القتل باسم الدين الحلقة الثانية                   

الفصل الثالث

ردّ الفلسفة المودودية

 

بعد أن فشلت حركة (الخلافة) الإسلامية بالهند في أوائل العشرينات من هذا القرن.. اتجهت حركات النهضة الدينية الهندوكية اتجاها عدوانيًا. تضافرت حركة (هندو ماهاسبها) التي أسسها (باندت مَدَن موهن ملافييا) في (هاردوار) عام 1914.. مع حركة (آرياسماج) تحت اسم (شُدّي).. في حملة استهدفت تطهير المسلمين واسترجاعهم من عقيدة الإسلام.. وذلك في إقليم بنجاب والمقاطعات المتحدة و(دكن) وأجزاء أخرى من الهند. وأثارت عصابات الهندوس أعمال شغب متبادلة، لأنهم كانوا يجبرون المسلمين على غسل (نجاستهم) بأن يغمروهم في نهر أو مستودع للمياه. وفيما بين عامي 1922 إلى 1926، وقع ما يزيد على مائتي صدام عنيف بين الهندوس والمسلمين، وكثرت هجماتهم بالقول والكتابة على الإسلام وعلى النبي . وفي غمرة حماسهم الديني شنَّ كتّاب حركة (شدّي) حملات بذيئة على النبي الكريم . وكتب أحد دعاة (آرياسماج) يدعى (باندت كاليتشاران) سيرة للنبي أكد فيها مزاعم دنيئة عن فجوره (والعياذ بالله!) وتعدد زوجاته.. وذلك لكي يصحح بزعمه معالم التاريخ! كما أصرَّ في كتابه (حياة عجيبة) على أن الإسلام انتشر بالسيف؛ وكل المسلمين في رأيه.. تنطوي نفوسهم على النهب والحرق والاغتصاب.

وفي مايو عام 1924.. نشر صاحب مكتبة في لاهور يدعى (راجبال) نشرة بالأردو، كتبها مؤلف مجهول الاسم، ينتقد فيها النبي ، وسمى النشرة (رنجيلا رسول) أي النبي اللعوب Play Boy.. يشير فيها إلى أن مؤسسي الديانات مرتبطون بمجموعة من الأفكار والرموز. وعلى سبيل المثال ذكر أن مؤسس (آرياسماج) سوامي دياناند.. عظم التبتل، وجعل إصلاحاته متطابقة مع (الفيدا). وكذلك زعم أن سيرة نبي الإسلام وديانته كانت وثيقة الصلة بالعلاقات مع النساء. وقام شابان مسلمان بقتل الناشر، مما أدى إلى شغب بين الهندوس والمسلمين.

وكتب هندوسي آخر مقالة بعنوان (رحلة إلى الجحيم).. صوّر فيها النبي كأنه في النار، وأفاض في شرح عذابه و(خطاياه)!

قام المسلمون الأحمديون على الفور، وكان ذلك في الهند قبل التقسيم، وجمعوا الجهود، وهزموا حركة (استرداد المسلمين) هذه في عُقر دارها. ومضى إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية وقتئذ.. حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد.. وأخذ خطوة إيجابية أبعد من ذلك.. فقرر إقامة مؤتمر للأديان، يجتمع فيه قادة الديانات المختلفة، كي يبينوا للناس عقائدهم، وبذلك ينزعون حجب الجهل والتعصب. وبالفعل، عُقد مؤتمر سنوي خُصص لهذا الغرض، وسمي (يوم مؤسسي الديانات). وفي هذا اليوم، يمكن للمتحدث المسلم أن يتكلم عن عظمة كريشنا أو بوذا، وبوسع البوذي أو الهندوسي أن يتكلم عن كمال نبي الإسلام ، وبذلك يتم تصحيح سوء الفهم الذي أذاعه أصحاب الدعايات.

وخلال هذه الحقبة التعيسة، الحافلة بالافتراءات والكراهية.. كان موقف المسلمين الأحمديين يتلخص في إعلام غير المسلمين، وتقديم رسالة المحبة والسلام.. التي جاء بها نبي الإسلام إلى هذه الدنيا. ذلك لأن تبادل الاتهامات والتهكم اللاذع فيما بين الطوائف لا يعين على الدعوة الدينية.. بل التركيز على النواحي الطيبة في الدين أجدى نفعا.

ولقد حث إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حكومة الهند، البريطانية يومئذ، على تشديد قبضة القانون من أجل حماية كرامة القيادات الدينية، وسلم حضرته مذكرة بهذا الشأن إلى حاكم إقليم بنجاب، وليم هايلي، الذي أوصى الحكومة بتعديل القانون بحيث يحظر نشر السخافات التي تسيء إلى المشاعر الدينية.

وقبلت الحكومة التوصية، وأضيفت مادة جديدة إلى قانون العقوبات الهندي تجرِّم إهانة أو محاولة إهانة المعتقدات الدينية لأي طائفة من الشعب، وأجازها المجلس التشريعي عام 1927.

ولكن مسلمي الهند في ذلك الحين كانوا قلقين ساخطين، واستبد الغضب بخطاط مسلم يدعى عبد الرشيد، وأثارته تلك الهجمات الخبيثة على النبي ، فقتل سوامي شري داناد أحد زعماء حركة (شُدّي). قبض على القاتل وحوكم وأعدم.. توجّه ألوف من مسلمي مدينة دلهي إلى سجن المدينة، وتسلموا الجثة، ودفنوها باحتفال يليق بالشهداء. أثار هذا التعظيم غضب الهندوس، على أنه تكريم للقاتل، واتهموا الإسلام بأنه دين العنف واستخدام القوة، وأنه يعتمد على الجهاد الدموي بدلاً من العقل والفضيلة. فقام شاب صحفي ناشئ يدعى أبو الأعلى المودودي، وتصدى للرد على هذه الاتهامات، في سلسلة من المقالات، نشرتها مجلة (الجمعية) الناطقة بلسان جمعية علماء الهند. ثم نشرت تلك المقالات في كتاب تحت اسم (الجهاد في الإسلام).

في الجزء الأول من هذا الكتاب، دلل المودودي بالحجة المقنعة، على أن حروب نبي الإسلام  كانت دفاعية، حيث أنه حارب لإرساء حرية الضمير، وليصد كل المحاولات الرامية لكبت الجهود السلمية للدعوة إلى الإسلام. وبعد أن نجح المودودي في إقناع القارئ بأن الإسلام قد أرسى فعلاً قواعد حرية الفكر.. وإذا بمولانا يُلقي سحابة من الشك على أدلته، عندما ألحق بها هذا القول:

“إن حصر حرية الضمير في مسائل الإيمان والتدين وحدهما.. لا يعني أبدًا إباحة حرية الإثم للناس. فالإسلام لا يجيز استعمال القوة للدخول فيه، ولكن استخدام القوة مندوب، بل يجب استخدامها في الواقع.. لمنع الناس من ارتكاب الخطأ. ولا يمكن أن يُسمح للبلاد والثقافات غير الإسلامية بممارسة أفعال غير أخلاقية. وينبغي حينئذ التمييز بين القوة المستخدمة لحفظ تلك البلاد من الخطيئة، وبين تلك القوة التي تستعمل لإكراه الناس على الإسلام.”

بذلك استحدث مولانا طريقة تنطوي على ضرر بالغ.. لتفسير القرآن وأحاديث الرسول ليثبت بها نظريته هذه.

ويذهب المودودي أبعد قليلاً في مناقشة استعمال القوة، ويفسر المراد من الآية التاسعة من سورة التوبة، ونقتبس من النص قوله:

“وعبارة (حتى يعطوا الجزية..) تبين الغرض من الحرب.. ألا وهو منع الرذيلة. ولو كانت العبارة: حتى يقبلوا الإسلام مثلاً، لقيل عندئذ أن الإسلام يستعمل القوة لنشر عقيدته. ولكن عبارة (حتى يعطوا الجزية..) واضحة، وبقبول دفع الجزية يتوقف القتال. وبعدها فإن حياة غير المسلمين وأموالهم حرام.. أسلموا أو لم يسلموا”.

بدأ مولانا كتابه ليدلل على أن الإسلام يمنح حرية الضمير كاملة، وأن حروب النبي كانت ضد مناهضيه الذين يعملون على قمع الحرية الدينية. كتب مولانا المودودي كتابه ليرد على مزاعم غير المسلمين القائلة بأن الإسلام يقوم على مبدأين أساسيين: الأول، إكراه الناس على فعل الخير، والثاني، منعهم من الانغماس في الرذيلة. ولما كان إجبار الناس على فعل الخير يناقض حرية الفكر.. فالإسلام يحجم عنه.

ولعل مولانا مصاب بالنسيان أحيانًا.. لأنه استشهد من القرآن بالآيات التي تفرض وقف الحرب بعد أن يقبل غير المسلمين دفع الجزية.. فكيف تقوم حرب هدفها الأساسي منع الرذيلة.. ثم يتحقق النصر فيها إذا قبل الخصم دفع الجزية.. دون التعهد بالقضاء على الرذيلة؟! هل مولانا يحتال لجمع الضرائب والمكوس.. فإذا ما قبل القوم دفع الجزية سرعان ما ينسى الإسلام مبدأه الثاني؟!

ومع ذلك فإن الجزء الأخير من منطق المودودي يلغي تمامًا الغاية التي من أجلها ألّف كتابه، حيث يقول: “وعندما فشلت كل وسائل الإقناع.. استل النبي سيفه، السيف الذي أماط الشر والأذى.. وأزل النجس والدرن من النفوس. بل وفعل السيف ما هو أكثر من ذلك.. لقد أبرأ العمي فصاروا قادرين على رؤية نور الحق، وشفاهم من كِبْرهم.. ذلك الكبر الذي منع الناس من تقبل الحق. فانحنت الرقاب الغليظة، والرؤوس المتغطرسة في اتِّضاع وانصياع”.

هذا الجانب من منطق مولانا أحبط بشارته بأن الإسلام يوطد دعائم حرية الضمير، كما أنه منطق يتنافر مع روح الإسلام. ولما كان الغلط يسوق إلى الغلط. فقد وصل مولانا أخيرًا.. وبعد 137 صفحة من الخلط والمغالطات.. إلى هذه النتيجة:

“..فإنه من الخطأ أيضًا.. القول بأن السيف لم يكن له دور في هذا التحول إلى الإسلام”.

استهل مولانا كتابه معلنًا عزمه على بيان أن حروب النبي كانت حروبًا دفاعية.. ومضى يجاهد في إثبات حرية الضمير.. وإذا به يصل إلى النهاية ويده في يد أعداء الإسلام! وبفعلته هذه يفتح الباب لهجمات المستشرقين. فمولانا تمتع باحترام أقلية صغيرة.. ولكنها كانت عالية الصوت شديدة الجلبة، من ذوي الثقافة الغربية.. وهذا يساعد المستشرقين في احتجاجهم ضد الجهاد الإسلامي، ويعتمدون في ذلك على سيف مولانا المسلول ليؤدي دوره في الدعوة إلى الإسلام!

بعد أقل من عامين من هجرة النبي .. واجه النبي وصحابته ألفًا من أهل مكة.. جاءوا إلى المدينة، وقد عقدوا العزم على محو الإسلام ونبيه وأتباعه من الوجود. كان ذلك في صباح يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، للسنة الثانية من الهجرة.. عندما هبط المكّيون عند منحدر (العقنقل) على بعد 20 ميلاً من المدينة.. يمتطون 700 من الإبل، و100 من الخيل. وكان على النبي ومعه 313 رجلاً.. من بينهم فارسان لا غير.. أن يتصدى لهم دفاعًا عن المدينة. أما عن العتاد الحربي فقد كان من القلة بحيث لم يجد النبي سوى عصًا خشبية سلَّح بها (عكاشة) بدلاً من سيفه الذي كُسر أثناء القتال. كان موقف المسلمين يبدو مُقنطًا حتى إن النبي استصرخ ربه وصاح: “اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض..”

وعلى حد قول (مونتجومري وات) Montgomory Watt:

“لعل أبا جهل مَنَّى نفسه يومئذ بالخلاص من محمد نهائيًا..” (م. واط، محمد في المدينة، كراتشي، أكسفورد بريس، 1981، ص 15).

ويتفق معه (ويل دورانت) Will Durant فيقول:

“.. يومئذ لو لقي محمد الهزيمة.. لا نتهى أمره هناك بالمرة” (قصة الحضارة، ج 4، ص 168).

ولم يتحقق ما أمله أبو جهل، ونجح المسلمون في الدفاع عن أنفسهم، بل وألحقوا هزيمة ساحقة بقوات المكيين.. الذين كانوا يفوقونهم عددًا وعدة.

حفظ التاريخ الإسلامي أسماء هؤلاء الصحابة واحدًا واحدًا.. أولئك الذين اشتركوا في موقعة بدر دفاعًا عن الإسلام. وإن الإنسان ليتعجب.. ما دور السيف في إسلام هؤلاء النيِّف وثلاثمائة مسلم؟ كان من بينهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. الذين تولوا الخلافة بعد النبي .. فهل كان السيف هو الذي أزال الدنس من قلوبهم؟! واستُشهد في ذلك اليوم عوف بن الحارث، وعمر بن سليمة، ومعوِّذ وغيرهم.. لا يُعرف على وجه التحديد كيف دخلوا الإسلام.. فهل بوسع أحد القول بأن حدّ السيف هو الذي طهّر نفوسهم؟!

والصحابة العظام الذين خاضوا الحروب فيما بعد ببسالة فائقة دفاعًا عن الإسلام، منهم سعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد.. لم يدخلوا الإسلام كرهًا. مئات من المهاجرين وآلاف من الأنصار اعتنقوا الإسلام.. وقدموا للنبي المضطهد الملاذ والحماية.. وما ارتفع سيف في وجوههم ليدخلهم للإسلام. لقد كان هؤلاء الذين تحولوا من الوثنية إلى الإسلام.. ثمارًا لدوحة الإسلام، وفخرًا للإنسانية، وعلامات وضَّاءة على طريق الحق المحض.. فما أقبحها إهانة ممن يزعم بأن السيف طهَّر تلك القلوب! وما أشنعها من إيماءة عبارة (.. من الخطأ القول بأن السيف لم يكن له دور في إسلامهم)!

ماذا كان هؤلاء الناس قبل مجيء الإسلام؟

قبل ظهور سيدنا محمد كانت جزيرة العرب، كما ذكر (ويل دورانت) مجرد وحدة إقليمية فحسب. ويقول: أطلق اليونان اسم (ساركينول) Sarakenol، على سكان الجزيرة العربية (من كلمة شرقيين)، وكانوا من قبل يسمونهم (سينايت) Scenite، أي عرب الخيام..

عاشوا في أرض قاحلة، يصعب الانتقال فيها. وكان يعني هذا أن تكتفي كل قبيلة بنفسها. خلال الألف الثاني قبل الميلاد المسيحي.. استأنس العرب الجمل، وهو حيوان يناسب الصحراء تمامًا.. فمنه لبن يحفظ حياتهم، وفي بوله علاج لهم، ومن لحمه غذاء رخص، ومن جلده ووبره خيامهم وملابسهم، حتى بعره اتخذوه وقودا. والجمل صبور على العطش خمسة وعشرين يومًا في الشتاء وخمسة أيام في الصيف. وتجولت جماعات صغيرة من البدو خلف إبلهم التي كانت أهم أسباب حياتهم.

وقد أجمل (ألوي سبرنجر) Aloy Springer، تاريخ العرب قبل الإسلام في قوله: إنهم كانوا عالة على الجمال.

لم يشعر العربي بواجب الولاء لأي أحد وراء قبيلته.. وكانت شدة الولاء تتناسب مع رابطة الدم.. تزداد بقربها وتقل ببعدها. استغنى البدو عن الضمير كما استغنى عنه أهل الحضر في سبيل الوطن والعقيدة والعرف.. أعني أنه يكذب ويسرق ويقتل ويموت. ولم يرتبط العربي بأي قانون مكتوب، ولم تكن لهم حكومة تفرض القانون.

كان العرب يحزنون ويتوارَون خجلاً لمولد البنات، وأدُوهُنَّ فور ولادتهن أحيانًا. وإذا قدر لهن الحياة.. فقد تحظى الجميلة منهن بحبيب أو زوج يذهب إلى أقصى العالم للدفاع عنها، ولكنها تبقى كبعض المتاع.. يملكها الأب أو الزوج، ويرثها الابن فيما يرث مع كل متعلقاتها. كن إماء، وندر أن كانت إحداهن صديقة لأبيها أو زوجها أو ابنها.

قليلاً ما فكر العربي في مسألة الحياة بعد الموت. وكان يقدم الأضاحي البشرية، ويعبد أحجارًا مقدسة. وكانت مكة مركز عبادة الأصنام قبل الإسلام، حيث أحاطت بالكعبة أصنام عديدة ترمز للآلهة.. وكان أعظمها شأنًا (هُبل) صنم مكة المصنوع من العقيق الأحمر. أما الحجاز فكان لهم ثلاثة آلهة: اللات ومناة والعزى.. وكانت لها مكانة عالية كبنات للرب.

كان في استطاعة البدوي سليم البنية أن يعيش على تمرات وقليل من لبن الناقة. ويصنع من نخيل البلح خمرا.. تحلق به إلى آفاق من الشعر تتميز بالخيال والعاطفة. وترددت حياتهم بين الحب والحرب.. وما أسرع اندفاعهم للانتقام إذا أهين أو أضير في نفسه أو قبيلته.

كان قانون العين بالعين، والسن بالسن سائدًا، والعار المقيم لمن يفشل في الانتقام ممن آذاه. كان يقضي شطرًا كبيرًا من حياته في طلب الثأر لقبيلته. عُرف تاريخ العرب قبل الإسلام باسم (أيام العرب)، والمقصود منها تلك المعارك التي دارت بين قبائل.. وأرَّخوا بأيام معينة منها، مثل: يوم بُعاث وأيام الفجار. كانت المعارك تنشب عادية بسبب نزاع على نعم أو مرعى أو عين ماء. ومن أشهر تلك الأيام، تلك التي كانت بين بني بكر وإخوانهم بني تغلب بسبب ناقة لامرأة عجوز تسمى (البسوس). حدث أن أصاب الناقة تغلبي فجرحها، واستغاثت المرأة. فنشبت حرب امتدت إلى أربعين عامًا.. ولم تتوقف إلا بعد أن أصابهم الإعياء جميعًا واستنفذت قوى القبيلتين. وبعدها قامت حرب مشهورة أخرى، بسبب سباق جرى بين فرسين: داحس والغبراء، يملكهما شيخان.. تشاجرا، فقامت الحرب بين القبيلتين لعشرات من السنين.

هكذا كانت الحياة الاجتماعية التي ظهر فيها محمد ، وهؤلاء هم القوم الذي آتاهم الله الفرصة ليدخلوا في دين نبي يلقى الاضطهاد. هؤلاء الناس المعروفون بالعنف والولع بالحرب، والفزع إلى القتال لأتفه الأسباب.. القولُ بإحناء رؤوسهم، وإكراههم بالقوة لقول يناقض التاريخ، ويحط من إيمان الرواد الأوائل.. الذين باعوا أرواحهم دفاعًا عن الإسلام يوم بدر.

أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، وأسد بن زرارة، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمير، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصامت، ورفيع بن مالك وكثير غيرهم من الأنصار.. ساروا على أقدامهم من المدينة إلى مكة ليدخلوا في الإسلام على يد نبي الإسلام.. والله، إن مجرد التلميح بأن للسيف دورًا في إسلامهم لإنكار متبجح لحقائق التاريخ!

وإذا كان في تاريخ المسيحية من حول السيف إلى محراث للأرض (أشعياء 2: 4)، فإن مولانا المودودي يريد بتفسيره لتاريخ الإسلام.. أن يدخل في عقولنا.. أن السيف المحمدي هو الذي حرث أرض الأرواح لتبذر فيها بذور الدين! فهل سيف محمد أم آيات من القرآن الكريم هي التي بدلت عمر بن الخطاب من عدو لدود إلى خادم مُخلص للإسلام؟

في الأيام الأولى لاضطهاد قريش للنبي .. كان عمر شابًا جموحًا في السادسة والعشرين من عمره. أراد أن يريح قريشًا من سبب فرقتهم. فقرر قتل النبي . وخرج متوشحًا سيفه.. يريد النبي .. قابل نعيم بن عبد الله الذي أحس الشر في قصده، فقال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك.. فقد أسلمت أختك فاطمة وزوجها سعد بن زيد، وتابعا محمدًا، فعليك بهما. ودون أن ينبس ببنت شفة.. بادر عمر بالرجوع إلى بيت أخته وزوجها، وعندهما خباب بن الأرت، يقرأ عليهما من صحيفة فيها الآيات الأولى من سورة (طه). فلما سمعوا حس عمر أسرع خباب ليختبئ في ركن من البيت، وأخفت فاطمة الصحيفة. ولكن عمر كان قد سمع صوت التلاوة، ودخل على ختنه وبطش به. فقامت أخته لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها. ولما رأى عمر الدم ندم على ما صنع، فارعوى وهدأت ثائرته. وطلب أن يرى ما كانوا يقرأون. فلما قرأ الصحيفة صاح: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. وانصرف من فوره إلى دار الأرقم حيث كان النبي مع نفر من أصحابه.. وقال: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله. فكبّر رسول الله تكبيرة عرف بها أهل البيت أن عمر قد أسلم.

لماذا يصر مولانا المودودي على صبغ الإسلام بصبغة العنف؟ لماذا هذا التناقض في نظرية الجهاد؟ هلم لننظر إلى خلفية مولانا، والظروف التي كتب فيها كتابه (الجهاد في الإسلام)، فلعله يساعدنا في الوصول إلى جواب على هذا التساؤل..

قضى السيد أبو الأعلى المودودي طفولته وشبابه المبكر في (حيدر آباد)، حيث لم يزل (النظام) يحكم بطريقة المغول العظام، وحيث يتغنى كبير وزرائه الهندي بمدح النبي عند نواصي الطرق. كانت حيدر آباد آخر معقل للتراث المغولي، الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي.. في مجتمع غالب سكانه من الهندوس (80 بالمائة) وأقلية من المسلمين (10 بالمائة). ولم يكن بيد الحاكم قوة حقيقية فعالة.. ومع ذلك كان يستعيد مظاهر المجد الغابر للحكم المغولي. لم يكن عالمــًا حقيقيًا.. البلاط الملكي.. الأبهة، الحُجاب، الحرس، الملابس المذهبة، العمامة التقليدية، المجوهرات، الأبواق.. كلها مظاهر تجدد ذكرى بلاط دلهي قبل أن ينهبها (نادر شاه) عام 1739م. كان هناك بعض الموظفين من العرب يحملون خناجرهم المذهبة وبنادقهم الأثرية، بينما رجال الجيش لهم معداتهم الحربية الحديثة. كان هناك الراجات والمهرجات.. يحكم بعضهم على مناطق أوسع مما تحتله حكومة الهند البريطانية. كانوا يمثلون مواقع شرفية في حكومة (النظام)، ويملأون جزء من الصورة التي تفوق الواقع، بما فيها من سماحة المسلمين وولاء الهندوس.

ومن المعروف أن تراث (حيدر آباد) يرجع إلى أصل هندي، ولكنه ذو مظهر إسلامي على نطاق واسع. كان الهيكل الاجتماعي لا يزال إقطاعيًا.. ليس بالمفهوم البدائي، ولكنه مطعَّم بالكثير من السلوك المهذب، والتسامح، والاحترام المتبادل.. بشكل يملأ المجلدات كي نرويه لأجيالنا القادمة.. لو كانوا يسمعون!

في حيدر آباد هذه.. تكونت شخصية المودودي الشاب. كان في بداية حياته الصحفية حساسًا سريع التأثر. عمل في هيئة تحرير جريدة (المدينة) بمدينة (بيجنور)، ثم محررًا في جريدة (تاج) بمدينة (جبل بور)، ثم تولى تحرير جريدة (الجمعية) في مدينة دلهي عام 1925. وكانت حركة (شُدِّي) لتطهير المسلمين في أوج نشاطها يومئذ كما ذكرنا آنفًا. وفي هذا الوقت بدأ المحرر الشاب يكتب مقالاته. ومن الواضح أنه كتبها تحت ضغط أعماله اليومية، وأكملها في ستة أشهر. ابتدأ المودودي كتابة سلسلة مقالاته بروح المؤمن بالقومية أكثر منه بدافع الحماس للدين. ولكن بعد أن زاد اطلاعه على المراجع الدينية بالقدر الذي تسمح به القراءة خلال ستة أشهر.. وبدون دراسة دينية متعمقة.. تحول إلى مناد بالإحياء الديني.

ابتدأ تصنيف كتابه من منطلق قومي هندي، وبهذه الصفة أراد أن يثبت للهندوس و(المهاتما غاندي) على وجه الخصوص، أن الإسلام لم يكن دين عنف. وفي خطبة بالمسجد الجامع بمدينة (دلهي) عبَّر الزعيم الإسلامي الهندي الكبير، مولانا محمد علي جوهر، عن أمله أن يكتب أحد المسلمين كتابًا يبين فيه براءة الإسلام من العنف. كان المودودي يومئذ بين الحاضرين، فأخذ على عاتقه أن يقوم بهذه المهمة. ولذلك فإن الأقساط الأولى من مقالاته لفتت نظر الهندوس إلى أن الإسلام ليس دين سيف. ولكن مؤلفنا ولد ونشأ في مملكة مسلمة، كان الهندوس فيها أكثرية تحت حاكم مسلم.. وهو مشبَّع بقوة السلطة السياسية، وقد وضع كتابين عن تاريخ حيدر آباد.. ولذلك سرعان ما ناقض حججه التي ساقها بنفسه لتفنيد الجهاد بالسيف. وبلهجة المسلم الحيدر آبادي قال جازمًا: “من الخطأ القول بأن السيف لم يكن له دور في هذا التحول إلى الإسلام”.

لم يكن هذا الصحفي الشاب مؤرخًا ولا عالمــًا دينيًا. ولم يكن ليفهم أن المسلمين ظلوا حكامًا في حيدر آباد لستة قرون.. ومع ذلك بقيت الأغلبية العظمى من السكان هندوسًا.. ولم تساعد هذه السلطة السياسية التي في يد الحكام المسلمين على إدخال الغالبية الهندوكية إلى الإسلام قط. كان عمر مؤلف (الجهاد في الإسلام) عندئذ لم يتجاوز الرابعة والعشرين.. وبقي مولانا سطحيًا في نظرته حتى بعد أن وصل إلى الرابعة والستين. قال البروفسور فضل الرحمان:

“مع أن المودودي لم يكن عالمــًا.. إلا أنه علّم نفسه نفسه. وكان ذا ذكاء ملموس ومعروفة كافية.. لم يكن بأية حال عالمــًا دقيقًا متفحصًا أو عميق التفكير. ولكنه بلا شك كان كالعاصفة في ذلك الجو الإسلامي الخانق الذي خلقته المدارس التقليدية.. وكذلك لا يعرض المودودي في أي مكان تلك الرؤية الدقيقة لدور الإسلام في العالم. ولأنه صحفي أكثر منه عالم حقيقي فقد كان يكتب بسرعة كبيرة.. ومن ثم كانت كتاباته سطحية.. حتى يروي ظمأ قرائه من الشبان المتعطشين.. ولم يصل أحد من تلاميذ المودودي أبدًا إلى مستوى ذي شأن في دراسة الإسلام. وترتب على ذلك أن المخلصين منهم أخذوا أقواله على أنها الكلمة الفصل في الإسلام.. مهما كثر أو اشتد فيها تناقضه مع نفسه من وقت لآخر.. وفي مسائل جوهرية كالسياسة الاقتصادية والنظرية السياسية..” (فضل الرحمان، الإسلام والتحديث، مطبعة جامعة شيكاغو، 1982، ص 116).

ويتفق معه في نفس الرأي المفتي كفاية الله الدهلوي، قال:

“أعرف مولانا أبا الأعلى المودودي.. أنه لم يتعلم أو يتتلمذ على عالم معروف. إن كتاباته تحظى بكثير من القراء، ولكن فهمه للدين ضعيف”. (مكتوب الهداية، كتبخانة عزيزية، ص 21)

ولقد تنبأ مولانا حسين أحمد المدني بخطورته فقال:

“منشوراته وكتبه وإن كانت مكسوة بعباءة دينية إلا أنها تتضمن آراء معارضة للدين وخارجية عليه، والقراء العاديون لا يستطيعون الرؤية من خلال هذه العباءة.. ولذلك يجدون الإسلام الذي جاء به النبي منفِّرًا.. الإسلام الذي اتبعته الأمة المحمدية خلال الألف وثلاثمائة وخمسين سنة الماضية..” (مولانا محمد أختر، المودودي في نظر أكابر علماء الأمة، المرجع السابق ص 9).

وفي أحد رسائله كتب مولانا قاري محمد طيب:

“بعد أن اطلعت على كتابات المودودي توصلت إلى أنه لم يكتسب قواعد البحث في فلسفة الشريعة الإسلامية والتصوف. ليس بإمكانه أن يكتب فيها بخبرة علمية”. (المرجع السابق ص 19).

وكتب مولانا أحمد علي اللاهوري في هذا المعنى يقول: “يود مولانا المودودي أن يقدم للمسلمين إسلامًا جديدًا. ولن يقبل المسلمون بإسلامه الجديد هذا.. إلا إذا انهدم تمامًا إسلامهم القديم الذي اتبعوه لمدة 1350 عامًا، وإلا إذا ثبت أنه لم يعد موضوعيًا أو عمليًا”. (المرجع السابق، ص 48).

فمولانا المودودي كما رأينا لم يكن مؤرخًا أو عالمــًا دينيًا، بل هو صحفي أساسًا.. يمتلك الصفتين الأساسيتين للصحفي: التمكن من اللغة الأردية، والقدرة على الإنتاج الغزير في وقت قصير. كانت مجلة (الجمعية) تصدر كل أسبوعين في ذلك الوقت، وكان عليه أن يكتب عمودًا في جريدة (الجهاد) كل يومين أو ثلاثة.. هذا بالإضافة إلى تحرير جريدتين. ولما كان محروما من خبرة البحث العلمي، وليس عنده الوقت الكافي لاكتسابها.. فقد أخطأ في تقديره عندما اعتبر موقعة حُنين (30/1/630م) التي وقعت بعد فتح مكة (11/1/630م) أنها نقطة التحول في التاريخ الإسلامي.. عندما وجد أن أعداء الإسلام مُنوا بالهزيمة الحاسمة يوم حنين.. استنتج مولانا أن هذا النصر وما ترتب عليه من قوة سياسية للمسلمين وراء دخول جزيرة العرب بأجمعها في الإسلام.

ولم يكن المودودي وحده في استخلاص هذه النتيجة، وإنما شاركه المستشرقون المغرضون في رأيه.. لأنهم عموا أو تعاموا عمّا في الإسلام من قوة روحية وأخلاقية، وعجزوا عن فهم المعجزات العظيمة لنبينا الكريم ، ولذلك ينسبون انتشار الإسلام دائمًا إلى عنصر القوة الجبرية.

قسَّم المستشرقون زمن بعثة النبي إلى عهدين، أولهما: العهد المكي حيث الاضطهاد، وثانيهما: العهد المدني بعد الهجرة حيث الغزو. وتقبل الصحفي الشاب.. أبو الأعلى المودودي.. ذو المعرفة السطحية بالتاريخ الإسلامي.. تقبل هذا التبسيط الظاهري للأمور، والذي هو في الحقيقة تقسيم لحياة النبي .. وُضع بمكرٍ ودهاءٍ شديدين.

لقد فُرضت المصادمات المسلحة والعمليات الحربية والتهديد بالحرب على الرسول بصفة مستمرة. وتضافرت جهود مشركي مكة مع يهود المدينة، وبتشجيع من المنافقين، للتآمر على الإسلام منذ هجرة النبي إلى المدينة. وأثاروا الكراهية ضد المسلمين، وحرضوا العرب الوثنيين ضد النبي بحماس شديد. واضطر المسلمون إلى اتخاذ تدابير دفاعية، وكان ذلك على حساب المهمة الأساسية للنبي .. أرادوا تعكير صفو السلام عامدين حتى يحاولوا دون انتشار الدين الجديد.

(بقية الفصل الثالث في العدد القادم إن شاء الله)

Share via
تابعونا على الفايس بوك