لقاء مع المرحوم محمد حلمي الشافعي

لقاء مع المرحوم محمد حلمي الشافعي

لقاء مع المرحوم محمد حلمي الشافعي

تمَّ باستديو القناة الفضائيّة الإسلاميّة الأحمديّة، بلندن

لقد فُجعت أسرة تحرير “التقوى” بوفاة الحاج محمد حلمي الشافعي رئيس تحريرها يوم 23 رمضان 1416 هــــ الموافق 12 فبراير 1995م. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . ندعو الله أن يُسكنه فسيح جنانه ويرزق أهله وذويه الصبرَ والسُلوان.

ورأينا بهذه المناسبة أن ننشر استجوابًا صحفيًا للأستاذ المرحوم بُثَّ عبر القناة الفضائيّة الإسلاميّة الأحمديّة حيث بيّنَ فيه بالتفصيل الظروف التي صدَّق فيها حضرة الإمام المهدي والتحقَ بالجماعة الإسلامية الأحمدية. وإليك أيها القارئ العزيز نص هذا الاستجواب. (التحرير)

 

مقدِّما البرنامج الأستاذ عطاء المجيب راشد والأستاذ عبد المؤمن طاهر:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مشاهدينا الأعزاء، نُقدِّم لكم في هذه الحلقة ضيفًا كريمًا عزيزًا علينا الأستاذ محمد حلمي الشافعي. الأستاذ كان يعمل في حقل البترول وبعد التقاعد انصرف إلى خدمة الإسلام يترجم ويكتب باللغة العربية، ووقف حياته لخدمة الإسلام عن طريق الجماعة الإسلامية الأحمدية، وهو حاليًا يُقيم في إنجلترا مع أسرته ليُكرِّس كل وقته لخدمة الإسلام.

وأتجه أولاً بالسؤال: كيف عرفتَ الأحمديّة، كيف كانت البداية؟

الأُستاذ المرحوم الحاج محمد حلمي الشافعي:

بسم الله الرحمن الرحيم. أشكركما على هذه المقدِّمة الطيّبة وأودُّ أنا بدوري أولاً أن أُقدِّمكما إلى المشاهدين الكرام.

فمولانا الإمام عطاء المجيب راشد هو إمام مسجد لندن للجماعة الإسلامية الأحمدية في بريطانيا وهو إمام الجماعة من الناحية الدينيّة في هذه المنطقة، وهو ابنٌ لأستاذ كريم من علماء الأحمديّة الكبار مولانا أبو العطاء الجالندهري وهو ممن جاءوا إلى الديار العربيّة وكان لهم دورٌ كبير في نشر الدعوة الأحمديّة في هذه البلاد بمؤلّفاتهم ولقاءاتهم العظيمة.

والأستاذ عبد المؤمن طاهر من أولئك العلماء الذين وقفوا حياتهم لخدمة الإسلام ولا عمل له إلا الدعوة إلى الله وخدمة دين الحنفيّة.

أما بالنسبة لي فأنا تعرَّفت على الجماعة الإسلامية الأحمدية في حوالي عام 1965 أي تقريبًا منذ ثلاثين عامًا. كنت أعمل في أحد حقول البترول في شبه جزيرة سيناء. وكانت تحدث احتفالات دينيّة في شتّى المناسبات مثل المولد النبوي الشريف وحلول العام الهجري. فكان يحدث لقاء بيننا وبين الأخوة الذين يهتمّون بالأمور الدينيّة. وهناك تعرَّفتُ على أحد الإخوة المصريين الشبّان الذين كانوا يعملون في هذا المجال. وكان سلوكه غريبًا بعض الشيء. كان نشيطًا مؤدَّبًا متواضعًا لا يشترك في أمور اللهو والأشياء التي يشترك فيها الشباب في ذلك الوقت وخصوصًا أننا كنا في هذه الحقول نمكث لمدة عشرة أيام أو اثنتي عشر يومًا بعيدين عن أهلنا. فحاولت أن أسأل بعض الأخوة الذين يعرفونه، فقالوا إنّ هذا الشخص عجيب. لا نعرف طريقته في التفكير. يبدو أنّه من الشيعة أو من البهائيين أو من أصحاب مثل هذه العقائد الأخرى.

هذا أثار فضولي. كنتُ أُريد أن أعرف ما هي هذه العقيدة التي ينسبونها إلى هذا الشاب. فتقرَّبتُ إليه وتعرَّفتُ عليه وبدأنا نتكلّم في الأمور الدينيّة. ومن مناقشاتي معه وجدتُ أنّ تفكيره عميق وأنّه مُطَّلعٌ على أمورٍ كثيرة على عكس عادة الشباب في مثل هذا السنّ ولا في مثل هذا النوع من العمل. حقول البترول ليست فيها هذه الأنشطة الدينيّة بهذه الطريقة. فوجدتُ أنّه يعرف الكثير في أمور الدين. وبدأ يُثير معي بعض النقاط البسيطة أو التي تبدو بسيطة وينتظر مني الإجابة. فكنتُ أُجيب عليها بطلاقة لأنّي بدوري كنتُ أعرف الكثير من الأمور الدينيّة بفضل الله لأنّ أبي من علماء الأزهر وجدّي من علماء الأزهر، وأعمامي كلهم تعلّموا في الأزهر، وعندنا مكتبة كبيرة كلّها من الكتب الدينيّة. وأنا أيضًا نشأت في جماعةٍ دينيّة معروفة جماعة أنصار السُنّة المحمَّديّة وهي جماعة سلفيّة لها فروع في مصر وخارج مصر وهي جماعة معروفة، وكنت تلميذًا لمؤسِّسها الشيخ محمد حامد الفقهي وهو رجلٌ معروف في هذا المجال. فكنتُ أعرف كثيرًا وأطّلع كثيرًا على هذه النواحي.

فمثلاً كان يُثير قضية بسيطة مثل: ما الفرق بين نبي ورسول؟ هذا سؤال بسيط، ويظنُّ كل إنسان أنّه يستطيع الإجابة عليه ببساطة. فمثلاً كنتُ أقول له: النبي هو الشخص الذي يكلّمه الله، والرسول هو الشخص الذي يكلّمه الله ويكلّفه برسالة يؤدّيها إلى الناس. فكان يسأل: هل النبي لا يؤدّي رسالة إلى الناس؟ فكنتُ أقول وأفكّر، نعم هو يؤدّي رسالة إلى الناس. إذاً ما الفرق بين الاثنين؟ مثل هذه الأمور كنتُ أجد أنّي اعرف أجوبةً عليها ولكنها لم تكن سليمة أو غير دقيقة أو غير صحيحة لدرجة أنّه سألني: أخبرني باسم نبيّ ليس رسولاً أو أخبرني باسم رسول ليس نبيًّا. فكنتُ أبحث ولا أجد.

وأسأل بعض الشيوخ، فلا يعرفون شخصًا كان نبيًّا ولم يكن رسولاً أو كان رسولاً ولم يكن نبيًّا.

ثم تطرَّقنا بعد ذلك إلى أمور أعمق، فيما يتعلّق بكيفيّة إحياء الإسلام ومن الذي سوف يحيي الإسلام في المستقبل. ثم تحدَّثنا عن أين المسيح ابن مريم، ودخلنا في نقاشاتٍ طويلة اجتذبتني إلى درجة أنني كنتُ أقضي كل وقت فراغي معه. كنا ننتهي من العمل في الساعة الرابعة مساءً، وحتى الثانية عشرة أجلس معه نتباحث ونتناقش. ونظّمنا الإجازة الموسميّة بحيث كنا ننزل معًا إلى القاهرة لقضاء وقت الراحة في بيوتنا، فكنا ننزل معًا ونتقابل بعد رؤية أهلنا في بيته أو بيتي لنستمرّ في هذه المناقشات. وهذا ألجأني إلى الرجوع إلى كثير من الكتب للردِّ على تساؤلاته ومحاولة التغلّب عليه. ولم أجد في تفكيره أي نقطة من البهائيّة أو الشيعة أو الإسماعيليّة. لم أجد قط مثل هذه الصفات التي يصفه بها الناس. كان يُصلّي صلاةً طيّبة، وكان دائمًا يذكر الله، ولم أره يقوم بالأعمال السيئة التي كان يقوم بها الشباب في ذلك الوقت.

المهم كان يأتي بعض العلماء من الأزهر في هذه الاحتفالات وكنا نلتقي بهم لنناقشهم سويًا، وكنا ندخل هذه الأسئلة في نقاشنا وكنا نستمع إلى إجاباتهم. وللأسف كنا لا نجد إجابةً معقولة.

ولم أعرف إلى ذلك الحين ما هي الأحمدية ولم يتحدَّث هو معي عن الأحمديّة، فقط كان يُثير هذه التساؤلات إلى أن حلَّ عام 1967. وفي تلك السنة حدثت مناوشات بين مصر وإسرائيل وكانت هذه المناوشات في سيناء، فرأت الشركة انّ الجيش جاء إلى سيناء وهنالك حركاتٌ عسكريّة سوف تحدث، فطلبوا من كل العاملين الذين يمكن أن يستغنوا عنهم في هذه الفترة أن ينزلوا إلى القاهرة أو إلى بلادهم في إجازة. ولكن هذا الأخ وهو الأستاذ مصطفى ثابت كان مسؤولاً عن قسم النقل، وقسم النقل هذا لا يمكن الاستغناء عنه في أي وقت من الأوقات لأنّ كل العمليات تُنجز عن طريقه، وهكذا بقيَ مصطفى ثابت. هذا كان خيرًا لي لأنّ بقاءه اضطرّه أن يُسلِّمني كل ما عنده من كتب عن الجماعة الإسلامية الأحمدية. وضعها في علبة وطلب مني أن أُبقي هذه الكتب معي. إذا عُدتُ إلى مصر آخذها منك إلّا أن يشاء الله غير ذلك. كنا نتوقع عمليات وفعلاً حدث في العمليّات أنّ بعض الموظفين أُصيبوا وقُتلوا ولكن الحمد لله الذي نجَّاه.

قلت له: من حقّي ما دمتُ أخذتها أن أقرأها. قال: لا بأس، تقرأها ولكن تُحافظ عليها لأنّه لا يوجد في مصر إلا هذه النسخ، وأنا أُحافظ عليها لأنّه كنزٌ أخذته من والد زوجتي.

فأخذتُ هذه الكتب وكان عندي الوقت الكافي للقراءة وبدأت في قراءتها. فعرفتُ أنّه من أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية. واحتوت هذه الكتب على أشياء كثيرة لم أكن أعرفها ولم أسمع بها. كانت هنالك كتبٌ تتحدَّث عن الإمام المهدي والمسيح وكتب تتحدَّث عن تفسير القرآن وكتب لشخص يُسمَّى المسيح الموعود. أشياء كثيرة. أخذتُ أقراها بلهفة سطرًا سطرًا. أذكر أنَّ أحد الكتب كان يُسمَّى دعوة الأحمديّة وكان باللغة الإنجليزيّة وكتاب آخر بالإنجليزيّة كان يُسمَّى الأحمديّة.. أي الإسلام الحقيقي. كتابان كبيران قرأتهما. وكنتُ أقرا وأضع ورقة فيها تعليق على الأشياء التي أقرأها. ولا تزال هذه الأوراق موجودة لدي، وكلّما أتطلّعُ عليها أضحك لأنّ ما كتبتهُ هو نفس ما يكتبه الآن أو ما كتبه سابقًا أعداء الجماعة، ولكنني لم أطَّلع على ما كتبه أعداء الجماعة في ذلك الوقت ولكن هذه الأفكار تربّيتُ عليها ويعرفها الناس عمومًا ولذلك كنت أُردِّدها وأكتبها.

مرَّ الوقت وانتهت المعركة وغادر المصريون سيناء وعُدنا إلى القاهرة. وتوقف العمل في شركات البترول التي كانت تعمل في سيناء، وأخذنا نجلس معًا لفترةٍ من الوقت نتناقش ليس في موضوعات عامة وإنّما في موضوع الأحمديّة ذاته لأنني عرفت ما هي عقيدته وما هي أفكاره. وكان لنا أخ كريم رحمه الله كان يُعتبر أكبر الأحمديين سنًّا في مصر: الأستاذ محمد البسيوني. فكنا من الحين إلى الآخر لنذهب إليه لنؤدّي صلاة الجمعة عنده في بيته ونتناقش في هذه المسائل وهذه الأمور، وآخذها وأرجع إلى بيتي وأبحث عنها وأكتب رأيي في هذه الأمور.

عبد المؤمن طاهر:

وهل كنت ترجع إلى أبيك في هذه المسائل؟

الأُستاذ محمد حلمي الشافعي:

في الواقع لم أرجع إلى أبي إلا عندما أردتُ أن أعرف قوله فيما يتعلّق بالأحمديّة. وأخذتُ كتابًا يُسمَّى فلسفة تعاليم الإسلام أو فلسفة أصول تعاليم الإسلام. وهذا الكتاب مترجم إلى اللغة العربيّة وهو من كتب مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية. فقرأته فوجدته كتابًا فلسفيًّا يتحدَّث في الحكمة وراء هذه الأمور التي يطلبها منا الإسلام بطريقة فلسفيّة مرتّبة منظّمة على أُسس أسئلةٍ خمسة، موضوعات خمسة يريد أن يوفي كل نقطة منها بالترتيب. قرأته فأعجبني.

فأخذته وقرأته على أبي. كان يستمع ويقول: ما شاء الله، هذا رجلٌ عالم. أنا لم أُخبره من هذا الكاتب، وكنتُ أقرأ عليه صفحةً أخرى فيقول: ما شاء الله.. ويقول: قلت لك أنّه هنالك علماء في الهند. الهند فيها علماء كبار ومؤلّفات لهؤلاء العلماء. انظُرْ ماذا يقول. استَمَعَ إليَّ وهو سعيد جدًا بما يسمع وأُعجب بهذه الأفكار. والدي رحمه الله كان من أنصار السُنّة المحمَّديّة، وأنصار السنة هؤلاء لا يحبُّون الصوفيّة، والأفكار التي يُقدِّمها المسيح الموعود فيها لمسة فلسفيّة صوفيّة. هذا شيء كان غريبًا عليه إذ ليس فيه الأخطاء والإسفاف والأشياء التي يقولها الصوفيّة. ولكن هذه صوفيّة بمعاني رقيقة جميلة تتعلّق ببيان حكمة الله في هذه الأوامر الإسلاميّة وكافة التعاليم. فأُعجب بها.

فقلت له: هذا الرجل يا أبي تراه رجلاً صالحًا؟ قال: من أولياء الله الصالحين. قلت له: هذا الرجل يدَّعي أنّه الإمام المهدي والمسيح الموعود. قال: لا، هذا لا يمكن. قلت: إذًا يكون كذابًا. قال: لا أقول كذابًا. لكن هذا شيء غير معقول، كيف يكون المسيح والإمام المهدي؟

طبعًا، والدي شيخ، وما درسه في الأزهر هو ما درسه كل أزهري ابتداءً من شيخ الأزهر إلى أصغر عالم أو طالب في الأزهر. الكتب واحدة والدراسة واحدة منذ عشرات إن لم يكن مئات السنين. فأفكارهم واحدة. ربما يكون أحدهم أبلغ من الآخر في الحديث. ربما يكون لأحدهم طريقة مشوِّقة في عرض الموضوعات لكن كلهم درسوا نفس الشيء وعندهم نفس الأفكار. فقلت له: لا يمكن أن يكون الإنسان الذي يكتب هذه الأمور كاذبًا؟!

أنا لم أكن أحمديًا في ذلك الوقت.. ولبستُ هذا الرداء حتى أسمع منه ما أُريد ويساعدني على تفنيد هذه الأشياء التي يذكرها الأحمديون لأنني تناقشت كثيرًا ووصلت إلى آخر مدى ولم أستطع أن أتغلّب على هذه الأشياء. الحقيقة واضحة، ماذا أفعل ولكن لا أستطيع أن أتغيّر. هذا أخذ شهورًا طويلة.

فقال: يا ابني، أنا رجلٌ بلغتُ من السنّ سبعين عامًا، ودرستُ طول عمري هذه الأمور وأخطب بها على المنابر، ولا أستطيع أن أتغيّر بهذه الطريقة.

الواقع أنني عذرته لأنني أعرف أنّه ليس من السهل على الإنسان أن يتغيّر وخصوصًا مرَّ عليَّ أكثر من سنة ونصف وأنا أتناقش في هذه الأمور ولم يتحرَّك شيء من رأسي. كنتُ أقرأ وأنا أتعمَّد أن أبحث عن الخطأ. لا أقرأ لأدرس. لم يكن قلبي محايدًا، لم يكن عقلي محايدًا. كنتُ أقرأ بحثًا عن الخطأ. والإنسان عندما يقرأ بحثاً عن الخطأ يستطيع أن يُخرجِ من المصحف أخطاء كثيرة بزعمه لأنّها لا تتفق مع تفكيره. لكن إذا قرأ الإنسان بقلبٍ مفتوح وذهنٍ مفتوح ويريد أن يبحث عن الحقيقة وإن كانت لا تتفق مع ما يعرفه أو درج عليه وتربَّى عليه، ثم يُقارن ويحكم فإنه يستطيع أن يصل إلى الحقيقة. فأنا كنت في ذلك الوقت أقرأ بحثًا عن الأخطاء، لا بحثًا عن الحقيقة. ووصلتُ مع والدي أيضًا إلى أنّه أيضًا لم يجد شيئًا ضد هذا الكلام المكتوب في هذا الكتاب ولا في هذه الفكرة، إلا أنّه لم يسمع بهذا من قبل وأنّه تربَّى وتعلّم هكذا وكُتُبُ العلماء تقول بهذا.

أخذتُ هذا الكتاب نفسه وذهبتُ به إلى أحد الشيوخ الآخرين. هذا الشيخ الآخر كان عالِماً من أصحاب العالميّة وكان يعمل مدرِّساً للغة العربيّة في المدراس الثانويّة مثل أبي، وكان إمامًا لمسجد قريب من بيتنا مثل أبي أيضًا، وكان يعرفني لأنّي عندما كنت أذهب لأُصلّي معه في المسجد أحيانًا أُحييه وأحيانًا نتناقش في مسائل بسيطة. فقلت له: أُريد أن ألقاكَ في بيتك. فقال: تفضل. فذهبتُ إلى بيته وأخذتُ معي هذا الكتاب. ثم قلت له: يا مولانا، هذا الكتاب وقع في يدي من طائفة من المسلمين ولكنهم يقولون أشياء غريبة. وهذا الكتاب أحد كتبهم، وأُريد أن أقرأ عليك بعض ما فيه. قرأت صفحة، اثنتين، ثلاثًا ثم قال: كفى، لماذا هذه الأمور. مدَّ يده على رفٍّ وأحضر كتابًا من كتب التفسير. قال: هؤلاء العلماء كتبوا وقضوا عمرهم في تفسير القرآن وفي شرح الأحاديث وفي بيان كل هذه الأمور. ما الداعي لأن نسمع هذا الكلام؟

الواقع إنني فُوجِئتُ. هو لا يجد في نفسه صبرًا ليستمع. لو قرأتُ عليه نصف ساعة ربما قرأتُ عليه نصف الكتاب. فقلت له: يا مولانا أنا أعرف ماذا تقول. أعرف أنّ كتب التُراث هذه كتبها علماء أفاضل قد قَضوا حياتهم والسنين الطوال في بحث هذه الأمور. جزاهم الله، فعلوا كل ما في استطاعتهم مخلصين. لكن أنا أُريد رأيك في هذا الكتاب. إذا كان هذا الكتاب فيه شيء طيب، تخبرني، وإذا كان فيه شيء خارج عن تعاليم الإسلام أو مخالف لها، أخبرني، لأنني أُريد أن أعرف. أريد أن أردَّ على هذا. وأنت رجلٌ عالم تستطيع أن تُفيدني في هذه الأمور. قال: لا، هذه أشياء، فهمت أنّ الرجل لا يجد شيئًا ولا يعرف شيئًا.

الواقع تستطيع أن تعتبره إنسانًا حفظ كثيرًا من آيات القرآن وكثيرًا من الأحاديث يُردِّدها في خطبه وكأنه جهاز للتسجيل ولا يستطيع أن يُناقش في هذه الأمور. هذا في الحقيقة أثَّر فيَّ بعض الشيء بل أقول أثَّر فيَّ كثيرًا. فقلت: إذا كان أبي من العلماء وهذا الرجل أيضًا لا يستطيعون أن يجدوا فيه شيئًا مُعيبًا. إذن لاشكَّ أنّ هذه الأشياء ليس فيها ما هو مُعيب. فبدأتْ نظرتي للقراءة تختلف. أعني تستطيع أن تقول أنَّ المنظار الذي أنظر به تغيَّر. أصبح المنظار الآن أن أقرأ وأفهم حقيقة ما يُقال. واستمررت في قراءة الكتب وأخصُّ بالذكر هذين الكتابين: الدعوة إلى الأحمديّة.. أي الإسلام الصحيح وفلسفة أصول الإسلام. وجدتُ فيها مفاهيم رائعة. صحيح هي تعرض عقيدة الأحمديّة ولكنها تعرض عقيدة الإسلام وتعرض جمال الإسلام وتردُّ على أمور. ما كنت أستطيع بقراءة ما هو موجود في مكاتبنا العادية أن أتعرَّف على هذه الأمور.

قلتُ: لنَدَعْ الآن ما يكتبه هذا الإمام المهدي أو المسيح الموعود عن جماعته أو عن نفسه. كتاب الله هو القرآن ماذا يفعلون بهذا؟ ما هي التعاليم، المفاهيم التي يفهمونها عن هذا القرآن. كان معي كتاب لتفسير القرآن في خمسة أجزاء، وهو تفسير باللغة الإنجليزيّة. بدأتُ أقرأ مقدمة هذا التفسير، وبما أنني كنت متشوِّقًا أسرعتُ بقراءة تفسير القرآن نفسه. قرأت تفسير سورة الفاتحة ووجدتُ أنَّ سورة الفاتحة هذه التي نُردِّدها سبع عشرة مرة وربما ثلاثين كأنّها لعبة، أخرج منها المفسِّرُ الزهور والورود والرياحين الموجودة في هذه السورة. وجدتُ أنّ سورة الفاتحة التي أعرفها ليست هذه. هذه هي سورة فاتحة حقيقيّة، هذا هو الكلام الذي يقوله الله وهذا الكلام الذي أتعبَّد به لله.

ثم دخلتُ في بقيّة التفسير. “الم” هذه أول سورة البقرة، كنت أعرف ما يقولون: (الله أعرف بمراده) أو يقولون هي رموز لكذا. قرأتُ ما كُتبَ عن “الم” فوجدتُ أنني استرحت.

ومن عيوبي في ذلك الوقت أنني لم أقرأ باستمرار ولكنني قفزتُ إلى النقاط التي كنتُ أُريد أن أفهمها. ربّما كان يُخيَّل إليَّ أنني أفهم كل الباقي. لكن كنت أُريد أن أرى ماذا يرى هؤلاء الأحمديون في هذه النقاط. ذهبتُ إلى موضوع الملائكة وإبليس وقصة آدم. فعرض الموضوع بشكل أتقبَّله. وحتى أوضح معنى كلمةِ “أتقبَّله” أقول لك: إنني من خريجي كليّة العلوم، أعني دراستي علميّة والرياضة والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا، وهذه الأمور تحتاج إلى تفكير معيّن وطريقة معيّنة تجعل الإنسان لا يقبل أي شيء بمجرّد أنَّ إنسانًا قاله أو كتبه، لا بدَّ من التفكير العقلي العلمي الذي يوصل إلى هذه النقطة. صحيح أنَّ معظم الناس يظنُّون أنّ الأمور الروحانيّة لا تدخل تحت نطاق التفكير العلمي، لكن هذا التفسير بيَّن لي أنّ الأمور الروحانيّة أيضًا يمكن أن تُفْهَم بنفس هذا المعيار طبقًا للأساليب العلميّة. فوجدتُ أنّ شرحه في هذا التفسير لهذه الأمور كان شرحًا يرتاح إليه عقلي. هناك أشياء في الواقع كنتُ أؤمن بها، لكن أؤمن بها إيمانًا أعمى بدون أن أُفكّر فيها طويلاً. لأنّ التفكير فيها طويلاً لن يؤدّي إلى شيء حقيقي أستريحُ إليه فهل سأترك الإسلام، هل أُغادر عقيدتي. فكنتُ أؤمن بهذه الأشياء ولا أتحدَّث فيها مع نفسي وأفكّر فيها طويلاً. لكن عندما بحثتُ في هذه الأمور، كموضوع الجنّ مثلاً، هذا موضوع عجيب وخصوصًا أنني مررتُ بتجارب مع أناس في موضوع الجنّ، ولم أكن أقبل بهذه الأفكار أبدًا، فإذا بتفسير القرآن الكريم في آيات الجنّ وهي آياتٌ وردت في القرآن في كثير من المواضع وجدتُ أنّ المفسّر بيَّنها في كل مرة بطريقة تتفق مع الموضوع الذي تتناوله السورة وفي نفس الوقت يرضي به عقلي وأطمئن إليه وأستطيع أن أنام وأنا مستريح على هذه الفكرة وعلى هذا الرأي. مررتُ كثيرًا بهذه الأشياء.

ثم هناك الأقسام الكثيرة في السور المكيّة مثل: والعاديات ضبحا فالمورياتِ قدحا. ما هو المراد بهذه الأشياء. أعرف أنّهم في كتب التفسير يفسِّرونها ولكنني لا أستريح. ما المراد بها ولماذا تتكرَّر هكذا ونتعبَّد بها. ما وجه التعبُّد فيها ولماذا؟ وجدتُ الإجابة على كل هذه الأسئلة.

وجدتُ نفسي أتشبّعُ بالعقيدة الأحمديّة شيئًا فشيئًا إلى أن انشرح صدري ولم أجد أيَّ مفرّ. فقد فهمتُ كل شيء كان يدور في خاطري. الآن فهمتُ الإسلام وفهمت القرآن على طريق صحيح في الإسلام. الإسلام ظهر لي جميلاً. أجمل مما كنت أعرف. القرآن ظهر لي أجمل مما كنت أفهم. لم يُفهِّمني أحدٌ هذا سوى هذه الكتب التي قرأتها عن الأحمديّة.

أخذتُ الأستاذ مصطفى لنزور الأستاذ محمد البسيوني وقلت له: الواقع أنني اقتنعت تمامًا بهذه الفكرة وأنّ هذا الإمام الذي صنّف هذه الكتب وخلفاءه الذين كتبوا كل هذه الأشياء من علمه ونهلوا من منهله، صادقون، ويجب أن أكون منكم.

أخبرني بنظام الجماعة وقال: إنّ هذا الإمام أُقيمَ نظام الخلافة بعد وفاته سنة 1908، وكان هناك الخليفة الأول ثم الخليفة الثاني ثم الخليفة الثالث. وفي ذلك الوقت كان الخليفة الثاني قد توفي عام (1965). وكان زميلنا هذا يعتقد أنّ الخليفة الثاني لا يزال حيًّا يُرزق وهو خليفة الوقت في ذلك الزمن، ولكن بعد ذلك عرف أنَّ الخليفة الثالث رحمه الله أصبح خليفة الجماعة في عام 1965. فأخبرني أنّ لنا نظام الخلافة واسم الخليفة الحالي كذا وهو مقيم في ربوة، باكستان. وبدأ يشرح لي نظام الجماعة وفكرة الخلافة وهذه الأمور وأنّ عليك بالبيعة.

صحيح أنني قبلت الجماعة في ذلك الوقت لكن لم أكن أعرف هذه التفاصيل لأنّ نقاشنا وجدالنا كان مُنصبًّا على العقيدة والفكرة نفسها. فسألته: كيف أنضم؟ قال: يجب عليك أن تُبايع. على ماذا أُبايع وأُبايع من؟ قال: تُبايع مؤسِّس الجماعة أو خليفته الموجود الآن. وأعطوني ورقة فيها الشروط التي يجب أن أعرفها وتتوفر فيَّ وأوافق عليها حتى أدخل ضمن هذه الجماعة. فقرأتها فوجدتها عشرة شروط. ليس هنالك شرط إلا وهو أعظم وأجمل من أخيه. كل الشروط تريد أن تجعل مني مسلمًا بل مسلمًا مؤمنًا. ليس مسلمًا مؤمنًا فقط بل نموذجيًا كاملاً. وإلى الآن أحاول بقدر استطاعتي أن أُحقّق هذه الشروط العشرة، وأعتقد لو امتدَّ بي العمر إلى ألف عام مثل سيدنا نوح فأكون لا أزال في طريقي لتحقيق هذه الشروط، لأنّ الشروط تُطالب الإنسان أن يكون مسلمًا كاملاً كما يريد الله وكما يريد النبي ليس فيها شيء يُسيء إلى الإسلام. بالعكس كل ما فيها يرفع من شأن الإسلام. ليس فيها شيء يشوِّه صورة الله جلّ وعلا في ذهن الإنسان أو صورة النبيّ أو صورة القرآن أبدًا. كلها أشياء تجعل هذه الإيمانيّات.. الله وملائكته وكتبه ورسله تجعلها في أعلى وأجمل صورة في نظر الإنسان. فماذا أفعل. وقَّعتُ وبايعت.

عبد المؤمن طاهر:

كم استغرقت هذه البداية الطويلة من السنين؟

الأُستاذ محمد حلمي الشافعي:

لا أحبُّ أن أذكر كم استغرقت لأنّي لستُ مثالاً جيدًا في هذا الموضوع. لأنّي لو لم أُضيّع الشهور الطويلة وأنا ألبس هذا المنظار للبحث عن الأخطاء ما استغرقتُ كل هذا الوقت. أعني لو كنت فعلاً استخدمتُ عقلي العلمي وطريقتي العلميّة وأنا أبحثُ عن الشيء وأنا مُحايد ولستُ متعصِّبًا إلى هذا الاتجاه لوصلت إلى هذه النتائج وحدي وبسرعة. كنت أناقش وأُجادل لأُخرج الأخطاء. الحقيقة أنني كنت أعتقد أنّني من جماعة أنصار السُنّة المحمَّديّة وهي جماعة سلفيّة جاءت لتحذير المسلمين من البدع والخرافات، فمن هو أفضل مني. أنا إنسان من جماعة تُحرّر المسلمين من البدع والخرافات، من الذي سيُعلّمنا الدين بعد ذلك؟ فكنت مُتحيّزًا. كنت أرى أنَّ الفئات الآخرة على خطأ ونحن الجماعة المـُثلى ليس بعدها جماعة. كان صعبًا عليَّ أن أدخل فيها. فمكثتُ سنتين كاملتين. وأستغفر الله من هذا. ربما كان لهذا فائدة وخير لأنني اقتنعتُ بقوة ولم أقتنع بسرعة كإنسان يقرأ شيئًا ويتقبّله هكذا. فالإنسان عندما يقوم بمقاومة وبمصارعة يكون إيمانه شديدًا جدًا. وليس هذا دليلاً على أنّ الذي يؤمن بسرعة يكون إيمانه ضعيفًا، لكن كنت من هذا النوع الذي لا يؤمن بسهولة. ولكن الحمد لله كل يوم يزداد إيماني. وهذه ظاهرة اطمأنّت نفسي بها لأنّه لو حدث شيءٌ قلّل من إيماني بعقيدة الجماعة لاستشعرت بالخطر. لكن ما دام كل يوم أجد أمورًا تقرِّبني إلى الله أكثر وتجعلني أتمسَّك أكثر بهذه العقيدة فهذا شيءٌ ولا شك مُطَمْئِنٌ.

أُريد أن أُخبر حضرتك إنني عندما بايعتُ كنت قد اقتنعتُ نظريًا كإنسان يدرس نظرية وتقدَّم له الأدلة المكتوبة ويبحثها فيجد أنّها أدلة صحيحة فيؤمن بها. وهذا استغرق مني سنتين. لكن هذا كله ليس الإسلام وهذا كله ليس العقيدة. ليس عليك أن تحفظ أشياء أو يكون عندك دليل على أنّ الله موجود أو محمدًا نبيٌ صادق أو أنّ أوامر الإسلام أوامر حكيمة صحيحة. العلم بهذه الأمور ليس هو الإسلام، إنّما الإسلام أن ترى هذا الكلام مُطبَّقًا واقعًا في مكان ما وأن تشترك مع هؤلاء في هذا الأمر. وهذا لم يتيسَّر إلا بعد أن خرجت من مصر.

في عام 67 أُغلقت حقول البترول في سيناء واضطّر العاملون للعمل في أماكن أخرى خارج البلاد. منهم من ذهب إلى الجزائر. بعضهم إلى السعودية وبعضهم إلى دول الخليج المختلفة. أنا ذهبتُ أولاً إلى السودان. وهناك رأيتُ كيف أنَّ المسلمون لا يعرفون من الإسلام إلا القليل. يعبدون الله ولكن هذه العبادة لا يمكن أن تعمل على ترقيتهم وتقريبهم من الله ورفع شأنهم وجمع كلمتهم. وبعد ذلك خرجتُ إلى الخليج، ومن الخليج استطعتُ الذهاب لأول مرة إلى باكستان في الاجتماع السنوي للجماعة في ربوة. وكان الداعي إلى هذه الرحلة الأخ مصطفى ثابت وأخ آخر. اتفقنا أن نذهب أولاً إلى الهند وهناك نذهب إلى كشمير ثم نعود من كشمير إلى بنجاب حيث ربوة لنحضر هذا الاحتفال السنوي. كنتُ سمعتُ عن هذا الاجتماع السنوي لكن لم أتصوَّر ولم أكن أفهم هذا الموضوع. المهم حدَّدنا موعد اللقاء وذهبنا إلى الهند، وأخذنا الرحلة إلى كشمير، وهناك زرنا قبر المسيح ابن مريم، ومكثنا بضعة أيام، ثم عدنا إلى باكستان وذهبنا إلى هذا الاجتماع. وكان ذلك هو أول اجتماع لي بالجماعة الإسلامية الأحمدية العالميّة. ليس حلمي الشافعي فقط وصديقاه أو هؤلاء الأعداد القليلة، فمعلوماتنا لم تكن كثيرة وليس عندنا اتصال متين بالجماعة. لم يكن واسعًا وقويًا بحيث يأتي إلينا فيه الغذاء الروحي. تعرف الظروف في بلاد العام العربي ليست بمثل هذه السهولة في البلاد الحرّة.

المهم أنني ذهبتُ إلى هناك ورأيتُ الاجتماع وكان يحضره عشرات الآلاف. أذكر أنّ ما يقارب من ربع مليون حوالي مائتان وخمسة وعشرين ألف شخص حضروا هذا الاجتماع. وهناك لأول مرة تشرَّفتُ بلقاء الخليفة الثالث، ورأيتُ ما معنى أن يكون هناك خليفة. ورأيتُ التواضع والمحبة والتقوى. وهناك تشرّفتُ: بعناقه مرتين: عانقني في لقائي الأول وفي لقائي عند التوديع قبل مغادرتي لهذه البلدة.

وهناك رأيتُ الجماعة. وجدتُ المسلمين الحقيقيين الذين جاءوا لعبادة الله. جاءوا لإمامهم.. الاستماع لذكر الله، لأخذ المدد الروحاني والتوجيه الروحاني للدعوة إلى الله في كل أنحاء العالم. كنا مع بعض. ليس معنا أحدٌ غريب لنجري عليه تمثيليّة أو نبدو أمامه في صورةٍ مختلفة. المجموعة مع بعض. لو كان هناك أكاذيب نراها سويًا. لو كان هناك أباطيل نراها سويًا. كنت أُحسُّ وكأنني في أيام الصحابة وفي وجود النبي . أذكر أنّ النبي قال لبعض الصحابة عندما سألوه: إننا عندما نكون بعيدين عنك نكون في حالةٍ ليس كما نكون معك. قال: لو كنتم مثلما أنتم معي طوال الوقت لصافحتكم الملائكة. هذا الجو الروحاني شعرت به هناك. كنا نقضي الليل في التهجُّد والنهار في الاستماع إلى الخُطب الدينيّة وذكر الله وفي التعارف والتوادّ والتراحم. يمكن أن نقول أنّ الإنسان خرج من هذه الرحلة بحمّام روحي نظفّه وطهَّره وجعله أقرب إلى الله وأعطاه فكرة عن المجتمع الإسلامي. صحيح هو مجتمع فقير وليس هنالك بهرجة ولا مقاعد مذهَّبة كما نراه في الاجتماعات في بلاد الخليج وغيرها من البلاد. الناس يجلسون على الأرض أو على بعض القشّ. لا تستطيع أن تميّز أحدًا بأنّه أغنى من الآخر.. الجميع جاءوا لكي يجتمعوا بإمامهم لذكر الله ولهذه الأمور الروحيّة. هذه هي حقيقة الإسلام. كنا نأكل طعامًا بسيطًا ولكنه كان أحب إلينا من هذا الطعام الفخم الذي يُقدّم في أماكن واحتفالات أخرى.

على أيّة حال كانت هذه أول أتعرَّف على الجماعة الإسلامية الأحمدية خارج بلدي مصر. ولحسن الحظ أنّ هذا كان أيضًا خيرًا لي لأنّي لم أُقابل أحدًا من الأحمديين غير المصريين اللهم إلا مرّة واحدة. مرَّ بمصر أحد الدُعاة الأحمديين وهو في طريقه إلى بلد إفريقي وصلّى بنا الجمعة، واستمعتُ إليه وهو يقرأ القرآن، ولا أذكر أنني سمعتُ قرآنًا يُتلى بمثل هذا الجمال وبهذا التأثير. أذكر في ذلك اليوم أنني بكيت وهو يقرأ القرآن. واستحييتُ فمسحتُ دموعي وإذا بي أنظر إلى يميني وإلى يساري فوجدتُ أنّ كل الإخوة المصلّين كانوا يبكون. فكأنّ هذا الأثر ليس فيّ شخصيًا وإنّما كان أثرًا في كل إنسان في قلبه شيء من التقوى أو شيء من مخافة الله. وهناك في ربوة التقيت ببعض الأخوة الذين رأوني في الزيّ العربي، فجاءوا إليّ يسلِّمون عليّ. وسألوني من أين أنت؟ فأجبتهم. قالوا: نحن نعمل أيضًا في نفس البلد. وسألوني: لماذا لا نراك هنالك؟ قلت: لا أعرف كيف أراكم. فأخذوا مني رقم الهاتف وعنواني، وبدوري أخذتُ منهم ذلك. والتقينا بعد ذلك في هذا البلد الذي كنت أعمل فيه. فكانت عندي فرصة أخرى ان أرى هؤلاء الناس في حياتهم العاديّة.. في بيوتهم وفي أعمالهم وفي علاقاتهم.

الواقع ما رأيت إلا خيرًا. وجدتُ أنَّ هؤلاء القوم فعلاً صورة مشرِّفة للمسلم. كيف يكونون صورة مشرِّفة للمسلم؟ أولاً: الأدب، الأخلاق. إذا جلست معهم لن تشترك إلّا في خير. لن تسمع حديثًا يبعدك عن الله، لن تشترك في أمرٍ يغضب الله. الجلوس كله في حبّ الله وفي الخير الذي ينفع الإنسان. كلهم مشهودٌ لهم في عملهم بالأمانة والنزاهة والنشاط وإجادة العمل. كلهم بهذه الطريقة وإلّا ما مكثوا ووصلوا إلى الأوضاع التي هم عليها. هناك الكثيرون من أبناء بلدهم ومن البلاد الأخرى كانوا يعملون معنا، ولكن لماذا هؤلاء الأشخاص كانوا متميّزين بهذه الصفات. لابدَّ أن تعاليم الأحمدية التي يُطبِّقونها في أنفسهم هي التي رفعتهم إلى هذا. أقول: إنني بمعاشرة هؤلاء الناس والحياة معهم -وكانوا يأتون دائمًا إلى بيتي وأذهب أنا إلى بيوتهم ونشترك في كل المناسبات- عرفتُ طبيعة الجماعة. هذه هي الجماعة التي نسعى على تكوينها في كل أنحاء العالَم. لا أقول أنّهم وصلوا إلى الكمال. الكمال لله ولكن لاشكَّ أنهم كانوا متميّزين بالمقارنة بسائر المسلمين. لا أقول بغير المسلمين. فبالنسبة للمسلمين كانوا متميّزين جدًا في أخلاقيّاتهم وفي حرصهم على عبادة الله.. العبادة الصحيحة، وفي علاقات الأخوّة الصادقة والتعاون في كلّ صغيرةٍ وكبيرة والالتزام بتعليمات الجماعة وطاعة إمام الجماعة والحرص عليه.

أذكر انّه في ذلك الوقت كان الخليفة الثالث رحمه الله مريضًا، فكنت أراهم يجتمعون ويجمعون التبرُّعات للصدقة والدُعاء عسى الله يشفيه ويُعيده إليهم سالمـًا. لأول مرة أرى أُناسًا يبكون عندما عرفوا أنّ إمامهم مريض، وكانوا يدعون له بحرارة وبشدّة. هذه العلاقة لا يجدها الإنسان حتى في أقربائه. ربما أبكي لأبي لأخي أو لابني. لكن هذا إمام مثل رئيس دولة. بالعكس كان الإمام أحبَّ إليهم من أولادهم وأهليهم. هذه هي الرابطة الإسلاميّة الصحيحة لأنّ إمام الجماعة يجب أن تنظر إليه هذه النظرة التي فيها المحبة والاحترام، فتجعل الجماعة كأنّها كتلة من الحديد المتراصّة التي لا يمكن أن تنفصل. لو كانت علاقة هؤلاء الناس بإمامهم علاقة ضعيفة كعلاقة الناس برؤسائهم أو ملوكهم ما أمكن لهذه الجماعة أن تنجح وأن تقف في هذه الاضطهادات التي تعرَّضت لها. ولكن التحامهم القوي بإمام الجماعة جعلهم لا يتأثّرون بهذه الأمور. كلمة طيبة منه كانت تمسح دموعهم وتخفّف عنهم. كلمة تشجيع منه كانت تجعلهم يقاومون ويناضلون ويمضون في ما هم عليه دون أي تأثُّر.

أقول: عندما رأيت هذه الجماعة في الخارج عرفت أنّها جماعة صادقة وأنّ التعاليم التي اقتنعت بها تُطبَّق أمامي في واقعهم.

ثم أنعمَ الله عليَّ بما فوق ذلك عندما جئت إلى بريطانيا وقابلت الخليفة الحالي أطال الله عمره، قابلته وكلّفني ببعض الأعمال. فكانت عندي الفرصة أن أُقابله وأجلس معه. فعرفتُ ما هي الأحمديّة حقيقيةً، وتصوَّرتُ المجتمع الإسلامي في عهد النبي . لماذا كان هذا هو المجتمع المترابط كما يصف النبي أنّ المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد. رأيتُ الجسد الواحد ورأيتُ المسلمين في توادّهم وتراحمهم. ومع أنّي من بلد إسلامي ومن أسرة إسلاميّة وطفتُ بلاد الإسلام من شرقها إلى غربها وعملت في البلاد الإسلاميّة، إلّا إنّي ما رأيت هذا النوع من التوادّ والتراحم والترابط والعمل على الخير ووجود إمام وطاعة هذا الإمام بهذا المستوى. لذلك أقول لك إنّي فعلاً تعرَّفت على الأحمديّة. والحمد لله، كل يوم أدخل جديدًا في الأحمديّة لأنّي أجدُ شيئًا جديدًا يُقرّبني من الأحمديّة. لم تصبح عادة عندي. إنّي كل يوم أكتسب مزيدًا من الإيمان وأخطو خطوةً إلى الأمام في الأحمديّة، هذا تجدُّدٌ أحمدُ الله عليه.

عبد المؤمن طاهر:

بصدد ذكر الإمام الحالي، هل قابلته قبل أن يُنصّبه الله تعالى لمنصب الخلافة؟ وماذا كان رأيك فيه قبل وبعد تشرُّفه بهذا المنصب؟

الأُستاذ محمد حلمي الشافعي:

أذكر أنني ذهبت إلى ربوة عدة مرات في الاجتماعات السنويّة في زمن الخليفة الثالث رحمه الله. وفي إحدى المرات كنت مع بعض إخواننا العرب، أعتقد كنا خمسة عشر أو عشرين. لا أذكر الرقم بالضبط. وجدت رجلاً مهيبًا يدخل ويسير كأنّه ضابط في الجيش بخطوات عسكريّة، ثم دخل وجلس وتحدَّث إلى مجموعة من العرب. سألت أحد الإخوة: من هذا الشخص؟ قالوا لي: هذا مرزا طاهر أحمد، أخو أمير المؤمنين.

الواقع كانت نظرتي إلى الخليفة فقط ولا علاقة لي بالآخرين. أحبُّ الخليفة وأحترمه ولا اهتمام لي في أقاربه. وجدتُ أنّ النبي كان له أقارب ولم يكون بعضهم على مستوى القرابة وطبعًا كان له أقارب عظماء. المهم القرابة ليست هي الأساس. فَسَّرْتُ أنّ العظمة التي فيه راجعة إلى انتسابه إلى عائلة سيدنا الإمام المهدي.

وعندما توفّي الخليفة الثالث رحمه الله واختير الإمام الحالي وانتُخِبَ خليفةً رابعًا، القلب تحرَّك نحوه وصارت هناك المحبّة والاحترام. لكن هذه المحبّة كانت محبّةً مُبهمة. أُحبّه لأنّه إمام الجماعة ولكن لم ألتقِ به، كأن تسمع عن أحد الدعاة أنّه رجلٌ طيب وموفّق فقلبك يُحبّه، ولكن هذا الحب لا يكون واضحًا. فقابلته في ربوة هناك وجلست معه بضع دقائق بعد تولّيه الخلافة، الواقع أنني عندما رأيته لأول وهلة لم تكن هذه الصورة. لم يكن هذا هو الشخص الذي رأيته من قبل مع أنّ الفترة الزمنيّة قصيرة. يبدو أنّ الله ألبسهُ رداء الخلافة. ورداء الخلافة هذا يُضفي على الإنسان صفاتٍ لا يحسُّ بها قبل ذلك. ومن ذلك الوقت وقع حبّه في قلبي بوصفه الإمام وبوصفه خليفة سيدنا الإمام المهدي ولشخصيّته الرقيقة الطيّبة. أين هذا القائد الذي تظنُّه ضابطًا في الجيش؟ كان ملاكًا طيبًا ودودًا. كلماته رقيقة وإن كانت هيبته موجودة على وجهه. طبعًا الحمد لله أراه كثيرًا وأتشرَّف بهذا اللقاء. وفي كل يوم يعلم الله كيف يزداد الإنسان حبًّا له. وأتمنى أنّ المسلمين جميعًا يذوقون هذا الحب لأنّ هذا الحب هو الذي يجمع المسلمين ويجعلهم جسدًا واحدًا. وإذا كان المسلمون جسدًا واحدًا لا يمكن أبدًا لأعداء الإسلام أن يؤذوا أو يضرّوا هذا الجسد، وأما إذا كانوا متفرقين لا يجمعهم أي شيء ولا رابطة بينهم إلا المصالح الدنيويّة التي تجعلهم أعداء ممزَّقين متفرقين فلا أعتقد أنّه يمكن أبدًا أن يقوموا مرة أخرى. لكن الحمد لله هناك فئة من المسلمين لهم إمامٌ يجمعهم ويُحبُّونه ويوحِّد كلمتهم، وهذه الفئة سوف يضع الله يده في يدها وسوف يُقيمها ويُعيد الإسلام على يدها إن شاء الله غالبًا منتصرًا.

عبد المؤمن طاهر:

هل هناك رسالة معيّنة تودُّ توجيهها إلى إخواننا العرب؟

الأُستاذ محمد حلمي الشافعي:

في كل اللقاءات هناك رسائل إلى الأخوة العرب. أنا عربي، وواجبي الحقيقي هو أولاً نحو الإسلام ثم نحو وطني من العرب لأنني أعتقد أنَّ العرب هم الذين كان لهم فضل نشر الإسلام من النبيّ العربيّ إلى العالَم كلّه وأضاءوا به الدنيا. وللأسف أنّ الإسلام أو أمة الإسلام اليوم في وضعٍ مؤسف، والعرب لا وحدة بينهم. أصواتٌ مختلفة تُنادي بالتوحُّد. والتجمع على أساس سياسي أو دنيوي لم يكن في يوم من الأيام وسيلةً للتجمُّع. لم يحدث أبدًا أنّ أمةً قامت وتجمَّعت ونهضت على هذا الأساس. لا بدّ أن نرجع إلى الطريقة التي توحَّدت بها الأمة الإسلاميّة وهي التجمُّع وراء إمام واحد وراية واحدة وهدف واحد. نحن لنا قبلة واحدة، ولنا إلهٌ واحد، فلا بدّ أن نجتمع كلنا وحدةً واحدة ولا نكون متمزِّقين سياسيًا وندَّعي أننا على اتفاق بمعاهدات أو روابط نعلم أنّها ليست صادقة وأنّه يترتّب عليها خطر حقيقي للأمة الإسلامية. يجب أن نتوحَّد وراء الإمام الذي أقامه الله ووعد به النبي لإحياء الإسلام. هذه هي الطريقة الوحيدة. لا يستطيع المسلمون أن يقفوا على أقدامهم بقوة سلاح يأخذونه ويستوردونه من بلادٍ أخرى ولا بقوةٍ ماديّة يستدينونها أو يأخذونها صَدَقةٍ من الدول الأخرى. لا يمكن للمسلمين أن يقهروا الدجّال أو يتغلّبوا على القوى العُظمى التي تُسيطر الآن على الأرض وتمسكنا من رقابنا. الطريقة الوحيدة التي نصرت محمدًا وجعلته إمامًا يملأ الأرض نورًا. والعرب هم الذين قاموا بهذه المهمة، وواجب العرب الآن أن لا تضيع منهم هذه الفرصة وأن ينضمُّوا وراء تلميذ نبيّهم وراء الإمام الذي وعدهم به محمد وأخبرهم أنه سيأتي لإعادة الإسلام وجَعْلِهِ مرةً أخرى الدين الغالب على الأرض لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ . كيف سينصركم الله؟ كيف نصر محمدًا وحده مع جماعته القليلة مع عربه القليلين! نصرهم الله وملأ الأرض بإسلامهم. أقول لو اتّحدنا واجتمعنا وراء هذا الإمام الذي وعدنا به الله ووعدنا به رسوله فإنّ الله سوف يضع يده في يدنا. وإذا وضع الله يده في يد أحد فلا يمكن أن يُغْلَبَ هذا الإنسان.

هذه المحطة هي القناة الفضائيّة الإسلاميّة الأحمدية الناطقة بلسان جماعة سيدنا الإمام المهدي لجمع كلمة المسلمين ولتعريفهم بالإسلام الحقيقي. كل من يعمل فيها من المتطوعين. ليس هنا أحدٌ محترفًا. نحن لا نأخذ مالاً من شرقٍ أو غرب. كل شيءٍ ترونه هو بالقروش القليلة التي يتبرَّع بها ويدفعها أبناء هذه الجماعة لنشر الإسلام الصادق الحقيقي في الأرض. نريد من السادة المشاهدين أن يواظبوا على الاستماع لهذه المحطة وأخصُّ بذلك إخواننا العرب أن يستمعوا إلى هذا البرنامج باللغة العربيّة. سوف نقدِّم لهم إن شاء الله الكثير من المفاهيم الأحمديّة. هداكم الله ووفّقكم إلى ما فيه الخير.

الأستاذ عطاء المجيب راشد:

باسمي الخاص ونيابةً عن كل من ساهم في هذا البرنامج وعن كل المشاهدين لهذا البرنامج أودُّ ان أُعبِّر لكم عن امتناني وشكري لقبولكم الدعوة للمشاركة في هذا البرنامج. وإنني على يقين أنّ السادة المشاهدين قد استمتعوا بسردكم للأحداث التي مررتم بها خلال البحث عن الحقيقة وكيف هداكم الله لقبول الأحمديّة، الإسلام الصحيح.

بارك الله فيكم وجزاكم خير الجزاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Share via
تابعونا على الفايس بوك