في عالم التفسير

من تفسير سورة الفاتحة للمسيح الموعود

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

اعلم، أَسْعَدَك الله، أنّ الله قسم اليهود والنصارى في هذه السورة على ثلاثة أقسام، فرَغَّبَنا في قسمٍ منهم وبشَّر به بفضل وإكرام، وعَلَّمَنا دعاءً لنكون كمثل تلك الكرام، من الأنبياء والرسل العظام. وبقي القسمان الآخران، وهما المغضوب عليهم من اليهود والضالون من أهل الصلبان، فأمَرنا أن نعوذ به مِن أن نلحق بهم من الشقاوة والطغيان. فظهر من هذه السورة أنّ أَمْرَنا قد تُرك بين خوفٍ ورجاء، ونعمةٍ وبلاء، إمّا مشابهةٌ بالأنبياء، وإمّا شُربٌ من كأس الأشقياء. فاتقوا الله الذي عظُم وعيدُه، وجلّتْ مواعيدُه. ومَن لم يكنْ على هدى الأنبياء من فضل الله الودود، فقد خِيفَ عليه أن يكون كالنصارى أو اليهود. فاشتدّت الحاجة إلى نموذج النبيّين والمرسلين، ليدفع نورُهم ظلماتِ المغضوب عليهم وشبهاتِ الضالين. ولذلك وجَب ظهور المسيح الموعود في هذا الزمان من هذه الأمّة، لأنّ الضالّين قد كثروا فاقتضتْ المسيحَ ضرورةُ المقابلة. وإنكم ترون أفواجًا من القسّيسين الذين هم الضالّون، فأين المسيح الذي يَذُبُّهم إن كنتم تعلمون؟ أمَا ظهَر أثرُ الدعاء، أو تُركتم في الليلة الليلاء؟ أم عُلِّمتم دعاء صِرَاطَ الَّذِيْنَ ، ليزيد الحسرةَ وتكونوا كالمحرومين؟ فالحق والحق أقول، إن الله ما قسم الفِرق على ثلاثة أقسام في هذه السورة، إلا بعد أن أَعَدَّ كلَّ نموذج منهم في هذه الأمّة. وإنكم ترون كثرة المغضوب عليهم وكثرة الضالين، فأين الذي جاء على نموذج النبيين والمرسلين من السابقين؟ ما لكم لا تفكّرون في هذا وتمرّون غافلين؟

ثم اعلم أن هذه السورة قد أخبرتْ عن المبدأ والمعاد، وأشارت إلى قوم هم آخِر الأقوام ومنتهى الفساد، فإنها اختُتِمتْ على الضالّين، وفيه إشارة للمتدبّرين. فإن الله ذكَر هاتين الفرقتين في آخر السورة، وما ذكَر الدجّال المعهود تصريحًا ولا بالإشارة، مع أن المقام كان يقتضي ذِكر الدجّال، فإن السورة أشارت في قولها الضَّالِّينَ إلى آخر الفتن وأكبر الأهوال، فلو كانت فتنةُ الدجّال في علم الله أكبرَ من هذه الفتنة، لختَم السورةَ عليها لا على هذه الفِرقة. ففكِّروا في أنفسكم.. أنَسِيَ أصلَ الأمر ربُّنا ذو الجلال، وذكَر الضالّين في مقام كان واجبًا فيه ذكرُ الدجّال؟ وإن كان الأمر كما هو زعم الجهّال، لقال الله في هذا المقام: غير المغضوب عليهم ولا الدجّال. وأنت تعلم أن الله أراد في هذه السورة أن يحثّ الأمّة على طرق النبيّين، ويحذّرهم من طرق الكَفَرة الفَجَرة، فذكَر قومًا أكملَ لهم عطاءَه، وأتمّ نعماءه، ووعد أنه باعثٌ من هذه الأمّة مَن هو يشابه النبيين، ويضاهي المرسلين. ثم ذكر قومًا آخر تُركوا في الظلمات، وجعل فتنتَهم آخرَ الفتن وأعظمَ الآفات، وأمر أن يعوذ الناسُ كلُّهم به من هذه الفتن إلى يوم القيامة، ويتضرّعوا لدفعِها في الصلوات في أوقاتها الخمسة. وما أشار في هذا إلى الدجّال وفتنته العظيمة، فأيُّ دليل أكبر من هذا على إبطال هذه العقيدة؟

ثم من مؤيِّدات هذا البرهان، أن الله ذكر النصارى في آخر القرآن كما ذكر في أوّل الفرقان، ففكّرْ في: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وفي: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ، وما هم إلا النصارى فعُذْ مِن علمائهم بربّ الناس. وإن الله كما ختَم الفاتحةَ على الضالين، كذلك ختم القرآن على النصرانيين، وإن الضالين هم النصرانيون كما رُويَ عن نبيّنا في الدر المنثور، وفي فتح الباري فلا تُعرِضْ عن القول الثابت المشهور، ومُسلَّمِ الجمهورِ.

 

في تفسير الفاتحة بقولٍ كُلّيّ

اعلمْ أن الله تعالى افتتح كتابه بالحمد لا بالشكر ولا بالثناء، لأن الحمد أتمُّ وأكملُ منهما وأحاطَهما بالاستيفاء. ثم ذلك رَدٌّ على عَبَدة المخلوقين والأوثان، فإنهم يحمَدون طواغيتَهم وينسبون إليها صفاتِ الرحمن.

وفي الحمد إشارة أخرى وهي أن الله تبارك وتعالى يقول أيها العباد اعرفوني بصفاتي، وآمِنوا بي لكمالاتي، وانظروا إلى السماوات والأرضين، هل تجدون كمثلي ربَّ العالمين، وأرحمَ الراحمين، ومالِكَ يوم الدين؟

ومع ذلك إشارة إلى أن إلهكم إلهٌ جمَع جميعَ أنواع الحمد في ذاته، وتفرّدَ في سائر محاسنه وصفاته. وإشارة إلى أنه تعالى منـزَّهٌ شأنُه عن كل نقص وحُؤولِ حالةٍ ولحوقِ وصمةٍ كالمخلوقين، بل هو الكامل المحمود، ولا تحيطه الحدود. وله الحمد في الأولى والآخرة ومن الأزل إلى أبد الآبدين. ولذلك سمّى الله نبيَّه أحمدَ، وكذلك سمّى به المسيحَ الموعود ليشير إلى ما تعمّدَ.

وإن الله كتب الحمد على رأس الفاتحة، ثم أشار إلى الحمد في آخر هذه السورة، فإن آخرها لفظ الضَّالِّينَ ، وهم النصارى الذين أعرضوا عن حمد الله وأعطَوا حقَّه لأحدٍ من المخلوقين. فإن حقيقة الضلالة هي تركُ المحمود الذي يستحقّ الحمد والثناء، كما فعل النصارى ونحتوا من عندهم محمودًا آخر وبالغوا في الإطراء، واتبّعوا الأهواء، وبعُدوا من عين الحياة، وهلكوا كما يهلك الضالّ في المَوماة. وإن اليهود هلكوا في أوّل أمرهم وباءوا بغضبٍ من الله القهّار، والنصارى سلكوا قليلا ثم ضلّوا وفقدوا الماء فماتوا في فلاة من الاضطرار. فحاصل هذا البيان أن الله خلَق أحمدَين في صدر الإسلام وفي آخر الزمان، وأشار إليهما بتكرار لفظ الحمد في أول الفاتحة وفي آخرها لأهل العرفان. وفعل كذلك ليردّ على النصرانيين، وأنزل أحمدَيْن من السماء ليكونا كالجدارَيْن لحماية الأولين والآخرين.

وهذا آخر ما أردنا في هذا الباب، بتوفيق الله الراحم الوهاب. فالحمد لله على هذا التوفيق والرِفاء، وكان مِن فضله أنّ عَهْدَنا قُرِنَ بالوفاء، وما كان لنا أن نكتب حرفًا لولا عونُ حضرة الكبرياء. هو الذي أَرَى الآياتِ، وأنزل البيّناتِ، وعصم قلمي وكَلِمي من الخطأ، وحفِظ عِرضي من الأعداء. وإنه تبوّأ منْزلي، وتجلّى عليّ وحضر محفلي واجتباني لخلافته، وأبقى مَرعاي على صرافته. وزكّاني فأحسنَ تزكيتي، وربّاني فبالغَ في تربيتي. وأنبتَني نباتًا حسنًا، وتجلّى عليّ وشغَفني حُبًّا، حتى إنني فرغتُ من عداوة الناس ومحبّتهم، ومدحِ الخَلق ومذمّتهم، والآن سواء لي مَن عاد إليّ أو عادى، ورادَ مِن ضِياعي أو رادى. وصارت الدنيا في عيني كجاريةٍ بُدئتْ، واسودّ وجهها وصفوفُ الحسنِ تقوّضتْ، وشَمَمُ الأنفِ بالفُطْس تبدّلَ، ولَهَبُ الخدودِ إلى النَمْشِ انتقلَ، فنجوتُ بحول الله من سطوتها وسلطانها، وعُصِمتُ من صولة غُولها وشيطانها. وخرجتُ من قوم يتركون الأصل ويطلبون الفرع، ويضيعون الورع لهذه الدنيا ويُجبِئون الزرع. ويريدون أن يحتكئ قولُهم في قلوب الناس، مع أنهم ما خلصوا من الأدناس. وكيف يُترقّب الماء المَعين مِن قِرْبةٍ قضِئتْ، والخلوصُ والدينُ من قريحةٍ فسدتْ؟ وكيف يُعَدُّ الأسير كمُطلَقٍ من الإسار؟ وكيف يدخُل المـُقرِف في الأحرار؟ وكيف يتداكأُ الناس عليه، وهو خبيث وخبيثٌ ما يخرج مِن شفتَيه؟ وإنّ قلمي بُرِّئَ من أدناس الهوى، وبُرِيَ لإرضاء المولى. وإن لِيَراعي أثر من الباقيات الصالحات، ولا كأثرِ سنابِكِ المسوَّمات. ونحن كُماةٌ لا نَزِلُّ عن صهوات المطايا، وإنّا مع ربّنا إلى حلول المنايا. وإن خيلنا تجُول على العدا كالبازي على العصفور، أو كالأجدَل على الفأر المذؤور.

رُوَيدَ أعدائي بعضَ الدعاوي، ولا تدّعوا الشَبَعَ مع البطن الخاوي. أتقومون للحرب برماح أُشرعتْ، ولا ترون إلى حُجُبِكم وإلى سلاسل ثُقّلتْ. ترون غمراتِ الندم ثم تقتحمونها، وتجِدون غَمّاءَ الذلّ ثم تزورونها. وإنّما مَثلكم كمثلِ عَنْزٍ تأكل تارة من حشيشٍ وتارة من كلاء، ولا يطيع الراعي من غير خلاء. وكل ما هو عندكم من العلم فليس هو إلا كالكدوس المـَدُوس الذي لم يُذَرّ، وخالَطَه روثُ الفَدَادين وغيرها مما ضَرَّ. ثم تقولون إنّا لا نحتاج إلى حَكَمٍ من السماء، وما هي إلا شِقوة، ففكّروا يا أهل الآراء.

وإني أعلمُ كعلم المحسوسات والبديهيات، أني أُرسلتُ من ربي بالهدايات والآيات، وقد أُوحيَ إليّ إلى مدّة هي مدّةُ وحيِ خاتمِ النبيين، وكُلّمتُ قبل أن أَزْنَأَ من الأربعين، إلى أن زَنَأْتُ للستين. وهل يجوز تكذيب رجلٍ ضاهتْ مدّتُه مدّةَ نبيّنا المصطفى؟ وإن الله قد جعل تلك المدّة دليلا على صدق رسوله المجتبى، وسمعتُ إنكاره من بعض الناس، وما قبلوا هذا الدليل بلمّة من الوسواس الخنّاس، فاكتَلأَتْ عيني طول ليلي، وجرت مِن عيني عينُ سيلي، فكلّمني ربي برحمته العظمى، وقال قُلْ: إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى . فله الحمد وهو المولى، وهو ربّي في هذه وفي يومٍ تُحشرُ كلُّ نفسٍ لتُجزَى. رَبِّ انزِلْ على قلبي، واظهَرْ مِن جيـبي بعد سلبي، واملأْ بنور العرفان فؤادي. ربّ أنت مُرادي فآتِني مرادي، ولا تُمِتْني موتَ الكلاب، بوجهك يا رب الأرباب. رب إني اخترتك فاختَرْني، وانظرْ إلى قلبي واحضُرْني، فإنك عليم الأسرار، وخبير بما يُكتَم من الأغيار. ربّ إنْ كنتَ تعلمُ أن أعدائي هم الصادقون المخلصون، فأهلِكْني كما تُهْلَكُ الكذّابون، وإنْ كنتَ تعلم أني منك ومن حضرتك، فقُمْ لنُصرتي فإني أحتاج إلى نصرتك، ولا تُفوِّضْ أمري إلى أعداء يمرّون عليّ مستهزئين، واحفظْني من المعادين والماكرين. إنك أنت راحي وراحتي، وجَنّتي وجُنّتي، فانصرْني في أمري واسمعْ بكائي ورُنّتي، وصَلِّ على محمدٍ خير المرسلين، وإمام المتّقين، وهَبْ له مراتبَ ما وهبتَ لغيره من النبيين. ربّ أَعْطِه ما أردتَ أن تُعطيني من النعماء، ثم اغفِرْ لي بوجهك وأنت أرحم الرحماء.

Share via
تابعونا على الفايس بوك