بنوة يسوع المسيح

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية الي صدع بها المسيح الناصري عیسی بن مریم عليه السلام. كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران. والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريباً. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية له حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على مِحكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامّة كبنوة المسيح،

الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيّم: “المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال” لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة “التقوى” نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظراً إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتاً وصورةً و كتابةً بُعيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين و أراضيهم من قبل “الدجال”.. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بیان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة، كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة من يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين. وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة و الدين. “التقوى”

إن شخصية المسيح الناصري عليه السلام  هي في غاية الأهمية بالنسبة للعالم المعاصر، وأهميتها ليست مقتصرة على العالم المسيحي وحده، بل تتعدى إلى بقية الديانات الكبرى الأخرى ولا سيما اليهودية والإسلام. ولو اتّحدت هذه الأديان الكبرى في فهم مشترَكٍ حول طبيعة شخص المسيح، سواء حول بعثته الأولى أو بعثته الثانية الموعودة، فهذا سيؤدي إلى حل كثير من المشاكل التي يُواجهها الجنس البشري اليوم. ولكن للأسف، قد أُسيء كلّيةً فهمُ الحقائق الأساسية المتعلقة بحياة المسيح وهدفِه ومذهبه و شخصیته بصورة جعلت هذه الأديان في خلاف شدید فيما بينها

حول هذه المواضيع لدرجة أصبح التصادم المرير بينها أمراً حتمياً.

عندما ننظر إلى الحقائق المتعلقة بصلب المسيح، ونفكّر فيما حدث، ولماذا حدث، نجد أن المصادر القديمة المختلفة تحتوي على أجوبة متعارضة متضاربة عن عقيدة الفداء والكفّارة المسيحية، والفلسفة المُتعلقة بهما. لقد رأيت أن أتحدث خاصةً عن هذا الموضوع ومن وجهة نظرٍ منطقية بحتة، وأعتقد أن المنطق وحده هو الأرضية المشتَركة بين جميع أهل الفرق والأديان،

الذي يمكن أن يستخدم للوصول إلى حوار مثمر بنّاء؛ وإلا فإن أي نقاش أو حوار حول الأسس التي يقدّمها كل کتاب دین مقدّس – بشكل منفرد – بالإضافة إلى التفسيرات المختلفة لهذه الأسس، لا بدّ أن تؤدي إلى اشتباكٍ جِداليٍّ يصعب الخروج منه.

وبالرغم من أنه قد مضى على بعثة المسيح عليه السلام ألفا سنة من الزمن، مع ذلك لم يتم بعدُ التوصلُ إلى حلّ مقبول للجميع، يكون مبنيّاً على الكتب المقدّسة وحدها.

إن أصعب ما في القضية هو أن مصداقية  بعض الادعاءات الواردة في تلك الكتب قد اشتبهت بسبب تفسيراتها المتعددة المتباينة، بالإضافة إلى تعقيداتٍ هائلة تنشأ عن المفاهيم المتضارية التي نمت تدريجا حول الشخصية التاريخية للمسيح. إن الرؤية من خلال منظورٍ تاريخي يكتنفها عموماً الغموض والإبهام، فمرور ألفي عام على بعثة المسيح يشكّل عائقاً ليس هيّناً أمامَ إدراك وفهم أحداثٍ بعيدةٍ بُعدَ زمانِ بعثته عليه السلام. مما لا شك فيه أن العقل والمنطق البشريين المدعومين بنور المعارف العلمية، ليس لهما جنس ولا لون ولا دين، لأنهما حقيقة مشتركة بين جميع الشعوب والأديان علی السواء، ولذلك فإن المنطق، والمنطق وحده، يمكن أن يكون القاعدة المشتَركة بين الجميع.

ولسوف أسعى في هذا الكتاب أن أفحص المشكلة من جوانب هامة عديدة. واسمحوا لي أن أبدأ أوّلاً بالمسيحية، وأن أنظر إليها كما يراها المسيحيون، ثم أقوم بتحليلها ونقدها تحت عدسة العقل المكبّرة.

غير أنه لا بد أن أؤكّد أنني لا أقصد أبداً الإساءة إلى المسيحيين أو شخص يسوع المسيح عليه السلام، لأنه من مبادئ ديني الأساسية، بصفتي مسلماً، أن أؤمن بصدق يسوع المسيح بكونه نبيّاً يحظى بمكانة خاصة عند الله تعالى، ويتمتع بمنزلة فريدة بين أنبياء بني إسرائيل. ولكن حيثما تتطلّب الحقيقة استخدامَ المنطق الحرّ والعقل السليم والفهم البشري الصحيح فإنه لا يسع المرءَ إلا  أن يراجع رأيه في المسيحية الحالية أخذاً بالاعتبار ما يقتضيه الأمر. وليس قصدي هنا أن أُبعِد المسيحيين عن المسيح، بل بالعكس أودّ أن أساعدهم ليقتربوا أكثرَ من حقيقة يسوع المسيح، ويبتعدوا عن الأساطير المختلقة حول شخصه عليه السلام.

من الممكن أن يشوّه الزمن ملامح الحقيقة ويحوّلها إلى أساطير وخرافات، والخرافاتُ والأساطير لا تؤدي إلا إلى إبعاد الإنسان عن حقائق الحياة، فيصير الإيمان خياليّاً غير حقيقي، في حين أن جذور الإيمان الحقيقي تكون راسخة في الحقائق والوقائع التاريخية، ومثل هذا الإيمان يكون صادقاً وقويّاً لدرجة أنه يُحدِث تغييرات هامّةً في المجتمع الإنساني.

وفي محاولة لفهم دين المسيح الحقيقي و تعاليمه السليمة الصحيحة لا مناص من تمحيص الحقيقة من الخيال وتمييز الحق من الباطل. إن العثور على الحقيقة هو الهدف الأسمى من بحثي هذا.. وآمل أنكم ستصغون إليَّ بصبر وتدركون أنني لا أقصد أبداً الإساءة إلى معتقد أحدٍ أو جرح أحاسيسه.

إن العالم المسيحي في حاجةٍ ماسة إلى نقدٍ بنّاء لإنقاذه من الانحلال الخُلُقي المشؤوم الذي من الصعب جداً صدُّ تیارهِ المدمِّر.

وبناءً على تحليلاتي، أرى أن الشباب المعاصر يفقد إيمانه

بالله عز وجل  بسرعة هائلة. لقد أتی زمان حين بدأ العلماء(Scientistsيبتعدون عن الله، لأنهم وَجدوا أن الفهم اليهودي – المسيحي للطبيعة كما صوره العهد القديم والجديد مخالف للواقع. إن ماهيّة الكون والأجرام السماوية وما وراءها، كما تُفهَم من دراسة الكتاب المقدّس، تبدو بعيدةً جداً عن حقائق الاكتشافات العلمية التي ظهرت للعيان في بداية عصر النهضة؛ ولقد ظل الاختلاف بينهما يزداد باستمرار مع تقدّم العلم ومع تطور الفهم البشري للطبيعة. وقد أدى هذا، بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى ظهور نزعة مهلكة بين فئات المثقفين في المجتمع تنحو نحو الكفر بالله. ثم لما انتشر التعليم في العالم طولاً وعرضاً تحولت الجامعات الكبرى ومراكز التعليم إلى أرضٍ خصبة لتنمية بذور الإلحاد في العالم.

إن معضلة الفهم اليهودي – المسيحي للكون تكمُن في وجود تناقُضٍ واضحٍ عندهم بين قول الله سبحانه وتعالى وفعلِه، لذا فقد اتخذ الجدال ضد الإيمان بالله المنحی التالي: هل الله هو خالق الكونِ و كلِّ ما فيه؟ وإذا كان هو واضع قوانين الطبيعة و حافظها – حسبما اكتشفت العقول البشرية الباحثة – فكيف يمكن إذن أن يكون سبحانه وتعالى جاهلاً بهذه الحقائق ؟! عندما يدرس المرء بيان التوراة حول

كيفية خلق السماوات والأرض، وكيف خُلق الإنسان من طين، وكيف خُلقت حوّاء من ضلع آدم…. إلخ – وهذان مثالان فقط من بين مجموعة هائلة من التناقضات المحيرة بين قول الله تعالى وفعلِه – فإنه يندهش ويحتار من التناقضات الكبيرة بين واقعِ نشوءِ الحياة على كوكب الأرض وبيان التوراة المذكور في سفر التكوين. إن مثل هذه التناقضات قد جعلت الكنيسة تتخذ مواقف اضطهادية حين لم ينازعها أحد في سلطتها السياسية. وثمة مثال شهير في هذا الصدد، وهو ذلك النزاع الذي حصل بين الكنيسة و جاليليو (١٥٦٤_١٦٤٢م) عندما نشر اکتشافَه عن النظام الشمسي حيث ثارت الكنيسة غضباً، لأن هذا الاكتشاف جاء مخالفاً لمفاهيمها حول هذا الموضوع، فأُجبر جاليليو، تحت وطأة الحبس والتهديد بالتعذيب حتی الموت، على إنكار اکتشافاته العلمية. وإلى جانب ذلك فُرضَت عليه الإقامة الجبرية مدي الحياة. وظلت الكنيسة على موقفها تجاه جاليليو حتی عام ۱۹۹۲م حين قررت أن تبطل حُكمها عليه، وذلك بعد مناقشات دامت اثني عشر عاماً في لجنة خاصّة عيّنها البابا يوحنا بولس الثاني.

لم يصل تأثيرُ هذه التناقضات في أول الأمر إلى الطبقات العامة من المجتمع، بل ظلت لبعض الوقت محدودةً ضمن دائرة ضيقة من المثقفين، ولكن مع انتشار نور العلوم العلمانية قد تضاءل بالتدريج ما أسموه “نور المعتقدات الدينية” وتحوّل إلى ظلام نسبيّ. وفي بداية عصر النهضة (القرن الخامس عشر) ظلت نشاطات العلماء مقتصرة عموماً على دائرتهم العلمية، ولم تقُم بينهم وبين عامة الناس صِلاتٌ واسعة كما هو مشهود اليوم، وهكذا فإن إلحاد هؤلاء العلماء لم يؤثِّر كثيراً على المجتمع ككل. ولكن لما أصبحت الثقافة العالمية متوافرة لأبناء الأمم المتقدمة، بدأت الأمور المتعلقة بالدين تتغير بسرعة هائلة في الاتجاه الخاطئ، وتَبِعَ ذلك عصرٌ من الفلسفة والمنطق؛ ومع تقدُّم العلوم بدأت فلسفات علم النفس والاجتماع تتطور سريعاً، خاصةً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وبما أن الفلسفات المادية الجديدة قد اختلطت بالرقي والفكر العلمانيّين، فإنها قد أفسدت أصلَ الدين أي الإيمان بالله تعالی. والحق أن الأخلاق يتحكم فيها ويحميها دائماً إيمانُ المرء بالله عزَّ وجل. فإذا كان هذا الإيمان ضعيفاً و ناقصاً، أو كان فيه خطأ ما، فإن الأخلاق تتأثّر تبعاً لذلك. فمثلاً إذا كان الإيمان بالله تعالى يتعارض مع العقل السليم والمفاهيم العلمية للطبيعة، فإن إيمان الناس يتضاءل تدريجياً مع ما يصحب هذا من تأثير سلبي على أخلاقهم؛ عندها يتحول المجتمع إلى مجتمع إلحادي کليّاً؛ ولكن مع ذلك قد يبقى بعض الأفراد منه مؤمنين بالله. وليس صعباً تحديدُ هذا الأمر والتأكدُ من نوعية إيمان المجتمع بالله تعالى. فكلما كان الإيمان ضعيفاً أو ناقصاً كان تأثيره في أخلاق الناس ضعیفاً؛ وإذا ما تصادم هذان الأمران تغلبت الدوافع غير الأخلاقية على الإيمان بالله تعالى. وبتطبيق هذا المعيار على أي مجتمع دین في أي مكان من العالم، يمكننا دائماً أن نحصل على نتائج صحيحة وموثوقٍ بها. فيمكن للمرء أن يضع المجتمع المسيحي المؤمن المزعوم تحت الاختبار ويتساءل فيما إذا كانت القيم المسيحية سائدةً في ذلك المجتمع أم لا؟ فهل المسيحيون مثلاً يعاملون جيرانهم طِبقاً لِما تأمرهم به الوصايا العشرُ في كتابهم المقدّس؟ وهل هم في أوقات الأزمات القومية وحالات الحرب إلخ.. يطبّقون المبادئَ المسيحية مع خصومهم؟ وهل يقدم الأبرياء من ضحايا الظلم خدَّهم الأيسر عندما يُصفَعون على خدِّهم الأيمن؟ السؤال هنا: إلى أي مدى يعكس سلوكُ المرء في الحياة صورة إيمانهِ ومعتقدهِ؟ فإذا لم يعكس، فهذا هو بالضبط ما نَعنيه بقولنا: إن إيمانهم بالله سبحانه وتعالى يتصادم ويتضارب مع أهوائهم ورغباتهم البشرية. وأما إذا حلّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى  محلَّ الصدارة بحيث تكون الدوافع والنوازع البشرية هي التي يُضحّى بها على مذبح ذلك الإيمان والمعتقَد، عندئذ يمكن للمرء أن يقول عن هذا الإيمان، مهما كانت طبيعته، إنه على الأقل إيمان حقيقي و خالص وقوي. إن نظرةً سريعة على العالَم المسيحي

” ….نرى أن عقائد المسيحيين في أساسها تتصادم مع حقائق الطبيعة، ولا تنسجم مع ما يتوقعه الإنسان بناءَ علة العقل والمنطق؛ ومن هذا المنظور، كان من الطبيعي أن يتخلى المسيحيون تدريجيا عن الأخذ بمعتقداتهم بجدّية وعن أن تصوغ هذه المعتقدات حياتهم وتؤثر في سلوكهم.    “

كما هو اليوم واختبارَه على هذا المحكّ للحُكم على نوعية الإيمان بالله، يشكّلان تجربةً محزنة ومخيّبة للآمال. إن ما يُرى على وجه العموم هو تمرّد علني على الإيمان بالله تعالى ؛ وأحياناً يكون هذا التمرّد على شكل ثورة سلبية لا يعبَّر عنها صراحةً. إن التباين بين الإيمان بالله وسلوكِ الأفراد هو الذي يوهم المرءَ بوجود مجتمع ديني من المؤمنين بينما الحقيقة مختلفة تماماً. وينطبق الأمر نفسه إلى درجة كبيرة على جميع المجتمعات الدينية الأخرى؛ ولكن لا يكون السبب واحداً دائماً في كل الحالات رغم تشابه النتائج. فيجب دراسة أحوال كل مجتمع طبقاً لظروفه.

ولذلك تكتسب الدراسة التحليلية الصادقة الهادئة المحايدة لطبيعة هذه التناقضات الموجودة بين معتقدات الناس وسلوكهم أهميةً بالغة.

وجدير بالإشارة أيضاً أننا نجد أحياناً من المعتقدات ما هو منحرف وغير طبيعي . فمثلاً، نجد أن بعض تعاليم التلمود المتعلقة بغير اليهود (Gentiles)  والتعاليم الهندوسية ل ( منو سمرتي) المتعلقة بالطبقة السفلى في المجتمع الهندوسي تصبح نعمةً عظيمة لتلك المجتمعات إذا لم يطبقها أهلُها. وفي بعض الأحيان يكون المعتقد في حد ذاته حسناً ونافعاً إذا عُمل به. ولكن الناس بأنفسهم يَفسُدون ويهجرون العمل بهذا المعتقد بحجّة أن العمل به بجدّية صعبٌ جداً ويتطلب جهداً كبيراً. بالعودة إلى مسألة المسيحية ، نرى أن عقائد المسيحيين في أساسها تتصادم مع حقائق الطبيعة ، ولا تنسجم مع ما يتوقعه الإنسان بناءً على العقل والمنطق؛ ومن هذا المنظور، كان من الطبيعي أن يتخلى المسيحيون تدريجياً عن الأخذ بمعتقداتهم  بجدّية وعن أن تصوغ هذه المعتقداتُ حياتَهم وتؤثر في سلوكهم.

الفصل الأول

بُنوّة يسوع المسيح

إن علاقة الأب والابن بين الله تعالى ويسوع المسيح أمر أساسي في العقيدة المسيحية. ولنحاول أولاً أن نفهم المراد من كون يسوع المسيح ابناً لله بالمعنى الحرفي للكلمة.

عندما نركزّ على معنى كون أحد ابناً حقيقياً لأبٍ حقيقي تواجهنا أمورٌ تضطرنا لأن نراجع رأينا في مسألة بنوة يسوع المسيح.

ما هو المراد بالابن؟ إن الإجابة على هذا السؤال كانت غامضة حين لم يكن العلم قد تطور ولم تُعرف بعد حقيقة وكيفية ولادة الطفل. كان القدماء يعتقدون أنه من الممكن فعلاً أن يكون لله تعالى ولد من ولادة بشرية! وكان هذا الاعتقاد سائداً في جميع المجتمعات الوثنية في مختلف أنحاء العالم. إن الميثولوجيا اليونانية حافلة بمثل هذه الخرافات، ولا تختلف الميثولوجيا الهندوسية عنها في هذا الأمر، لأن العقل البشري ما تحدى قط بصورة جدية الاعتقاد القائل بأن للآلهة المزعومة أبناءً وبنات كما يحلو لها. أما الآن فقد تطور العلم إلى مستوى عالٍ بحيث يمكن وصفُ عملية الولادة البشرية بتفصيل دقيق أكثر من أي وقت مضى، بحيث أصبحت مسألة بنوة البشر للآلهة غايةً في التعقيد، وأصبح أولئك الذين يعتقدون للآن بإمكانية ولادة بنات وأبناء حقيقيين لله تعالى يواجهون اليوم مشاكل عويصة تقتضي منهم الحلول، وكذلك أسئلة مستعصية يتحتم عليهم الإجابة عليها.

الأسس العلمية للأبوة

دعوني أذكركم أولاً بأن الأم والأب يشتركان سوياً في إنجاب الطفل، حيث إن خلايا البشر تحتوي على 46 كروموسوماً تحمل جينات أو صفات وراثية للحياة. وتحتوي بويضة المرأة الأم على 23 كروموسوماً فقط، أي نصف عدد الكروموسومات الموجودة في كل إنسان ذكراً وأنثى. وعندما تكون بويضة المرأة جاهزة ومهيأةً للإخصاب يدخلها الحيوان المنوي الذكري فيلقحها ويمدها بالعدد الباقي من الكروموسومات. هذا صنعُ الله، وإلا فإن عدد الكروموسومات سيتضاعف مع كل جيل جديد، ونتيجة لهذا التضاعف سيصبح لدى الجيل التالي 92 كروموسوماً، وهكذا دواليك؛ وسرعان ما سيتحول أبناء الجنس البشري إلى عمالقة، وتتحول عملية نمو الجنس البشري كلها إلى فوضى. وكيلا يحدث ذلك فقد قدّر الله عز وجل وبصورة جميلة جداً لظاهرة بقاء الجنس البشري بأن تحمل خلايا الإخصاب لكلٍ من الذكر والأنثى نصف عدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا الأخرى، أي تشمل بويضة الأم على 23 كروموسوماً فقط ومثل ذلك لدى الحيوان المنوي للأب. وعلى هذا فإنه يمكن للمرء أن يتوقع – إلى حد معقول- أن يحمل الطفل نصفَ الصفات الوراثية من الأنثى والنصف الآخر من شريكها الذكر. وهذا هو المعنى الحرفي للابن. وليس ثمة تعريف آخر يمكن إطلاقه على أي مولود بشري. طبعاً قد يكون هناك بعض الاختلافات في موضوع البحث، ولكن ليست هناك استثناءات في القواعد والأسس التي شرحناها آنفاً.

وما دمنا نركز على ولادة يسوع المسيح، دعونا نرسم صورة لما يكون قد حدث في قضيته. إن أول احتمال يمكن الأخذ به من الناحية العلمية هو أن البويضة غير الملقحة لمريم عليها السلام تكوين الجنين. وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف تم إخصاب البويضة، ومن أين جاءت بقية الكروموسومات الـ 23 اللازمة لتكوين الخلية الكاملة؟

من المستحيل الافتراض بأن خلايا عيسى كانت تحتوي على 23 كروموسوماً فقط. إذ لا يمكن لمولود بشري طبيعي أن يولد حياً حتى بـ 45 كروموسوماً، بل إن أي كائن بشري إذا نقص منه حتى كروموسوماً الأساسية اللازمة لخلقه الطبيعي، فإن ما ينتج – لو نتج منه شيء أصلاً – سيكون مشوهاً.

وعلمياً، ما كان بإمكان مريم وحدها أن تُزوّد الجنين بـ 46 كروموسوماً، وكان لا بد لها من أن تأتي بالـ 23 الأخرى من طرف آخر. وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الأب فإن ذلك سيضع أمامنا اختبارات متعددة:

الأول: هو أن تكون لله عز وجل الكروموسومات نفسها التي هي للبشر، وفي هذه الحالة لا بد أن تكون هذه الكروموسومات قد انتقلت بطريقة ما إلى رحم السيدة مريم عليها السلام؛ الأمر الذي لا يمكن تصديقه أو قبوله. إذ لو كان لدى الله الكروموسومات البشرية فهذا يعني أنه لم يَعُد إلهاً. لذا فإن ما ينتج عن الاعتقاد بأن يسوع ابنُ الله الحقيقي هو أن ألوهية الأب أيضاً أصبحت عرضة للخطر.

والاحتمال الثاني هو أن الله تعالى قد خلق الكروموسومات الإضافية كظاهرة خارقة للعادة في الخَلق؛ وبعبارة أخرى فإن هذه الكروموسومات ما كانت تخص شخص الله عز وجل، بل خُلقت بشكل إعجازي. وهذا سيؤدي بنا تلقائياً إلى رفض صلة يسوع بالله تعالى صلة الابن بالأب؛ وستنتج عنه الصلة الكونية الشاملة بالله تعالى، وهي صلة كل مخلوق بخالقه.

في الطبقات الأدنى من الكائنات الحية، هناك ظاهرتان ثابتتان علمياً وهما: التوالد العذري والتوالد الخنثوي. وعلى هذا فإن ولادة المسيح الإعجازية من السيدة مريم العذراء عليها السلام يمكن أن تُفهم على أنها تشابه إحدى هذه الظواهر الطبيعية النادرة التي لم يتمكن الإنسان بعد من أن يسبر غورها ويفهمها.

هل يمكن وجود ابن حقيقي لله؟

من البين أن البنوة الحقيقية لله تعالى مستحيلة، لأن الابن الحقيقي يجب أن يحمل نصف كروموسومات أبيه ونصف كروموسومات أمه. ولو افترضنا ذلك جدلاً، فتواجهنا مشكلة أخرى، لأن الابن في مثل هذه الحال يجب أن يكون نصف إنسان ونصف إله؛ ولكن الذين يؤمنون بالبنوة الحقيقية لله يزعمون بكل إصرار أن المسيح كان إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً في الوقت نفسه!

أما لو أن الكروموسومات كانت نصف العدد المطلوب لَما بقيت أمامنا أية مشكلة، لأنه ما كان لطفل أن يولد نهائياً. ولو افترضنا أن ذلك حدث فعلاً فإن ذلك الطفل لن يكون سوى نصف إنسان، لأنه حتى لو نقص جين واحد داخل كروموسوم واحد – ناهيك عن نقصان 23 كروموسوماً كاملة- فإنه يمكن أن يدمر الطفل المولود ويلحق به عيباً خلقياً فتاكاً، فإنه سيولد أعمى أو أصم أو أبكم أو فاقد الأطراف، وتكون الأخطار المصاحبة لمثل هذا الحادث التعيس كثيرة لا حد لها.

على المرء أن يكون واقعياً، إذ يستحيل على العقل البشري السليم أن يقبل أن يكون لله سبحانه وتعالى أية كروموسومات سواء بشرية أو غيرها.

فمع استحالة الدور الجسدي لله تعالى في ولادة عيسى، علينا أن نسلم أنه إذا ولد لمريم ابنٌ فإنه سوف يحمل فقط صفات الجينات الإنسانية التي اشتملت عليها بويضتها. وعلى أية حال فإنه لن يكون ابناً لله، وفي أحسن الأحوال يمكن أن يوصف هذا الشخص الغريب في طبيعة خلقه بنصف إنسان وليس أكثر! فلو كانت أعضاء التناسل لدى السيدة مريم – عليها السلام – مثل أية امرأة أخرى، ومع ذلك كانت البويضة قد أُخصبت بنفسها بطريقة ما فإن أكثر ما يتوقعه المرء هو خَلق كائن يحمل نصف الصفات البشرية فقط. ومن القباحة بمكان أن يُدعى هذا الكائن ابن الله!

إذاً كيف وُلد المسيح [AAS

نعلم أن بحوثاً متعلقة بالولادة من الأم فقط ودون مشاركة الذكر جارية اليوم في كثير من دول العالم المتقدم؛ ولكن لا زالت المعرفة البشرية في مرحلة لم يتقدم فيها البحث العلمي بعد بحيث يمكن تقديم شواهد قطعية على إمكانية الولادة من عذراء في الجنس البشري، غير أن هذه الإمكانية لا زالت مفتوحة.

في الطبقات الأدنى من الكائنات الحية، هناك ظاهرتان ثابتتان علمياً وهما: التوالد العذري والتوالد الخنثوي. وعلى هذا فإن ولادة المسيح الإعجازية من السيدة مريم العذراء عليها السلام يمكن أن تُفهم على أنها تشابه إحدى هذه الظواهر الطبيعية النادرة التي لم يتمكن الإنسان بعد من أن يسبر غورها ويفهمها.

وفيما يلي وصفٌ مختصر لظواهر التوالد العذري والتوالد الخنثوي. ويمكن للقراء المهتمين بالدراسات الأكثر علمية والمبنية على الفهم الحديث لهذا الموضوع، أن يرجعوا إلى الملحق 2 في آخر هذا الكتاب.

التوالد الخنثوي

ويحدث هذا عندما تمتلك الأنثى الواحدة أعضاء كلا الجنسين، وتبدي الكروموسومات صفات الذكر والأنثى على السواء مرتبطة بعضها ببعض. وقد كشفت الاختبارات عن حالات لأرنب عنده كلا عضوي التناسل؛ ففي مرحلة من المراحل تزاوج هذا الأرنب مع العديد من الإناث وتسبب في ولادة أكثر من 250 مولوداً من كلا الجنسين؛ وفي مرحلة أخرى حمل “الأرنب نفسه” دون أي اتصال بأي ذكر وأنجب سبعةَ صغار تامة الخلق من كلا الجنسين. وعند تشريح هذا الأرنب وُجد أن لديه مبيضين يعملان بصورة طبيعية وكذلك وجد لديه خصيتان عقيمتان[1]. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن وجود مثل هذه الظاهرة أمر ممكن لدى الجنس البشري ولو بصورة نادرة.

التوالد العذري (إمكانية الولادة من عذراء)

وهو تطور غير جنسي أو غير تزاوجي لبويضة الأنثى يؤدي إلى إنتاج الوليد دون وساطة الذَّكر. وهي ظاهرة ملحوظة في كثير من أشكال الحياة الأقل تطوراً مثل حشرات المنّ (الأرْقة) والسمك. وكذلك توجد شواهد على أن التوالد الذاتي (المستقل) يمكن أن يكون الوسيلة الاستراتيجية الناجحة للتكاثر عند السحالي التي تعيش في مناطق يقل فيها هطول الأمطار أو يكون غير متوقع. وقد تم في المختبرات العلمية تطويرُ أجنة فئران وأرانب بطريقة التوالد غير الجنسي إلى فترة تساوي نصف فترة الحمل الطبيعي، ولكنها أُجهضت بعد هذه الفترة. كما جاء في دراسات حديثة أنه يمكن تنشيط عملية تكوين أجنة بشرية أحياناً بطريقة التوالد الذاتي باستعمال “الكالسيوم أيونو فور” كمادة محفّزة.

إن مثل هذه الأبحاث تدعم فكرة أن بعض حالات الإجهاض المبكر أثناء الحمل البشري قد تكون بسبب أن الجنين قد تشكل فيها بطريق التوالد العذري.

على أية حال، أثبتت البحوث التجريبية الحديثة أن الولادة العذرية ممكنة من الناحية العلمية، حيث نشر في مجلة “مورثات الطبيعية” (Nature Genetics) عدد أكتوبر/ تشرين الأول 1995م تقرير يبحث في حالة غير عادية لطفل عمره ثلاث سنوات؛ نتج من بويضة غير ملقحة. وقد فحص الباحثون ترتيب (DNA) في كل الكروموسومات الجنسية (X) في خلايا جلد الولد ودمه، واكتشفوا أن الكروموسومات X في جميع خلاياه كانت متطابقة بعضها مع بعض، وجميعها مشتقة من أمه فقط. وهكذا فإن المكونات الوراثية لـ أزواج الكروموسومات الـ 22 الأخرى في دمه كانت أيضاً متطابقة ومشتقة بكاملها من أمه.

ما هي المعجزات؟

ما دامت إمكانية الولادة من عذراء مفتوحة وواسعة، بحيث لم تعد أمراً مستحيلاً أو غير طبيعي فما الحاجة للبحث عن تفسير خارق لولادة عيسى، أو أن نذهب أبعد من ذلك إلى أقصى تطرّف في الاعتقاد بولادة ابن حقيقي لله من خلال ولادة بشرية؟ فحين نلاحظ هذه الظواهر المختلفة المشار إليها على أنها حقائق طبيعية، لماذا يصعب تصديق ولادة المسيح عيسى كظاهرة طبيعية خفيّة علينا أظهرها الله بتقديره الخاص؟

لقد حدث شيء ما للسيدة مريم، فأدى إلى ولادة ذلك الطفل ولادة إعجازية دون أن يمسها رجل. هذا هو ما حدث بالضبط بحسب اعتقاد المسلمين الأحمديين. وإن اعتقادنا هذا راسخ لا يتزعزع، لأنه لا يمكن لعالم أن يرفضها بحجة أنها مخالفة للعقل أو معارضة لقوانين الطبيعة المعروفة.

إن الإسلام لا يرى المعجزات على أنها حوادث خارقة أو غير طبيعية، بل يعتبرها ظواهر طبيعية تخفى على المعرفة البشرية في فترات زمنية معينة، وإلا لَبَرَزت أسئلة كثيرة حول حكمة الله. إذا كان الله هو الذي خلق قوانين الطبيعة، فلا بد أن يكون قد دبّر الأمر بحيث يمكنه سبحانه وتعالى أن يأتي بحلول مطلوبة لمشكلة ما دون أن يخرق تلك القوانين.

الإنسان لا يعرف قوانين الطبيعة كلها. وهناك فئات من القوانين تعمل وكأنها في صفوف مختلفة وعلى مستويات منفصلة. وفي بعض الأحيان يراها الإنسان على مستوى واحد فقط ولا تقدر نظرته على سبر غور ما وراء ذلك. وتزداد المعرفة البشرية مع مرور الوقت، وكذلك تزداد قدرته لسبر عمق العلوم والمعارف، كما تزداد قدرته على إدراك تلك القوانين التي كانت خافية عليه إلى ذلك الحين. ومع التقدم العلمي تُلقي الاكتشافاتُ الجديدة المزيد من الضوء على مثل هذه القوانين التي تبدو وكأنها تعمل ضمن مجموعات. وهكذا يصبح عملُ هذه القوانين وتفاعلها مع بعضها الأخرى أيسر فهماً وإدراكاً.

الأمور التي كانت تبدو كالمعجزات في العصور القديمة لم تعد كذلك في العصر الحاضر. وعليه فإن المعجزات تبدو كذلك فقط بحسب معرفة الإنسان في فترة محددة من الزمان. وعندما تظهر للعيان قدرة إلهية بصورة خارقة يبدو وكأن قانوناً قد خُرِق، ولكن الأمر غير ذلك ، لأن الحقيقة أن قانونا خفيا كان موجودا مسبقا ولكنه بدأ يعمل الآن بأمر الله عز و جل والناس في ذلك الزمان لم يفهموا ذلك القانون ، كما لم تكن لهم أية سيطرة عليه ، فمثلا القوة المغناطيسية لم تكن معروفة للإنسان قبل آلاف قليلة من السنين ، فلو أن شخصا اكتشفها صدفة واخترع جهازا تمكن بواسطته من رفع الأشياء دون أي سبب ظاهر مدرك بالعين المجردة فلا بد أن يثير ذلك الاختراع إعجاب وحيرة ودهشة كل من يراه بحيث يصيح مذهولا ” معجزة .. معجزة .. ”

وأما اليوم فإن مثل هذه الحيل والخدع تعتبر أمرا شائعا بل بسيطا جدا أيضا .

إن معرفة الإنسان محدودة ولكن علم الله عز و جل لا حدود له ولا نهاية ، ولو أن قانونا ما عمل بما هو خارج عن نطاق معرفة الإنسان فإنه سوف يبدو معجزة ولكن عندما ننظر إلى الوراء إلى مثل تلك الأحداث وندرك حقيقتها بعدد حدوثها بناء على العلم الذي حصلناه حينئذ فإنه يمكننا أن نستبعد كل ما يسمى خرقا لقوانين الطبيعة ونعتبرها ظواهر طبيعية بحتة لم يستوعبها الإنسان في ذلك الزمان . ولهذا السبب قلت : لا بد أن تكون هناك ظاهرة طبيعية مسؤولة عن الولادة الأحادية للمسيح عيسى عليه السلام التي كانت مجهولة لأهل تلك الفترة من الزمان والتي ليست معروفة تماما للناس حتى يومنا هذا أيضا ، ولكن العلم لا يزال يتقدم في هذا الاتجاه ولا يزال يفهم المزيد عن هذا الموضوع يوما بعد يوم . لذا فسيأتي يوم حين لن يكون بوسع أحد أن يزعم أن ولادة عيسى المسيح كانت غير طبيعية بمعنى أنها كانت مخالفة لقوانين الطبيعة بل سوف يضطر الجميع إلى الاعتراف بأنها كانت طبيعية ولكن نادرة الحدوث جدلا بحيث إنها قلما تحدث في البشر .

الأمور التي كانت تبدو كالمعجزات في العصور القديمة لم تعد كذلك في العصر الحاضر. وعليه فإن المعجزات تبدو كذلك فقط بحسب معرفة الإنسان في فترة محددة من الزمان.

عيسى ابن الله ؟

ثمة مشاكل أخرى كثيرة تتعلق بالفهم المسيحي لعيسى ، منها : طبيعة وصلته بالله . ما يبرر من الدراسة التحليلية النقدية للعقيدة المسيحية هو أن لله ابنا يملك صفات الإنسان الكامل وصفات الإله الكامل أيضا . علما أنه حتى حسب العقيدة المسيحية ليس الأب مثل الابن تماما فالإله الأب هو إله كامل وليس رجلا كاملا بينما الإله الابن هو رجل كامل وإله كامل أيضا ففي هذه الحالة هناك كائنان مختلفان بصفات مختلفة .

ويجب الاعتراف بأن هذه الصفات ليست قابلة للنقل أو التحول ، في حين توجد في بعض العناصر صفات قابلة للنقل والتحول . فالماء مثلا يمكن أن يصير ثلجا أو بخارا دون أن يسبب ذلك تغيرا في مادة الماء أو تركيبه.

ولكن نوعية الاختلاف في صفات الله والمسيح – حيث تضاف صفات معينة لواحد منهما- هي غير قابلة للتوافق .

إذ ليس من الممكن لأحدهما أن يمر من هذا التحول ويبقى مع ذلك غير متميز عن الآخر . والحقيقة أنها مشكلة عويصة وخطيرة فيما يتعلق بمسألة الاعتقاد بكون يسوع المسيح إلها كاملا بالإضافة إلى كونه إنسانا كاملا . ولو كان يتحلى بهاتين الميزتين حقا ، لكان بالتأكيد مختلفا عن الأب الذي لم يكن إنسانا كاملا إطلاقا ، ولا حتى إنسانا غير كامل .

فأي نوع من الصلة كانت هذه ؟ هل كان الابن أعظم من الأب ؟ ولو أن هذه الصفة الإضافية لم تجعل الابن أعظم لكانت نقيصة أو عيبا ، وفي هذه الحالة فإن الإله الابن الناقص ليس مناقضا لأيضا للمفهوم العام لله .

إذن كيف يمكن لأي إنسان أن يفهم هذا التناقض في العقيدة المسيحية التي تريدنا أن ن}من بأن الإله الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد هم الشيء نفسه دون أي اختلاف على الاطلاق ! هذا يمكن أن يحدث في حالة واحدة فقط وهي ألا تكون العقيدة مبنية على أسس وقواعد حقيقية بل على خرافات وأساطير فقط . وهناك مشكلة أخرى أيضا يجب حلها :

إذا كان عيسى صار ابنا لله لولادته من رحم السيدة العذراء مريم ، فمن كان مقامه قبل ذلك ؟

وإذا كان ابنا لله منذ الأزل دون أن يولد من السيدة مريم ، فما الداعي إذن أن يولد في صورة بشرية ؟ وإذا كان ذلك ضروريا فهذا يعني أن صفة الابن لم تكن أزلية ، بل أصبحت صفة مضافة بعد أن ولد من البشر ، ثم اختفت عنه بعد أن خلع الجسد البشري وعاد إلى السماء . وهكذا فهناك تعقيدات كثيرة تنشأ عن اعتقاد ترفضه الفطرة البشرية السليمة .

إنني أدعوكم ثانية إلى أن تقبلوا فمها أكثر واقعية وإكراما للمسيح عيسى وهو أن ولادة المسيح عيسى كانت خلقا خاصا قدره الله عز و جل بتنشيط بعض القوانين الطبيعية المخفية . كان عيسى ابنا لله بالمعنى المجازي حيث إن الله تعالى قد أحبه بشكل خاص ولكنه كان بشرا محضا في جميع أحواله وأن مقامه كابن قد ألحق بشخصه بعد حوالي 300 سنة من دعواه بغية إضفاء صبغة الاستمرار على أسطورته وسنناقش هذا الموضوع لاحقا .

أن طبيعة الصلة الزواجية بين الله ( الأب ) ومريم لموضوع يأنف الإنسان من البحث فيه ، ومع ذلك فإن محاولة فهم دور الوسيط الذي لعبته مريم بين ” الأب ” و ” الابن ” لهي شر لا يمكن تجنبه ! ولربما هو ذاته السؤال الذي أقلق وأزعج ” نيتشيه ” كثيرا حتى نفس أخيرا عن عدم رضاه المكبوت حول هذا الموضوع بالكلمات التالية :

” وبعد وقت قصير حرر زرادشت نفسه من المشعوذ ، غير أنه شاهد ثانية قرب الطريق الذي كان يجتازه رجلا جالسا طويل القامة قاتم اللون بوجهه شاحب منهك . هذا الرجل أغاظه كثيرا ، فقال في قلبه ” آه ، ها هي مصيبة متنكرة ويبدو أنها من النوع الكهنوتي : ماذا تراهم يريدون في مملكتي ؟ … قال : كائنا من كنت أيها المسافر ، أنقذ هذا الذي ضل السبيل الرجل العجوز الذي يمكن أن يكون قد أتى هنا بنية الإيذاء !! إن العالم هنا غريب وبعيد بالنسبة لي . أسمع زمجرة الحيوانات البرية ، أما الذي كان يستطيع أن يضمن لي الحماية فقد غاب . كنت أبحث عن رجل آخر رجل تقي ، قديس وراهب وحيد في الغابة لم يسمع بعد عما يعرفه العالم كله اليوم .

سأل زرادشت قائلا : ” ما الذي يعرفه العالم كله اليوم ؟ ربما يعرف أن الإله العجوز الذي أمن به العالم ذات مرة لم يعد حيا ؟ ” ” هو كذلك ” أجاب الرجل العجوز بحزن ، ولقد خدمت أنا ذلك الإله العجوز حتى آخر لحظة من عمره ولكنني الآن قد تقاعدت عن الخدمة وأنا بدون سيد ومع ذلك فأنا لست حرا كما لست سعيدا ولا لساعة واحدة إلا في الذكريات . وهذا هو سبب تسلقي لهذه الجبال لعلي أقيم احتفالا مرة ثانية على الأقل كما يليق ب ( بابا ) عجوز وأب كنسي . واعلم أنني آخر ( بابا ) وأنني سأقيم احتفال ذكريات تقية وخدمات إلهية ولكن أتقى الرجال ذلك القديس في الغابة الذي اعتاد باستمرار أن يمجد إله بالأناشيد والتمتمات بنفسه قد مات الآن . عندما وجدت كوخه لم أجده فيه وإنما وجدت ذئبين في الكوخ يعويان على موته لأن جميع الحيوانات قد أحبته ثم انطلقت أيتعد مسرعا . أتراني جئت إلى هذه الغابات والجبال عبثا ؟ ثم قرر قلبي أن يبحث عن آخر … عن أتقى أولئك الذين لا يؤمنون بالله .. أن أبحث عن زرادشت ! ” .

هكذا تكلم الرجل العجوز وحدق بعينين ثاقبتين بالرجل الواقف أمامه ، وأمسك زرادشت  بيد البابا العجوز لزمن طويل تقديرا وإعجابا ثم صاح قائلا : انظر أيها الرجل المحترم ، يا لها من يد طويلة وجميلة ! إنها يد شخص كان يمنح البركات دائما ، ولكنها الآن تمسك بشدة من تبحث عنه وهو أنا: زرادشت ، إنه أنا زرادشت الملحد الذي يقول : من ذا الذي هو أكثر مني إلحادا ؟ لعلي ابتهج وأطرب بتعاليمه ؟”

هكذا تكلم زرادشت وأدرك بنظره الثاقب أفكار ونوايا البابا العجوز وأخيرا بدأ الآخر يقول : ” إن ذاك الذي أحبه وامتلكه أكثر من كل شيء هو الذي أضاعه الآن أكثر من كل شيء آخر .” وقال : ” ألست أنا الأكثر إلحادا من بيننا الآن ؟ ولكن من الذي عساه أن يحتفل ويبتهج بذلك ّ

وبعد صمت عميق سأل زرادشت يتفكر : ” لقد خدمته حتى النهاية أتعرف كيف مات ؟ هل صحيح ما يقولون إن الشفقة قد خنقته ؟ وأنه رأى كيف علق إنسان على الصليب ولم يستطع تحمل ذلك فمات ! وأن حبه للإنسان أصبح جحيمه ثم في النهاية موته ؟.

ولكن البابا العجوز لم يجب بل نظر بعيدا باستحياء وبتعابير وجه قاتمة متألمة ” دعني أذهب ” قال زرادشت بعد تأمل طويل تابع خلاله التحديق مباشرة في عين الرجل العجوز ، ” دعه يذهب ولقد انتهى ورغم أنه يشرفك أن تذكر هذا الإله الميت بالخير فقط فأنت تعرف تماما كما أعرف أنا من كان هو ؟ وأنه قد سلك طرقا غريبة ! ”

فقال البابا العجوز مبتهجا : ” بيني وبينك أو بتعبير آخر ” كلاما تحت العيون ” ( لأنه كان أعور العين ) إنني في المسائل الإلهية أكثر معرفة من زرادشت نفسه ويمكنني أن أكون كذلك تماما لقد خدمه حبي سنوات طويلة وخضعت إرادتي لإرادته تماما إن الخادم الجيد على كل حال يعرف كل شيء بالإضافة إلى أشياء كثيرة أيضا يخفيها سيده عنه . لقد كان إلها مخفيا مليئا بالأسرار والحق أنه قد جاء بوساطة ولد ( ابن ) ومن خلال واسطة سرية غير مباشرة ، وعلى باب الإيمان به يقف الزنى . إن كل من يمجده على أساس أنه إله الحب فلا يسمو فكره عن الحب ذاته ، ألم يرد هذا الإله أن لا يحاكم ؟ ولكن المحب يحب دون اعتبار للمكافأة أو الجزاء . وعندما كان صغيرا – هذا الإله الذي هو من الشرق –كان قاسيا وانتقاميا وخلق لنفسه جحيما من أجل مسرة أصفيائه ولكنه مع مرور الزمن ازداد هرما ولينا ورقة وعطفا وكجد أكثر منه كأب ، بل كجدة عجوز منهارة . ثم جلس واهنا ضعيفا قرب زاوية مدفأته يدلك قدميه المتعبتين مرهقا من العالم مرهقا من الإرادة ثم اختنق ذات يوم بسبب شفقته المتزايدة ! ”

(” هكذا تكلم زرادشت thus spoke zarathustra  ل فريديريك نيتشيه ص 271-273 ترجمة وطباعة : penguın books 1969 ) .

[1] أي كانت خصيتاه عقيمتين وقت عملية التشريح في حين كانتا نشطتين في المرحلة الأولى عندما تزاوج مع الإناث. (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك