المفهوم الحقيقي لختم النبوة

القسط الرابع من خطاب ألقاه حضرة مرزا طاهر أحمد

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي  

أثناء المؤتمر السنوي للجماعة في بريطانيا سنة 1985م،

ردًا على تهم باطلة ألصقتها حكومة باكستان آنذاك بجماعتنا ونشرتها في كتيب تحت عنوان

“القاديانية خطر رهيب على الإسلام” أثناء حملتها الشرسة ودعايتها الكاذبة ضد جماعتنا ومؤسسها .

“تنشر أسرة التقوى ترجمة هذا الخطاب على مسؤوليتها”

خداع الكتيب الحكومي

إليكم الآن حجتهم الأخرى. الحقيقة أن الكتيب يتضمن أمورًا غريبة للغاية إذ يقولون:

“كلما أعلن أحدٌ النبوة بعد النبي اعتبره المسلمون كاذبًا دون أدنى تردُّد. ولم ترَ الأمةُ الإسلامية بأسرها حاجةً إلى المناقشة معه والبحث في أمره. وهذا يكفي للإثبات أن الميرزا كان كاذبًا في إعلانه”.

ثم يقولون:

«ما زال تفسير «خاتم النبيين» رائجًا في العالم كله خلال 14 قرنًا الماضية أن سيدنا محمدًا كان آخر نبي من أنبياء الله، ولن يأتي بعده نبي. وهذا ما فَهِمَه صحابةُ الرسول أيضًا من المصطلح القرآني «خاتم النبيين». وبناءً على عقيدتهم الراسخة هذه ظلوا متكاتفين ضد كل من أعلن النبوة. وما تَسامَحوا إطلاقًا على مرِّ التاريخ مع أيِّ شخصٍ ادَّعى النبوة».

يقولون -بناء على الأمور المذكورة أعلاه- إنه لا يمكن أن يأتي نبي أبدًا. وكذلك ثبت أيضًا -حسب زعمهم- أن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود كان كاذبًا في إعلانه (والعياذ بالله).

لقد استخدموا في كلامهم هذا أيضًا تلبيسًا غريبًا ومداورةً بغيضة. إذ لم يبدأوا ذكر التاريخ من حيث يجب ذكره بل قدَّموا جزءًا قليلاً جدًا وأخفَوا منه قسطًا كبيرًا. ليس الأمر كما يقولون، بل الحقيقة -كما جرت عادة الدنيا من زمن سيدنا آدم إلى زمن رسولنا الأكرم – أنه كلما قام أحدٌ بإعلان النبوة خالفته الدنيا ولا سيما إذا كان من الأنبياء الصادقين.

وهذا ما يعلنه القرآن تمامًا إذ يقول:

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون .

هذا ما يقوله الخالق حسرةً على العباد. فهذه قاعدةٌ كليَّة جاريةٌ منذ البداية. فهل يقبل معارضونا هذا المبدأ أم لا؟ فإذا كان جوابهم بالإثبات فهل يرفضون كلَّ نبي لأنه كان قد تعرَّض للمخالفة والمعارضة؟ وكيف استنتجتم منه تلك النتيجةَ التي توصلتم إليها؟ ألم يحدث هذا مع موسى وغيره من الأنبياء؟ ولقد قرأت عليكم آيات القرآن الكريم التي تقول إن الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى تعرَّضوا جميعهم للمعارضة. لا شكَّ أن بعضًا من الكاذبين أيضًا واجهوا الأوضاع نفسها، ولكن الله تعالى لا زال يهملها إذ لا أهمية لها عند الله. أما ما يهتم به الله فهو أن الصادقين يلقون المعارضة حتمًا. إذن فالمعارضة التي لقيها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود لا تؤيِّدُ موقفكم بشكلٍ من الأشكال بل كانت دليلاً على صدقه حسب المبدأ الذي ذكره القرآن الكريم.

والآن أشرح لكم موضوعًا آخر وهو ماذا يأمركم به الله بالنسبة للتعامل مع شخصٍ يُعلن النبوة؟ فلو وافقت تصرُّفاتُكم هديَ القرآن الكريم لَقَبِلْناها على العين والرأس وإلا فلا. يذكر القرآن الكريم حادثًا من زمن سيدنا موسى أنه حين أعلن النبوةَ واجَهَ أنواعًا من المعارضة، وخطَّطَ كبار القوم لقتله. عندها قال رجلٌ من قومه يكتمُ إيمانه:

إِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ . (غافر: 29)

وذلك لأن الله أعلم منكم بالكاذب، وهو أحقُّ أن يعلم أيضًا فيما إذا كان المدعي يَنسِبُ إلى الله ما لم يقل له. ومن أنتم حتى تُبدوا غيرةً أكثَرَ من الله على دينه؟ وقال إنني أوكد لكم أنه إذا كان هذا المدعي كاذبًا فيما يقول فلن تؤاخَذوا أنتم بكذبه، فلماذا تُهلِكون أنتم أنفسكم في مخالفته؟ ولكن إن يكُ صادقًا يصبكم بعض الذي يَعِدكم، فلن تجدوا مفرًّا ولا ملاذًا.

هذا هو التصرُّف اللائق الذي يأمر القرآن أن يتصرّف به الناس تجاهَ مَن يعلن النبوة أمامهم. ومن المعلوم أن هذا قول شخصٍ عادي وليس قول رسول من الرسل حتى يسجَّل في القرآن الكريم، وإنما هو قول شخصٍ ضعيف يكتم إيمانه، ولكنه قال قولاً جميلاً وصادقًا لدرجة احتفظ به الله إلى أن بعثَ محمدًا رسول الله فأنزل عليه قوله الجميل هذا في القرآن. وهكذا نصحَ اللهُ معاندي رسول الله أنه كيف يجب عليهم أن يتصرفوا تجاه إعلان النبوة. إن هذا القول كما كان صحيحًا بالأمس فهو صحيح كذلك اليوم أيضًا.

إذن هذا هو حكم القرآن الكريم، ولكن إلى متى نلفت انتباهكم إلى أحكام القرآن؟ فقد أهملتهم كل أمرٍ من أوامره وحِكَمِه.

أما التصريح الذي قاموا به في الكتيب فقد أيَّدوا من خلاله سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود رغمًا عنهم، ولو عرفوا بذلك لما قاموا به أبدًا. يقولون أن السنّة التي جرت في الأمة المحمديّة والتي واظبت عليها الأمة دون استثناء تجاه كل من قام بإعلان النبوة الكاذبة هي انها لم ترَ حاجةً إلى المناقشة والبحث في أمره بل أهمله المسلمون تماماً لكونه كاذبًا. أما بالنسبة لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود فلم يدَّخِروا جهدًا في المعارضة. فلماذا لم تتعاملوا معه معاملتكم مع الكاذبين؟ بل خضتم معه في المناظرات والمناقشات وفعلتم ما يفعله منكرو الأنبياء الصادقين حيث قالوا: … فَأكْثَرتَ جِدَالَنَا (هود: 33)

فهذا التصرّف الذي تقومون به حسب اعترافكم أنتم تجاه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود هو التصرّف عينه الذي واجهه الأنبياء الصادقون دائمًا مِن قِبلِ أعدائهم. غير أنني أقول إنه لا أهمية لمعاملتكم مع حضرته لأن الله يعامله معاملةً تلقَّها الأنبياء الصادقون منذ فجر الأديان.

وذلك لأن الله أعلم منكم بالكاذب، وهو أحقُّ أن يعلم أيضًا فيما إذا كان المدعي يَنسِبُ إلى الله ما لم يقل له. ومن أنتم حتى تُبدوا غيرةً أكثَرَ من الله على دينه؟ وقال إنني أوكد لكم أنه إذا كان هذا المدعي كاذبًا فيما يقول فلن تؤاخَذوا أنتم بكذبه، فلماذا تُهلِكون أنتم أنفسكم في مخالفته؟ ولكن إن يكُ صادقًا يصبكم بعض الذي يَعِدكم، فلن تجدوا مفرًّا ولا ملاذًا.

هكذا يتميَّز الصادق من الكاذب

لاحِظوا ما يقوله ابن القيِّم رحمه الله، وهو من الصلحاء الأسلاف والعلماء الكبار والفلاسفة العِظام الذين يسميِّهم الكتيب الحكومي أيضًا واحدًا من مفكري الإسلام الكبار. فيذكر أسبابَ معارضةِ الناس، وفيما إذا كانت المعارضة تدلُّ على كذبِ المدّعي، أم ماذا؟ فيقول:

«نحن لا ننكر أن كثيرًا من الكاذبين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتمَّ له أمره ولم تطُلْ مدته، بل سلَّطَ الله عليه رسلَه وأتباعهم، فمحقوا أثره وقطعوا دابره واستأصلوا شأفته. هذه سنّته في عباده منذ أن قامت الدنيا وإلى أن يرثَ الأرض ومن عليها». (زاد المعاد ج1 ص500-502 مطبعة نظامي كانبور بالهند)

يبيّن حضرة الإمام في كلامه الأمرَ نفسه الذي بيّنتُه أنا قبل قليل. إذ لا يتناول ذكر معارضة الأنبياء من زمن سيدنا ومولانا محمد بل يقول: هذا ما حصل منذ بدء الخلق. ثم يبيِّن الفرق بين الصادق والكاذب في ضوء هذا التاريخ ويقول:

«نحن لا ننكر أن كثيرًا من الكاذبين قام في الوجود وظهرت له شوكة». هذا كلامٌ جميل ويحتوي على حكمة بالغة وسوف أتوقف عنده مليًّا لأُلقي عليه بعض الضوء. كان رحمه الله مفكّرًا إسلاميًا حقيقيًّا وكان يحتلُّ مكانةً مرموقة. ولقد اعترفتُ سابقًا أن ثلاثة من مفكِّري الإسلام المذكورين في الكُتيِّب الحكومي كانوا فعلاً صلحاء عظامًا وعلماء كبارًا. لم أعترف بذلك دون سبب بل إنني أعرف جيدًا أنه كان هناك علماء كبار في الأمة غير أن بعضًا منهم وقعوا في الأخطاء بعض الأحيان، ولكنهم كانوا مفكرين كبارًا على أية حال. كانوا يدرسون الأمور بفطنةٍ متَّقِدة وحكمةٍ مستنيرة وكانوا يستخرجون لآلئ الحكمة العظيمة. إذن فقد ذكر حضرته في قوله: «ظهرت له شوكة»، علامة من علامات الكاذبين.

واقع الأمر الذي يشهد به تاريخُ الإسلام أيضًا أنه لم يقم أحدٌ بإعلان النبوة كذبًا دون تأييد قومي أو سندٍ خفي آخر. خذوا مسيلمة الكذاب الذي يتشدَّق معاندونا كثيرًا عند ذكر اسمه بين الكذابين، فإنه كان مدعومًا من قومٍ معين. إذن فكلما قام كاذبٌ بإعلان النبوة بدأ مشواره من الموافقة وليس من المعارضة، وظهرت له شوكة وعاضده قوم في بداية الأمر. ولن تجدوا أحدًا من الكاذبين كان مرجوًّا في قومه قبل الإعلان ومن ثَم صار بعده عُرضةً لسخط قومه فجأةً، أو يكون قد تلقّى الإهانة والذلة بدلاً من الشوكة.

لاحِظوا دقة الفرق وعظمته الذي ذهب إليه ابن القيِّم عند التمييز بين صادقٍ وكاذب وبيَّن حكمةً كبيرة في جملةٍ وجيزة، فيقول:

«نحن لا ننكر أن كثيرًا من الكاذبين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتمَّ له أمره ولم تطُلْ مدته، بل سلَّطَ الله عليه رسلَه وأتباعهم، فمحقوا أثره وقطعوا دابره واستأصلوا شأفته. هذه سنته في عباده منذ أن قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها”. (المرجع السابق)

يجب أن تقبلوا رأي الإمام ابن القيم. فكّروا في معاملتكم مع سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ثم انظروا كيف عامله قدرُ الله سبحانه وتعالى. يقول الإمام ابن القيم: “لم تطل مدته”، وأنتم تقولون إنه مضت على إعلان سيدنا الإمام المهدي والمسيح مائة سنة ولا يزال أتباعه يزدادون رغم كل نوع من المعارضة والاضطهاد من قبلكم، ولا تقدرون على سد طريقهم بشكل من الأشكال. لا تزالون تعترفون بأفواهكم وأقلامكم بخيبة أملكم وذلتكم. وتضطرون للاعتراف بعد كل حملة تقومون بها ضد الجماعة وأبنائها أنهم قد ازدادوا عددا وانتشارا في العالم. وتعرفون جيدا أن بداية مؤسس الأحمدية كانت ضعيفة مثل بقية الأنبياء. عندما أعلن حضرته كونه من الله تعالى خذله الجميع. وقد قلتم بكل تفاخر في الكتيب أن أقاربه أيضا تخلَّوا عنه حتى الأبناء أيضا لم يؤمنوا. ولكن هذا هو شأن النبوة الصادقة. فاسألوا الإمام ابن القيم إن كنتم لا تعرفون. وإن كنتم لا تفهمون منطوق الآية القرآنية بأنفسكم فافهموا من الأئمة الذين تعتبرونهم مفكري الإسلام. ولاحظوا الفرق البيّن بين النبوة الصادقة والكاذبة. تنطلق النبوة الكاذبة من الشوكة الظاهرية والعزة الدنيوية، ولكن الله يقضي عليها في لمح البصر. أما النبوة الصادقة، فتواجه ظروفا قاسية ومؤلمة منذ البداية لدرجة يخذل الأقارب أيضا المدعيَ بالنبوة الصادقة ولا يبقى له سند ظاهري يستند إليه، كما لا تدخر الدنيا جهدا لهلاكه، ولكن الله سبحانه وتعالى يأبى أن يهلكه. وقدرُ الله يكون غالبا كل مرة حسب قوله:

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي .

سبب معارضة المبعوثين

أما فيما يتعلق بالمعارضة، فالسؤال المبدئي هو: هل سيلقى الإمام المهدي المنتظر معارضةً أم لا؟ إذا كانت المعارضة معيارا لكونه كاذبا فلن يأتي فيكم المهدي الصادق أبدا، لأن أكابركم قد تنبأوا مسبقًا بهذا الخصوص حيث يقول السيد نواب صديق حسن خان:

“هذا ما سيواجهه المهدي إذا جاء. فإذا جاء سيخالفه الإخوة المقلدون كلهم. ويخططون لقتله ويقولون هذا الشخص يفسد ديننا”. (اقتراب الساعة ص 224، سعيد المطابع، بنارس بالهند عام 1309 هجري) نعم! هؤلاء الإخوة المقلدون الذين قد آلوا على ألا يألوا جهدا في إيذائنا اليوم. ما أروعه من نبأ وما أجمله من كلام!! لأن القائل كان مطلعا على تاريخ الأنبياء.كما أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الذي يحظى باحترام كبير في عالم الإسلام بأسره يقول: “إذا خرج هذا الإمام المهدي فليس له عدو مبين إلا الفقهاء خاصة”. (الفتوحات المكية ج3 ص 374)

مما يعني أن الفقهاء والعلماء سيقومون بعداوته البينة، أما عامة الناس فيعارضونه في خفاء. فماذا يكون قولكم عندما يظهر المهدي الصادق؟ سوف تبررون معارضتكم إياه بقولكم إننا ما زلنا نقوم بالمعاملة نفسها مع كل من قام بمثل هذا الإعلام منذ بعثة النبي إلى يومنا هذا لأنهم كانوا كاذبين وأنت كاذب كذلك لأن معارضتنا إياك تدل على كذبك. إذن فأين الفرق بين الصادق والكاذب؟ إنني أعلن على بصيرة أن المهدي المنتظر قد جاء ولن يأتي غيره أبدا. ولو جاء أحد -لو قبلنا ذلك جدلا- لحرمتم أنتم أنفسكم من قبوله لأنكم لا بد أن تعارضوه حسب مبادئكم. والأحمديون وحدهم سيقبلونه لأنهم معتادون على القبول.

ثم يوضح نواب صديق حسن خان ماذا عسى أن يحدث عند ظهور الإمام المهدي فيقول: “سيقول علماء الوقت المتعودون على تقليد الفقهاء واقتداء المشايخ وآبائهم إن هذا الشخص يهدد ديننا وملتنا. ويقومون لمعارضته ويكفرونه ويضللونه حسب عادتهم”. ( حجج الكرامة ص 363)

ارجعوا الآن مرة أخرى إلى عنوان الكتيب الحكومي: “القاديانيون تهديد على الإسلام”. كم كان النبأ واضحًا الذي تحقق بكل معاني الكلمة إذ يقول معاندو الأحمدية أيضا إن هذا الشخص وجماعته تهديد على ديننا. وإن كنتم لا تريدون قبول حكمه فاسمعوا ما يقوله حضرة المجدد للقرن الثاني عشر. وكيف ترفضون كلامه فإنه يحتل مكانة سامية في الصلحاء الأسلاف لدرجة أن العلماء من عصرنا هذا سوف يعتزون بربط عقد حذائه، إن صح التعبير، فيقول حضرته:

“ليس غريبًا أن يرفض علماء الظاهر مجتهدات حضرة عيسى بسبب دقة مأخذها وأسرارها، فيروها مخالفة للكتاب والسنة”. ( مكتوبات الإمام المجدد للقرن الثاني عشر ج7 مكتوب55، ص14، طبعة 1332هجري) إن هذا المقتبس هام جدا لأنه يذكر معارضة سوف يلقاها عيسى . في حين أننا في أغلب الأحيان نجد ذكر معارضة الإمام المهدي ولا نجد ذكر معارضة لعيسى ، لأن العلماء يقولون إن عيسى سينزل من السماء واضعاً يديه على ملكين وبين مهرودتين. فكيف يجرؤ أحد على إنكاره؟ ويقولون أيضا إن عيسى عندما سيصلي خلف الإمام المهدي تختفي إمكانية رفض الناس إياه تلقائيا وهكذا تنحل المشكلة.

أقول: إن هذا تأويل الجَهَلَةِ والبُلْهِ. وإن حضرة المجدد للقرن الثاني عشر كان أدق أكثر منهم بصيرة بكثير وكان من كبار العلماء الصلحاء، فقال قولا حكيما للغاية، وذلك في حين ما كان لأحد أن يتصور أن المسيح المنتظر سوف يلقى معارضة. فيقول حضرته إن علماء الظاهر الذين هم عميان باطنيًا لن يفهموا الدقائق السماوية، فيقولون إن هذا الشخص يخالف الكتاب والسنة.

مراوغة الكتيب الحكومي

بقي أن نمر بمزيد من الخدعات الواردة في الكتيب الحكومي. لا شك في أن الموضوع ممل جدا من هذه الناحية ولكن المشكلة أن الإنسان لا يدرك ما يريدون قوله إلا بعد تكبد هذه المشكلة، لأن الكتيب كله مجموعة من الغش والمراوغة. يقولون:

“يتبلور من هذه الدراسة الوجيزة أن اعتقادنا بختم النبوة جزء من إيماننا… ويتضمن أمورا اجتماعية، وبناء عليها فقد ساعد هذا الاعتقاد كثيرا في تشكيل حضارة إسلامية”.

ما يقصدونه من هذا الكلام هو أن إعلانهم بتمسكهم بعقيدة ختم النبوة ليس إعلانا فارغا فقط بل الحقيقة أن استنباطهم وموقفهم من كلمة “خاتَم النبيين” قد ساعد على توحيد الحضارة الإسلامية في العالم بأسره. فالاستنباط الذي أنتج نعمة كبيرة للأمة المسلمة في كافة أنحاء العالم كيف يمكن أن يتخلَّوا عنه؟ ويقولون أيضا إن هذا الاعتقاد دعامة من دعائم الإسلام فلو أزلناها لانهدم بناء الإسلام بأسره. ثم قالوا:

“… لقد اعتُبر هذا الاعتقاد جزءًا من الإيمان غير المتنازع فيه. هذا هو أساس الإسلام القوي الذي لا يقوم عليه بناء الإسلام النظري فقط بل يقوم عليه بناؤه الحضاري أيضا”.

ثم قالوا:

“… لقد جعلت هذه النظرية الأقوام المختلفة والطوائف المختلفة من أزمنة مختلفة أمةً واحدة مسلكةً في سلك واحد”. أي إن الاعتقاد بختم النبوة – بمعنى أنه لن يأتي الآن نبي بعد رسول الله – قد جعلَ الأمة المسلمة أمةً واحدة. وقالوا أيضا:

“إنه أثار التساؤلات الذهنية. وهكذا هيَّأ بكل وضوح أسسًا لبناء حضارة فريدة”.

هل فهمتم شيئا، كيف هيأ الاعتقاد بعدم مجيء نبي أسسًا للحضارة الإسلامية؟ وإذا كانت أسس الحضارة الإسلامية لا تتوفر دون هذا الاعتقاد فما الذي أنجزه الأنبياء السابقون الذين يبلغ عددهم 24 ألف نبي على وجه التقريب؟ من المعلوم أنه لم يكن هناك أحد منهم خاتم النبيين، مما يعني أن هذا الاعتقاد لم يكن موجودا في زمنهم. فكيف قامت أسس الحضارات في عهودهم؟ وأية أسس تيسرت لهم؟ وكيف سنحت الوحدة لأقوامهم؟ أو هل أطلع الله سبحانه وتعالى على هذا السر لأول مرة في زمن النبي لتهيئة أسس التمدن والحضارة وغيرها لقوم نبي من أنبيائه؟

أما النبوة الصادقة، فتواجه ظروفا قاسية ومؤلمة منذ البداية لدرجة يخذل الأقارب أيضا المدعيَ بالنبوة الصادقة ولا يبقى له سند ظاهري يستند إليه، كما لا تدخر الدنيا جهدا لهلاكه، ولكن الله سبحانه وتعالى يأبى أن يهلكه. وقدرُ الله يكون غالبا كل مرة حسب قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي .

الاعتقاد بختم النبوة وأسس الإيمان

إليكم الآن مزيدا من التعليقات على هذا الوضع. وكما سبق لي أن قلت إن الإيمان بكون النبي خاتَم النبيين اعتقادٌ لا يقبل الجدل والنقاش أبدا. ونحن الأحمديين متمسكون به بشدة أكثر من غيرنا بفضل الله سبحانه وتعالى. أما شرح كلمة “خاتم النبيين” الذي أنتم تركزون عليه اليوم فقد أثبتُّ أنه غير وارد وأنه شرح جديد تماما ومن صنعكم أنتم، أو هو شرح كان سائدا في الأزمنة الغابرة، في زمن سيدنا يوسف مثلا كما ذكرناه سابقا. أو هو شرح اعتنقه الذين ورد ذكرهم أيضا. غير أن صلحاء الأمة المحمدية والعلماء الكبار وأهل المعرفة لم يفهموا منه ما تفهمونه إطلاقًا.

أقول جهارًا إن اتهامكم مَنْ يرفض معانيكم الخاطئة لختم النبوة أنه يرفض “خاتم النبيين” فعلٌ شنيع وادعاء باطل تماما مهما بدا لكم حُلوًا وجميلا. الحقيقة أن الاعتقاد بختم النبوة لم يكن من أسس الإيمان قط في وقت من الأوقات. وذلك لأن السؤال الذي يفرض نفسه هو: مَن يحق له أن يحدد أسس الإيمان؟ سيدنا رسول الله أم أنتم؟ ألم يعلم النبي الذي نزل عليه القرآن الكريم أنه قد أهمل عند ذكره دعائم الإيمان أساسًا من أسس الإيمان – وهو الاعتقاد بختم النبوة حسب زعمكم حيث ورد:

“عن ابن عمر قال، قال رسول الله : بُني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت”.

إلى هنا انتهى كلام النبي ولم يذكر الاعتقاد بختم النبوة ضمن أركان الإسلام. مما يعني أن النبي لم يعلم إلا هذه الأسس الخمسة للإسلام، وأن الأساس السادس الذي اكتشفه معاندونا اليوم ما أُعطي النبي أي علم عنه قط.

والآن نبحث عن هذا الأساس المزعوم في أسس الإيمان أيضا لعلنا نجده هناك. ففي هذا الصدد هناك حديث رواه سيدنا عمر . فقد جاء في الحديث الشريف: قال عمر :

“بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه…” (جامع الترمذي كتاب الإيمان، باب ما جاء في وصف جبرائيل)

لا نجد ذكر الاعتقاد بختم النبوة ضمن أسس الإيمان المذكورة هنا أيضًا. والجدير بالذكر أن الحديث المذكور آنفا يحمل أهمية كبيرة لأن الزائر الغريب صدّق ما قاله النبي . ويقول الراوي إننا تعجبنا من أمره فعلم النبي ذلك. ثم يقول الراوي في الرواية نفسها: “…قال عمر : فَلَقيَني النبي بعد ذلك بثلاث فقال: “يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ” .(المرجع السابق)

لا نجد في هذا الموضع أيضا ذكر ختم النبوة بشكل من الأشكال. غير أن الأحمدية تؤمن بختم النبوة إيمانا كاملا. ويقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود حلفا بالله إننا نؤمن بكون النبي خاتم النبيين، والذي لا يؤمن بذلك لا نعتبره مسلما، ليس لأن هذا الاعتقاد من دعائم الإيمان، بل لأننا نعتقد اعتقادا راسخا أن كل حرف من القرآن الكريم بل وكل نقطة منه تحمل عظمة كبيرة لدرجة لو رفضها أحد لخرج من دائرة الإسلام.

بختم النبوة وفكرة الحضارة

الأمر الآخر الذي يطرح نفسه هو: إن آية “خاتم النبيين” نزلت في عام 5هـ. مما يعني أن معظم فترة النبوة كانت قد مضت قبل نزولها. السؤال الآن هو: أو لم تكن الأمة المحمدية أمة واحدة أثناء كل هذه الفترة أعني قبل نزول الآية؟ ألم تكن هناك أية أسس للتمدن الإسلامي والحضارة الإسلامية قبل نزول الآية؟ وأي حادث خارق حدث بعد عام 5هـ فجعل الأمة أمة واحدة ووضع أسس الحضارة الإسلامية؟ ما أوهَنَه من كلام وما أجهله!! وليس له علاقة بالحضارة الإسلامية قط. يجب أن تروا ما الذي حدث بحضارتكم اليوم؟ وأية قيامة قامت على تمدنكم رغم تمسككم بهذا الاعتقاد؟

ثم فكّروا: أليس غريبًا أن الموازين قد انقلبت رأسًا على عقب؟ أنتم -الذين كنتم ثابتين على أسس الإسلام القوية على حد قولكم- حُرِمتم من الحضارة الإسلامية نهائيا، إذ لم تعودوا متحدين ولم تبقوا ثابتين على التمدن الإسلامي أو الحضارة الإسلامية، أما الذين ليست لهم علاقة -على حد قولكم- بهذا الأساس فيقول عنهم مفكركم الإسلامي، العلامة إقبال:

“إذا أردتم مشاهدة نموذج حقيقي للسيرة الإسلامية فيمكنكم مشاهدتها في قاديان”. (الملة الإسلامية، دراسة العلاقات الاجتماعية ص23، المكتبة العليا، اُردو بازار لاهور)

ثم إن إعلان معارضينا عن وحدة الحضارة الإسلامية ليس إلا إعلانا فارغا لا أساس له من الصحة أبدًا، وإن هو إلا مراوغة ومداورة. ألا يرون ماذا يجري حولهم في الدنيا؟ وأي نوع من الحضارة تتشكل في العالم؟ إنهم يعتبروننا منكرين لختم النبوة -والعياذ بالله- أما الذين هم ثابتون على الأسس المزعومة حسب قولهم- فتختلف حضارتهم اختلافاً بيِّنًا من بلد إلى آخر، بل من منطقة إلى أخرى. إذا كان المراد من الحضارة أساليب الحياة العادية فلا شك أن المسلمين يتفننون في كل أنحاء العالم في أساليب الحياة العادية بما فيها اللباس والطقوس الأخرى مثل الزواج والحجاب وما إلى ذلك. وهناك فوارق كبيرة بين طرق العيش يتمسك بها المسلمون في مختلف أرجاء المعمورة.

فعلى سبيل المثال يعيش المسلمون في أندونيسيا عيشًا غير الذي يعيشه المسلمون في أفريقيا وأوربا، ونفس الحال بالنسبة إلى تشيكوسلوفاكية وفنلندا وهنغارية وغيرها من البلاد. كذلك للأفغان حضارة تختلف عن حضارة بنغلادش مثلا، وهكذا دواليك. من المعلوم أيضا أن بنغلادش حين قررت الانفصال عن باكستان صرح أهلها بكل وضوح أن حضارتنا وأساليب حياتنا تختلف عن حضارة باكستان تماما وإنْ كنا على دين واحد، واعتقاد واحد بالنسبة إلى ختم النبوة.

فلو ألقيتم نظرة فاحصة ومتأنية على العالم كله لوجدتم أن هناك حضارات كثيرة تختلف بعضها عن بعض ومن بلد إلى آخر. المراد من الحضارة هنا القيم الدينية والأفكار الدينية والطقوس الدينية وغيرها. ولكن هناك فوارق كبيرة بين تقاليد وطقوس يتمسك بها المسلمون بهذا الشأن أيضا في مختلف أنحاء العالم لدرجة أن هناك اختلافات بين معتقداتهم والعمل بها. خذوا مثلا الصلاة فمنهم من يصلي واضعًا يديه على صدره، ومنهم من يطلقهما أثناءها. وفي بعض المناطق يرفعون اليدين أثناء الصلاة وفي بعضها الأخرى تُقطع الأيدي على رفعها. هناك مَن يكفِّر غير القائل بذلك. سافروا إلى أفريقية وانظروا إلى كيفية الصلاة لدى متبعي مذهب المالكية. ثم انظروا إلى صلاة أتباع الخميني في إيران الذين يُحضرون الحصى من مدينة “كربلاء” ويضعونها أمامهم عند السجود.

إذن فإعلانهم عن وحدة الحضارة الإسلامية ليس إلا إعلانا فارغا لا حقيقة له ولا أساس. فعلى هذه الأساطير الافتراضية والقصص الباطلة يبنون حضارة الأمة المحمدية!!

الحضارة الإسلامية عند العلماء

ما هي الحضارة و ما نوعها؟ وبأية كلمات يذكرها علماؤكم أنتم؟ إليكم ما قاله المولوي المودودي في هذا الصدد: “لو استعرضتم هذا المجتمع الإسلامي المزعوم لوجدتم أنواعا مختلقة من “المسلمين” يتعذر عليكم إحصاؤها. إنه حديقة حيوانات اجتمعت فيها ألوف الأنواع من الحيوانات بما فيها النسور والحداءات والغربان والعصافير وغيرها. وكل واحد منهم عصفور”. (المسلمون والعراك السياسي الحالي الجزء الثالث ص26 الطبعة السادسة)

لاحظوا مدى الإهانة والسخرية التي يوجهها المودودي إلى أبناء الأمة. لا يشعر بأدنى ألم للأمة، بل يستهزئ منهم استهزاء ما بعده استهزاء. وكان الأجدر به أن يشعر بالألم على ذلك. لا شك أن العلماء القدامى أيضا ذكروا مثل هذه الأمور وذكروا حالة المسلمين -لأن الحق يقال- ولكن ذكروا ذلك بشعور عميق للتوجع والتألم وليس بالسخرية والاستهزاء مثله. أما هذا فيتلذذ من التهكم على الوضع السائد .

أهذه هي الحضارة التي توحد عليها المسلون جميعا؟ هل هذا ما أسفرَ عنه اتفاقكم على فكرة عدم ظهور نبي بعد رسول الله ؟ هل هذه هي الحضارة التي تتشدقون بها وتعلنونها على دقات الطبول؟ لا شك في أنها قصص افتراضية كلها لا علاقة لها بالحقيقة إطلاقا. هناك اقتباسات كثيرة ومتنوعة قد جمعتها بهذا الشأن من كل بلد ومن كتب المسلمين وجرائدهم حيث ذكر أصحابها أنفسهم حالة المسلمين، ولكنني لا أستطيع قراءتها كلها لضيق الوقت، لذا سوف أقرأ على مسامعكم مقتبسا واحدا كنموذج على وحدة الحضارة الإسلامية كما تزعمون. يبرهن المقتبس التالي حالة المسلمين في بورما. وقد اقتبسته من جريدة موثوق بها عند معاندينا وهي جريدة “أهل الحديث” عدد 16 نيسان 1914م، حتى لا يقول معاندونا إنكم أنتم الذين أفسدتم الوضع كله. يقول مراسل الجريدة في بورما:

“هذا العبد الضعيف المقيم هنا منذ عشرة أيام. كان هناك اجتماع ديني مزمع انعقاده في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم في المسجد الجامع. فذهبت أنا أيضا إلى المسجد عند الظهر. كان المسجد مليئا بالناس وكان الوضع مثيرا للاستغراب والإعجاب. هناك كؤوس من الخمر وأطباق من التمور والموز موضوعة أمام إمام المسجد. يرفع الناس أيديهم ويقرؤون بعض الأوراد مرة بعد أخرى ويرددون كلمات: “معشوق إلهي عبد القادر الجيلاني”… “الروح ذات الفتوح”. وبعد الأوراد عزفوا أنواع مختلفة من الموسيقا وتصاعدت الأصوات:…”يا مرادي” حتى دوىّ المسجد، ثم خلطوا قطعات صغيرة من الصندل بالماء ووضعوا علامات بيضاء على أعناق الجميع وجبهاتهم مثلما توضع للرهبان. ثم قامت امرأة فاسقة وبدأت بالرقص (في المسجد) ووضعت وجهها فوق المدفأ ووضعت يدها بين الوجه والنار حتى لا تحترق. ثم شرع سادن المسجد بعزف على الدف بقوة متناهية. فساد السكوتُ المسجد كله. ثم قرأ الشيخ الوردْ النهائي ووزعت التمور والموز والأشربة ولبسوا أكاليل الزهور ثم نهضوا الساعة الرابعة وقبّلوا حوالي خمسين راية موضوعة في المحراب، ثم زيّنوا بها ثلاثة أفراس وأركبوا روح “قادر الأولياء” (الذي كانوا يحتفلون بذكراه) على أحد الأفراس. وأركبوا أرواح حوارييه على الفرسين الآخرين. ثم تجولوا في المدينة متسولين. عندما كان هؤلاء الناس يتجولون في المدينة كانت هيئتهم تبعثني على الضحك عفويا. وكان هناك بعض الرجال الأقوياء الضخام وأصحاب اللحى قد لبسوا لباسا تحتانيا وجيزا جدا وهم يرددون: “يا مرادي يا مرادي، عبد القادر”. والآخرون يقرعون الطبول وتسودهم حالة النشوة، وهكذا عادوا إلى المسجد قبيل المغرب.

يا أسفا على المسلمين الذين كان دينهم التوحيد ولكنهم اليوم يرتكبون الشرك والبدعات كهذه، وذلك داخل المساجد!!.

أهذه هي الحضارة التي توحد عليها المسلون جميعا؟ هل هذا ما أسفرَ عنه اتفاقكم على فكرة عدم ظهور نبي بعد رسول الله ؟ هل هذه هي الحضارة التي تتشدقون بها وتعلنونها على دقات الطبول؟ لا شك في أنها قصص افتراضية كلها لا علاقة لها بالحقيقة إطلاقا.

هذا أحد الأمثلة على حضارة مثلت للعيان بسبب إيمانهم بختم النبوة، والعياذ بالله، كما يزعمون.

ومثل هذه المشاهد تتراءى هنا وهناك في كل بلد. وتظهر حضارة مختلفة تماما في احتفالات كهذه في باكستان مثلا إذ نرى حضارة في مساجد أهل الحديث، ونشاهد حضارة من نوع آخر في مجالس العزاء لأهل الشيعة. كما تختلف الطقوس من بلد إلى آخر لدرجة أن أهل الشيعة في باكستان ينحبون حدادا على سيدنا الإمام الحسين بشدة حتى أنهم يضربون أنفسهم بالسكاكين والسلاسل الحديدية، في حين لا يفعل ذلك أهل الشيعة في إيران مثلا. ومن أهل الشيعة من يستنكر هذا الفعل نهائيا ومنهم من يشجب مستنكريه. إذن فنحن في كل مكان نرى حضارة مختلفة تماما. كما لم تعد هناك وحدة في الأفكار الحديثة أيضا. ولذلك فإن قولهم عن وحدة الحضارة ليس إلا ادعاء فارغ لا حقيقة له.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك