حقيقة الذبح الذي جاء به نبي الإسلام

حقيقة الذبح الذي جاء به نبي الإسلام

التحرير

  • ما جوهر الإسلام الحقيقي؟
  • ما هي حقيقة الذبح؟

___

لقد بلغت تعاليم الإسلام الحنيف من الرقي والاتساع بحيث شملت الإنسانيةَ كلَّها، على تعدد واختلاف شعوبها، برداء واحد، ونزلت رسالته الخاتمة على الإنسان الكامل سيدنا محمد المصطفى مؤكدة أنْ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (1)،

فكان التعارف والتآخي بين جميع بني آدم أولويةً من أولويات الإسلام الحقيقي. ولكن، عجبا!! فقد قَصَرَ المتأخرون من أكثر الفقهاء معنى الأخوة على أتباع الدين الواحد، بل وكثيرًا ما قَصَرُوه على أتباع المذهب الواحد، ثم زاد الطين بلة أن قسموا العالم الرحب إلى دارين اثنتين: دار إسلام، ودار حرب، فانمحت شيئًا فشيئًا أواصر الأخوة تمامًا، التي جاء الإسلام ليوطدها.. ومن أبرز معاني الإسلام التي نعنيها في هذا المقام نشر السلام وإفشاؤه بين خلق الله جميعا على اختلاف أديانهم وألوانهم وقومياتهم ومشاربهم السياسية والثقافية وغيرها. وكلمة «سَلِم» العربية التي تعني نجا وعاش في سكينة، يفوقها جمالا كلمة «أسلم» والمبدوءة بهمزة التعدية، وهذه لا يقتصر مدلولها على الاستمتاع بالطمأنينة والسلام، وإنما يتعداه إلى جعل الآخرين من الأقارب والأباعد يستمتعون بالشعور ذاته، ذلك لأن المسلم الحقيقي هو من يعمل جاهدا على إفشاء السلام بين الخلق، ففلاحه منوط بحبه وتحببه إلى إخوانه الذين هم كلهم خلق الله تعالى. فهذا أصلٌ أصيلٌ في فطرة الله التي فطر الناس عليها. فمن طبيعة النفس الإنسانية أنها تميل إلى المؤانسة والمسالمة، فالبغض ليس من فطرتها، وإنما هو وازع شيطاني دُعيت الإنسانية إلى إعادة تمثيل مشهد رجمه ونبذه خلال أيام الحج، وذلك في مشهد مهيب ترمى فيه الجمرات إعلانًا من الحجيج عن رغبتهم في استعادة فطرتهم الأولى واستعاذتهم بربهم الأعلى من نزغات الشيطان. ولكن الناظر بعين المتأمل ينتابه استغراب عظيم من مدى التناقض بين معاني مناسك الحج العظيمة وواقع العالم المعاصر، فعلى حين جعل الله تعالى البيت مثابة للناس وأمنا، نجد أنهار الدماء تجري من حوله، وعلى الرغم من طواف الناس بالبيت، إلا أنهم هجروا قيمه العليا، وبعد كل ذلك ينتظرون تحصيل ثواب حج مبرور. ويبالغ بعض المتدينين في أدائهم مناسك الحج، كالطواف ورمي الجمرات، فيؤدونها بطريقة فيها إيذاءٌ ومزاحمة للآخرين، ويتصورون أنهم بهذا يتقربون إلى الله تعالى، بينما هم في الواقع يحمّلون أنفسهم الوزر والإثم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. من تلك الممارسات التي يبغضها الله تعالى في الحج ما يصدر من بعض الحجيج أثناء طوافهم من رغبة في لمس الحجر الأسود وتقبيله أمرًا مستحبًّا، وكذلك الاقتراب من الكعبة والتعلق بأستارها، إلا أن مزاحمة الناس وإيذاءهم هو مكروه يبلغ مبلغ التحريم، فهل يصح أداء المستحب بارتكاب المكروه والمحّرم؟! قطعًا لا، اللهم إلا في منطق ميكيافيللي الزاعم بأن الغاية السامية تبرر الوسيلة القذرة، ألا بعدًا لهذا المنطق البغيض! وكم من ضلوع كُسِرت وعظام حطمت في سبيل تحقيق أحد البائسين تلك الغاية! ليرجع بعدها إلى دياره حاملًا لقب «حاج» وفوقه آلاف اللعنات من الله الذي لا يُرضيه مجرد قطع المسافات، بقدر ما ترضيه المواساة والمؤاخاة.

وطالما يتداول خصوم الإسلام حديث النبي   إذ يقول:

«أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ»(2)،

ليتخذوه مطعنًا في شرف هذا الدين، ظانين ظن السوء أن الذبح في الإسلام فعل يتعدى إلى الآخر، فليتهم عرفوا أنه شعيرة يومية يُجريها المسلم الحقيقي على نفسه، فيظل مشغولاً في مواساة خلق الله عامةً لوجه الله تعالى خالصةً، وينفعَ أبناء جنسه قدر المستطاع بكلِّ ما رزقه الله من القوى والنِّعَم(3).. يعني باختصار، يقتل نفسه تفانيًا في خدمة خلق الله تعالى.

إذن، فقد جاء الإسلام فعلًا بالذبح، إنه ذبح المرء نفسه الأمَّارة، بِخُوَارِهَا وثوائرها، لينعم الآخرون من حوله بالسلامة والأمان، ولتتحقق بهذا فقط عبادة الله تعالى، والتي هي شطران: توحيده، والتضحية من أجل نوع الإنسان، وهذا هو الذَّبح الحلال الذي نزل به القرآن.

وتاريخيًّا، نعلم أن مناسك الحج جميعها ما كانت لتؤدى لولا جو السلم العام، فعلى الرغم من عراك العرب وتطاحنهم المستمر، كانوا يضطرون امتثالًا للأمر الإلهي منذ أيام جدهم خليل الرحمن، إلى التوقف عن الضرب والطعان لأداء تلك المناسك، وبلغ الأمر التشديد على عدم سل السيوف في تلك الأيام درجةً أن جعلت أيام استعدادهم للحج وقيامهم به محرمة عند الله، وتلك هي الأشهر الحرم.

فقد جاء الإسلام فعلًا بالذبح، إنه ذبح المرء نفسه الأمَّارة، بِخُوَارِهَا وثوائرها، لينعم الآخرون من حوله بالسلامة والأمان، ولتتحقق بهذا فقط عبادة الله تعالى، والتي هي شطران: توحيده، والتضحية من أجل نوع الإنسان، وهذا هو الذَّبح الحلال الذي نزل به القرآن.

فالتقرب إلى الله تعالى بنحر الهدي والأضاحي إنما هو رمز لنحر النفس الأمارة والاستسلام التام بين يديه ، ويتم نحر النفس الأمارة بكبح ثوائرها وكفها عن شهواتها وهذا هو مدار جميع العبادات والشعائر التي شرعها الله تعالى في كافة العصور ولكافة الأمم، وآخرها أمة خاتم النبيين التي انصهرت في بوتقتها كافة أمم النبيين السابقين.. تلك كانت إحدى حقائق شعائر حج بيت الله الحرام، والتي كانت ولم تزل غائبة عن كثيرين، إلى أن جاء من الله تعالى من يوضح لنا غموضها ويرينا دقائق التقوى..

ويصدر عدد التقوى لهذا الشهر يوليو 2022 متزامنًا مع حدث موسمي روحي عالمي، وهو حج بيت الله الحرام، لذا فقد كُرِّست أغلب موضوعاته مواكَبَةً لهذا الموسم المبارك، فلتصحبنا أيها القارئ الكريم خلال تغطيتنا هذه، لتطلع على نخبة من الكتابات ذات الصلة بالحج ومقاصده. وعلى رأس ما نقدمه إليك قارئنا الكريم في هذا الشهر خطبة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) في أحد أيام عيد الأضحى لنتعلم منها فلسفة الأضحية التي هي من أبرز مناسك الحج، فتقديم القرابين ما هو إلا تمثيل عملي لمبدأ التضحية والفداء.

الهوامش:

  1. (الحجرات: 14)
  2. (مسند أحمد،كتاب مسند المكثرين من الصحابة)
  3. الشرط التاسع من شروط البيعة للمسيح الموعود
Share via
تابعونا على الفايس بوك