نابغة من صلحاء العرب

نابغة من صلحاء العرب

نصير أحمد قمر

فارقنا رجل من صلحاء العرب.. أخونا الحبيب والعالم البحر الحبر الحاج محمد حلمي الشافعي -رحمه الله- العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى به ربنا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

كان يحب الخلافة والخليفة لدرجة العشق. قبل وفاته ببضع دقائق جاء من إسلام آباد (مركز الجماعة بتلفورد بمقاطعة سري) لرؤية بيته الجديد الذي أعد لأسرته بالقرب من مسجد الجماعة بلندن. وبالصدفة قابلته في هذا البيت وهو يتفقده.. يرى الغرف والأشياء فيه. فوجدته مسرورًا للغاية. قلت له: كيف صعدت هذا السلم وأنت مصاب بمرض القلب؟ فقال: أنا بخير، والحمد لله. لقد انتقلت الآن قريبًا من أمير المؤمنين، فماذا أريد بعد ذلك! فكان هو وزوجته وابنته فرحين مبتهجين. لم أر في وجهه مثل هذه الفرحة والسرور والحماس من قبل. كان يكرر: جئتُ الآن قريبًا من أمير المؤمنين. هذه هي الجنة. وأطل من نافذة الغرفة، وبالصدفة كان أمير المؤمنين آتيًا إلى المسجد للصلاة، فقال: انظر، سأتمتع برؤيته مرارًا من هنا. كان يتمنى دائمًا أن يحظى بقرب أمير المؤمنين ويفدي بنفسه لأجله. والعجب أنه لفظ أنفاسه الأخيرة في مكتبه. كان على وشك الدخول عليه لزيارته عندما أصيب بنوبة قلبية شديدة لحق بسببها بالرفيق الأعلى.

قبل أسبوع (يوم 6 فبراير) ذهبت أعوده في بيته بإسلام آباد، فرحب بي بحفاوة هاشًا باشًا كعادته. قال لي: حينما كنت في مصر لم أتمكن بسبب المرض أن أستلقي على السرير لأربعين يومًا، وإنما كنت آخذ وسادة في حضني وأحاول لأستريح عليها وأنام. ولكن انظر، حينما وصلتُ إلى مطار هيثرو -لندن- نسي رجال المطار إحضار كرسي خاص لي، فخرجت من المطار مشيًا. وعندما أتيت إلى البيت شعرت براحة كبيرة. قالت لي زوجتي: لقد أصابك التعب فاذهب واسترح في السرير. والعجيب أنني لأول مرة استطعت هنا الاستلقاء على السرير. وحينما رأت زوجتي هذا بادرت إلى الهاتف في فرحة وحماس وأخبرت أولادي في مصر بأن أباكم قد استلقى اليوم على السرير.

وقال لي: أولادي في مصر، ولكن بيتي هنا. إنني فرحان هنا. كنت أود العودة إلى هنا بأسرع ما يمكن، لأن قلبي كان لا يعرف الراحة هناك في مصر. كنت أريد زيارة أمير المؤمنين.

سألته: كيف تشعر الآن؟ قال: لقد بعث أمير المؤمنين طبيبًا أحمديًا إلي.. عندما وصل المرحوم إلى هنا أخذته الرقة فلم يستطع الكلام إلا بعد عدة ثوان، واستأنف حديثه قائلاً: وقام هذا الطبيب بفحصي. ثم أشار إلى ناحية من البيت وقال: انظر. لقد أرسل لي أمير المؤمنين أدوية أيضًا. قلت له: أمير المؤمنين يذكرك كثيرًا، وسأل عنك الأخ عبد المؤمن أثناء درسه لترجمة القرآن الكريم. والحق أن كل الجماعة العالمية تدعو لك بالشفاء.

ثم قال لي: ليتني أجد أول خطبة لأمير المؤمنين حول رمضان، لأترجمها وأنشرها في مجلة التقوى؟ قد تأخرت المجلة بسبب مرضي. فقلت له: لا تتعجل ولا تحمل هذا الحمل الثقيل، عندما تتحسن صحتك سوف تسير الأمور على ما يرام. قال: لا بأس، سوف أقوم بترجمة الخطبة في يوم واحد، وسوف تكتبها ابنتي تحية في يوم، وننشرها.

وقال: قبل دقائق كنت أشاهد برنامجًا لعالم مصري شهير الشيخ الشعراوي حول تفسير القرآن الكريم، وكنت أقول في نفسي: أنى لهؤلاء المساكين أن ينالوا معارف وعلوم القرآن. يتكلمون بأمور سطحية فقط. الحق أن علم القرآن هو عند سيدنا المسيح الموعود وخلفائه. إن هؤلاء المشائخ يتخبطون في الظلام. الحمد لله أنه قد أسكننا في عالم من النور عن طريق الأحمدية، ولولا الأحمدية لكنا في الظلمات تائهين. ثم قال: لو وجدنا دروس أمير المؤمنين القرآنية في صورة مرتبة لقُمتُ بترجمتها ونشرها. كان يود -إلى حد الجنون- أن يضع بأسرع ما يمكن كتب وأقوال سيدنا المهدي وخلفائه  في قالب عربي.

قال لي مرة: لقد أضعت معظم عمري في مشاغل الدنيا، ولا أدري كم بقي لي من العمر، لذلك أحب أن تصل هذه الكنوز الروحانية إلى يد العرب بأسرع وقت. ولقد عمل 18 إلى 20 ساعة يوميًا أثناء ترجمة التفسير الكبير وبعض خطب أمير المؤمنين. ومرارًا كان ينسى تناول الطعام، بل كان يقول: لا أريد إضاعة الوقت في الأكل بل أريد استغلاله بالعمل.

كان يعاملني بحب كبير، ويثق بي ثقة كبيرة. كم من مرة قال لي: إنني لا أعرف اللغة الأردية، فلو أعطيتني مقالات سيدنا المهدي وخلفائه المترجمة إلى الإنجليزية حتى أنقلها إلى العربية.

لو حكيت له حادثًا لسيدنا المهدي أو أصحابه سالت الدموع من عينيه، وقال: لا نعرف هذه الأشياء، هل يمكن العثور عليها بكتب إنجليزية لنا حتى أترجمها إلى العربية.

ولست وحدي الذي شمله حب الأستاذ، بل هناك الكثير والكثير الذين كانوا موردًا لحبه وعطفه. الحقيقة أنه كان إنسانًا رائعًا محبوبًا لدى الجميع. كل من قابله صار أسير حبه. كان التواضع واحترام نظام الجماعة، والطاعة الكاملة بدون أي شرط، والإخلاص والوفاء، وخدمة الدين في عسر ويسر خدمة مثالية، وحب الجميع هي الملامح البارزة من شخصيته، وكنا نغبطه بسببها ونقول: انظروا، كيف أن الله قد وهب سيدنا المهدي تلك اللآلئ الثمينة الغالية. كان برغم كبر سنه – يعمل بهمة ومثابرة دون كلل وملل بحيث كنا نشعر بالخجل الشديد، لأننا شبان ولا نعمل عشر ما يعمل.

لقد وهبه الله موهبة غير عادية للترجمة -كان يترجم من شريط مسجل بالترجمة الإنجليزية لخطب أمير المؤمنين، ومع ذلك كانت الترجمة صحيحة دقيقة لدرجة كان يخيل أنه قام بالترجمة من النص الأصلي بالأردية، لا تجد في الموضوع أي خلل ولا انقطاع، وذلك يرجع إلى حبه وفدائه لأمير المؤمنين وانسجامه الكامل معه عقلاً وروحًا، كما أشار أمير المؤمنين إلى ذلك مرارًا، من أنه كان يترجم كلامي غائصًا في عواطفي ومشاعري. كانت ترجمته لكلام أمير المؤمنين جالسًا بجانبه في برنامج “لقاء مع العرب” تُبرز حسنه الظاهري والباطني على السواء. وكان يدرك ويقر أن كل ذلك راجع إلى دعاء سيدنا أمير المؤمنين. فكان بكل جدارة وحق يفرح ويفتخر بهذا الشرف العظيم.

لقد تركت وفاته فراغًا كبيرًا بدون شك، ولكن الله هو مولانا.. نعم المولى ونعم الوكيل. إن الجماعات الحية تبقى ذكريات وأعمال أسلافهم حية، ولا يزال يتواجد بينهم من يستكملون مسيرتهم وأعمالهم العظيمة. وسوف يحدث هذا معنا أيضًا -إن شاء الله- إذا سيد منا خلا قام سيد..قؤول لما قال الكرام فعول.

بعد يوم من وفاة المرحوم كنت أقوم بتلاوة القرآن الكريم فإذا بي أتوقف عند الآية التالية وأنا على يقين أنها تنطبق تمامًا على المرحوم:

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (الحج: 59-60)

نبتهل إلى الله تعالى أن يشمل الفقيد بمغفرته، ويتغمده بواسع رحمته، ويهب له مبوأ صدق في جنات رضوانه، ويسد الفراغ الذي حصل برحيله، ويلهم أهله وأولاده وأحبته الصبر والسلوان، ويجعلهم ورثة لحسناته وشمائله. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك