ارحموا من في الأرض

ارحموا من في الأرض

التحرير

كثيرة هي مآسي العالم ونكباته، وكثيرة هي أشجانه وآلامه.. مشاهد وأحداث كثيرة ومتنوعة لا تنفك وسائل الإعلام المتنوعة في البوح بها والخوض في تفاصيلها بين الفينة والأخرى لدرجة قد تصل إلى حد الملل من شدة وقعها وتأثيرها على أصحاب المشاعر النبيلة.

لقد أضحت مشاهدة الجوعى والعطاشى والمحرومين وشتى صور المعاناة الإنسانية لا تحرك ساكنًا من مشاعر الإنسان المادي المعاصر أو تستجدي عطفه بالقدر اللازم لإحداث التغيير المطلوب الفعال رغم مزاعم مدنيته وتقدمه. نعم لقد سهلت المدنية الحاضرة للإنسان مصاعب الحياة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها.. فحيثما ولّينا وجوهنا وجدنا للمدنية الحالية يدًا جميلة لا يمكن إنكار مدى إيجابياتها وأخرى قبيحة قاسية لا يسعنا سوى إدانتها واستنكارها؟؟

لقد أدت يدها الجميلة بالإنسان إلى الرقي بوجوده نحو الأفضل وإن كان هذا الرقي في حقيقته هو من إحسانات الله تعالى ورحمانيته على خلقه إذ وصل الإنسان إلى استحداث القطار والسيارة والدراجة النارية بعدما كان ماضيه يقتصر على ركوب الخيل والبغال والحمير.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه ليحلق في سماء الحياة الدنيا بغير جناح ولتطأ أقدامه سطح القمر..إلخ. ترى بعد كل هذا الرقي أفينكر أحدنا ما للمدنية الحديثة من أيد كريمة؟ كلا.. بل إن هناك وجهًا آخر لهذه المدنية المعاصرة ويدًا أخرى قبيحة لها وما من منصف على وجه الأرض إلا ويُقر بوجودها متسائلاً: ماذا أسدت الحضارة المتقدمة ومدنيتها للإنسانية المعذبة في شتى ربوع العالم، وماذا فعلته للتخفيف عن آلامها وجراحها؟ تساؤلات عديدة تصطدم ومزاعم العالم المتقدم الذي لا يتوانى في التباهي بالفوقية الحضارية والعلمية وإشاعة حقوق الإنسان؟ وهو دون أدنى شك يتحمل قسطًا كبيرًا من المسؤولية الأخلاقية والأدبية لتنصيبه نفسه الوصي على العالم ثم لامتلاكه من القدرات والإمكانيات المادية الضخمة ما يمكنه من مسح كآبة ودموع وآلام الشعوب المنكوبة. لقد أصبحت مآسي العالم وقيم الرحمة والمواساة في ظل منطق الربح والخسارة اللذين يسودان العالم مجرد فضول كلام لا يتعدى حجمه الدعوة لانعقاد مؤتمرات والتردد عليها هنا وهناك.. وهكذا المواساة تبتدىء وتنتهي، وأمور الجوعى والمنكوبين والعطاشى والمحرومين تُناقش بين الموائد العامرة والأجنحة الفاخرة؟ أما النتائج فدعك منها طبقًا للمثل القائل: “كلام الليل يمحوه النهار”.

إن قيم التعاطف والمواساة مهددة في هذا الزمان بالاندثار بفعل المغريات المادية والحسابات الشخصية الأنانية المتهافتة والتي هي مكمن البلاء الشديد الذي يذيب الرحمة من القلوب ويزرع فيها القسوة والجحود وما أدل على ذلك مما هو محسوس ومشهود في محيط الإنسان من صور المآسي والفساد المادي والأخلاقي المنحط وصدق الله إذ قال:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم: 42).

إن الحضارة العالمية ليست كلها شرًا، ومن العدل والتقوى أن نقرّ بهذا إنصافًا لها حتى نسهم في تَغلِيب خيرها على شرها. ومن المؤسف حقًا أن تنعزل الأمة الإسلامية وتتكاسل في إحداث هذا التغليب ساكنة لا تمتد يدها إلى ميدان التسابق في الخيرات لتكون أسوة حسنة لباقي الأمم؟ ترى هل نست أمتنا قوله تعالى:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 111).

وهل تخلصت من مسؤوليتها في البرهنة على صدق دعوتها وسمو مقاصدها وعظمة نبيها الكريم الذي قال عنه :

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 108).

فهل يا ترى ستعمل هذه الأمة على خدمة البشرية المعذبة وإسداء يد الرحمة والعون دون تمييز بين دينها أو لونها أو عرقها أم أنها ستظل رهينة لأفكار عصور الظلمات التي قسمت الدنيا إلى نصفين دار للسلم وأخرى للحرب؟ كيف يقبل مسلم عاقل غيور هذا التقسيم وسيده ومولاه محمد أُرسل من عند الله رحمة للعالمين لا للمسلمين فحسب!!

ما أعظم أسس مدنية سيدنا محمد التي أرساها رب العالمين وجعلها مطهرة وزكية من كل نزعات القومية العرقية التي تحوم في محيطنا الإنساني المعاصر. وما أعظمها من ميزة انفرد بها الإسلام عن باقي الأديان عن جدارة واستحقاق. إن للحضارة والمدنية المتقدمة كامل الحق في الافتخار بمكتسباتها المتطورة الهائلة ولكنها ليست محقة بأن تزعم أنها قد أنجزتها كلها دون أن تدوس بأقدامها على حقوق الآخرين وكرامتهم وحتى إبادتهم إذا كان في ذلك ما يعرقل حلمها بالمستقبل. وإنها لمن العبر المفيدة استقراء صفحات التاريخ البشري عبر سلسلة من الحضارات أقامت صرح مجدها على أنقاض جماجم وثقافات شعوب أخرى أُبيدت بكل قسوة قلب. واليوم ونحن نعيش عصر المدنية المتطورة لا نحتاج إلى أن نوجه أبصارنا بعيدًا لنرى الأرض مرة أخرى تعاني من الفساد والانحلال ونرى القلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة. ترى أطفالاً ونساء وشيوخًا لا يحصى لهم عدّ يعيشون في بؤس وفقر لا يطعمهم أحد من جوع ولا يؤمنهم أحد من خوف. أجل إن الأرض قد عادت إلى فساد برها وبحرها ثانية وسادت من جديد غيوم مظلمة غطت وجه البسيطة بجاهليتها. لقد كان من المفروض أن تكون الأرض موطن سلام ورحمة وأن تتألق إشراقة نور رحمة الله المتدفقة من قلب سيد الرحماء محمد المصطفى الذي قال: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”. من المحزن حقًا أن هذا القلب الرحيم والنور العظيم قد أعرضت عن تعاليمه الرحيمة ورسالته الجليلة زُمرُ أهل الدنيا القاسية قلوبهم، وانحرف عن أصولها كثير من المسلمين. غير أن الله الكريم ذو الرحمة قرر أن تشرق من جديد أنوار رحمة المصطفى وتعاليمه السمحاء على العالمين ببعثة خادم له وهو حضرة الإمام المهدي . فسبحان من أقامه وطوبى لمن أطاعه وبشرى لمن اتبعه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك