في رحاب القرآن
وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(125).

شرح الكلمات:

ابتلى –الابتلاء يتضمن أمرين: أحدهما تعرُّف حال أحد والوقوف على ما يُجهل من أمره: والثاني كشف جودته ورداءته. وإذا نُسب هذا الفعل إلى الله كقولنا: ابتلى الله فلانا، فلا يراد إلا المعنى الثاني.. أي أنه أظهر كفاءات خفية في فلان … لأن الله هو عالم الغيب ولا يحتاج ليطلع على شيء خفي في أحد (المفردات).

كلمات – الكلمة تعني الحكم، والحكم يشمل الأوامر والنواهي (المفردات).

إماما – الإمام: المؤتم به؛ الذي يُجعل أسوة وقدوة في قوله وأفعاله. والمعنى الثاني للإمام هو الكتاب (المفردات)، لأن فيه من الأحكام ما يُتَّبع.

التفسير:

يقول الله تعالى: تذكروا عندما أردنا أن نبرز الخير والتقوى في إبراهيم، ليطلع إبراهيم على كفاءات روحية خفية فيه. أمره الله بعض الأوامر لإظهار كفاءاته فأطاع إبراهيم ما أمر الله به، وهكذا علم الناس أن الكفاءات والطاقات العالية للطاعة في إبراهيم هي نادرة المثال ولا توجد في أحد. فمثلا أمره الله أن يذبح ابنه البِكر في سبيله، وعندما استعد للعمل بهذا الأمر ظاهرا قال الله له: ليس هذا هو مرادنا، بل مرادنا غير ذلك. ثم ظهرت إرادة الله هذه حين أمره أن يترك هاجر وإسماعيل في واد غير ذي زرع. فذهب بهما إلى هناك وتركهما، وهكذا نجح في هذا الامتحان، وعرف العالم أن إبراهيم يلبي كل ما يأمره الله به.. مهما كان هذا الأمر في بادئ النظر مروعا ومخيفا.

قيل هنا (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات)، و”كلمات” صيغة جمع تدل على الكثرة، مع أن المشهور عنه حادث واحد، وهو حادث الإقدام على ذبح ابنه. ولكن التلمود يكتب أن إبراهيم قد ابتُلي عشر مرات (التلمودBabylonian Talmud, V1p108).

وفي قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما).. لا يراد بالإمامة النبوة، لأن إبراهيم كان قد نال النبوة من قبل. وإنما المراد أنه سيكون نموذجا وأسوة للعالم، وسوف يتبعه الناس بكثرة. وكلمة (للناس) تشير إلى مجموعة كبيرة من الناس.

والحق أن هذا وعد لإبراهيم يتعلق بالمستقبل، وإلا لم يكن معه في ذلك الزمن إلا قليل من الناس. انظروا اليوم فإنه يعتبر إماما ومقتدى في معظم العالم، ويذكره الناس بكل تقدير واحترام، كل نبي يكون أسوة لقومه لا شك، ولكن لا يكون كل نبي أسوة للعالم كله، ولكن إبراهيم هو الوحيد بين الأنبياء السابقين (عليهم السلام) الذي يذكر بين الأقوام بالتبجيل والاحترام. خذوا مثلا المسيحيين، فأنهم لا يحترمون موسى كما يحترمون إبراهيم، ويذكرون سيدنا عيسى بوجه خاص بالتبجيل لأنهم يعتبرونه من ذرية إبراهيم، وإلا فإنهم لا يتورعون عن اتهام الأنبياء الآخرين بالسرقة والخيانة (يوحنا 8:10). ولكنهم يحترمون إبراهيم كثيرا، وهذا هو معنى (إني جاعلك للناس إماما).. أي سنجعلك بحيث يقتدي الناس بأقوالك وأفعالك.

ثم انظروا إلى الحج الذي هو منسك بارز بين العبادات الإسلامية. هذا الحج أقامه إبراهيم، وعن طريق الحج يذكره العالم إلى اليوم. كذلك إنه يذكر عند تقديم الأضاحي. إننا من الأمة المحمدية.. ومع ذلك فإننا نذكر تضحية إبراهيم عند كل عيد للأضحية. ولكن ليس في الإسلام أي يوم معين لموسى وعيسى يُذَكِّرنا بفعلهما ويجدد ذكراهما، ولكن لإبراهيم ولذكراه يوم خاص عند المسلمين أيضًا.

يقول إخواننا الشيعة إن الله تعالى قال لإبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) في وقت كان إبراهيم قد صار نبيا، وهذا يدل على أن منصب الإمام أرفع من منصب النبي.

صحيح أن إبراهيم أعطي الإمامة بعد النبوة، ولكن السؤال هنا هو: هل الإمام من حيث معناه اللغوي يعني منصبا يتلقاه الإنسان بعد النبوة؟ إذا كانت الإمامة منصبا يتلقاه بعد النبوة وكانت أرفع من النبوة، فلا بد لنا من التسليم بأن بعض الأنبياء لا ضرورة لطاعتهم.. لأن اللغة تعلمنا أن الإمام هو المؤتم به والذي يطاع، وأن إبراهيم لم يكن من الضروري أن يطيعه الناس قبل أن ينال منصب الإمامة وإن كان نبيا. وهذا غير صحيح، لأن الله يقول (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (النساء: 65). وهذا يدل على أن الله قد فرض على الناس طاعة كل نبي بمجرد أن يصبح نبيا. وبناء على ذلك لم تبق الإمامة منصبا منفصلا عن النبوة، وإنما صارت الإمامة صفة لازمة للنبي.

ثم يعلمنا القرآن أن هناك نوعا من الإمامة ينالها الإنسان قبل النبوة أيضًا؛ يقول الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 60). فالله ذكر نفسَه أولا ثم الرسولَ ثم ذكر أولي الأمر الذين ليسوا من الرسل، مما يعني أن هناك أُناس ليسوا من الأنبياء والرسل ولكن طاعتهم ضرورية. فإذا كان الإمام هو المطاع، فمثل هذه الإمامة صارت أدنى درجة من النبوة أيضًا. أما الإمامة التي تستلزم النبوة فلا ينالها الإنسان إلا مع النبوة. يمكن أن يكون الإنسان إماما ولا يكون نبيا، ولكن لا يمكن أن يكون الشخص نبيا ورسولا ثم يحرَم الإمامةَ كما يظهر من قول الله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله).

والآن لا بد لنا من التسليم بأحد الأمرين: إما أن نقول بأن الله تعالى قال لإبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) قبل أن ينال النبوة، أو أنه قال له ذلك بعد النبوة. فإذا كان ذلك بعد النبوة فلا يمكن أن تكون الإمامة هنا بالمعنى العام، بل لا بد لنا من قبول معنى آخر. والواقع أن هذا الوعد تم بعد أن صار نبيا، لأن الله يقول (وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمهن) أي اختبره بكلمات فحقق ما أُمر به من الله، ونعرف من تاريخ الأنبياء أنهم لا يمتحنون إلا بعد نيل النبوة لا قبلها. وبناء على سنة الأنبياء هذه لا بد لنا من الإقرار أن هذا الإلهام والوعد كان بعد النبوة.

الآن نرى هل يمكن أن يراد بهذا القول معنى آخر. فلنتذكر أن كل كلمة تحمل معنيين: المعنى النسبي والمعنى العادي. والمعنى النسبي يتغير دائما بحسب النسبة، مثلا: عندما نقول (رئيس) فإنه عموما يعني شخصا له الفوقية على شخص أو أشخاص آخرين. ولكن هذا الرئيس قد يكون على قرية أو على مقاطعة أو على إقليم وغير ذلك.. فهذه الكلمة تدل على سيادة أشخاص صغيرين وكبيرين.. فلا يتعين لها معنى خاص إلا بمعرفة النسبة. فإذا قلنا إنه (رئيس الكناسين) أو(رئيس العمال) أو (رئيس الجيش) يتعين المعنى المراد، ونعرف أنه ينسب إلى طبقة معينة، فهذه النسبة تغير المعنى.

ويوجد مثال في القرآن الكريم في كلمة (صِدّيق)، ومعناها الرجل كثير الصلاح. والرجل كثير الصلاح قد يكون نبيا وقد يكون غير نبي. فإذا كانت كلمة (الصديق) بمعناها العام فدرجة هذا الصديق تكون أدنى من درجة نبي، ولكن عندما تطلق هذه الكلمة على نبي فإنها تشير إلى خصوصية معينة في هذا النبي. كما ورد في القرآن الكريم عن سيدنا إدريس (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقا نبيا) (مريم: 75). مع أن الله يقول في موضع آخر (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)(النساء: 70) وهنا وضع الله الصديقين دون النبوة. كذلك ورد عن إسماعيل (كان عند ربه مرضيا) (مريم: 56).. ولكن الله تعالى ذكر هذه الدرجة تحت النبوة في قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (الفجر: 28-29). فهناك وصف كل مؤمن ذي نفس مطمئنة ويموت في حالة الإيمان بأنه (مَرْضِيّ). فلو كان معنى قوله تعالى (كان عند ربه مرضيا) أن كل شخص يرضى الله عنه يكون أعلى من النبي.. فلا بد لنا من التسليم بأن كل مؤمن ذي نفس مطمئنة أرفع مكانة من النبي! كذلك لا بد لنا أن نقول أن كل شخص أطلق عليه اسم “صديق” يكون أسمى درجة من النبي!

كما يقول الله عن أمة المصطفى (قالت الأعراب آمنا. قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات: 15).. أي أن البدو يأتون النبي ويقولون له: قد آمنا. فيقول الله لرسوله: قل لهم: لم تؤمنوا، ولكن لكم أن تقولوا: أسلمنا، ولم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن. وكأن الإسلام درجة بدائية من الإيمان. ولكن الله يقول عن إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة: 132). هذا الأمر صدر إليه بعد النبوة، وعندما قال إبراهيم: أسلمت، أشاد الله بإسلامه كثيرا. مع أنه عندما قالت الأعراب (آمنا) قال الله لهؤلاء المدعين بالإيمان: لا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا، لأن الإيمان لم يدخل إلى الآن في قلوبكم. وكأن إسلامهم دون الإيمان.

ولو أخذنا بموقف الشيعة لكان المعنى بأن كل من يدعي بأنه مسلم يكون أرفع درجة من النبي، لأن الله قال لإبراهيم بعد أن نال النبوة: كن مسلما، فقال إني أسلمت. وكذلك لو كان معنى الإمامة بعد نيل النبوة.. أن الإمام أكبر من النبي لاضطررنا إلى اعتبار كل مسلم أعلى درجة من النبي – دعْك من الإمام، لأن إبراهيم كما نال الإمامة بعد النبوة كذلك صار مسلما بعد أن نال النبوة. وفي هذه الصورة يكون كل مسلم أرفع درجة من النبي.

إذن فليست الإمامة وحدها أرفع درجة من النبوة، وإنما الإمامة التي ينالها النبي بعد النبوة شأنها شأن الإسلام.. فلا يكون إسلام كل شخص أسمى درجة من النبوة، وإنما يكون ذلك الإسلام الذي يصل إليه النبي بعد نيل النبوة أسمى درجة من النبوة. فكل شيء يتحدد بدائرته المستقلة. هناك إسلام هو أدنى من الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد نيل النبوة أيضًا.

خذ مثلا كلمة (نقيب) التي تطلق على تلميذ يشرف على تلاميذ صفه. فهناك نقيب لصف ابتدائي، وهناك نقيب للصف الثانوي. هذا النقيب على الصف الأدنى لا يمكن أن يكون أعلى درجة من نقيب على الصف الثانوي.. وإن كان هو أيضًا نقيبا..بل إن علمه يكون دون علم طالب في الصف الثانوي. كذلك الحال بالنسبة للإمامة التي تكون بدون النبوة، فمثل هذه الإمامة لا تبلغ شأن تلك الإمامة التي ينالها الإنسان بعد نيله النبوة، فشتان بينهما. انظروا في المسلمين، فالذي يقودهم في الصلاة يسمى إماما، ثم إن الخليفة أيضًا يكون إماما، والنبي أيضًا يكون إماما، ثم علمنا القرآن دعاء يقول (واجعلنا للمتقين إماما) (الفرقان:75).. أي اجعل بعض المؤمنين الأتقياء مقتدين بي، واجعلني إماما لهم. فهل يعني ذلك أن من يدعو بهذا الدعاء يريد أن ينال درجة أرفع من درجة الأنبياء؟ لو كان هذا فلا بد لنا من التسليم أن هناك درجة أرفع من درجة الأنبياء يمكن أن ينالها الإنسان.. لأن الله علمنا هذا الدعاء؟ كلا، بل إن الشيعة أيضًا لا يتمسّكون بهذا القول.

فالحقيقة أن قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما) يعني أن يا إبراهيم، أنت نبي لقومك ولاشك، ولكنك ما دمت قد نجحت في كل هذه الاختبارات ولم يتزلزل قدمك، بل لبَّيْتَ أوامري بكل شجاعة، وأسكنت زوجتك وابنك في برية ليس فيها قطرة من الماء ولا قشة من الكلأ، وتقبلت الموت لنفسك ولأهلك، لذلك سوف أنعم عليك، وأجعل حدثك هذا نموذجا للعالم كله إلى يوم القيامة. كلما نلقِّن الناس الثبات في ميادين الابتلاء والاختيار.. سنقدم وقائع موقفك هذا مثالا ليتأسوا به.

ولنفس هذا السبب عندما قال الله تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) أردفه بقوله (إني جاعلك للناس إماما).. وإلا لو كانت الإمامة منصِبا منفصلا لما ذكره مع هذه الاختبارات ونجاح إبراهيم فيها. فقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما) بعد ذكر الابتلاءات ونجاح إبراهيم فيها إنما يشير إلى نفس الأمر، بأننا سوف نجعل حدث حياتك الجليل هذا نبراسا للسائرين في هذا السبيل، ونموذجا وقدوة للناس إلى يوم القيامة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك