أصحاب النبي رضوان الله عليه أجمعين

مقتطفات من كلام المسيح الموعود حول صحابة الرسول

اعلموا، رحمكم الله، أن الصحابة كلهم كانوا كجوارح رسول الله وفخر نوع الإنسان، فبعضهم كانوا كالعيون وبعضهم كانوا كالآذان، وبعضهم كالأيدي وبعضهم كالأرجل من رسول الرحمن، وكل ما عملوا من عمل أو جاهدوا من جهد فكانت كلها صادرة بهذه المناسبات، وكانوا يبغون بها مرضاة رب الكائنات رب العالمين. فالذي يقول أن الأصحاب الثلاثة كانوا من الكافرين والمنافقين أو الغاصبين فلا يُكفّر إلا كلهم أجمعين؛ لأن الصحابة كلهم كانوا بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وأرضى، وشهدوا المعارك والمواطن بأحكامهم العظمى، وأشاعوا الإسلام وفتحوا ديار الكافرين.

(سر الخلافة ص 27-28/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 341-342)

وليس كل نزاع مبنيًا على فساد النيات كما زعم بعض متبعي الجهلات، بل رُبَّ نزاع يحدث من اختلاف الاجتهادات. فالطريق الأنسب والمنهج الأصوب أن نقول إن مبدأ التنازعات في بعض صحابة خير الكائنات كانت الاجتهادات لا الظلامات والسيئات. والمجتهدون معفوون ولو كانوا مخطئين. وقد يحدث الغلّ والحقد من التنازعات في الصلحاء، بل في أكابر الأتقياء والأصفياء، وفي ذلك مصالح لله ربّ العالمين. (سر الخلافة ص 33/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 347)

فكلّ ما جرى فيهم أو خرج مِن فِيهم، فيجب أن يُطوى لا أن يُروَى، ويجب أن يُفوَّض أمورهم إلى الله الذي هو ولي الصالحين. وقد جرت سُنّته أنه يقضي بين الصالحين على طريق لا يقضي عليه قضايا الفاسقين، فإنهم كلّهم أحباؤه وكلهم من المحبين المقبولين، ولأجل ذلك أخبرنا ربنا عن مآل نزاعهم وقال وهو أصدق القائلين: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ .

هذا هو الأصل الصحيح، والحق الصريح، ولكن العامة لا يُحققون في أمر كأولي الأبصار، بل يقبلون القِصص بغضّ الأبصار، ثم يزيد أحدٌ منهم شيئا على الأصل المنقول، ويتلقاه الآخر بالقبول، ويزيد عليه شيئا آخر من عند نفسه، ثم يسمعه ثالث بشدة حرصه، فيؤمن به ويُلحق به حواشي أُخرى، وهلمّ جرّا، حتى تستتر الحقيقة الأولى، وتظهر حقيقة جديدة تخالف الحق الأجلى، وكذلك هلك الناس من خيانات الراوين.

(سر الخلافة ص 33-34/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 347-348)

أيها الناس.. لا تظنوا ظن السوء في الصحابة، ولا تُهلكوا أنفسكم في بوادي الاسترابة، تلك أمة قد خلت ولا تعلمون حقيقةً بعُدت واختفت، ولا تعلمون ما جرى بينهم، وكيف زاغوا بعدما نوّر الله عينهم، فلا تتبعوا ما ليس لكم به علم واتقوا الله إن كنتم خاشعين. وإن الصحابة وأهل البيت كانوا روحانيين منقطعين إلى الله ومتبتلين، فلا أقبل أبدًا أنهم تنازعوا للدنيا الدنيّة، وأسرَّ بعضُهم غِلَّ البعض في الطويّة، حتى رجع الأمر إلى تقاتُل بينهم وفساد ذات البين وعناد مبين. ولو فرضنا أن الصدّيق الأكبر كان من الذين آثروا الدنيا وزخرفها، ورضوا بها وكان من الغاصبين، فنضطر حينئذ إلى أن نقرّ أنّ عليًّا أسد الله أيضا كان من المنافقين، وما كان كما نخاله من المتبتلين.

(سر الخلافة ص 35/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 349)

رويدك لا تهج الصحابة واحذر                              ولا تقف كل مزور وتبصر

ولا تتخير سبل غي وشقوة                                      ولا تلعنن قوما أناروا كنير

أولئك أهل الله فاخش فناءهم                               ولا تقدحن في عرضهم بتهور

أولئك حزب الله حفاظ دينه                                   وإيذاؤهم إيذاء مولى مؤثر

تصدوا لدين الله صدقا وطاعة                              لكل عذاب محرق أو مدمر

وطهر وادي العشق بحر قلوبهم                             فما الزبد والغثاء بعد التطهر

وجاءوا نبي الله صدقا فنوروا                                  ولم يبق أثر من ظلام مكدر

بأجنحة الأشواق طاروا إطاعة                               وصاروا جوارح للنبي الموقر

ونحن وأنتم في البساتين نرتع                                  وهم حضروا ميدان قتل كمحشر

وتركوا هوى الأوطان لله خالصا                              وجاءوا الرسول كعاشق متخير

على الضعف صوالون من قوة الهدى                    على الجرح سلالون سيف التشذر

(سر الخلافة ص 72-73 روحاني خزائن مجلد 8 ص 386-387)

وعُلّمتُ أن الصدّيق أعظم شأنا وأرفع مكانا من جميع الصحابة، وهو الخليفة الأوّل بغير الاسترابة، وفيه نزلت آيات الخلافة، وإن كنتم زعمتم يا عِدا الثقافة أن مصداقها غيره بعد عصره فأْتوا بفصّ خبره إن كنتم صادقين. وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فلا تكونوا أعداء الأخيار، واقطعوا خصاما متطائر الشرار. وما كان لمؤمن أن يركن إلى اشتطاط اللدد، ولا يدخل باب الحق مع انفتاح السدد. وكيف تلعنون رجلا أثبت الله دعواه، وإذا استَعْدى فأعْداه وأرى الآياتِ لعَدْواه، وطَرَّ مكر الماكرين، وهو نجّى الإسلام من بلاءٍ هاضَ وجورٍ فاضَ، وقتَل الأفعى النضناضَ، وأقام الأمن والأمان، وخيّب كل من مان، بفضل الله رب العالمين.

وللصدّيق حسنات أُخرى وبركات لا تُعدّ ولا تُحصى، وله مننٌ على أعناق المسلمين، ولا ينكرها إلا الذي هو أوّل المعتدين. وكما جعله الله موجبا لِأَمن المؤمنين ومِطفاءً لنيران الكافرين والمرتدين، كذلك جعله مِن أوّل حُماة الفرقان وخدام القرآن ومُشيعي كتاب الله المبين. فبذل سعيه حق السعي في جمع القرآنِ واستطلاع ترتيبه من محبوب الرحمنِ، وهملتْ عيناه لمواساة الدين ولا همول عين الماء المعين. وقد بلغت هذه الأخبار إلى حد اليقين، ولكن التعصب تعقَّرَ فِطنَ المتدبرين. وإن كنت تريد أصل الواقعات ولبّ النكات، فاربأ بنفسك أن تنظر بحيث يغشاك درن التعصبات. وإياك وطرق التعسفات، فإن النصَفَة مفتاح البركات، ولا ترحض عن القلب قشف الظلمة إلا نور العدل والنصفة. وإن العلوم الصادقة والمعارف الصحيحة رفيعة جدًّا كعرش حضرة الكبرياء، والنصفة لها كسُلّم الارتقاء، فمن كان يرجو حل المشكلات وقُنية النكات، فليعمل عملاً صالحا ويتّق التعسّفَ والتعصبات وطرق الظالمين.

ومن حسنات الصدّيق ومزاياه الخاصة أنه خُصّ لمرافقة سفر الهجرة، وجُعل شريك مضائق خير البرية وأنيسه الخاص في باكورة المصيبة، ليثبت تخصّصه بمحبوب الحضرة. وسرُّ ذلك أنّ الله كان يعلم بأن الصدّيق أشجع الصحابة ومن التقاة وأحبّهم إلى رسول الله ومن الكُماة، وكان فانيا في حُبّ سيّد الكائنات، وكان اعتاد من القديم أن يمونه ويراعي شؤونه، فأسلى به الله نبيَّه في وقتٍ عبوس وعيش بوسٍ، وخُصّ باسم الصدّيق وقربِ نبي الثقلَين، وأفاض الله عليه خلعة ثَانِيَ اثْنَيْنِ ، وجعله من المخصوصين.

ومع ذلك كان الصدّيق من المجربين ومن زمر المتبصّرين. رأى كثيرا من مغالق الأمور وشدائدها، وشهد المعارك ورأى مكايدها، ووطئ البوادي وجلامِدَها، وكم من مهلكة اقتحمها! وكم من سبل العوج قومها! وكم من ملحمة قدمها! وكم من فتن عدمها! وكم من راحلة أنضاها في الأسفار، وطوى المراحل حتى صار من أهل التجربة والاختبار! وكان صابرًا على الشدائد ومن المرتاضين. فاختاره الله لرفاقته مورد آياته، وأثنى عليه لصدقه وثباته، وأشار إلى أنه كان لرسول الله أوّل الأحبّاء، وخُلِقَ من طينة الحرّية وتفوَّقَ درَّ الوفاء، ولأجل ذلك اختُيرَ عند خطب خشَّى وخوف غشَّى، والله عليم حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويُجري المياه من منابعها، فنظر إلى ابن أبي قحافة نظرةً، ومن عليه خاصة، وجعله من المتفردين، وقال وهو أصدق القائلين:

إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَه عَلَيهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لم تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

فتدبَّرْ في هذه الآيات فهما وحزما، ولا تُعرض عمدا وعزما، وأحسِنِ النظر فيما قال رب العالمين. ولا تلج مقاحم الأخطار بسبّ الأخيار والأبرار وأحبّاء القهّار، فإن أنْفَسَ القربات تخيُّرُ طرق التقاة والإعراض عن المهلكات، وأمتنَ أسبابِ العافية كفُّ اللسان والتجنب من السبّ والغيبة، والاجتناب من أكل لحم الإخوة. انظر إلى هذه الآية الموصوفة، أتُثني على الصدّيق أو تجعله مورد اللوم والمعتبة؟ أتعرف رجلا آخر من الصحابة الذي حُمد بهذه الصفات بغير الاسترابة؟ أتعرف رجلا سُمّي ثَانِيَ اثْنَيْنِ وسُمي صاحبًا لنبي الثقلين، وأُشرِكَ في فضل إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، وجُعِل أحدٌ من المؤيّدين؟ أتعلم أحدًا حُمد في القرآن كمثل هذه المحمدة، وسُفر زحام الشبهات عن حالاته المخفية، وثبت فيه بالنصوص الصريحة لا الظنية الشكّيّة أنه من المقبولين؟ ووالله، ما أرى مثل هذا الذكر الصريح ثابت بالتحقيق الذي مخصوص بالصدّيق لرجل آخر في صحف رب البيت العتيق. فإن كنت في شك مما قلت، أو تظن أني عن الحق ملتُ، فأْت بنظير من القرآن، وأرِنا لرجل آخر تصريحًا من الفرقان، إن كنت من الصادقين.

والله إن الصدّيق رجل أُعطي من الله حلل الاختصاص، وشهد له الله أنه من الخواص، وعزا معيّةَ ذاتِه إليه، وحَمدَه وشَكَرَه وأثنى عليه، وأشار إلى أنه رجل لم يطبْ له فراق المصطفى، ورضي بفراق غيره من القربى، وآثر المولى وجاءه يسعى، فساق إلى الموت ذَوْدَ الرغبة، وأزجى كل هوى المهجة. استدعاه الرسول للمرافقة، فقام ملبّيا للموافقة، وإذ همّ القوم بإخراج المصطفى، جاءه النبي حبيب الله الأعلى، وقال إني أُمرتُ أن أهاجر وتهاجر معي ونخرج من هذا المأوى، فحمدلَ الصدّيق على ما جعله الله رفيق المصطفى في مثل ذلك البلوى، وكان ينتظر نصرة النبي المبغيِّ عليه إلى أن آلت هذه الحالة إليه، فرافقه في شجون من جدّ ومجون، وما خاف قتل القاتلين. ففضيلته ثابتة من جليّة الحكم والنص المحكم، وفضله بيّن بدليل قاطع، وصدقه واضح كصبح ساطع. إنه ارتضى بنعماء الآخرة وترك تنعم العاجلة، ولا يبلغ فضائله أحد من الآخرين.

وإن سألت أن الله لِمَ آثرَه لصدر سلسلة الخلافة، وأيّ سر كان فيه من ربّ ذي الرأفة، فاعلم أن الله قد رأى أن الصدّيق -رضي الله عنه وأرضى- آمنَ مع رسول الله بقلب أسلم في قوم لم يسلم، وفي زمان كان نبي الله وحيدًا، وكان الفساد شديدا، فرأى الصدّيق بعد هذا الإيمان أنواع الذلة والهوان ولعن القومِ والعشيرة والإخوان والخلان، وأُوذي في سبيل الله الرحمن، وأُخرج من وطنه كما أُخرج نبي الإنس ونبي الجان، ورأى مِحنًا كثيرة من الأعداء، ولعنًا ولومًا من الأحباء، وجاهدَ بماله ونفسه في حضرة العزّة، وكان يعيش كالأذلّة، بعدما كان من الأعزّة ومن المتنعمين. وأُخرج في سبيل الله، وأُوذي في سبيل الله، وجاهد بأمواله في سبيل الله، فصار بعد الثراء كالفقراء والمساكين. فأراد الله أن يُريه جزاء الأيام التي قد مضت عليه، ويبدّله خيرا مما ضاع من يديه، ويُريه أجر ما رأى ابتغاءً لمرضاة الله، والله لا يُضيع أجر المحسنين. فاستخلفه ربه ورفع له ذكره وأسْلى، وأعزّه رحمة منه وفضلا، وجعله أمير المؤمنين..

(سر الخلافة ص 23-27/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 337-341)

كان عارفا تامَّ المعرفة، حليم الخلق رحيم الفطرة، وكان يعيش في زيّ الانكسار والغربة، وكان كثير العفو والشفقة والرحمة، وكان يُعرف بنور الجبهة. وكان شديد التعلق بالمصطفى، والتصقت روحه بروح خير الورى، وغشيه من النور ما غشّى مقتداه محبوب المولى، واختفى تحت شعشعان نور الرسول وفيوضه العظمى. وكان ممتازًا من سائر الناس في فهم القرآن وفي محبة سيد الرسل وفخر نوع الإنسان. ولما تجلى له النشأة الأخروية والأسرار الإلهية، نفَض التعلقات الدنيوية، ونبَذ العُلق الجسمانية، وانصبغ بصبغ المحبوب، وترك كل مُراد للواحد المطلوب، وتجردت نفسه عن كدورات الجسد، وتلونت بلون الحق الأحد، وغابت في مرضاة ربّ العالمين. وإذا تمكن الحبُّ الصادق الإلهي من جميع عروق نفسه، وجذر قلبه وذرات وجوده، وظهرت أنواره في أفعاله وأقواله وقيامه وقعوده، سُمّي صدّيقًا وأُعطي علمًا غضا طريّا وعميقا، من حضرة خير الواهبين. فكان الصدق له ملكة مستقرة وعادة طبعية، وبدت فيه آثاره وأنواره في كل قول وفعل، وحركة وسكون، وحواس وأنفاس، وأُدخل في المنعمين عليهم من رب السماوات والأرضين. وإنه كان نُسخة إجمالية من كتاب النبوة، وكان إمام أرباب الفضل والفتوة، ومن بقية طين النبيين.

ولا تحسب قولنا هذا نوعًا من المبالغة ولا من قبيل المسامحة والتجوز، ولا من فور عين المحبة، بل هو الحقيقة التي ظهرت عليَّ من حضرة العزة. وكان مشربه التوكل على رب الأرباب، وقلة الالتفات إلى الأسباب، وكان كظلٍ لرسولنا وسيدنا في جميع الآداب، وكانت له مناسبة أزلية بحضرة خير البرية، ولذلك حصل له من الفيض في الساعة الواحدة ما لم يحصل للآخرين في الأزمنة المتطاولة والأقطار المتباعدة. واعلم أن الفيوض لا تتوجه إلى أحد إلا بالمناسبات، وكذلك جرت عادة الله في الكائنات، فالذي لم يُعطه القسّام ذرة مناسبة بالأولياء والأصفياء، فهذا الحرمان هو الذي يُعبَّر بالشقوة والشقاوة عند حضرة الكبرياء. والسعيد الأتم الأكمل هو الذي أحاط عادات الحبيب حتى ضاهاه في الألفاظ والكلمات والأساليب. والأشقياء لا يفهمون هذا الكمال كالأكمه الذي لا يرى الألوان والأشكال، ولا حظ للشقي إلا من تجليات العظموت والهيبة، فإن فطرته لا ترى آيات الرحمة، ولا تشم ريح الجذبات والمحبة، ولا تدري ما المصافاة والصلاح، والأنس والانشراح، فإنها ممتلئة بظلمات، فكيف تنـزل بها أنوار بركات؟ بل نفس الشقي تتموج تموُّجَ الريح العاصفة، وتشغله جذباتها عن رؤية الحق والحقيقة، فلا يجيء كأهل السعادة راغبا في المعرفة. وأما الصدّيق فقد خُلق متوجّها إلى مبدأ الفيضان، ومقبِلا على رسول الرحمن، فلذلك كان أحق الناس بحلول صفات النبوة، وأولى بأن يكون خليفة لحضرة خير البرية، ويتحد مع متبوعه ويوافقه بأتم الوفاق، ويكون له مظهرًا في جميع الأخلاق والسير والعادة وترك تعلقات الأنفس والآفاق، ولا يطرأ عليه الانفكاك بالسيوف والأسنة، ويكون مستقرا على تلك الحالة ولا يزعجه شيء من المصائب والتخويفات واللوم واللعنة، ويكون الداخل في جوهر روحه صدقا وصفاء وثباتا واتقاء، ولو ارتد العالم كلّه لا يُباليهم ولا يتأخر بل يقدم قدمه كل حين.

ولأجل ذلك قَفَّى الله ذِكر الصدّيقين بعد النبيين، وقال:

فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .

وفي ذلك إشارات إلى الصدّيق وتفضيله على الآخرين، فإن النبي ما سمى أحدًا من الصحابة صدّيقًا إلا إياه، ليُظهر مقامه ورَيّاه، فانظر كالمتدبرين.

وفي الآية إشارة عظيمة إلى مراتب الكمال وأهلها لقوم سالكين. وإنا إذا تدبرنا هذه الآية، وبلّغنا الفكر إلى النهاية، فانكشف أن هذه الآية أكبر شواهد كمالات الصدّيق، وفيها سرّ عميق ينكشف على كل من يتمايل على التحقيق. فإن أبا بكر سُمّي صدّيقًا على لسان الرسول المقبول، والفرقان أَلْحقَ الصدّيقين بالأنبياء كما لا يخفى على ذوي العقول، ولا نجد إطلاق هذا اللقب والخطاب على أحد من الأصحاب، فثبت فضيلة الصدّيق الأمين، فإن اسمه ذُكر بعد النبيين.

فانظر بالإنابة وفارِقْ غشاوة الاسترابة، فإن الأسرار الخفية مطويّة في إشارات القرآن، ومن قرأ القرآن فابتلع كل المعارف، ولو ما أحستها بحاسةٍ الوجدانُ. وتنكشف هذه الحقائق متجردةً عن الألبسة على نفوس ذوي العرفان، فإن أهل المعرفة يسقطون بحضرة العزة، فتمسّ روحهم دقائقَ لا تمسّها أحدٌ من العالمين. فكلماتهم كلمات، ومن دونها خرافات، ولكنهم يتكلمون بأعلى الإشارة حتى يتجاوزون نظر النظّارة، فيُكفّرهم كل غبي من عدم فهم العبارة. فإنهم قوم منقطعون لا يُشابههم أحدٌ ولا يُشابهون أحدًا، ولا يعبدون إلا أحدًا، ولا ينظرون إلى المتلاعبين. كفَلهم الله كرجل كفَل يتيما، ففوّضه إلى مرضعة حتى صار فطيما، ثم ربّاه وعلّمه تعليما، ثم جعله وارث ورثائه، ومنَّ عليه منّا عظيما، فتبارك الله خير المحسنين. (سر الخلافة ص 41-43/ روحاني خزائن مجلد 8 ص 355-357)

وإني أرى الصدّيقَ كالشمس في الضحى

وفي مـآثرُه مقبولةٌ عنـدَ هوجرِ

وكان لذات المصطفى مثلَ ظلِّهِ

ومهما أشار المصطفى قام كالجَرِي

وأَعطى لنصر الدين أموالَ بيتهِ

جميعًا سِوى الشيء الحقير المحقَّرِ

ولـمَّا دعـاه نبيُّـنا لرفـاقةٍ

على الموت أقبلَ شائقا غيرَ مُدبِرِ

وليس محـلَّ الطعن حسنُ صفاتهِ

وإن كنتَ قد أزمعتَ جَورًا فعَيِّرِ

أبادَ هوى الدنيا لإحـياء دينهِ

وجاء رسولَ الله مِن كلّ مَعبَرِ

عليك بصُحف الله يا طالبَ الهدى

لتنظُرَ أوصاف العتيـق المطهَّرِ

وما إِنْ أرى واللهِ في الصحب كلهمْ

كمثل أبي بكرٍ بقلبٍ معطَّـرِ

تخيّرَه الأصحاب طوعًا لفضلهِ

وللبحر سلطانٌ على كلّ جعفرِ

ويثني على الصـدّيق ربٌّ مهيمنٌ

فما أنت يا مسكين إن كنتَ تزدري

له  باقيـات صالحات كشارقٍ

له عـينُ آياتٍ لهذا التطـهُّرِ

تَصدَّى لنصر الدين في وقت عسرهِ

تَبـدَّى بغارٍ بالرسول المؤزَّرِ

مَكيـنٌ أمين زاهـد عند ربّهِ

مخلِّصُ دينِ الحقّ مِن كلِّ مُهجِرِ

ومِن فتن يُخشى على الدين شرُّها

ومِن محنٍ كانت كصخرٍ مكسِّرِ

ولو كان هذا الرجل رجلا منافقا

فمَن للنبي المصطفى مِن معزِّرِ

أتحسب صدّيقَ المهيـمنِ كافرًا

لقولِ غريقٍ في الضلالة أَكْفَرِ

وكان كقـلب الأنبياء جَنانُهُ

وهمّـتُهُ صوّالة كالغضنفرِ

أرى نورَ وجه الله في عاداتـهِ

وجلواتِـه كأنه قِـطعُ نَـيِّرِ

وإنّ له في حضرة القدس درجةً

فويـلٌ لألسنةٍ حِدادٍ كخنجرِ

وخدماتُـه مثلُ البدور منـيرةٌ

وثمراته مثل الجنـا المستكـثَرِ

وجاء لتـنضير الرياض مبشّرًا

فلله درُّ منضِّرٍ ومبشِّرٍ

Share via
تابعونا على الفايس بوك