الإستفتاء

من العلماء الكرام والفقهاء العظام، من فضلاء العرب ومصر والشام

وغيرها من بلاد أمة خير الأنام

بِسْمِ الله الرحمنِ الرَّحيمِ

نحمد الله العليّ العظيم،   ونصلّي على رسوله الكريم

 

رَبَّنَا إِنَّنَا جِئْنَاكَ مَظْلُومين فافرُقْ بَينَنَا وبَينَ القَومِ الظَّالِمِينَ، آمين

يا علماء الإسلام، وفقهاءَ ملّة خير الأنام، أفتُوني في رجلٍ ادّعى أنّه من الله الكريم، وهو يُؤمن بكتاب الله ورسوله الرؤوف الرحيم. وأرى الله له أمورًا خارقةً للعادةِ، وأظهر الآياتِ المـُنيرةَ وعجائب النُصرة. وظهر في زمنٍ هو من الدّين كالعُريان، وعلى صدر الإسلام كالسِّنانِ، وعلماءُ الوقت كرجُلٍ رِجْـلاه تتخاذلان، وخرج القساقسة فيه كبطل له سهْمانِ: سهم يذلّقونه ليجرّحُوا به ملّة الإسلام بالأكاذيب وأنواع البهتان، وآخر يفوّقونه ليُدخلوا به الناس في أهل الصُّلبان. وتجدونهم كذئب عاث، أو لِصٍّ ينهب الأثاث. وليس عندهم إلا النقول، وما لا تقبله العقول. وليس عماد دينهم إلا خشب الكفّارة، وقد فُتح به كلّ باب للنفس الأمّارة. فهل أوحش وأفْحش من هذه العقيدة، وأبْعد من قبول الطبائع السعيدة؟ ثم يسبّون دين الله وخيرَ الأنام، وهذا أشدّ المصائب على الإسلام. والدّين الذي قائم على خشبٍ لا حاجة إلى تحقيقه، ولا يهدي العقل إلى تصديقه، بل تعافه فطرة طيّبة، وتفرّ من هذا الحديث، وتُطلّق بطلاقٍ ثلاثٍ مذهبَ التثليث. وأما صعود عيسى ونزوله فهو أمر يكذّبه العقل وكتاب الله القرآن، وما هو إلا كتَعِلَّةٍ تُنام بها الصبيان، أو كالتماثيل التي تلعب بها الجواري والغلمان. ما قام عليه دليل وما شهد عليه برهان.

فخلاصة الكلام أنّ هذا المدّعي ظهر في هذه الأيام، عند كثرة الفتن وكثرة البدعات وضعف الإسلام. وما وُجد في أحواله قبل هذا الدعوى شيء من عادة الكذب والافتراء، لا في زمن الشيب ولا في زمن الفتاء. وما وُجد في عمله شيءٌ يخالف سنّة خير الأنبياء، بل يؤمن بكلّ ما جاء به الرسول الكريم من الأحكام والأَنباء، وبكلّ ما ثبت من نبيّنا سيّد الأتقياء. وإنه من أُسَاة الهوى، وقد أسا جُرْحَ الذنوب وداوى، وجاء ليُؤسّي بين الورى، ويوصل بالأُمّة الآخرة أممًا أولى. ولو بغيتَ له الأُسَى، لوجدت فيه أُسوة المصطفى، يقتدي به في كلّ سُنن الهُدى.

وسعَى العدا كلّ السَّعْي وسقطوا عليه كالبلاء، وتقصّوا أمره بكل الاستقصاء، ليجدوا فيه نقصًا أو يَعْثِرُوا على قولٍ منه فيه مخالفة الملّة الغرّاء، وخاضوا في سوانحه من مقتضى البغض والشحناء. فما وجدوا مع شدّة عداوتهم سبيلاً إلى القدْح والزرْي والازدراء، ولا طريق عمل يُحْمَل على الأغراض والأهواء.

وكان في أوّل زمنه مستورًا في زاوية الخمول، لا يُعرف ولا يُذكر، ولا يُرجى منه ولا يحذر، ويُنْكر عليه ولا يوقَّر، ولا يُعَدّ في أشياءٍ يُحدَّث بها بين العوام والكُبراءِ، بل يُظَنّ أنه ليس بشيءٍ، ويُعرَض عن ذكره في مجالس العقلاء. وبشّره ربّه في ذلك الزمن بأنّه معه وأنه اختاره، وأنه أدخله في الأحبّاء. وأنّه سيرفع ذكره، ويُعْلي شأنه، ويعظّم سُلطانه، فيُعرَف بين الناس، ويُذكَر في مشارق الأرض ومغاربها بالذكر الجميل والثناء. وتُشاع عظمته في الأرض بأمر ربّ السماء، ويُعان من حضرة الكبرياء. وتأتيه من كلّ فجٍّ عميق أَفواجٌ بعد أفواجٍ، كبحرٍ موّاجٍ، حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم، ويضيق صدره من رؤيتهم، ويروعه ما يروع العايلَ المعيّل عند كثرة العيال وحمل الأَعباء وقلّة المال. ويفارق الناسُ أوطانهم، ويُوطِنون قريته بما جذب الله إليه جَنانهم، فيتركون للقائه ملاقاة الرفقاء، وتتّقد لصُحبته الأكبادُ، ويرقّ برؤيته الفؤاد، وتحفِد في أثره العباد، بكمال الصدق والإخلاص والصفاء، ويؤثرون له أنواع البلاء. ومنهم يكون قومٌ يقال لهم أصحاب الصفّة، يَسْكُنون في بعض حجراته كالفقراء. تذوب أهواؤهم، وتجري قلوبهم كالماء. ترى أعينهم تفيض من الدمع بما يعرفون الحقّ وبما يرون أنوار السماء. يقولون ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان، ويبكون لذاذة ووجْدًا شديدًا كالعُرفاء. وبما أوجدهم الله مطلوبهم يشكرون وتخرّ أرواحهم على حضرة الكبرياء.

وكذلك تأتي لهذا العبد من كلّ طرفٍ تحائفُ وهدايا وأموال وأنواع الأشياء. ويعطيه ربّه بركةً عظيمة، ونفسًا قاهرة، وجذبًا شديدًا، كما قُدّر له من الابتداء. فتحفد الناس إلى بابه، والملوك يتبرّكون بثيابه، ويرجع إلى حضرته طوائف الملوك والأمراء.

وتقوم أناسٌ من كل قومٍ لعداوته، ويجاهدون من كلّ الجهة لإجاحته، ويمكرون كلّ المكر ليطفئوا نوره، وليكتموا ظهوره، وليحقّروا شأنه، وليزيّفوا برهانه، أو يقتلوه، أو يصلّبوه، أو ينفوه من الأرض، أو يجعلوه كبني الغَبراء، أو يجرّوه إلى الحكّام بوَشْي الكلام وبتلوينه وتزيينه ببعض التّهم والافتراء، أو يؤذوه بإيذاءٍ هو فوق كلّ نوع الإيذاء. فيعصمه الله من مكائدهم بفضلٍ من السماء، ويُقلِّبُ مكرهم عليهم ويُخْزِيهم، فيَرْجِعون خائبين خاسرين، كأنّهم ليسوا من الأحياء. ويُتمّ الله عليه ما وعد من النعم والآلاء. ولن يُخلف الله وَعْدَه لعبده ولا وعيده للأعداء. ذلك من أنباء الله التي أوحى إلى هذا العبد قبل وقوعها، وهي كُتبتْ وطُبعتْ وأشيعتْ في البلاد وفي الأداني والأمراء، وأرسلتْ إلى أقوام وديارٍ، وجُعل كلّ قوم عليها كالشهداء. وإنها أشيعتْ في زمن مضى عليه سِتّ وعشرون سنةً إلى زمننا هذا، ولم يكنْ في ذلك الوقت أثر من نتائجها وما عثر على وقوعها أحد من أهل الآراء، بل كان كلّ رجل يستبعد وقوعها، ويضحك عليها، ويَحسبها افتراءً، أو من قبيل حديث النفس بمقتضى الأهواء، أو من وساوس الشيطان لا من حضرة الكبرياء. وإن هذه الأنباء مرقومة في البراهين الأَحْمديّة، ومندرجة في مواضعها المتفرّقة، التي هي من تصانيف هذا العبد في اللسان الهندية، ومَن شكّ فيها فليرجعْ إلى ذلك الكتاب، وليقرأْها بصحّة النيّة، وليتّق الله، وليفكّرْ في عظمة هذه الأخبار، وجلالة شأنها وعلُوّ برهانها، وبُعدها عن هذا الزمان، وبريقها ولمعانها. وهل لأحد قوّة أن ينبئ كمثلها من دون إعلام عالِم الأشياء؟ وإنها أنباء كثيرة، منها ذكرْنا ومنها لم نذكر، وكفى هذا القدر للأتقياء، الذين يخافون الله، وإذا وجدوا حقًّا وجلتْ قلوبهم ولا يمرّون عليه كالأشقياء، ويقولون ربّنا آمنّا فاكتبْنا في عبادك المؤمنين وفي الشهداء.

ثم اعلموا، رحمكم الله، أن زمن هذه الأنباء كان زمنًا لم يكنْ فيه أثر من ظهورها، ولا جلوة من نورها، ولا باب إلى مستورها، بل كان الأمر أمرًا مخفيّا من الأعين والآراء، وكان هذا العبد مستورًا في زاوية الاختفاء، لا يعرفه أحد إلا قليل من الذين كانوا يعرفون أباه في الابتداء. وإن شئتم فاسألوا أهل هذه القرية التي تُسمَّى “قاديان”، واسألوا مَن حولها مِن قرى المسلمين والمشركين والأعداء. وفي ذلك الوقت خاطبه الله تعالى وقال: أنت مني بمنـزلةِ توحيدي وتفريدي. فحان أن تُعان وتُعرَف بين الناس. يأتون مِن كلّ فجٍّ عميق. يأتيك مِن كلّ فجٍّ عميق. ينصرك رجال نوحي إليهم من السماء. إذا جاء نصر الله وانتهى أمر الزمان إلينا. أليس هذا بالحقّ. ولا تصعِّرْ لخلق الله، ولا تسأمْ من الناس. ووَسِّعْ مكانك للواردين من الأحبّاء. هذه أنباء من الله مضى عليها ستّ وعشرون سنة إلى هذا الوقت من وقت الإيحاء. وإنّ في ذلك لآية للعقلاء.

ثم بعد ذلك أيّد الله هذا العبد كما كان وعده بأنواع الآلاء وألوان النعماء. فرجع إليه فوج بعد فوج من الطلباء، بأموال وتحايف وما يسرُّ من الأشياء، حتى ضاق عليهم المكان وكاد أن يسأم من كثرة اللقاءِ. هناك تمّ ما قال الله صدقا وحقّا، ومَن أوفى بوعده من حضرة الكبرياء؟ وما استطاع عدوٌّ أن يمنع ما أراد الله من النصرة وإنـزال الآلاء، حتى حلّ القدر الذي منعوه، وأُنجز الوعد الذي كذّبوه، وأُعطي ذلك العبد خطاب الخلافة من السماء. إنّ في ذلك لآية لمن طلب الحقّ وجاء بترك البغض والشحناء.

فبيِّنوا توجَروا أيّها المتّقون: أهذا فعل الله أو تقوُّل الإنسان الذي اجترأ على جناية الافتراء ليُحسَب من الذين يُرسَلون؟ وهل للمتجنّين أمان من تعذيب الله في هذه الدنيا أو هم يعذَّبون؟

ثم أستفتيكم مرّةً ثانية أيها المتفقّهون، فاتّقوا الله وأفتوني كرجالٍ يخافون الله ولا يظلمون. يا فتيان.. رجل قال إني من الله، ثم باهله المنكرون، لعلهم يغلبون. فأهلكهم الله وأخزى وأبطل ما كانوا يصنعون. وإن شئتم فاقْرأوا في هذا الكتاب قصصهم، وما صنع الله بهم، أليس ذلك حجّة على قومٍ ينكرون؟1 والله نصره في كلّ موطن، وجعله غالبًا على أعدائه، وأنبأ به قبل وقوعه، أليس ذلك آية على صدقه أيها العاقلون؟  أتجوّز عقولكم أن القدّوس الذي لا يرضى إلا بالصالحات، ولا يقرّب أحدًا إلا بالحسنات، هو يحب رجلاً فاسقًا مفتريًا، ويمهّله إلى عمرٍ أزْيَدَ من عمر نبيّنا ، ويعادي من عاداه ويوالي من والاه، وينـزل له آياتٍ، ويكرمه بتأييداتٍ، وينصره بمعجزات، ويخصّه ببركات، ويظفره في كل موطن على أعدائه، ويعصمه من مواضع المضرّات، ومواقع المعرّات، ويُهلك ويخزي من باهله بسخطٍ من عنده، ويتجالد له، فيقتل عدوّه بسيف من السماوات، مع أنه يعلم أنه يفتري على الله، ثم مع الافتراء يعرض على الناس تلك المفتريات، ليضلّ الذين لا يعلمون. فما رأيكم في هذا الرجل.. أنصره الله مع افترائه، أو هو من عند الله ومن الذين يصدقون؟ وهل ينجو المتحلّمون الذين يقولون أُوحي إلينا وما أوحي إليهم شيء، وإنْ هم إلا يكذبون؟

ثم أستفتيكم مرّةً ثالثة أيها العالمون.. إن هذا الرجل الذي سمعتم ذكره وذكر ما منّ الله عليه.. قد أعطاه الله آيات أُخرى دون ذلك لعلّ الناس يعرفون. منها أن الشّهب الثواقب انقضّتْ له مرّتان، وشهد على صدقه القمران، إذا انخسفا في رمضان، وقد أخبر به القرآن، إذ ذكرهما في علامات آخر الزمان، ثم الحديثُ فصّل ما كان مجملاً في الفرقان، وقد أنبأ الله بهما هذا العبد كما هي مسطورة في “البراهين” قبل ظهورها يا فتيان، إنّ في ذلك لآية لمن كانت له عينان. فبيِّنوا توجَروا.. أهذا فعل الله أو تقوُّل الإنسان؟

ومنها أن الله أخبره بزلازل عظمى في الآفاق وفي هذه الديار، قبل ظهورها وقبل الآثار. فسمعتم ما وقع في هذا الملْك وفي الأقطار، وتعلمون كيف نزلتْ غياهب هذه الحوادث على نوع الإنسان، حتى إن الشمس طلعتْ على العمران، وغربتْ وهي خاوية على عروشها، وسقطت السقوف على السُّكّان، ومُلئت البيوت من الموتى والأشجان. وانتقل المجالس من القصور إلى القبور، ومن المحافل إلى الطبق السافل، وظهر أنّ هذه الحياة ليست إلا كالزُّور، أو كحباب البحور. والذين بقوا منهم كوَى الجزع قلوبَهم، وشقّت الفجيعة جيوبهم، وانهدمتْ مقاصرهم التي كانوا يتنافسون في نـزولها، ويتغايرون في حلولها. وما انقطعتْ سلسلة الزلازل وما ختمتْ، بل التي يُنتظر وقوعها هي أشدّ مـمّا وقعتْ. إنّ في ذلك لتبصرة لقومٍ يتّقون. فبيّنوا تُوجروا أيّها المقسطون.. أهذه آيات الله أو من أمور تنحتها المفتعلون؟ إنما المؤمنون رجالٌ إذا نطقوا صدقوا، وإذا حُكِّموا عدلوا ولا يظلمون. والذين يخافون الخلق كخوف الله ويُخفون الحقّ كأنّ الحق تجدَع آنافَهم، أو هم يُسجنون.. أولئك إناث في حلل الرجال، وكَفَرة في حلل الذين هم يؤمنون.

ومنها أن الله أخبر هذا العبد بظهور الطاعون في هذه الديار، بل في جميع الأعطاف والأقطار، وقال: الأمراض تشاع والنفوس تضاع، فرأيتم افتراس الطاعون كما تفترس السّباع، وعاينتم كيف صال الطاعون على هذه البلاد، وشاهدتم كيف كثر المنايا في العباد، وإلى هذا الوقت يصول كما يصول الوحوش، ويجول كلّ يوم وينوش، وفي كلّ سنةٍ يرى صورته أوحشَ من سنة أولى، ثم وقعتْ على آثاره الزلازل العُظمى. وتلك الأنباء كلّها أُشيعتْ قبل ظهورها إلى البلاد القصوى. إنّ في ذلك لآية لمن يرى. وأخبره الله بزلزلة أُخرى وهي كالقيامة الكُبرى، فلا نعلم ما يظهر الله بعدها، إن في ذلك لمقامَ خوفٍ لأولي النُّهى. فبيّنوا توجروا يا فتيان.. أهذا فعلُ الله أو تقوّل الإنسان؟

وإنّ الله قدّر الـمنايا والعطايا لهذا الزمان. فالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك سيُعطَون من عطايا الرحمن، والذين ما تابوا وما استغفروا وما أدّاهم إلى هذا العبد تقوى القلوب وخِيفةُ ما نزل على البلدان، وعلوا علوّا كبيرا، وتمايلوا على دنياهم كالسّكْران، أولئك يذوقون المنايا الكثيرة بما كانوا يعتدون في العصيان. تسقط السماء على رؤوسهم، وتنشقّ الأرض تحت أقدامهم، وترى كلّ نفس جزاءها، هناك يتمّ ما وعد الله الدَّيّان.

وآية له أن الله بشّره بأن الطاعون لا يدخل داره، وأن الزلازل لا تهلكه وأنصاره، ويدفع الله عن بيته شرّهما، ولا يخرج سهمهما عن الكنانة ولا يرمي، ولا يريش ولا يبري، وكذلك وقع بفضل الله ربّ العالمين. وإنّ هذا العبد ومن معه يعيشون برحمته آمنين، لا يسمعون حسيسه وحُفظوا من فزع وأنين. وترون الطاعون كيف يعيث في ديارنا هذه والأقطار والآفاق، ويطوف في السّكك والأسواق، وكذلك الزلازل لا تستأذن أهلَ دار، ولا تستفتي عند إهلاكٍ وإضرارٍ، وصُبّتْ مصائبها على ديار. وقد هلكتْ نفوس كثيرة بالطاعون في قرية هذا العبد من يمين الدار ويسارها، وصار طُعْمتَه كثير من الناس من قربها وجوارها، وما ماتتْ في داره فأرة فضلا عن الإنسان. إن في ذلك لآية لمن كانت له عينان. ووالله إن تعدّوا آياتٍ نزلتْ لهذا العبد لن تستطيعوا أن تُحصُوها، وقد صُفّف له ألوان نعم ما رآها الخلق وما ذاقوها. إنّ في ذلك لسلطان واضح لقوم يتفكّرون، الذين لا يسارعون للتكذيب ويتدبّرون.

وآية له أن الله يسمع دعاءه ولا يضيع بُكاءه، وقد كتبْنا في كتابنا “حقيقة الوحي” كثيرا من نموذج استجابة الدعوات، وما فضّل الله عليه عند إقباله على ربّه بالتضرّعات، فلا حاجة أن نعيدها، فليرجعْ إليها من كان أسيرا في الشبهات.

وآية له أن الله أفصحَ كلماتِه من لدنه في العربية، مع التزام الحقّ والحكمة، وأنه ليس من العرب، وما كان عارفًا بلسانهم كما هو حقّ المعرفة، وما تصفّح دواوين الكتب الأدبية، وليس من الذين أُرضعوا ثدْيَ الفصاحة، ومع ذلك ما أمكن لبشر أن يبارزه في هذه المـَلْحمة، بل ما قربوه من خوف الذلة. وهذه شربةٌ ما تحسّاها أحدٌ من الناس، بل سقاها ربّه فشرب من أيدي ربّ الأناس. فأين تذهبون ولا تفكّرون ولا تتّقون؟

أتقولون شاعرٌ؟ وإن الشعراء لا ينطقون إلا بلغوٍ، وهم في كلّ وادٍ يهيمون. أرأيتم شاعرًا لا يترك الحقّ والحقايق، ولا يقول إلا المعارف والدقايق، ولا ينطق إلا بحكمة، ولا يتكلّم إلا بنكاتٍ مملوّةٍ من معرفة؟ بل الشعراء يتفوّهون كالذين يهذرون، أو كالمجانين الذين يهجُرون. وتجدون هذا الكلام مملوًّا من النكات الروحانية، والمعارف الربّانية، مع أنّه ألطف صنعًا، وأرقّ نسجًا، وأشرف لفظًا، ولا تجدون فيه شيئًا هو خارج من المقصد. ما لكم لا تفكّرون؟ ووالله إنه ظِلُّ فصاحة القرآن، ليكون آيةً لقوم يتدبّرون.

أتقولون سارق؟ فأْتوا بصفحات مسروقة كمثلها في التزام الحقّ والحكمة إن كنتم تصدقون. وهل من أديبٍ فيكم يأتي بمثل ما أتاها؟ وإن لم تفعلوا.. ولن تفعلوا.. فاعلموا أنها آية كمثل آيات أُخرى لقوم ينظرون.

فخلاصة الكلام.. أن الله أنـزل لهذا العبد كلّ آية، ونصره بكلّ نصرةٍ، وجمع فيه كلّ ما هو من علامات الصادقين، وأمارات المرسلين. وأدّبه فأحسن تأديبه بمكارم الأخلاق وتوفيق الصالحات، ووضَعه تحت سنّته التي جرتْ لجميع الأنبياء، فمن صال عليه فقد صال على جميعهم وعلى كلّ من جاء من حضرة الكبرياء. ثم مع ذلك وهب له الله وثوقًا بعصْمته لدى الأهوال، واستقامةً وتثبّتًا في جميع الأحوال، ونصَره عند مكر الماكرين، ودفَع عنه شرَّ أهل الشرّ، وضرَّ أهل الضرّ، وكرَّ أهل الكرّ، ورزقه الفرج بعد الشدّة، والظلّ بعد الحرّ.

ففكِّروا يا معشر المتقين.. هل يجوّز العقل أن يُنعم الربّ القدوس بهذه الإنعامات، ويؤيّد بهذه التأييدات، رجلاً يعلم أنه من المفترين؟ وهل يوجد فيه نصّ أو قول ربّ العالمين؟ وهل تجدون نظيره في العالمين؟ وهل يجزم العقل باجتماع هذه الأمور كلّها في كذّاب يتقوّل على الله في الصباح والمساء، ولا يتوب من افترائه بترك الحياء؟ ثم يمهله الله ستًّا وعشرين سنة، ويُظهره على غيبه، وينصره من كلّ جهة، وفي كلّ مباهلة على الأعداء؟ كلا.. بل هي كلمة لا يؤمن قائلها بأحكم الحاكمين. أَلا إنّ لعنة الله على قوم يفترون على الله، وعلى الذين يكذّبون رسل الله، وقد رأوا آيات صدقهم، ثم كفروا بما رأوا وهم يعلمون. أَلا يرون أنّ الكاذب لا يُنصَر كالصادق، ولو نُصر لاشتبه الأمر واختلط الحقّ بالباطل، ولا يبقى الفرق بين الذين يوحى إليهم من الله وبين الذين هم يفترون. أَلا لعنة الله على من افترى على الله أو كذّب الصادقين. وكلّ من كذّب الصادق أو افترى جمَعهم الله في نارٍ أعدّتْ لهم وليسوا منها بخارجين.

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

وقال المكذّبون:

مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ،

ونعدّهم من المفترين. فيومئذ يخبرهم الله بأنهم في الجنّة وأنّكم في السعير خالدين. هناك يصدّقون رُسُلَ الله تحت أنياب جهنّم، فيا حسرةً على المكذّبين!

وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله يفتَحْ بيننا وبينكم، قالوا بل نتّبع كبراءنا الأوّلين. وتركوا صحف الله وراء ظهورهم، وتراهم على غيرها عاكفين. يفرّون من الذي أُرسل إليهم، وهو الحَكَم من الله، والله يشهد على صدقه وهو خير الشاهدين. وقد جاء على رأس المائة، وأنـزل الله له آياتٍ تشفي العليل، وتقصر القال والقيل. ولا تنفع الآياتُ قومًا معتدين.

وإنه جاء في وقت الضرورة، وعند مصيبةٍ صُبّتْ على الإسلام من أيدي الكفرة، وعند الكسوفَين الموعودين في رمضان، يا أهل الفطنة. ودعا إلى الحق على وجه البصيرة، وأُيّد بكلّ ما يؤيَّد به أهل الاجتباء والخُلّة. واقتضى الزمان أن يجيء، ويبكّت الكفارَ، ويهدم ما عمروه، فهو يدعو الزمان والزمانُ يدعوه. ثم الذين اعتدَوا يمرّون منكرين، ويشحّذون إلى تحقيره الحرصَ، وينظرون إليه مستهزئين. هو المسيح الموعود، وهو كاسر الصليب ببيّناتٍ من الهُدى، كما كان الصليب كاسِرَ مسيحٍ خلا. فالآن وقت الظهيرة لأشعّة الإسلام، وأتى المسيح الموعود مُهجرًا بأمر الله العلام، ليظهر الله ضياءه التامّ على الأنام بعد الظلام. وقد ظهر صدقه كالبحر إذا ماج، والسيل إذا هاج. وكانت هذه الخُطّة مقدّرًا له في آخر الزمان من الله الرحمن، فظهر كما قدّر ذو الامتنان. وإنه نظر إلى البلاد الهنديّة فوجدها مستحقّةً لمقرّ هذه الخلافة، لأنها كانت مَهْبَطَ الآدم4 الأوّل في بدْء الخليقة، فبعث الله آدمَ آخرِ الزمان في تلك الأرض إظهارًا للمناسبة، ليوصل الآخرَ بالأوّل ويُتمّ دائرة الدعوة كما هو كان مقتضى الحقّ والحكمة. فالآن استدار الزمان على هيئته كما أشار إليه خير البريّة، ووصلتْ نقطته الأُخرى بنقطته الأولى في هذه الأرض المباركة، وطلعت الشمس من المشرق وكذلك كان مكتوبًا في صحف الله المقدّسة، ليطمئنّ بها قوم كانوا لا يرقأ دمعُهم عند رؤية الظلمة. فظهرت المسرّة في وجناتهم وهم بها يفرحون. وأماطَ الله شوكَ الشبهات من طريقهم فهم بالسكينة يسلكون. ونُقلوا من الفلاة إلى الجنّات، وخرجوا من الغار المظلم إلى أنوار ربّ الكائنات، فإذا هم يبصرون. وجاءوا من الـموامي إلى حصن الربّ الحامي، وأُشعِلتْ في قلوبهم مَصابيح الإيمان، ودخلوا في حمى أَمْنٍ لا تقربه ذراري الشيطان. وأمّا الذين يحبّون الحياة الدنيا فطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، وأردف الليلُ لهم أذنابه، ومدّ الظلام أطنابه، فهم في دُجاههم5 يعمهون.

ثم أسألكم مرّة أخرى، أيها الفتيان.. لتتمّ الحجّة على من أنكر الحق، أو ينال ثوابه من نطَق بالحق، وحفِظ التقوى والإيمان، وما تبع سبل الشيطان.. أفتُوني في رجل قال إني مرسل من الله، وهو كلَّ يوم من الله يعان، ويُكرم ولا يهان. ويكون معه ربّه في جميع مناهجه، ويعجّل له قضاء حوائجه. ويجعل بركةً في رزقه وعمره وجماعته وزمره، ويجعل له نصرة وقبولاً في الخلق بأضعاف ما يظن في بدْء أمره. ويرفع ذكره وينشره إلى أطراف الدنيا وأكنافها، وأقطار الديار وأعطافها، ويُعلي شأنه ويعظّم سلطانه. ويرزقه فتحًا مبينا في كلّ موطن، ويُجري محامده على أَلْسنٍ، وعند الشدائد يستجيب دعاءه، ويخزي أعداءه، ويتمّ عليه نعْماءه، حتى يُحسَد عليها، ويُهلِك من باهله، ويُهين من أهانه، وينشر ذكره الجميل، ويعيذه من كلّ خزي، ويبرّئه من كلّ ما قيل، وينصره نصرًا عجيبا في كلّ مقام، ويُطهّره مما قال فيه بعض لئام، ويشهد على صدقه بآيات لا تُعطى إلا للصدّيقين، وتأييدات لا توهب إلا للصادقين. ويجعل بركة في عمره وأنفاسه وكلماته، ودلائله وآياته، فتهوي إليه نفوس كثيرة بملفوظاته وتوجّهاته، ويُحبّبه إلى عباده الصالحين، ويجمع عليه أفواجًا من المخلصين. ويُظهره كزرع أخرج شَطْأَه وليس معه فرد من الناس، ثم يجعله كدوحةٍ عظيمة تأوي إلى ظلّها وثمراتها كثير من الأناس. ويحيي به أرض القلوب فتُصبح مخضرّة، ويُنضِّر الوجوه ببرهانه فتكون مُحمرّة، ويَفْتح به عيونًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، وكذلك رأيتم يا فتيان. ورأيتم بعض أفراد جماعتي كيف أرَوا تثبّتًا فوق العادة حتى إنّ بعضهم قُتلوا ورُجموا لهذه السلسلة، فقضوا نحبهم بالصدق والإيمان، وشربوا شربة الشهادة كصهْباء صافية، وماتوا كالسَّكْران. إن في ذلك لآية لمن كانت له عينان.

ووالله إن هذا العبد قد رأى مِن عنفوان شبيبته إلى هذا الآن أنواع مواهب الرحمن، وإذا تأخّرتْ عنه نعمة نـزلتْ عليه أخرى، وإذا أصابه من عدوّ نوعُ مَعَرّة، فرّجها الله عنه كلّ مرّة. ونال فتحًا في كلّ باس، حتى انتهى إلى وقت أدركه عون الله وحصحص الحقّ ورُفع الالتباس، ورجع إليه أفواج من الناس. والذين قالوا من أين لك ذلك أراهم الله أنه من عنده، والذين أرادوا خزيه أراهم الله خزيًا وتبابًا، ووضع عليهم الفاس، فضُربوا من أيدي الله كلما رفعوا الراس. ذلك لتكون لهم قلوب يعقلون بها، وآذان يسمعون بها، ولعلّهم يستيقظون أو تُحَدّ الحواسّ، وكأيِّنْ منهم باهلوا فضُربتْ عليهم الذلّة، أو أُهلكوا أو قُطع نسلهم، ليوقظهم الله من النعاس.

ودافعَ الله عن عبده كلّ ما مكروا، ولو كان مكرهم يزيل الجبال، وأنـزل على كلّ مكّارٍ شيئًا من النكال. وكلُّ من دعا على عبده ردّ عليه دعاءه،

وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ 6.

وأهلك أكابرهم عند المباهلة متعطّفًا على الضَّعَفة، حميمًا بالذين لا يعلمون حقيقة الحال. وكذلك دفع الشرّ وقضى الأمر، فما بقي أحد من الذين كان لهم للمباهلة مجال. وأراهم الله آياتٍ ما أرى آباءهم لتستبين سبل المجرمين، وليفرّق الله بين المهتدي والضالّ. وأبطل الله دعاوى علمهم وورعهم ونسكهم وعبادتهم وتقواهم، وأرى الخلْقَ ما ستروا من الأعمال، ونـزع ثيابهم عنهم فظهر الهزال. والذين خافوا الله ووجلتْ قلوبهم آمنهم الله فعُصموا من الوبال. وكم من معتدٍ جرَّ هذا العبدَ إلى الحكّام، ليسجن أو يصلب أو ينفى من الأرض، فتعلمون ما صنع الله في ذلك البأس في آخر الأمر والمآل. وكلّ ما ذكرْنا من نعم الله وإحسانه على هذا العبد عند الشدائد أشيع كلّها قبل ظهور تلك النعم بإعلام الله ذي الجلال. فهل تعلمون تحت السماء نظيره في المفترين.. فأْتوا به واتركوا القيل والقال.

وإن الناس قد ظلموه كلّ ظلم، وجاروا عليه، وأحاطوه كالجبال، فأتاه ظفر مبين من عند الله، فجعل العالي سافلا وقلّب عليهم ما رموا، فأصاب القِحْفَ والقَذال، وأرى نصره على وجه الكمال. وجاء زَمَعُ الناس لينصر أعداءه بشدّ الرحال، فهُزموا بأمر الله، وكانت كلمة الله هي العُليا، وضلّ عنهم ما كان عليه الاتكال. ورُزق عبده ظفرًا ونصرًا وفتحًا في سائر الأشياء وسائر الجهات وسائر الأحوال، ورُزق بهاءً وهيبة من ربه الفعّال. ولو ترى أفواجًا مبايعين نُشروا في الأرض، وما جمع الله لعبده من أفواج يريدون مرضاة الله، وما يأتيه من التحائف والأموال من ديار قريبة وبعيدة، لقلتَ ما هذا إلا فضلٌ من الله وتأييد ونُصرة وإكرام وإجلال.

ثم كفر به الناس مع رؤية هذه التأييدات والآيات، ومكروا كُلّ مكرٍ ليصيبه بعض المكروهات، فتلقّاه الله بسلام وعصمة من كلّ شرير دجّالٍ، ومِن كلّ مَن بارَزَ للحرب والنضال. كلما أرادوا تكدُّرَ عيشِه بَدّل الله همومه بالمسرّات، وطابتْ حياته أزْيَدَ من الأوّل بحكم الله واهب العطيّات. وأرادوا أن يُنشَر معايبُه فأُثنِيَ عليه بالمحاسن والحسنات، وأرادوا له معيشة ضنْكًا فأتاه من كلّ طرف هدايا وتحائف والأموال التي تساقط عليه كالثمرات. وتمنَّوا أن يروا ذلّته وخزيه، فأكرمه الله إكرامًا عجبًا، وزاد الدرجات.

والعجب كلّ العجب أنّهم يسبّون ويشتمون، وهم من الحقيقة غافلون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنّهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون. لا يفكّرون في فعل الله وفيما عامل بعبده. أهذا جزاء الذين هم يفترون؟ إن الذين يفترون لُعنوا في الدنيا والآخرة وهم لا يُنصرون. ما لهم حظّ من الدنيا إلا قليل، ثم يموتون برِجْز من الله تأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ومن يمينهم ويسارهم، ويوفّى لهم ما كانوا يعملون. وما أُرسلَ نبيّ صادق إلا أخزى به الله قومًا لا يؤمنون. يتربّصون به المنون، ولا يهلك إلا الهالكون. أيهلك الله بحيلهم ودعواتهم رجلا يعلم أنه صادق؟ بل هم قوم عمون.

فما تقولون في هذا العبد وفي أعدائه أيّها المنصفون؟ أرأيتم مفتريا على الله إذا باهل مؤمنًا نصره الله على المؤمن، ومزّق من خالفه وباهله؟ بيِّنوا توجَروا أيها العاقلون. أرأيتم عبدًا افترى على الله، ثم كان الله له، وكلما أُعدّ له بلاء فرّج الله عنه، وكلما نُسج له كيد مزّق الله ذلك الكيد، وفتح عليه أبواب الفضل وأبواب الرحمة وأبواب الرزق، وأنعم عليه كما يُنعَم المرسلون؟ وفتح عليه أبواب كلّ خير وبركة، وحفظ عزّته ونفسه من الأعداء، وبرّأه بآياته وشهاداته مما يقولون. وحفظ من العدا، وسطا بكلّ من سطا، ومن عاداه نـزل لحربه ونصر عبده كما ينصر المخلصون؟

أيها الفتيان..أفتُوني في هذا وأرُوني مفتريا أنعم الله عليه كمثل هذا العبد وتفضّل عليه كمثله، واتّقوا الله الذي إليه ترجعون.

ثم أستفتي منكم أيّها العلماء والفضلاء، فلا تقولوا إلا حقًّا، واتّقوا الله الذي بيده الجزاء. وتعلمون أنّ الصالحين لا يكذبون، ولا يكون من عادتهم الإخفاء، ولا يُخفي حقًّا إلا الذي ختم عليه الشقاء.

أيها الفتيان وفقهاء الزمان وعلماء الدهر وفضلاء البُلدان.. أفتوني في رجل قال إنه من الله، وظهرتْ له حماية الله كشمس الضُّحى، وتجلّتْ أنوار صدقه كبدر الدُّجى، وأرى الله له آياتٍ باهرات، وقام لنصرته في كلّ أمرٍ قضى، واستجاب دعواتِه في الأحباب وفي العِدا. ولا يقول هذا العبد إلا ما قال النبيّ ، ولا يُخرج قدمًا من الهُدى. ويقولُ إن الله سمّاني نبيًّا بوحيه، وكذلك سُمِّيتُ من قبلُ على لسان رسولنا المصطفى*. وليس مُراده من النبوة إلا كثرة مكالمة الله وكثرة أنباءٍ من الله وكثرة ما يُوحى. ويقول: ما نعني من النبوة ما يُعنَى في الصحف الأولى، بل هي درجة لا تُعطَى إلا من اتّباع نبيّنا خير الورى. وكلّ من حصلتْ له هذه الدرجة.. يكلّم الله ذلك الرجل بكلام أكثر وأَجْلى، والشريعة تبقى بحالها.. لا ينقص منها حُكمٌ ولا تزيد هُدى.

ويقول إني أحد من الأمّة النبوية، ثم مع ذلك سمّاني الله نبيًّا تحت فيض النبوّة المحمّديّة، وأَوحَى إليّ ما أوحى. فليست نبوّتي إلا نبوّته، وليس في جُبّتي إلا أنواره وأشعّته، ولولاه لما كنت شيئًا يذكر أو يسمَّى. وإن النبيَّ يُعرَف بإفاضته، فكيف نبيّنا الذي هو أفضل الأنبياء وأزيدهم في الفيض، وأرفعهم في الدرجة وأعلى؟ وأيّ شيءٍ دينٌ لا يضيء قلبًا نورُه، ولا يُسَكِّنُ الغليلَ وُجُورُه، ولا يتغلغل في الصُّدور صدورُه، ولا يُثنَى عليه بوصْف يُتمّ الحجّة ظهورُه؟ وأيّ شيءٍ دينٌ لا يميّز المؤمن مِن الذي كفر وأبى، ومَن دخله يكون كمثل من خرج منه، والفرق بينهما لا يُرى؟ وأيّ شيءٍ دين لا يميت حيًّا مِن هواه، ولا يحيي بحياةٍ أخرى؟ ومن كان للهِ كان الله له.. كذلك خلتْ سُنّته في أُممٍ أُولى. والنبيّ الذي ليس فيه صفة الإفاضة.. لا يقوم دليلٌ على صدقه، ولا يعرفه من أتى، وليس مثله إلا كمثل راعٍ لا يهُشُّ على غنمه ولا يسقي ويبعدها عن الماء والمرعى.

وتعلمون أنّ ديننا دينٌ حيٌّ، ونبيّنا يُحيي الموتى، وأنه جاء كصيّب من السماء ببركات عُظمى، وليس لدينٍ أن ينافس معه بهذه الصفات العُليا. ولا يحطّ عن إنسان ثقلَ حجابه، ولا يوصل إلى قَصْر الله وبابه، إلا هذا الدين الأجلى، ومن شكّ في هذه فليس هو إلا أعمى.

وقد اخترط الناس سيوفهم على هذا العبد من غِمْدٍ واحد، فتَجالَدَهم ربُّ الورى. فقطَّ بعضَهم، وأخزى بعضهم، ومهّل بعضهم تحت وعيده إلى يومٍ قدّر وقضى. وإنّهم آلوا أن لا يعاملوا به إلا ظلمًا وزُورا، وتحامتْ زمرُهم عن طرق التقوى، وبعدوا عن منهج الحقّ، كأنّ أسدا يفترس فيه، أو يلدغ ثعبان، أو تَعِنُّ آفة أخرى. وودّوا أن يُقتَل هذا العبد، أو يسجن أو ينفى من الأرض، ليقولوا بعده إنه كان كاذبا فأهلكه الله وأردى أو أهان وأخزى؛ فنصره الله نصرًا بعد نصرٍ من الأرض والسماوات العُلى، واستفتح فخاب كلّ من استعلى. ورزقه الله الابتهال والإقبال عليه عند كلّ مصيبة، فاستجاب إذا دعا، وجعل أثرًا في دعوته، ومن دعا عليه فقد هوى. فطُعن كثير من الناس بدعوته، فذاقوا موتا أدهى، وقد كانوا يتمنّون يوم مَنيّته ويقولون أخْبَرَنا الله بموته وأَوحى. إنّ في ذلك لآية لأولي النُّهى.

وجعل الله داره حَرمًا آمِنًا من دخلها حُفظ من الطاعون وما مَسَّه شيءٌ من الأذى، ويُتخطّف الناس من حولها. إنّ في ذلك يرى يدَ القدرة مَن كان له عين ترى.

وأعطاه أعمالا صالحات مع ثمراتها لنفع الأبرار، كأنّها جنّات تجري من تحتها الأنهار. ووضع لـه قبولا في الأرض، فيسعى إليه الخلق في الليل والنهار. وجذب الله إليه كثيرًا من أولي الأبصار، الذين لهم نفوس مطهّرة وطبائع سعيدة، وقلوب صافية، وصدور منشرحةٌ كالبحار، وجعل بينهم مودّة ورحمة، وأخرج من صدورهم كلّ رعونة واستكبار. وأنبأه به في وقت لم يكن فيه هذا العبد شيئًا مذكورًا، وكانت هذه النصرة سرًّا مستورا. وأعطاه عصا صدقٍ يخزي بها العدا، فتلقّفتْ ما صنعوا من حَيَواتِ كيدٍ نحتوه بالنجوى. ووعد أنه يهين من أراد إهانته، فأدرك الهوان من أهان واستعلى. إنّهم كانوا يكذّبون من غير علم، وقلوبهم في غَمْرة من أهواء الدنيا، وكانوا ينظرون إلى سلسلة الله مغاضبًا، ويُؤذُون عباد الله بحديث يفترى، ولا يدخلون دار الحقّ، بل يمنعون من يريد أن يدخلها ولا يأبى. فغضب الله عليهم، وقطّع لهم ثيابًا من النار، وسعّر عليهم سعير الحسرات، فلم يملكوا صبرًا، ولم يدفعوا عنهم أُوار الاضطرار. وما كان لهم مَلْجأٌ مِن سخط الله، ولا مَن ينجّي من البوار. ولو نظروا ذات اليمين وذات اليَسار، فكان مآلهم الخسران والخسار، والذُّلّ والصَّغار. وطاشتْ سهامهم التي رموا إلى هذا العبدِ، وحفظه الله من شرِّهم، وأَدْخله في حِمى الأمن ودار القرار. وقد نفضوا الكنائن ليردّوا القدر الكائن، وأرادوا أن يُطفئوا بأفواههم ما نـزل من الأنوار، وسقطوا كصخرة عليه، وودُّوا لو تُسوّى به الأرض أو تخرّ عليه الجبال، لئلا يبقى من الآثار؛ فنصره الله نصرًا عزيزًا من عنده، ليجعل الله ذلك حسرةً عليهم، وإن الله لا يجعل على المؤمنين سبيلاً للكُفّار. وما ادرؤوا عن أنفسهم ما أنبأه الله فيهم من سُوء الأقدار. وبشّر الله هذا العبد المأمور بأنه يكون في أمانه وحِرْزه، ولا يضرّه من عاداه من الأشرار، ويعيش تحت فضل الله الغفّار، فكذلك عصمه الله تحت حمايته، ورحّبَ به في حضرته، وصار على عداه كالسَّيف البتّار. وأعانه في كلّ موطنٍ كالرفيق، ونقله إلى السَّعة من الضيق، وجعل له الأرض كوادٍ خُضْرٍ أو روضٍ مملوّةٍ من الثمار. ووضع البركة في أنفاسه، وطهّره من أدناسه، وأوصل إلى الأقطار ضوء نبراسه. فرجع إليه كثير من الأبرار، وهجروا أوطانهم في الله تعالى، وأوطنوا قريته طمعًا في رحمة الله الغفّار. فاشتعل العِدا حسدًا من عند أنفسهم، ومكروا كلَّ مكر، فما كان مكرهم إلا كالغبار. وأخرجوا من كلّ كنانةٍ سهْمًا، فما كان سهمهم من الله إلا التبار. وأجمعوا له ورمَوا من قوسٍ واحدٍ، فانقلب بفضل من الله، وزادتْ عِزّته في الديار. وكذلك نصر الله عَبْده، وصَدَقَ وعده، وهيّأ له من لدنه كثيرًا من الأنصار. وبشّره بأنّه يعصمه من أيدي العِدا، ويسطو بكل من سطا، وكذلك أنجز وعده وحفظه من كلّ نوع الضرار.

وجعله مصطفًى مبرَّأً من كلّ دنسٍ وزكَّى، وقرّبه نجيًّا وأوحى إليه ما أوحى، وعلّمه من لدنه طريق الرُّشد والهُدى. وجمع له كلّ آية من الأرض والسماوات العُلى، وكفّ عنه شرّ أعدائه، وأسّس كلّ أمره على التقوى، وأَصلح شؤونه بعد تشتُّت شملها، وأوصل سهْمَه إلى ما رمى. وجعل الدنيا كأَمَةٍ له تأتيه من غير شُحٍّ وهوى، وفتح عليه أبواب كلّ نعمةٍ وآوى وربَّى. وعلّمه من لدنه وأعثره على المعارف العُليا. وقد جاءكم على وقت مُسمّى.

فما تقولون في هذا الرجل؟ هل هو صادق أو كاذب، ومِن أين منبت هذا الفضل؟ أأعطاه الله ما أعطى، أم الشيطان قادرٌ على هذه الأمور العظمى؟ بيّنوا توجروا.. واتّقوا يوم الفصل الذي يُظهر ما يخفى.

1 الذين باهلوا وماتوا بعد المباهلة، منهم الرجل المسمّى بالمولوي غلام دستكير القصوري، ومنهم الرجل المسمّى بالمولوي جراغ الدين الجموني، ومنهم الرجل المسمّى بالمولوي عبد الرحمن محيي الدين اللكوكي، ومنهم الرجل المسمّى بالمولوي إسماعيل العليكرهي، ومنهم الرجل المسمّى بفقير مرزا الدوالميالي، ومنهم الرجل المسمّى بليكرام الفشاوري، وكذلك رجال آخرون. أكثرهم ماتوا، وبعضهم رُدّوا إلى حياة الخزي وقطْع النسل ومعيشة ضنْك، وقد فصّلْنا ذكرهم في كتابنا “حقيقة الوحي”، وهذا خلاصة الذكر لقوم يطلبون. ومنهم رجل مات في هذا الشهر.. أعني ذا القعدة، وكان اسمه “سعد الله”، ولكن كان بعيدا من السعادة. وكنت أخبرت بأنه يموت قبل موتي بالخزي والحرمان، ويقطع الله نسله، فكذلك مات بالخيبة والخسران. هذا جزاء الذين يحاربون الله ويكفرون برسله بالظلم والعدوان. منه.4 إنا عرّفْنا آدم ههنا باللام، فإنه اسْتُعمل كالنكرة في هذا المقام، وهو ليس عندي من الألفاظ العبرية. نعم، يمكن توارد اللغتين وهو كثير في تلك اللسان والعربية، وقد بيّنّا في كتابنا “منن الرحمن” أن العربيّة أُمّ الألسنة، وكلّ لِسانٍ خرج منه عند مرور الزمانِ.  منه.5 هكذا ورد في الأصل، بينما صُحِّح في طبعة “الخزائن الروحانية”:  “دجاهم”. (الناشر)

6 سورة غافر: 51

* الحاشية: وإنْ قال قائل: كيف يكون نبيٌّ من هذه الأمة وقد ختم الله على النبوّة؟ فالجواب إنه ما سمّى هذا الرجل نبيًّا إلا لإثبات كمال نبوّة سيدنا خير البريّة، فإنّ ثبوت كمال النبي لا يتحقق إلا بثبوت كمال الأُمّة، ومن دون ذلك ادّعاء محض لا دليل عليه عند أهل الفطنة. ولا معنى لختم النبوّة على فردٍ من غير أن تختتم كمالات النبوّة على ذلك الفرد، ومن الكمالات العظمى كمالُ النبي في الإفاضة، وهو لا يثبت من غير نموذجٍ يوجد في الأمّة.  ثم مع ذلك ذكرتُ غير مرّةٍ أن الله ما أراد من نبوّتي إلا كثرة المكالمة والمخاطبة، وهو مسلَّم عند أكابر أهل السنّة. فالنـزاع ليس إلا نـزاعًا لفظيًّا. فلا تستعجلوا يا أهل العقل والفطنة. ولعنة الله على من ادّعى خلاف ذلك مثقال ذرّةٍ، ومعها لعنة الناس والملائكة. منه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك