إسراء موسى عليه السلام.. حقائق وأحداث
  • ما تأويل “فتى موسى” في القصة؟
  • من يكون ذلك العبد الصالح الذي رغب موسى في لقائه؟
  • كيف استنبط المصلح الموعود (رض) من هذه الآية الكريمة مستقبل الصراع بين المسيحية والإسلام؟

__

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (الكهف 61)

 شرح الكلمات:

لا أبرَحُ: ما برِح فلان كريمًا أي بقِي على كرمه (الأقرب).

أمضي: مضى الشيءُ يمضي ومضَا يمضو: ذهَب وخلا (الأقرب).

حُقُبًا: الحُقُب جمع الحُقْبِ وهي ثمانون سنة، ويقال: أكثرُ من ذلك. والحُقْب: الدهرُ؛ السنَةُ، وقيل: السنون (الأقرب).

 

التفسير:

لقد تحدّثَ الله تعالى في الآيات السابقة عن موضوع الصراع بين المسيحية والإسلام بلغة تمثيلية، حيث بيّن أنه صراع بين القوي والضعيف فيما يبدو، ولكن التدبر البسيط يكشف أن القوي من يتجه إلى الله تعالى، وليس مَن شغلته أمور الدنيا. كما أشار أيضًا أنه من المقدر للمسيحية أن تزدهر أول مرة حتى مبعث النبي ، ثم سيُحرز الإسلامُ الرقيَّ لفترة من الزمن، لتزدهر المسيحية ثانيةً. أما الآن فقد تناول الله تعالى الموضوعَ نفسه على أساس ما ورد في الكتب السماوية من أنباء بهذا الصدد.

وليكن معلومًا أن معارضي الإسلام – كما بيّنتُ من قبل- يطعنون في هذه السورة بأنها قد جمعت أحداثًا مختلفة من دون أي رابط بينها؛ بل إن اجتماع هذه الأحداث فيها كان باعث حيرة حتى للمسلمين أنفسهم، الذين اقتنعوا بقولهم إن اليهود سألوا النبي عن بعض الأمور فجُمع جوابها في هذه السورة.

ولكن الأمر ليس كذلك كما هو ظاهر، لأن النبي إذا كان قد سئل بالفعل عن أصحاب الكهف وذي القرنين فلماذا أقحم الله تعالى بين ذكر أصحاب الكهف وذي القرنين كلَّ هذه التمثيلات المذكورة آنفًا وكذلك حادثَ موسى مع فتاه الذي يبدأ بهذه الآية؟ لِمَ لم يذكر الإجابة عن أصحاب الكهف وذي القرنين على الأقل في مكان واحد؟

الحق أن هذه المواضيع كلها قد وردت هنا بترتيب محكم، وقد جيء بكل حادث ومثال في محله وبمقتضى الضرورة. لقد سبق أن بيّنتُ الحكمة من ورود هذه الأمثال خلال قصة أصحاب الكهف، وأبين الآن الحكمة من ورود قصة موسى في هذا المكان.

لقد سبق أن بيّنتُ أن ثمة في الحياة القومية للمسيحيين أمرًا لم أجد لـه نظيرًا في حياة أية أمة أخرى. ذلك أن الأمة المسيحية نالت الرقي بعد عيسى لمدة من الزمان، ثم توقف رقيها لفترة بعثة نبي آخر وهو نبينا حيث حققت أمته الرقي لفترة من الزمان، لتستأنف بعدها الأمةُ المسيحية رقيها ثانية؛ وقد أُشير إلى هذا الأمر من قبل بكلمة نَهَرًا في المثال السابق حيث قال تعالى وفجّرنا خلالهما نهرًا . أما الآن فقام بتوضيح نفس الأمر بذكر قصة موسى هنا. ذلك أن موسى مثيلٌ لنبينا بحسب النبوءة التوراتية التالية: «أُقيم لهم نبيًّا مِن وَسَطِ إخوتهم مِثلَك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أُوصيه به» (تثنية 18: 18). كما أشار القرآن الكريم أيضًا إلى هذه النبوءة في قوله تعالى إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً (المزّمِّل:16). إذًا فقد ذكَر القرآن واقعةَ موسى هذه بين عصري رقي المسيحيين للدلالة على أن ظهور هذا النبي المثيل لموسى بين هذين العصرَين كان ضروريًّا؛ وهكذا دفَع الشبهةَ القائلة بأنه لو كان هذا الذي ادعى النبوة بعد الرقي المسيحي الأول نبيًّا صادقًا فلماذا لم ينته الرقي المسيحي بعد ظهوره كليةً؟ أليس استئناف الرقي المسيحي بعد ظهوره بفترة من الزمن وبقوة أكبرَ يشكّل دليلاً على أن هذا المدعي لم يكن نبيًّا صادقًا، وإلا لأوقف مد الرقي المسيحي؟

لم أذكر هذا الأمر بناء على ذوقي، بل يدعمه أيضًا حادث موسى الذي سأقوم بشرحه لاحقًا. ولقد اكتفيت هنا بالإشارة إلى أن ظهور محمد لما كان مقدَّرًا بين عصرَي الرقي المسيحي فذُكر حادث موسى – الذي كان محمد مثيلاً له – للفصل بين هذين العصرين، لتُسرد هذه الأحداث بحسب وقوعها المقدَّر.

لقد اختلف المفسرون في الواقعة المذكورة هنا. فقال أكثرهم – كما ورد في بعض روايات الحديث أيضًا – أن هذه الآيات تتحدث عن أخبار سفر قام به موسى للقاء رجل اسمه الخِضر.

ثم اختلفوا في بيان دواعي هذا السفر، فقال بعضهم إن موسى قال لله يومًا: هل يوجد رجل أعلم منه؟ قال : نعم، يوجد الرجل الفلاني. فذهب موسى لملاقاته. وفي رواية أن موسى سُئل مرة: هل يوجد رجل أعلم مني؟ فقال لا أعلم. فأوحى الله إليه وأخبره عن مكان الرجل الذي كان أعلم منه، فذهب لزيارته. (الكشاف والقرطبي والطبري، والبخاري: كتاب التفسير سورة الكهف).

الحق أن الناس قد أخطأوا في فهم هذا الحادث. ذلك أن سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار، وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات من الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة مِن قبل اليهود والنصارى. وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى – علمًا أن النصارى هم، عند الله تعالى، من أمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها. فأخبر الله تعالى أن هؤلاء سيُلحقون بالمسلمين في آخر الزمان ضررًا كبيرًا جدًّا. وقد ذَكَرَ الله تعالى إسراء موسى عقبَ إسراء محمد ليؤكد أن العاقبة لمحمد ولأمته، وأن هذه الطائفة الثانية من أمة موسى، أي المسيحيين، لن يبقوا غالبين.

الأمة المسيحية نالت الرقي بعد عيسى لمدة من الزمان، ثم توقف رقيها لفترة بعثة نبي آخر وهو نبينا حيث حققت أمته الرقي لفترة من الزمان، لتستأنف بعدها الأمةُ المسيحية رقيها ثانية؛ وقد أُشير إلى هذا الأمر من قبل بكلمة نَهَرًا في المثال السابق حيث قال تعالى وفجّرنا خلالهما نهرًا . أما الآن فقام بتوضيح نفس الأمر بذكر قصة موسى هنا. ذلك أن موسى مثيلٌ لنبينا بحسب النبوءة التوراتية التالية: «أُقيم لهم نبيًّا مِن وَسَطِ إخوتهم مِثلَك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أُوصيه به» (تثنية 18: 18)

كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين يرى أن هذه الواقعة كانت كشفًا من كشوف موسى ، وأنها لم تقع بالجسم المادي (حقائق الفرقان ج 3 قولـه تعالى: وأما الغلام فكان أبَواه مؤمنَين). وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه كان مصيبًا في رأيه هذا. وإليكم الأدلة على ذلك:

الأول: أنه لا يوجد في التوراة أي ذكر لهذا السفر، مما يدل على أن هذا الحادث لم يقع في العالم المادي. كان من الممكن أن يختلف العهد القديم والقرآن الكريم لحد ما في بيان تفاصيل هذا السفر، أما أن يخلو العهد القديم عن ذكره أصلاً فهو أمر جد غريب.

نعم إن الروايات الإسرائيلية تتحدث عن معراج لموسى (الموسوعة اليهودية كلمة Ascension).

وقد بلغني أن عزيزي المولوي جلال الدين شمس قد استخرج من المصادر الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني بلندن رواياتٍ يهودية تشير إلى معراج موسى، وأنه كان معراجًا بالجسد المادي. ولكن قولهم هذا ليس حجة علينا، إذ يوجد بيننا نحن المسلمين أيضًا من يزعم أن إسراء سيدنا محمد كان بالجسد المادي (تفسير ابن كثير، وتفسير معارف القرآن: سورة الإسراء).

الثاني: لم يثبت لموسى قبل بعثته إلى بني إسرائيل إلا سفر واحد، وهو سفره إلى مَدْيَنَ، وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع. وقد أجمع القرآن والعهد القديم على أنه لم يكن مع موسى في ذلك السفر أحدٌ (سورة القصص: 22- 24، وسفر الخروج 2: 15، 16). بينما نجد في السفر المشار إليه هنا رفيقًا لموسى تابعًا له على ما يبدو، لأن لفظ «فتى» إذا ورد مضافًا إلى أحد فيعني ابنَه أو خادِمَه. إذًا فكلمات هذه الآية لا تنطبق على السفر الذي قام به موسى إلى مَدْيَن. وبما أنه لم يثبت لموسى سفر غيره فثبت أن السفر المشار إليه لم يكن إلا كشفًا.

الثالث: لم يثبت لموسى حتى بعد بعثتِه سفرٌ فارقَ لأجله قومَه. ولقد سجّل العهد القديم أحداث حياة موسى من الأول إلى الآخر بترتيبها الواقعي، ولكن لا نجد فيها أيضًا ذكرًا لهذا السفر، وهذا يدل على أن هذا السفر لم يكن حادثًا ماديًّا.

الرابع: لما ذهب موسى لسماع كلام الله إلى الجبل الذي كان يقع على بعد بضعة أميال فقط من قومه، وبقي هناك أربعين ليلة، اتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجلَ إلهًا (الأعراف: 143-149). فإذا كانت غيبته لمجرد أربعين يومًا أدّت إلى مثل هذا الفساد في قومه، فماذا عسى أن يقع فيهم أثناء غيابه الطويل عنهم بسبب هذا السفر الطويل؟ ولكننا نعرف أنه لم يقع أي فساد بين بني إسرائيل نتيجة هذا السفر، إذ لا تشير التوراة إلى أي فساد آخر غير الذي حصل باتخاذهم العجل إلهًا. كما أنه لم يكن من الحكمة أن يذهب موسى في مثل هذا السفر الطويل بعد ما شاهدَ من فساد قومه ما شاهدَ.

الخامس: عندما ذهب موسى إلى الجبل لميقات ربه أربعين ليلة استخلف أخاه هارون على قومه، ولكن لم يثبت أن موسى استخلف أحدًا – هارونَ أو غيره – خلال هذا السفر. إذا كانت التوراة قد سكتت عن ذكر أحداث هذا السفر لسبب ما، فكان من واجبها أن تذكر – على الأقل – استخلافَ موسى لأحد عند هذا السفر، إذ ليس من المعقول أن يذهب موسى لهذا السفر الطويل من دون أن يستخلف على قومه أحدًا. فعدم ذكره في الكتاب المقدس يدل على أن هذا السفر لم يكن بالجسد المادي.

السادس: أنه مما يتعارض مع سنة الأنبياء أن يفارقوا قومهم لأمد طويل ، حيث لا نجد بين الأنبياء الذين ذكرهم التاريخ نبيًّا واحدًا فعَل ذلك. لا ريب أن المسيح فارقَ قومَه حسب عقيدتنا، ولكنه في الحقيقة فارقَ طائفةً من قومه إلى طائفة أخرى منهم؛ وهناك أمثلة كثيرة حيث قام الأنبياء برحلات تبليغية بين قومهم، لكن سفر موسى هذا لم يكن من أجل التبليغ، كما لم يسافر في منطقة قومه، وإنما فارقَ قومه لمجرد أن يتعرف على الرجل الذي كان أعلم منه.

السابع: قال ابن عباس في تفسير الكنـز المذكور في هذا الحادث: «ما كان الكنـز إلا علمًا» (ابن كثير، قوله تعالى: ذلك تأويلُ ما لم تَسْطِعْ عليه صبرًا). والجلي أن ما قاله ابن عباس تعبيرٌ، والتعبير لا يكون إلا للكشوف والرؤى. ولما كان الكنـز علمًا فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقُه لم يكن جدارًا ماديًّا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديًّا. فإذا كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها كشفًا من الكشوف.

Share via
تابعونا على الفايس بوك