قتيل حب

في يناير الماضي كان أستاذي محمد حلمي محمد الشافعي -رحمه الله- في إجازة في مصر، واتصلتُ به هاتفيًا في يوم من الأيام لأطمئن عليه، فإذا بصوت ضعيف يرد علي. عرفت صوته رغم ضعفه، وسألته: أنت بخير؟ قال: نعم، وبدأ يسعل وأكمل كلامه: يقول الأطباء أن هناك مرضًا بقلبي، وطلب مني أن أخبر أمير المؤمنين بذلك وألتمس منه الدعاء بأن يُرجعه الله إلى لندن بسلام. وأخذت حرمه السماعة. فاضطرب قلبي وأدركت أن الأمر أخطر. أخبرتني حرمه: إنه أصيب بنوبة قلبية قبل أيام، فادع له.

وفي اليوم التالي بلّغتُ أمير المؤمنين الخبر، فقال: قل للأستاذ ألا يعود إلى لندن إلا بعد استرداد الصحة تمامًا.

ولكنه لم يذق طعم الراحة في مصر، ولم يزل يصر على الأطباء بأن يأذنوا له بالسفر إلى لندن حتى أذنوا له بذلك كارهين.

أخبرت أمير المؤمنين بوصوله فأمر أحد أطباء القلب الأحمديين السيد شبير أحمد باتي بأن يفحصه. فقام بفحصه في بيته في إسلام آباد، وأخبره أن الفحوص السابقة تبين أنك أُصبت بنوبة قلبية شديدة والفحوص التي قمت بها أيضًا تنذر بنوبة أخرى قادمة -لا قدر الله- فأرجو ألا تقوم بأي عمل يتطلب جهدًا جسديًا أو ذهنيًا ولا تعمل على الكمبيوتر أيضًا.

نصحه الطبيب بعدم العمل على الكمبيوتر لأنني رأيت الأستاذ بعد يومين من وصوله إلى هنا يعمل على الكمبيوتر ويعد المقالات لمجلة التقوى، مع أنه كان لا يقوى على المشي بسهولة، وكنت أخبرت الطبيب بذلك.

وحينما وصل تقرير الطبيب إلى أمير المؤمنين وصف له حضرته أدوية “هوميوباثية” وأهدى له سلة جميلة من الثمار مع رسالة بأنني أود عيادتك في بيتك ولكن أشغالي الكثيرة المكثفة بسبب رمضان لا تسمح لي بذلك، فاسترح في بيتك إلى أن أزورك هناك بعد رمضان إن شاء الله، وعندما تنتقل إلى بيتك الجديد المجاور للمسجد فسوف أقوم بعلاجك تحت رعايتي.

عندما قدمت له هدية أمير المؤمنين مع الرسالة بدأ يبكي ويقول: لماذا يحبني أمير المؤمنين هكذا، هذا ما يقتلني!

والحق أن المرحوم كان قتيل حب أمير المؤمنين، ذلك أنه قال لي قبل وفاته بأسبوع: ننوي الذهاب إلى لندن بعد بضعة أيام لزيارة أمير المؤمنين ورؤية بيتنا الجديد، وسوف أقوم أنا بقيادة السيارة إلى لندن. فقلت له متعجبًا: كيف تذهب إلى لندن وأنت مريض؟ قال: أنا بخير والحمد لله. ألا ترى أنني أعمل على الكمبيوتر ولا أشعر بأي تعب ولا إرهاق. قلت: أرجو ألا تذهب، وإذا كان لا بد فلتذهب حرمك وابنتك. قال: لا، سأذهب أنا أيضًا وأقابل أمير المؤمنين. قلت: إذًا لا تقد أنت السيارة. قال: طيب.

وبعد يومين أو ثلاثة صعدت إلى بيته الجديد لأرى ما إذا ينقصه شيء، فإذا بالأستاذ جالس على أحد السلالم (كان بيته في الطابق الأول). فلما رأيته في هذا الوضع دُق جرس الخطر في قلبي، وسألت: ما بك يا أستاذ؟ فطمأنني وقال: لا شيء، أنا بخير والحمد لله. صعدت السلالم وأستريح الآن. ولكن لم أطمئن لقوله.

وفي المساء وأنا في بيتي تلقيت عبر الهاتف خبر إصابته بنوبة قلبية في مكتب أمير المؤمنين حينما كان على وشك مقابلة حضرته، وبعد ساعة عرفنا أنه انتقل إلى جوار الله تعالى.

الواقع أن أسبابًا عديدة أدت إلى وفاته. كان مريضًا بقلبه، ومع ذلك سافر من مصر رغم منع الأطباء، ثم لم يبرح يعمل على الكمبيوتر إعدادًا لمجلة التقوى، ثم قاد السيارة من إسلام آباد إلى لندن، ثم صعد السلالم، وزد على ذلك شعوره بأنه سوف يتشرف بعد دقائق بلقاء حبيبه أمير المؤمنين. فقلبه الضعيف لم يستطع تحمل هذه الضغوط العديدة فانهار. وكأنه جاء إلى بيت أمير المؤمنين ليودعه قبل لحاقه بالرفيق الأعلى.. أحب الأحبة سبحانه وتعالى.

الحق أنني لم أر مثله بين من قابلت من الإخوة العرب. لم أجد بينهم أفصح منه بيانًا، ولا أعذب كلمة، ولا أكثر ثقافة، ولا أوفر عقلاً، ولا أسرع فهمًا، ولا أكثر بشاشة، ولا أرق طبعًا، ولا أسرع طاعة، ولا أوفر حلمًا، ولا أبذل جهدًا، ولا أكثر نشاطًا، ولا أكثر خيرًا لأهله ولغيرهم، ولا أكثر تواضعًا وبساطة، ولا أشد حبًا للخلافة والخليفة.

فأما فصاحته، وعذوبة كلامه، وثقافته، وفطنته، وفهمه، فحدث بها ولا حرج. فما أدل على ذلك من تراجمه لكلام أمير المؤمنين في برنامج “لقاء مع العرب”. كان الناس يُسحرون بترجمته ويتساءلون في عجب: كيف يترجم كلام أمير المؤمنين بهذه السهولة والسلاسة والدقة؟ الحق أن ثقافته الواسعة في مجال الدين والدنيا وسرعة إدراكه لما يريد أمير المؤمنين قوله كان من أهم الأسباب لنجاحه الباهر الفريد في هذه العملية الصعبة.

أما بشاشته فقد شهدها كل من قابله أو شاهده عبر القناة الفضائية الإسلامية الأحمدية. كانت له شخصية جذابة. لقد وهبه الله حسنًا ظاهرًا كما أسبغ عليه بهاءً روحانيًا، فكلما تبسم أو ضحك تهلل وجهه نورًا وإشراقًا.

أما رقة طبعه فكم من مرة لاحظها المشاهدون في برنامج لقاء مع العرب حيث كان يبكي وهو يترجم متأثرًا بكلام أمير المؤمنين، وأحيانًا يغلبه البكاء لدرجة أنه يتوقف عن الترجمة لثوان ثم يستأنفها.

كان يصلي بنا في مسجدنا بإسلام آباد وكم من مرة كان صوته ينقطع من شدة الرقة أثناء تلاوته لآيات الذكر الحكيم، فيبكي ويُبكي المصلين وراءه.

أما طاعته فأعني بها الطاعة لأحكام الإسلام ونظام الجماعة والمسؤولين فيها. فكلما طلب منه أحد طلبًا كان يلبي حاجته، وإن كلفه ذلك عناء كبيرًا. أحيانًا كان الإخوة يطلبون منه فجأة الحضور إلى مدينتهم فهناك بعض العرب يريدون الحوار عن الأحمدية، وذلك بدون أي ترتيب مسبق، فكان يذهب فورًا على حساب عمله وصحته.

أما حلمه فالحق أنه كان اسمًا على مسمّى. كم من شخص أساء إليه مع أنه لم ير منه إلا خيرًا، ولكنه كان يتحمل إساءتهم دون ضيق. لم أسمع منه كلمة تجرح مشاعر أحد.

كان يذكر لي: لم يكن طبعي هكذا قبل قبولي الأحمدية، بل كنت ذا طبع حاد منتقم بحيث لا أدع من يسيء إليّ دون أخذ الثأر منه. وحكى لي قصة، وإنني لأجد حرجًا شديدًا في بيانها إلا أنني أذكرها لأنها تكشف عن مدى تأثير الأحمدية فيه. قال: مرة كنت في الحج وأطوف بالكعبة المكرمة مع زوجتي. وإذا بأحد الطائفين يدفع نفسه بقوة إلى الأمام دون أدنى اكتراث بالحجاج الآخرين المزدحمين بما فيهم السيدات. وعندما مر بي ضربني بكوعه ضربة شديدة وهو يندفع. فلم أملك نفسي وأسرعت أتتبعه، وفي الشوط القادم من الطواف ضربته عن عمد ضربة أشد مما ضربني به. ولكن الأحمدية نزعت مني هذه الحدة وهذبتني، والحمد لله.

ومع حلمه هذا كان يبدي غيرة نادرة في أمور الدين. فكم من مرة أفحم وبكّت بكل جلال وشوكة المعارضين المتفحشين الذين أرادوا سب سيدنا المهدي ، في بعض ندواته مع العرب.

أما بذله الجهود القصوى في العمل فأكتفي بسرد مثال واحد. أثناء عملنا معًا على إخراج ترجمة المجلد الأول والثاني من التفسير الكبير، كان يأمرني بتصحيح المسودات بالقلم ويقوم هو بالتصحيح على الكمبيوتر. والتصحيح على الكمبيوتر عملية صعبة شاقة للغاية. وكنت أحيانًا أغير الكلمات والجمل أكثر من اللازم، ولكنه كان يلح علي قائلاً: استمر في تصويب ما تراه خطأ ولا تهتم بي، فإن تحسين الترجمة أهم من راحتي.

أما نشاطه فكان غير عادي. فإنه رغم كبر سنه كان لا يمل من العمل. كان عنده نهم شديد للعمل. عشرات المرات كنا نقول له: لا ترهق نفسك هكذا، فكان يرد: أبدًا، لا أشعر بأي إرهاق ولا تعب. العمل بالنسبة لي هواية، وأجد فيه متعة. ثم إنه عمل للجماعة وللإسلام ولله.

والحق أن معظم ما نشر في مجلتنا منذ سنة 90 إلى يومنا هذا كان بقلمه أو من تراجمه. إنه صاحب أكبر سهم -بعد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود – في ما يوجد في مكتبتنا الأحمدية من كتب عربية. ولقد أعد في بضع سنين من الكتب والمقالات والتراجم ما لم نستطيع إعداده في عشرات السنين. لا ريب أن أعماله سوف تُكتب بالنور في تاريخ الإسلام والأحمدية، وسوف يدعو له العرب إلى يوم القيامة كلما استفادوا من كتبه وتراجمه وبرامجه. إنها صدقة جارية عظيمة من المرحوم.

كان يقول لي مرارًا: يا مؤمن، ادع الله تعالى أن يرزقني من العمر ما أرى فيه ترجمة عربية للأجزاء العشرة للتفسير الكبير لسيدنا الخليفة الثاني ، وأن يشرفنا الله نحن بالقيام بهذه الترجمة.

وكان المرحوم أكثرهم خيرًا بالجميع وخاصة بأهله. كنت أزوره كثيرًا لأجل العمل معه في بيته بمصر ثم بإسلام آباد -كان أستاذًا لي وكان يعتبرني ابنًا له- فسنحت لي الفرصة لأرى عن قرب معاشرته مع أهله. الحق أنه كان يعامل حرمه على ضوء وصية الرسول الكريم : “خيركم خيركم لأهله”. الحقيقة أنني لم أر زوجين متحابين مثلهما. فليكن الله في عون حرم المرحوم فهو أدرى بمصابها.

أما تواضعه وبساطته فيشهد بذلك كل من لقيه وتعامل معه. الواقع أنه كان خير مثال لقول الرسول : “إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة”. على الرغم من كل ما قام به من إنجازات كبيرة في المجالين الديني والدنيوي فلا أحد يستطيع أن يقول أنه اشتم من الأستاذ رائحة التفاخر أو الغطرسة. أحكي أمرًا واحدًا في هذا الشأن. أثناء إعداد ترجمة التفسير الكبير، حدث عشرات المرات أن ترك الأستاذ الكمبيوتر وأتاني وقال: جئتك لأهنئك على هذا الخطأ الذي فطنت له، والحق أنه لا يفطن إليه أحد بسهولة، وهذا الإصلاح الذي قُمت به لا أستطيع أن أقوم به، والله أنت تعلمنا. فكنت أقول له: لا تحرجني يا أستاذ، أنت معلمي، وليس هذا إلا بفضل الله ثم بتعليمك لي. الحقيقة لا يمكن أن يسخو بمثل هذا التشجيع إلا ذو حظ عظيم.

أما حبه للخلافة والخليفة فقد سبق أن بينت أنه قتيل حب الخليفة. كم من مرة قبّل من فرط الحب يد أمير المؤمنين عند سماع كلمة معرفة جديدة منه في برامج “لقاء مع العرب”.

وأخيرًا أعزي نفسي، كما أتقدم بخالص العزاء لأسرة المرحوم وللقراء ولأولئك الذين انهالت رسائلهم تحمل التعازي إلى أمير المؤمنين وإلى أسرة التقوى.. أعزيهم جميعًا بقول الرسول الكريم : “العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى به ربنا..”إنا لله وإنا إليه راجعون”. أو كما قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عند وفاة أحد من أبنائه: إن من استدعاه هو أحَبُّ الأحبة، فافْدِ به يا قلبي الحزين.

(المحرر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك