المشابهة بين العالم الصغير والكبير

والواضح أن كلا من الشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض مزود فعلاً بتلك الخواص التي ذكرها تعالى آنفًا؛ ولكن وجود مثل هذه الخواص في النفس البشرية أمرٌ لا يعرفه كل أحد، لذلك قدّم الله أفعالَه المشهودة شهادةً لتبيان أفعاله النظرية. وكأنه تعالى يقول: إن كنتم في ريب من وجود الخواص المذكورة في النفوس البشرية، فتدبروا في الشمس والقمر وغيرهما وسوف تجدونها فيها بداهة.

ثم إنكم تعلمون أن الإنسان عالَم صغير.. رُسمت في نفسه خارطة العالم الكبير كله بالإجمال. فما دام من الثابت المتحقق أن هذه الأجرام الضخمة في العالم الكبير مزودةٌ بتلك الخواص، وتنفع المخلوقات كما ذُكر، فكيف يمكن للإنسان أن يكون خاليًا ومحرومًا منها.. مع أنه يسمَّى أعظمَ المخلوقات درجة؟ كلا، بل إن فيه أيضًا، كضياء الشمس، نورًا من العلم والعقل يستطيع أن يضيء به العالم كله. وأنه – مثل القمر – يتلقى من الحضرة العُليا نورَ الكشف والإلهام والوحي.. ويوصله إلى الذين لم يستوفوا بعد الكمالَ الإنساني. فكيف إذن يسوغ القول بأن النبوة باطلة، وأن جميع الرسالات والشرائع والكتب إنما هي حصيلة مكر الإنسان وأنانيته؟ تشاهدون كيف تستبين كل سبيل بطلوع النهار، ويظهر كل ارتفاع وانخفاض جليا.. كذلك فالإنسان الكامل.. هو نهار من الضوء الروحاني، وعند إشراقه تستبين كل سبيل، ويبين هو للناس أين الصراط المستقيم.. لأنه هو النهار المنير للحق والصدق.

وكذلك تشاهدون كيف يؤوي الليل المتعَبين المرهَقين، وكيف يجد العمال المنهكون في أحضانه راحةَ النوم بكل سرور، ويستريحون من المشاق، ثم إن الليل يهيئ السترَ للجميع، كذلك فإن عباد الله الكُمّل يأتون لراحة أهل الدنيا. إن الذين يتلقون وحْيًا وإلهاما من الله يخلصون كل العاقلين من إرهاق النفس، وبفضلهم تنحل المسائل الصعبة بكل يُسر. كما أن وحي الله تعالى يهيئ – مِثل الليل – سترًا للعقل الإنساني.. فلا يَدَع أخطاءه الخبيثة تنكشف للدنيا.. لأن أرباب العقل متى تلقوْا نورَ الوحي أصلحوا أخطاءهم بأنفسهم، واتقوا الفضيحة بفضل برَكة الوحي الإلهي القدسي. لذلك لن تجدوا أحدًا من فلاسفة الإسلام قرب للأصنام دجاجًا كما فعل “أفلاطون” الفيلسوف. كان أفلاطون محرومًا من نور الوحي لذلك انخدع، وبدرت منه تلك الحماقة البشعة.. رغم كونه فيلسوفا كبيرا. ولكن حكماء الإسلام عُصِموا من مثل هذه الأعمال النجسة الحمقاء.. بفضل اقتدائهم بسيدنا ومولانا رسول الله . فانظروا  كيف ثبت أن الوحي يزود العقلاء بستر كمثل الليل.

ثم إنكم تعلمون أن عباد الله الكاملين يُؤوون في ظلالهم – كالسماء- كلَّ منهوك مرهق. إن أنبياء الله القدوس خاصة، ومَن تشرفوا بوحيه عامة، يمطرون -كالسماء- أمطار فيوضهم وبركاتهم. كما أنهم يجمعون في أنفسهم خواص الأرض أيضًا، فتُنبت نفوسهم الزكية أنواعًا من أشجار العلوم العالية التي ينتفع الناس من ظلالها وثمارها وأزهارها.

فهذا القانون الطبيعي البادي لأنظارنا بجلاء ليقف شاهدا على نفس القانون الخفي الذي قدّم الله شهادته في هذه الآيات في شكل قَسمينِ. فيا له مِن كلام حكيم ورد في القرآن الكريم، وخرج من فم ذلك الإنسان الذي كان أميًّا من البادية! لو كان هذا الكلام من عند غير الله لما تقاصرت عقول العامة ولا عجزت أفهامُ مَن يُسمون أنفسهم مثقفين عن إدراك هذه المعرفة الدقيقة.. حتى اندفعوا للطعن فيه. وإن من عادة المرء أنه إذا فشل بكل الطرق في فهم حكمةٍ بعقله القاصر، اتخذها موضع الطعن، وطعنُه هذا يشكّل دليلاً على أن تلك الكلمة الحكيمة أسمى وأعلى من إدراك العقول العادية، فلذلك اعترض عليها العقلاء مع كونهم من أهل الذكاء والدهاء.  أما وقد انكشف الآن هذا السر المكتوم.. فلن يطعن فيه أي لبيب بعد ذلك.. بل سيجد فيه متعة.

 

مثال آخر

ولقد أقسم الله قسَمًا كهذا في موضع آخر من القرآن الكريم مستشهدًا بظواهر الطبيعة على سُنته المستمرة في الوحي وقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (الطارق: 12-15).. أي أُقسم بالسماء التي ينـزل منها المطر، وأُقسم بالأرض التي تُخرِج أنواع النبات نتيجة المطر.. إن هذا القرآن كلام الله ووحيه.. وإنه يحكم بين الحق والباطل، وما هو بعبث لا نفع فيه، أي لم يأت في غير أوانه، بل هو كمطرٍ ينـزل في موسمه.

فالله تعالى قد قدّم هنا قانونَه الطبيعي الجليّ كلَّ الجلاء شهادةً على صدق القرآن الكريم الذي هو كلامه. بمعنى أنه من الملاحَظ المشاهَد دائما في القانون الطبْعي أن السماء تمطر عند الضرورة، وأن خضرة الأرض متوقفة على نزول مطر السماء، فلو أمسكت السماء مطرها لنضبت الآبار شيئًا فشيئا. فثبت أن وجود الماء في الأرض موقوف في الواقع على غيث السماء، لذلك نجد أن مياه الآبار الأرضية ترتفع كلما أمطرت السماء. لماذا ترتفع يا ترى؟ إنما سبب ذلك أن ماء السماء هو الذي يرفع مستوى ماء الأرض كأنه يجذبه إلى أعلى. هذه العلاقة نفسها موجودة بين الوحي الرباني والعقل البشري.

 

العلاقة بين الوحي والعقل

إن وحي الله هو الماء السماوي.. والعقل هو الماء الأرضي، وهذا الماء يربو ويزداد دائما بالماء السماوي.. أي الوحي. وحينما ينقطع الماء السماوي يجف الماءُ الأرضي أيضا بالتدريج. ألا يكفيكم برهانًا على ذلك أنه عندما يمضي زمن طويل ولا يُبعَث في الأرض مَن يتلقى الوحيَ فإن عقول العقلاء تفسد وتخبث جدا.. تمامًا كما تجف مياه الأرض وتفسد؟ ولكي تفهموا ما أقول يكفيكم أن تُلقوا نظرةً عابرة على ما كانت عليه الأحوال في العالم كلِّه في العصر الذي سبق بعثةَ نبينا محمد .. إذ كانت قد مضت عندئذ ستة قرون على بعث المسيح ؛ ولم يُبعث في تلك الفترة أحد من الرسل، ولذلك كانت أحوال العالم بأسره سيئةً. إن تاريخ الأمم كلها يدل بصراحة على أن الأفكار الباطلة كانت قد عمت الآفاقَ جميعها قبل ظهور الرسول .

لماذا حدث كل ذلك وما السبب وراءه يا تُرى؟ إنما سببه أن الوحي الرباني كان منقطعا منذ زمن مديد، وكانت مملكة السماء في يد العقل الأجوف وحده. وهل هناك أحد يجهل ما أدى إليه العقل البشري الناقص من مفاسد وبلايا؟ فانظروا كيف جفت تماما مياه العقول كلها عندما لم يمطر ماء الوحي لمدة طويلة!

ففي هذه الأقسام القرآنية يعرض الله هذا القانون الطبيعي نفسه.. ويطلب منا أن نُجيل النظر لنرى: أليس من النواميس الإلهية المحكمة الدائمة أنه جعل خضرةَ الأرض متوقِّفة تماما على ماء السماء؟ إذن فهذه السنة الإلهية الجلية شاهدةٌ على السنة الإلهية الخفية.. سُنةِ الوحي والإلهام. فيجب إذن أن تستفيدوا من شهادة هذا الشاهد، وألا تتخذوا العقل وحده هاديًا.. فإنه ماء لا يمكنه البقاء بدون ماء السماء. فكما أنه من خواص الماء السماوي أنه يرفع مَاء الآبار كلها بحسب القانون الطبيعي.. سواء وقع هذا الماء فيها مباشرة أم لم يقع، كذلك يحدث حين يظهر في الأرض نبي من أنبياء الله.. فسواء اتبعه عاقل أم لم يتبعه.. فإن العقول في عصره تزداد من تلقاء نفسها صقلاً وجلاءً لم يُعهد فيها من قبل. يشرع الناس تلقائيا في البحث عن الحق، وتنبعث من الغيب حركةٌ في قواهم الفكرية. وكل هذا الرقي العقلي والحماس القلبي إنما يحدثان بسبب القدوم الميمون لذلك الإنسان المحظوظ بالوحي.. فقد رُفعت به مياه الأرض على وجه الخصوص. فإذا شاهدتم أن كل امرئ قد هب يهتم بالأمور الدينية والبحث فيها، وأن المياه الأرضية في فوران.. فانهضوا وانتبهوا، واعلموا يقينًا أن المطر قد نـزل من السماء غزيرا، وأن قلبًا قد صار مهبطًا لوابل الوحي. (فلسفة تعاليم الإسلام)

Share via
تابعونا على الفايس بوك