وكيفيات خاصة، لا يعرفها إلا من طرأت عليه مثلها.

بيد أن هناك موسما خاصا لاستجابة الدعاء لا يحتاج الإنسان بمعرفته إلى معرفة كيفيات قلبية خاصة.. وهو موسم شهر رمضان.. لقد جاءت هذه الآية في سياق الصيام مما يعني أن لها علاقة خاصة عميقة بالصيام، ومعناها: أنه كما أن فكر المظلوم ينقطع عن أي شيء ويرتكز ويتجه إلى الله فقط، كذلك يرتكز اهتمام المسلمين في شهر الصيام على الله تعالى. والقاعدة أنه إذا تم ضغط وتضييق شيء منبسط فإنه يكتسب قوة كبيرة.. مثل النهر الذي إذا ضاق مجراه زادت سرعة جريانه. كذلك في شهر الصيام يتهيأ العديد من دواعي استجابة الدعاء حيث ينهض عدد كبير من المسلمين للعبادة وقت الليل، ويستيقظون لتناول السحور، فيجد كل واحد فرصة طويلة أو قصيرة للعبادة. في ذلك الوقت تصل دعوات آلاف العابدين المضطرين المكروبين إلى عرش الرحمان، ولا يمكن أن يردها.. بل يقبلها، لأن الدعاء الذي يخرج في حالة الكرب والألم يستجاب على كل حال. كما حدث لقوم يونس إذ استجاب الله دعاءهم الذي قاموا به معًا في ضراعة وكرب وألم، فغفر لهم، وصرف عنهم عذابه (يونس: 99).

فهناك علاقة عميقة لاستجابة الدعاء بشهر الصيام. إنه الشهر الذي وعد الله لمن يدعو فيه (إني قريب). وإذا لم يجده العباد وهو قريب.. فمتى يجدونه؟ عندما يتمسك العبد بربه بكل قوة، ويُثبت بعمله أنه لن يترك بابه إلى باب آخر، فالله يفتح عليه أبواب فضله وتلتقط آذانُ العبد صوت (إني قريب). ولا يعني ذلك إلا أن يكون الله معه في كل حين. عندما يصل العبد إلى هذا المقام فليدرك أنه قد وجد الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك