في رحاب القرآن

 

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة :31)

ولابد لي أن أذكر بهذه المناسبة حوارًا جرى بين مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية وبين مُنجّم وبروفيسور أسترالي حول مسألة خلق آدم. جاء هذا المنجم للسياحة في الهند عام 1908م وألقى محاضرات في عدة مدن هندية، والتقى أثناء إقامته في لاهور بمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، ووجه إليه السؤال حول هذا الموضوع، وفيما يلي ما دار بينهما من حوار:

سؤال: ورد في الكتاب المقدس أن آدم أو الإنسان الأول ظهر في أرض جيحون وسيحون، وأقام هنالك، فهل هؤلاء البشر الموجودون في مختلف أنحاء العالم من أمريكا وأستراليا وغيرهما هم أيضًا من نسله؟

جواب: لسنا نقول بذلك، ولا نتّبع التوراة في قولها بأن الدنيا بدأت بخلق آدم هذا منذ ستة أو سبعة آلاف عام، وأنه لم يكن قبل ذلك شيء، وكأن الله عزّ وجلّ كان عاطلاً عندها. كما أننا لا ندعي أن كل البشر الموجودين في مختلف أنحاء الأرض اليوم هم أولاد آدم هذا الأخير، بل نعتقد بأن البشر كانوا موجودين قبله، كما هو واضح من كلمات القرآن الحكيم، حيث قال الله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، والخليفة مَن ينوب عن غيره، وهذا يبين بوضوح أن البشر كانوا قبل آدم أيضًا. فلا يمكن لنا الجزم بأن سكان أمريكا وأستراليا وغيرهما هم من أولاد آدم هذا الأخير، أم أنهم أولاد آدم آخر. (جريدة الحكم، عدد 35، مجلد 12، يوم 30 مايو 1908)

وقد ذكر حضرة الشيخ محيي الدين بن عربي -وهو من أبرز وأهم الشخصيات في الأمة الإسلامية- كشفًا عجيبًا له بهذا الصدد حيث كتب:

” لقد أراني الحقُّ تعالى فيما يراه النائم، وأنا طائف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدونا بيتينِ ثَبَتُّ على البيت الواحد ومضى عني الآخرُ، فكان الذي ثبتُّ عليه من ذلك:

 لقد طُفْنا كما طفتم سنينابهذا البيـت طُرًّا أجمعينـا

… فتعجبت من ذلك. فقال لي واحد منهم وتَسمَّى لي باسم لا أعرف ذلك الاسم، ثم قال لي: أنا مِن أجدادك. قلت له:كم لك منذ مِتَّ؟ فقال لي: بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين؟! فقال لي: عن أي آدم تقول، عن هذا الأقرب إليك أو عن غيره؟ فتذكرتُ حديثا عن رسول الله “أن الله خلق مائة ألف آدم. فقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه مِن أولئك”. (الفتوحات المكية ج 3، الفصل الخامس في المنازلات، باب 309).

يُفهم من هذا الكشف أن آدم الموحى إليه، والذي ينتسب إليه بنو آدم اليوم، لم يكن آدمَ الأولَ، بل إنه آخر الأوادم.

وكذلك يبين هذا الكشف أن كلمة “آدم” قد تُستعمل صفةً بمعنى الجد الأكبر، وليس ضروريًا أن يُراد منها آدم الذي تشرف بالوحي أول مرة.

كما يدل هذا الكشف على أن الجنس البشري مستمر منذ عصور موغلة في القدم، وأن الدور المذكور في الأحاديث النبوية الشريفة عن خلق العالم، والمحدد بسبعة آلاف سنة، إنما أريد به دور آدم الأخير فقط، وليس أدوار البشرية جمعاء.

باختصار؛ لقد ثبت من الشهادات المذكورة أعلاه أنه قد سبقني في إبداء هذا الرأي صلحاءُ الأمة من أصحاب الكشوف، الذين رأيهم في تفسير القرآن الكريم هو الأجدر بالقبول، حيث قالوا إن الجنس البشري لم يبدأ من آدم واحد، بل سبقه أوادم كثيرون، وأن آدم المذكور في القرآن الكريم كان واحدًا منهم وليس آدم الوحيد.

وربَّ سائل يقول: إذا كان البشر موجودين قبل آدم المذكور، وكانوا يولدون من نطفة، فلماذا قال الله تعالى في القرآن الحكيم بأننا قد خلقناكم من زوجين؟ ولماذا قيل في الحديث النبوي بأن المرأة خُلقت مِن ضلع الرجل؟

والجواب أن هذا الموضوع قد ورد في سورة النساء: الآية 2، وسورة الأعراف: الآية 190، وسورة الزمر: الآية 7. أما سورة النساء فقد ورد فيها: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا (الآية 2)، وأما سورة الأعراف فورد فيها: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا (الاعراف 190)، وأما سورة الزمر فورد فيها: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا (الزمر7). ولا ذِكْرَ لآدم في هذه الآيات الثلاث بتاتًا، فقط قال الله تعالى فيها بأننا خلقناكم من نفس واحدة، ثم جعلنا منها زوجها. وكل هذه الآيات بمعنى واحد، غير أن في سورة الأعراف صراحة أكثر حيث قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (الأَعراف: 190-191). ويكشف التدبر في هذه الآية أن ما ذُكر هنا لا ينطبق على آدم وزوجته مطلقًا، لأن آدم كان نبيَّ الله تعالى، بينما يخبر القرآن الكريم أن النفس الواحدة المذكورة هنا وزوجها أصبحا مشركينِ بالله تعالى عند ولادة ولدهما، وقالا إن فلانًا من الآلهة هو الذي أعطاهما إياه.

فالحق أن النفس الواحدة المذكورة هنا لا يراد منها الإنسان الأول ولا آدم ، وإنما يبين الله هنا أن الفرد الواحد تنشأ منه أمم كبرى، وأن الأولاد تقتفي آثار آبائهم فيصيرون مثلهم، فإنْ كفارا فكفارا، وإن مؤمنين فمؤمنين، وإن مشركين فمشركين، وإن موحدين فموحدين، لذا يجب على المرء أن يأخذ الحيطة القصوى عند الزواج، وأن يهتم بتربية الأولاد كثيرا، لكي لا تسري أخطاء الآباء إلى الأولاد، فيقع الملايين في الشر والسوء.

أما قوله تعالى: وجعل منها زوجها فإنما يعني أن الله تعالى خلق زوج هذه النفس من نوعِها، أي أن المرأة والرجل من جنس واحد، ويتأثر أحدهما بالآخر، وليس المراد أن الزوجة تُخلَق من ضلع الزوج، وإلا فلا بد من القول أن زوجات كل المشركين يُخْلقن من أضلاعهم، لأني قد أثبتُّ آنفًا أن النفس الواحدة هنا لا تعني الإنسان الأول، فلا بد من القول أن زوجة كل رجل تُخلق من ضلعه، وهذا باطل بالبداهة. (سوف أتناول هذا الموضوع مفصلا لدى تفسير الآية المتعلقة به في سورة النساء إن شاء الله تعالى).

أما السؤال: قد ورد في حديث نبوي أن المرأة خُلقت مِن ضلع، ويبدو من هذا حتمًا أن آدم خُلق وحده، ولم يكن قبله أي إنسان، ثم خُلقت المرأة من ضلع آدم، وبدأ منهما النسل الإنساني.

والجواب: أن كلمات الحديث الذي ينخدع به البعض هي قول الرسول : “استوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقتْ مِن ضلع” (مسلم، كتاب الرضاعة، باب الوصية بالنساء). أي اعملوا بنصيحتي وأحسِنوا معاشرة النساء، لأن المرأة خُلقتْ من ضلع. سوف أشرح هذا الحديث مفصلاً لدى تفسير الآية المشار إليها من سورة النساء، غير أني أكتفي هنا بالقول: إن هذا الحديث لا يتحدث عن زوجة آدم ، بل يتحدث عن المرأة عموما، وعن خلقِ كل امرأة من ضلع، وكلنا نعرف كيف تُخلَق المرأة، فلا يمكن شرح هذا الحديث بما يتنافى مع المشاهدة فيقال أن المرأة تُخلق من ضلع فعلاً، إنما المراد من الحديث ما ذكره أئمة اللغة، حيث ورد في “مجمع بحار الأنوار” وهو قاموس قيم يشرح كلمات الحديث: “فإنهن خُلقن مِن ضلع” استعارةٌ للمعوجِّ، أي خُلِقْنَ خلْقًا فيه الاعوجاج” (مجمع بحار الأنوار، ج1، للشيخ محمد طاهر، تحت لفظ ضلع). أي أن هذا الكلام استعارة، والمراد أن الدلال والغنج من الصفات الغالبة على المرأة، بمعنى أن المرأة تريد بطبعها الاختلاف مع زوجها. والثابت بالتجربة أن المرأة تجبر الرجل على قبول رأيها بالاختلاف معه، وتحكم عليه بالتأثير عليه، وإلى هذا قد أشار الرسول ناصحًا: لا تسعوا للحكم على المرأة جبرًا، بل أقنِعوها بالحب والرفق وراعوا مشاعرها. تكون المرأة تابعة للرجل في كثير من الأمور، فتريد تحرّي كل أمر من أوامره وتختلف معه لتعرف الحقيقة، فلذلك يجب على الرجل أن يقنعها بالدليل والمحبة، أما إذا أجبرها بالقوة كسَر قلبها، ولم يعُدْ بينهما علاقة حب ووئام.

ملخص القول لا تدل الآيات السابقة ولا الحديث المذكور على أن آدم الذي جعله الله خليفةً كان أوّلَ البشر، أو أن زوجته خُلقت من جسمه، وإنما تتحدث هذه الآيات والحديث عن جميع البشر كقاعدة كلية شاملة ولا تتحدث عن آدم وزوجته خاصةً، وإذا ثبت ذلك زال تلقائيا الاعتراض القائل بأن كل الناس ما داموا أبناء آدم فهل كان أبناؤه الذكور والإناث قد تزوجوا فيما بينهم؟ ذلك أن هذا الاعتراض يمكن أن يقع فقط على ذرية آدم الذي كان أول إنسان كامل العقل وحامل شريعة، ولكن إذا ثبت وجود بشر آخرين في عصره زال هذا الاعتراض تلقائيًا. أما البشر الذين كانوا قبل آدم هذا فلا يقع هذا الاعتراض عليهم، لأنهم (أولاً) لم يكونوا كاملي العقل ولا حاملي شريعة، و(ثانيا) ليس ثابتًا أنهم كانوا ذرية لإنسان واحد، بل من الممكن أن يكون كثير من الرجال والنساء قد خُلقوا في وقت واحد.

الإنسان حامل للصفات الإلهية ظلّيًا

كما ثبت من هذه الآية أن الإنسان حامل للصفات الإلهية على سبيل الظلية، لأن هذه الآية تذكر أن الله جعَل آدمَ خليفة، ومن معاني الخليفة مَن يتصبّغ بصفاتِ مَن قبله، فخليفة الملِك مثلاً مَن يمارس سلطة الملِك، وعليه فخليفة الله مَن يتصبّغ بصفات الله تعالى في نطاقه، ولما كان آدم أولَ مَظْهَرٍ كاملٍ للبشرية وأُرسلَ ليجعل الناسَ يتّبعون خطواته، فثبت أن كل البشر مزودون بأن يكونوا خلفاء الله ويتصفوا بصفاته تعالى في حدود نطاقهم، سواء تمكنوا بالفعل من إظهار هذه الكفاءة أم لم يتمكنوا.

تمدُّن آدم

ولما كانت هذه الآية من سورة البقرة تتحدث عن أولِ خليفةٍ لله تعالى في الأرض، فأرى لزاماً أن أتناول هنا التمدّن الإنساني الذي بُعث آدم من أجل إقامته، والذي كان الهدف الحقيقي من استخلافه.

يتضح من القرآن الكريم أن التمدن الذي أسسه آدم من خلال خلافته كان يتأسس على المبادئ التالية:

  1. نظام الزواج: إذ فُرض على أتباعه أن يتزوجوا، كما قال الله تعالى: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (البقرة: 36). لم يكن الشرع قد نزل قبل آدم ، ولم يكن هناك قاعدة معينة للزواج، فجاء على يد آدم الحكمُ بالزواج.لقد ذكر الكتاب المقدس قصة آدم بصورة مشوهة، ولكنه ذكر أن الله تعالى أراد أن يخلق لآدم زوجةً (التكوين: إصحاح 2). وعلى ضوء التحقيق الذي ذكرته آنفًا بأن البشر كانوا موجودين قبل آدم ، فيدل بيان التوراة هذا على أنه لم يكن بينهم قاعدة محددة للزواج، وأن المراد من خلق زوجةٍ لآدم أن الله تعالى أنزل أحكاما بشأن العلاقة بين الزوجين.
  2. أُمر أتباع آدم بالعمل بأمور والكفِّ عن أمور أخرى، كما قال تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ (البقرة: 36).
  3. أن يتعاونوا على تهيئة وسائل الطعام للجميع.
  4. ونظام الماء.
  5. أن يرتدوا الثياب ولا يعيشوا عراة.
  6. أن يبنوا البيوت ويعيشوا معًا.

والمبادئ الأربعة الأخيرة مذكورة في قول الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (طه:119-120). أي من واجبك يا آدم أن تهتم بالأمور التالية في المكان الذي نسكنك فيه: ألا تعيشوا فيه جائعين، ولا عطاشى، ولا عراة، ولا متأذين بالحر.

وهذا ليس وصفًا لجنة آدم كما زعم البعض خطأً، ذلك لأن الوحوش الضارية أيضًا لا تعيش جائعة ولا عطِشة ولا متأذية بالحر، بل هذه الضروريات متوفرة للحيوانات أيضًا في هذه الدنيا، فثبت أن هذا ليس وصفًا للجنة، بل إنها الصورة المرسومة لتمدن آدم والتي دعا إليها المجتمعَ الإنساني الأول، حيث بين لهم أن عيش الناس معًا يؤدي أحيانا إلى حرمان قسمٍ منهم من وسائل الغذاء أو الكساء، فعلى الآخرين الذين يتمتعون بخيرات التمدن أن يسعوا جهدهم لسدّ هذا الفراغ، ويتعاونوا على إعانة الفقراء والمسنين والعاجزين، ويهيئوا لهم حاجتهم من الغذاء والكساء والماء والخباء.

هذه المبادئ المدَنية هي بالغة الأهمية بحيث لم تكن الدنيا في غنى عنها قط، ولكن المؤسف أن الدنيا لم تهتمّ بها حق الاهتمام قط، إلا الإسلام الذي جعل هذه الأمور من فرائض الحاكم، ولكن المؤسف أن المسلمين أيضا لم يعملوا بهذه المبادئ بعد زمن الخلافة الراشدة، والنتيجة ما نراه اليوم في الدنيا من فساد ونزاع وقتل وسفك دماء.

الخليفة

لقد سبق أن بينت عند شرح الكلمات والتفسير أن لفظ الخليفة يعني ما يلي:

  • مَن ينوب عن أمة مضتْ أو فرد مات.
  • مَن ينوب عن رئيسه في حياته في منطقة أخرى وينفذ أوامره.
  • مَن ينوب عن غيره بعد موته، سواء أكان من ينفذ سلطته ويكمل مهمته أو كان من نسله.

ولكن علينا معرفة معنى لفظ الخليفة الوارد في هذه الآية على ضوء الاستعمال القرآني.

نجد أن لفظ الخليفة قد ورد في القرآن الكريم بالمعاني الثلاثة التالية:

1ـ النبي والمبعوث الرباني، كما ورد في الآية قيد التفسير.

لا شك أن آدم كان خليفة بمعنى أنه ونسله قد حلّوا محلَّ قوم آخرين بعد هلاكهم، كما كان خليفةً أيضًا بمعنى أن الله تعالى أخرج من آدم نسلًا كثيرًا. غير أن أهم ميزة لآدم هي نبوته وبعثته التي قد أشير إليها في هذه الآية قبل كل شيء.

والنبي أو المأمور الرباني يكون خليفةَ الله بمعنى أنه يعكس صفات الله تعالى على الدنيا وفق الحاجة في عصره، ويأتي إلى الدنيا ظِلًا لله تعالى، وبهذا المعنى قد سُمي داود أيضًا خليفةً في القرآن الكريم (سورة ص: 27).

2ـ ويُطلق لفظ الخليفة على قوم يحلّون محلَ قوم آخرين هلكوا قبلهم، وقد ورد لفظ الخليفة بهذا المعنى في القرآن الكريم مرارًا، فمثلًا أخبر الله تعالى أن هودًا قال لقومه: واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (الأَعراف 70)، أي بعد هلاك قوم نوح أعطاكم اللهُ الحكمَ والغلبة في الدنيا بدلًا منهم. وكذلك ورد على لسان صالح : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ (الأَعراف 75).

3ـ ويُطلق لفظ الخليفة على نائب النبي الذي يتّبع خطواته، أي يرشد قومَه إلى شرعه ويسعى لتوحيد شملهم، سواء أكان هذا الخليفة نبيًا أو غير نبي، ومثاله في القرآن الكريم أن موسى لما ذهب إلى الطور لبعض الليالي قال لهارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (الأَعراف 143)، أي كُنْ خليفتي في قومي في غيابي، واعمل على إصلاحهم ولا تقبلْ قول المفسدين.

وكان هارون نبيًا ونال منصب النبوة قبل هذه الواقعة، لذا فالخلافة التي منحه موسى إياها لم تكن خلافةَ نبوة، وإنما كان المراد من خلافته أن يتولى نظام قوم موسى في غيابه ليحافظ على وحدتهم ويحميهم من الفساد. فخلافة هارون لم تكن خلافةَ نبوة، بل كانت خلافةَ نظام، ولكن كما ذكرت من قبل أن مثل هذه الخلافة الفردية تشمل خلافة نبوة مع خلافة نظام أيضًا، بمعنى أن الله تعالى يبعث لإصلاح أمةِ نبيٍّ سابقٍ نبيًا آخر لا يأتي بشرع جديد بل ينفذ شريعة النبي السابق، فحيث إنه يواصل مهمة النبي السابق فهو يكون خليفةً للنبي السابق، ولكنه من حيث منصبه لا يعيَّن من قِبل النبي السابق ولا ِمن قبل أمته، بل الله تعالى نفسه يقيمه نبيًا مباشرة. وقد كان في بني إسرائيل خلفاء كثيرون من هذا القبيل، بل كل الأنبياء الذين جاءوا فيهم بعد موسى كانوا خلفاء من هذا النوع، أعني أنهم كانوا أنبياء، لكنهم لم يأتوا بشرع جديد، بل بُعثوا لتنفيذ شريعة موسى في الدنيا، إذ قال الله تعالى في القرآن الكريم: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (المائدة 45). فثبت من هذه الآية (أولاً) أنه قد بُعث بعد موسى أنبياء كانت مهمتهم منحصرةً في إقامة شريعة موسى، وكأنهم كانوا خلفاءه. و(ثانيًا) علاوة على هؤلاء الأنبياء، كان هناك ربانيون وأحبار أُمروا بالقيام بهذه المهمة. لقد تبين من ذلك أن كثيرًا من الأنبياء والمجددين ظهروا في أمة موسى من بعده خلفاءً له، وكانت مهمتهم إكمال مهمة موسى ، وكانت آخر حلقة في سلسلة هؤلاء الأنبياء هو المسيح الناصري ، الذي ظن المسلمون خطأً، ولا سيما في هذا العصر الأخير، أنه كان صاحبَ شريعة، وهذا الظن ناشئ من قلة تدبرهم في القرآن الكريم. وكذلك بدأ المسيحيون في هذا العصر يزعمون أن المسيح جاء بقانون جديد، ولذلك سموا كتابه “العهد الجديد”. لكن القرآن الكريم يعدّ المسيح خليفة لموسى عليهما السلام جاء لإقامة دينه، حيث قال الله تعالى بعد آيتين من الآية المذكورة آنفًا من سورة المائدة: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ (المائدة 47)، أي أننا أرسلنا عيسى ابن مريم بعد الأنبياء المذكورين هنا الذين جاءوا لإقامة تعاليم التوراة، فجاء عيسى متّبعًا آثارهم ومحققًا نبوءات التوراة.

وقد قال المسيح الناصري بنفسه: {لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 17-18).

باختصار، إن كل الأنبياء والمجددين الذين جاءوا بعد موسى، بدءًا من “يوشع” الذي خلفه بعد وفاته فورًا حتى آخر خلفائه وهو المسيح الناصري، كانوا خلفاء لموسى ومنفذين لشريعته.

والثابت من القرآن الكريم أن الأمة المحمدية قد وُعدت بالخلافة بأنواعها الثلاثة هذه، وللأسف ظل بعض المسلمين غافلين عن هذه الخلافة ولم ينتفعوا منها كما ينبغي. قال الله تعالى في القرآن الكريم وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور 56). لقد وعد الله المسلمين هنا أنهم سينالون خلافة كخلافة الأمم السابقة، وكما أثبتُّ من القرآن الكريم آنفًا أنّ خلافة تلك الأمم كانت على ثلاثة أنواع:

الأول: جاء فيهم الأنبياء الذين كانوا يخدمون شريعتهم.

والثاني: أقام الله تعالى فيهم أناسًا لم يكونوا أنبياءَ، ولكن اصطفاهم الله تعالى لِبعض الحِكَم من أجل خدمة تلك الأمم وإرشادها إلى الصراط المستقيم.

والثالث: أن الله تعالى جعل تلك الأمم خلائف للأمم السابقة، وكتب لها العظمة بعد أن نزعها من الأولين.

هذه هي الأنواع الثلاثة للخلافة التي وُعد بها المسلمون، وكان ظهور عظمة الإسلام حقَّ الظهور منوطًا بنيل الأمةِ الخلافةَ بأنواعها الثلاثة. بحسب هذا الوعد الإلهي كتب الله في حياة الرسول الغلبةَ للمسلمين على الأمم السابقة، وأهلك أعداءهم ودمرهم، ولو أن المسلمين ظلوا متمسكين بالإيمان والعمل الصالح لاستمرت غلبتهم على الدوام، ولكن المؤسف أنهم تكالبوا على الدنيا بعد فترة غافلين عن الدين، وظنوا خطأً أنهم يستطيعون الرُّقيّ مع تهافتهم على الدنيا مثل الأمم السابقة، مع أن الله تعالى كان قد صرح في القرآن الكريم أن ازدهارهم لن يتم على النحو الذي ازدهرت به الأمم السابقة، بل إنهم لن يزدهروا إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقد أكدت التجارب عبر القرون صدق هذه الحقيقة. فيا ليتهم يدركون سرَّ رقيهم الآن، فيتوجهوا إلى الإيمان والعمل الصالح.

والنوع الثاني من الخلافة فقد أوتيه المسلمون بعد رسول الله حين شرّف الله سيدَنا أبا بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليا y بنعمة الخلافة واحدًا بعد الآخر، ونال المسلمون كلهم نصيبهم من هذه النعمة. ولو أن المسلمين من بعدهم قدروا هذه النعمة حق قدرها لساروا على طريق الازدهار كالصحابة ولازدهر الإسلام اليوم ازدهارًا يفوق الخيال والتصور، ولكن المؤسف أنهم لم يقدروا نعمة الخلافة حق قدرها، ومالوا إلى الملوكية، ففقدوا العزة والغلبة التي نالوها من خلال الخلافة.

والنوع الثالث من الخلافة التي نالتها الأمم السابقة هي خلافة الأنبياء التابعين، لكن قد غفل عنها المسلمون غفلةً جعلتْهم ينكرون هذا النوع من النبوة كليةً في هذا الزمن الأخير، وأغلقوا باب النبوة ولو كانت غير تشريعية، منكرين هذا الفضل الرباني العظيم الذي هو خاص بالإسلام وحده في هذا العصر، والذي هو دليل عظيم على الحياة الروحانية للرسول ، لأن نبوة النبي التابع تزيد عظمةَ النبي المتبوع وتضيئها، ولا تنقص منها شيئًا.

وتؤمن الجماعة الإسلامية الأحمدية أن الله تعالى قد فتح ثانيةً بابَ النبوة التابعة الملائمة لعظمة الرسول ، وذلك ببعثة سيدنا مرزا غلام أحمد لإصلاح هذا العصر المليء بالفتن والمفاسد ولاسترداد مجد الإسلام ثانيةً، وأنه تعالى قد أحيا بواسطته الخلافةَ الراشدة أيضًا من جديد بإقامتها بين أتباعه ، فنشأت في العالم كله ثانيةً جماعةٌ تقوم بخدمة الإسلام متحدةً على يد واحدة، وتسعى جاهدةً ليلَ نهارَ لاسترداد حقوق الإسلام والمسلمين، وإن الزمن لقريب حين يكون الإسلام غالبًا في العالم، ويزهق الباطل من أمامه مرة أخرى. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، إن شاء الله تعالى.

الملائكة

لقد ذكرت هذه الآية الملائكةَ أيضًا، فأرى لزامًا ذكرُهم هنا إجمالًا على ضوء القرآن الكريم، لكي يسهل على القارئ استيعاب النظرية القرآنية عن الملائكة كلما مرّ على ذكرهم في القرآن الكريم، غير أن ذكرهم مفصلًا سيأتي لاحقًا عند تفسير الآيات المتعلقة بهم.

لقد أخطأ الشباب المتأثرون بالفلسفة المعاصرة في معرفة الله تعالى، فظنوا أن لا وجود للملائكة لأن هذا ينافي الألوهية؛ أما الذين لم يتحرروا بعد من تأثير الدين تماما، فطَمْأنوا أنفسهم بقولهم: الملائكة هي المشاعر الصالحة التي يختلج بها قلب الإنسان، وأن لا وجود للملائكة سوى ذلك.

وقد اعتبر هؤلاء الشباب وجود الملائكة منافيًا للألوهية لأنهم ظنوا أن الله تعالى كائن وراء الوراء، وأنه (أولًا) لا علاقة له بهذا الكون، وبالتالي ليس له حاجة لأن يتخذ أحدًا واسطة بينه وبين الناس، أما إذا كان الله تعالى على صلة بهذا الكون، فالقول بأنه تعالى يستخدم الملائكةَ وسائط لإدارة هذا الكون يتنافى مع قدرته الكاملة، ويدل على نقصان صفاته، وعليه فوجود الملائكة محال في الحالتين.

والواقع أن العقيدة الأولى بأن الله موجود ولكن لا دخل له في إدارة الكون، إنما هي حجاب برّاق يُخفون به أفكارهم الإلحادية، إذ لا فرقَ بين هذه العقيدة وبين الإلحاد أبدًا. إذا كان الله تعالى موجودًا وليس له علاقة بهذه الدنيا، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الله موجود إذن؟ إن وجوده تعالى لا يخلو من حالين: إما أنه تعالى يتدخل في نظام هذا الكون، أو أنه لا يتدخل أبدًا. وإذا كان لا يتدخل بتاتا، فهذا لا يخلو من حالتين: إما أنه لا علاقة له بالكون منذ الأزل، أو أنه تخلى عن الكون بعد خلْقه. وإذا كان الله تعالى لا يتدخل في الكون منذ الأزل، فلا دليلَ على وجوده على الإطلاق، ولا معنى ولا حاجة للإيمان بوجوده، إلا أن يكون هؤلاء المؤمنون بالله في الظاهر يريدون أن يتظاهروا بإيمانهم للمؤمنين نفاقًا وطمعًا في رضاهم ومواساتهم، وهو هدف وضيع وخسيس للغاية. أما إذا كان الله تعالى قد تخلى عن العالم بعد خلْقه، فليأتِ هؤلاء ببرهانهم على ذلك، إذ لا مناص لهم من تقديم دليل يُثبت أن هذا الكائن الفعّال أصبح عاطلًا ومتخليًا عن العالم الآن. إن المؤمنين بأن الله تعالى حيٌّ وفعَّالٌ دائمًا أبدًا، يؤمنون بتسلسل فعله هذا، وهو أمرٌ يقرّ به أصحاب هذه العقيدة الثانية إذ يقولون: نعم، كان الله فعّالاً في البداية، لكنه ليس فعّالاً الآن. فما داموا يقولون: أجلْ، كان الله فعّالاً في إدارة الكون في البداية، ولكنه أصبح عاطلا ومتخليا عنه الآن، فمِن واجبهم أن يأتونا بدليل علموا به أن الله تعالى ظلّ فعّالًا في إدارة الكون لفترة، ولكنه تخلى عنه فيما بعد وصار عاطلًا، وأن النظام الكوني أصبح يجري تلقائيًا.

إن وجود الملائكة ليس مظنة الارتياب والاعتراض أبدًا في أي من الحالتين: لأن الله تعالى إن كان فعّالاً في الماضي فالسؤال هو: هل كان يتخذ وسائطَ مِن مخلوقِه لإنفاذ مشيئته أم لا؟ أعني هل وُجد هذا الكون مِن خلال أسباب ونواميس طبيعية، أم حصل كل تطوّر بنفسه دون أي قاعدة أو سبب كعجائب الشعوذة والسحر؟ فإن سلّمنا بأن نظام هذا الكون يدل على أن كل تطور حاصل فيه كان خاضعًا لقاعدة أو قانون ما، فلا بد من التسليم أيضا بأن الله عز وجل كان قد خلق بعض الوسائط من أجل خلْق هذا الكون، وسنَّ سننًا خاصة أدّت إلى وجود الكون بهذا الشكل. فإذا سلّمنا بذلك، ولا مناص من التسليم به، فلا مفرّ من الإقرار بأن وجود الملائكة أسمى عن الاعتراض، إذ لو كان اختيارُ وسيلةٍ أو واسطةٍ ما غيرَ منافٍ لقدرة الله تعالى، فإن اختيارَ وسيلةٍ غيرِها أيضًا لا يُعَدّ منافيًا لقدرة الله سبحانه وتعالى.

كذلك إذا اعتقدنا بأن الله عز وجل يدير الكون اليوم كما كان من قبل، فأيضا لا يصحّ الاعتراض على وجود الملائكة، لأن الله تعالى ما دام يخلق طفل الإنسان بواسطة النطفة، ويشفي غليل الحيوان بواسطة الماء، ويضيء العالم بواسطة الشمس، ولا يقدح استخدامه هذه الوسائط في قدرته تعالى، فكيف يكون استخدام الملائكة في إدارة الكون يمثِّل مساسًا بقدرته؟

الواقع أن ما يتضح من القرآن الكريم، وما تُصدّقه النواميس الطبيعية، هو أن الله تعالى بحكمته الكاملة يدير نظام الكون بواسطة قانون واسع متشعب. قال الله تعالى: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (النازعات:29-30)، أي انظروا إلى السماء كيف جعلنا رفعتها عالية جدا، ثم زودناها بكل ما تحتاجه من قوى وقدرات ضرورية، وجعلنا قواها نوعين: ما هو خفي كالليل، وما هو ظاهر كالضحى.

لقد بين الله تعالى هنا أن النظام السماوي مؤسس على قانون متكامل، منه ما هو خفي كالليل، ويُعرَف بإمعان النظر والتدبر؛ ومنه ما هو ظاهر واضح وضوح النهار، وتراه العين المجردة. وهذان النوعان من النواميس الطبيعية واضحان للمتأملين فيها. خذوا مثلاً الشمس والقمر، فبعض تأثيراتهما جليةٌ يعرفها الجهال والأميون أيضا، وبعض قوانينهما غاية في الخفاء، حتى إن علماء الفلك لم يعرفوا من أسرارها الخفية إلا القليل جدًا بعد متابعة وبحوث استمرت آلاف السنين، ولا يزالون عاكفين على هذه البحوث. والحق أن الملائكة هي أول حلقة في سلسلة العلل والمعلولات والسبب والمسبب، فكما أنه لا يجوز لأحد أن يعترض على قدرة الله تعالى برؤية آخر حلقات هذه السلسلة، كذلك لا يصح الاعتراض على قدرة الله تعالى بسبب أول حلقة منها.

أما أن ينكر أحدٌ وجودَ الله تعالى فهذه قضية أخرى، وعليه معرفة الأدلة على وجود الباري تعالى أولًا؛ لكن الذي يؤمن بالله وبأنه تعالى يدير هذا الكون عبر القوانين والوسائط، وأن هذا الكون كله يجري بواسطة شتى الوسائل والأسباب والعلل، ومع ذلك يقول بأن وجود الملائكة مُنافٍ لقدرة الله تعالى، فقوله هذا وهمٌ أوهنُ من بيت العنكبوت. فما دام الله تعالى يدير هذا الكون عبر آلاف الوسائط والأسباب والعلل والنواميس، وهذا لا يقدح في قدرته، فكيف يكون وجود الملائكة منافيًا لقدرته تعالى. إذا كان الله تعالى قد جعل النور سببًا لإبصار العين، وخلَق ذبذبات الهواء علّةً لحاسة السمع، ولا يمس ذلك قدرةَ الله، فكذلك خلْق الملائكة كعلّةٍ أولى في إدارة نظام الكون لا ينال شيئًا من قدرة الله تعالى.

يتبين من القرآن الكريم أننا إذ تعمقنا في النظام الكوني مِن أي طرف من أطرافه، نجده يغيب تدريجيًا في سلسلة من العلل والأسباب الخفية أو النتائج الدقيقة للغاية، ولا يظهر ولا يتجلى منه إلا الحلقات الوسطى. خذوا مثلًا الإنسان، فإن أسباب وعِلل خلْقِه الأوّل خفيةٌ، كما أن النتائج بعد موته أيضًا مستورة، وهذه الأحوال الخفية والدقيقة من الناحيتين عميقةُ الصلة بالملائكة التي هي حلقات دقيقة من سلسلة المخلوقات، وكأن الملائكة واسطة بين الله وبين المخلوق. قال الله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (النجم: 43)، أي الواقع أن منتهى كل شيء إلى ربك. أما الوسيلة التي توصل إلى هذا المنتهى فقد أخبر الله تعالى أن الملائكة هي آخر واسطة للوصال مع الله تعالى. عندما يُخلق شيء فأول حلقة لخلقه هي الملائكة، وعندما يُكمِل هذا الشيء مشواره ويفنى فإن آخر حلقة له أيضًا الملائكةُ. وهكذا فإن المخلوق يبدأ من أسباب دقيقة للغاية ويأخذ شكله، ثم يمرّ بأشكال دقيقة شتى ليصل إلى غايته بواسطة الملائكة. يتضح من القرآن الكريم أن الملائكة هي الحلقات الأولى لنظام الكون كله، وأنهم ينفذون أوامر الله تعالى في الكون، قال الله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (غافر:8)، أي أن الملائكة الذين يحملون العرش وكذلك الذين هم حوْل العرش يحمدون ربهم ويؤمنون به ويدْعون للمؤمنين بأن يغفر الله ذنوبهم. لقد بينتُ معنى العرش في تفسير قول الله تعالى سورة يونس ثم استوى على العرش ، وأثبتُّ أن معناه ظهور الصفات الإلهية، وعليه فالمراد من حمل الملائكة للعرش أنهم يُظهِرون صفات الله تعالى.

إن نظام الكون كله يدار بصفات الله تعالى، فحمل الملائكة للعرش يعني أنهم الحلقات الأولى لإدارة نظام الكون كله ويُظهِرون صفات الله تعالى في العالم المادي.

وبينتْ آياتُ القرآن الكريم مهماتِ الملائكة أيضا: مثل إنزال الوحي، تنفيذ السنن الكونية، الإماتة والإحياء، ترغيب القلوب في الخير وغيرها من المهام، وسوف نتحدث عنها عند تفسير الآيات المتعلقة بها. وسبب ورود ذكر الملائكة في هذه الآية قيد التفسير هو أن الله تعالى قد قال بعد بضع آيات: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (البقرة 35)، ويتبين من ذلك أن من أعمال الملائكة أن الله تعالى حين يبعث نبيًّا أو مأمورًا فيأمرهم بتسخير الكون كله في تأييده، لأن الملائكة هم العلة الأولى لكل الأسباب المادية في الكون، وهكذا فكل الكون يصبح في خدمة هذا المبعوث، فيصير غالبًا في النهاية رغم المعارضة الشديدة، ويحقق الغاية التي بُعث من أجلها.

وهذا الأمر مذكور في الحديث الشريف أيضا حيث ورد:

“إذا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السماء،ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْض”. (البخاري، كتاب الأدب، باب المِقَة من الله)

وهذا الحديث يؤكد معنى الآية المذكورة آنفًا حيث بيّن أن الملائكة هي العلّة الأولى للثورات والتغيرات الحاصلة في الكون بأمر الله تعالى، ومِن واجباتهم وضعُ القبول للمبعوثين الربانيين. ولأنهم المشرفون على التغييرات المادية الحاصلة في الكون، فإنّ النظام الكوني كله يبدأ في تأييد المبعوثين بسبب تأييد الملائكة لهم، فيهتدي ذوو الطبائع السفلية أخيرًا برؤية التأييدات السماوية للمبعوثين ويؤمنون بهم.

موجز القول إن الملائكة كائنات روحانية، خلَقهم الله تعالى كالحلقة الأولى في العالم المادي، وجعلهم مدبرين له. وهم ليسوا عند الله تعالى كأهل الحاشية في بلاط الملوك؛ بل كما أن الله تعالى قد خلق أسبابًا شتى لإدارة نظام الكون، كذلك جعل الملائكة السببَ الأول والعلّة الأولى لإحداث التغيرات في الكون، فلا يبرحون يُحدِثون في الكون التطورات بإذن الله تعالى، طبقًا للسنن التي وضعها الله تعالى، فلا يزال نظام الكون يجري بتدبيرهم بحسب السنن الموضوعة على ما يرام. لا شك أن الذين لا يتدبرون ينكرون وجود الملائكة لأن العين المادية لا تراهم، ولكن إنكارهم لوجود الملائكة يماثل إنكار بعض الجاهلين للسنن الطبيعية نتيجة جهلهم بأسبابها الدقيقة الخفية. فيوجد في هذا العصر أيضًا قومٌ ينكرون وجود جراثيم الأمراض ويعزونها إلى غضب آلهتهم، لكن الذين عندهم مسحة من الروحانية قد تمكنوا من رؤية الملائكة. فقد ورد في الإنجيل نزول جبريل على المسيح الناصري ، وذكر القرآن الكريم والأحاديث النبوية نـزول الروح الأمين جبريل على سيدنا ومولانا محمد المصطفى ، وفي هذا العصر قد أعلن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية علاقته بالملائكة. وقد تشرفتُ شخصيًا برؤية الملائكة بفضل الله تعالى، وبعد هذه التجربة الشخصية أتعجب دائمًا من الذين يحسبون الملائكة مجرد كفاءات كامنة في الإنسان. فلا أملك بعد هذه التجارب الشخصية إلا القول إن أفكار هؤلاء القوم ليست إلا نتاج وهم وجهل.

ولمعرفة أعمال الملائكة والغاية من خلقهم وسبل الاتصال بهم ومنافعهم وغيرها من الأمور الكثيرة ينبغي مطالعة كتابي “ملائكة الله”. لا يمكن بيان هذا الموضوع الطويل أثناء التفسير مرة واحدة، غير أني سأتناوله عند تفسير شتى الآيات ذات الصلة به.

وملخص هذه الآية الكريمة أنها تشكّل الدليل الناصع على الدعوى الواردة في الآيات السابقة بأن من سنة الله المستمرة أن يبعث الأنبياء عند الحاجة، وأنه لم يزل يفعل هكذا منذ البداية، وأنه تعالى عندما يبعث مأموره إلى الدنيا يخبر ملائكته بخبر ظهوره، لكي ينشط كل واحد منهم في نطاق عمله لتأييد المبعوث ونصرته.

كما تشير هذه الآية إلى أن من سنة الله المستمرة منذ القدم أنه عندما يبعث نبيه فإن أهل الصلاح وذوي الشمائل الملائكية -ناهيك عن العصاة- لا يدركون ضرورة النبوة لبُعدهم عن عصر النبوة ولجهلهم بخصائصها، وينكرون ضرورَة بعثته نتيجة جهلهم بحقيقة هذا النظام الجديد الذي يريد الله إقامته على يد نبيّ العصر، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يقيم هذا النظام ويهيء أسباب خيرٍ كثيرٍ للعالم.

كما تتضمن هذه الآية الإشارةَ إلى أنه كان لا بد أن يحدث هكذا عند بعثة محمد رسول الله ونزولِ القرآن الكريم أيضًا، فلا غرابة إذا كان الكافرون لا يرون ضرورة بعثته ، لأنه عندما بدأت النبوة أول مرة لم يستطع الملائكة أيضًا أن يدركوا الحاجة إليها، ولكن الأحداث جعلتهم يعترفون بعظمة مبعوثه في نهاية المطاف.

وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ   (البقرة: 32)

شرح الكلمات:

آدم: ورد في أقرب الموارد: “آدمُ: أبو البشر (صلوات الله عليه). قيل هو اسمٌ أعجميٌ، وقيل هو مشتقّ.”

وعندي أنه مشتقّ، وهو غير منصرف لكونه عَلمًا ولكونه على وزن “أَفْعَلُ”. ولو اعتبرنا آدم مشتقًّا، وهو الأصحّ، فقد سُمّي بهذا الاسم لأنه جمَع الناس على التمدن؛ “يقال: أدَمَ يأدَمُ بينهم أدْمًا: ألَّف وَوَفَّق”؛ أو لأنه تكوَّن من عناصر وقوى متعددة؛ يقال: “آدَمَ الخبزَ: خلَطه بالإدام”؛ أو لأنه صار أسوةً لأصحابه، يقال: “آدَمَ أهلَهُ: صار لهم أسوةً”؛ أو لأنه عاش على سطح البسيطة، فـ “أديم الأرض سطحُها”؛ أو لأنه صار وسيلة بين الله تعالى وبين عباده، فـــ “الأدمة: الوسيلة” (الأقرب).

الأسماء: جمعُ الاسم وهو: اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتمييزه… واسمُ الشيء: علامتُه (الأقرب).

والاسم: ذاتُ الشيء، والاسم أيضًا الصفةُ (الكليات).

عَرَضَهم: عرض الشيءَ له: أظهرَه له. عرضَ المتاع للبيع: أظهره للراغبين في شرائه. عرض الشيءَ عليه: أراه إياه (الأقرب).

أَنْبِئوني: أنبأه الخبرَ: خبَّره. (الأقرب)

صادقين: صدَق (يصدق) في الحديث صَدقًا وصِدقًا: ضدُّ كذَب. صَدَقَه الحديثَ: أنبأه بالصدق (الأقرب).

صدَقني فلان: قال لي الصدق (التاج).

وفي حديث البخاري ومسلم أن جبريل سأل الرسول ذات مرة سؤالا، فلما أجابه قال له: صدقتَ، أي أصبتَ القول، وهذا هو المعنى المراد في هذه الآية.

التفسير:

اختلف المفسرون في الأسماء التي عُلِّمها آدم . فقال البعض إنها أسماء الأشياء مثلَ الصحْفة والقِدر، بمعنى أنه علَّمه اللغةَ (الدر المنثور).

وزاد عليه البعض وقال أنه تعالى علَّمه اللغات كلها (فتح البيان). ولكن هذا المعنى خلاف للعقل والنقل كلية.

وقال آخرون: علّمه أسماء ذريته أجمعين (الدر المنثور).

لقد اختلف هؤلاء لأن الله تعالى لم يذكر هنا ما هي الأسماء التي علّمها آدم. ولكن إذا رجعنا إلى القرآن نفسه عرفْنا بسهولة حقيقةَ هذه الأسماء.

لا شك أن الإنسان عندما شرع في التمدن كان بحاجة إلى لغة، ولا بد أن يكون الله تعالى قد علَّم آدم لغةً ما، ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن ثمةَ أسماءً معينةً لا بد للإنسان أن يتعلمها لتكميل دينه وخُلُقه، ولا يمكن أن يعلّمها إلا الله جل وعلا. فلا بد أن تكون تلك الأسماء المعينة ضمن الأسماء التي تتحدث هذه الآية عن تعليمها، وتلك الأسماء مذكورة في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف:181).

يتبين من هذه الآيةِ أمرانِ:

الأوّل: أنّ من المحال للإنسان أن ينال معرفة الله ويرث أفضاله بدون علم صحيح بأسمائه، أي صفاته تعالى.

والثاني: أن العلم الصحيح بهذه الأسماء، أي الصفات، لا يتيسر إلا بتعليم الله تعالى، وأن الذين يحاولون لذلك بعقولهم وأفكارهم فإنهم يقعون في الخطأ حتمًا، ولا يستطيعون نيل العلم الصحيح بأسمائه تعالى.

ولما كان آدم قد بُعث لتأسيس الدين وتعزيز علاقة المخلوق بالخالق جل وعلا، فكان لزامًا أن يعلّمه الله أسماءه، كي تعرف أمته ربَّها وتتواصل به تعالى. ولولا تعليم تلك الأسماء كان هناك خطر أن يلحدوا وينحرفوا عن الدين.

فلما ثبتتْ ضرورة تعليم الله أسماءَه لآدم، فندرك بكل سهولة أن الأسماء الإلهية كانت حتمًا ضمن الأسماء التي تتحدث عنها هذه الآية بأن الله علّم آدمَ إياها، بل نستطيع الجزم، نظرًا إلى ضرورة الدين، بأن هذه هي الأسماء المقصودة هنا أساسًا، أما الأسماء الأخرى فهي ضمنية.

والمفسر المظهري هو الوحيد بين المفسرين القدامى الذي قال إن المراد من الأسماء هنا الأسماء الإلهية، وقد عَدّ صاحب تفسير “فتح البيان” قول المظهري بلا دليل (فتح البيان). والحق أن المعنى الذي ذكره المظهري مدعوم بالدليل أكثر من أي معنىً آخر، كما ذكرت آنفًا.

ومما يدل على أن هذا هو المراد من تعليم الأسماء هنا أن الآيات التالية تبيّن أن الأسماء التي علّمها الله تعالى آدمَ لم يكن الملائكة يعرفونها معرفة كاملة، والأسماء التي لا يعرفها جميع الملائكة فردًا فردًا معرفةً تامة إنما هي الصفات الإلهية، لأن الملائكة كما وصفهم القرآن الكريم يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (النحل:51)، فهم يعرفون ما يؤمَرون بفعله، أما ما سوى ذلك فأَنّى لهم معرفته؟ إنهم لا يقدرون على إدراك حقيقةِ صفات الله الغفار والستّار والقهّار مثلاً، إنما الإنسان هو الذي أعطاه الله هذا العلمَ وجعله قادرًا على اختيار ما يشاء، وجعَله عرضةً للخطأ والنسيان، فبعْد التعليم الإلهي للإنسان إنه يعصي تارةً ويتوب أخرى، وينسى حينًا ويعود إلى الصراط المستقيم حينًا آخر. وكذلك يستفيد الإنسان من غفران الله وهدايته مرةً، ويثير غضبه بإصراره على عصيانه مرة أخرى. أجلْ، لا يعلم الصفات الإلهية علمًا كاملاً إلا الإنسان، وليس الملائكة من هذا العلم الكامل في شيء، فإنهم إنما يعلمون من الصفات ما يتصل بنطاق عملهم فحسب، ولكل منهم عمل محدد لا يتجاوزه. ومن أجل ذلك ركّز الله تعالى هنا على كلمة كُلَّها ، فبيّن أن الملائكة يعرفون صفةً واحدة أو أكثر كلٌّ بحسب نطاق عمله، أما الإنسان فيعلَم الصفات الإلهية كلها. فكما أن الله تعالى رحيم فإن الإنسان أيضا مزود بأن يكون رحيمًا بحسب وسعه، وكما أن الله غفّار فإن الإنسان يمكن أن يكون غفّارًا وفق نطاقه، وكما أن الله قهّار فإن الإنسان قادر على أن يكون قهارًا بحسب دائرته، وكما أن الله جبّار فإن الإنسان يستطيع أن يكون جبارا في نطاقه، وكما أن الله شكور فإن الإنسان يستطيع أن يكون شكورًا في نطاقه. أما الملائكة فلا يصلح كل واحد منهم أن يتحلى بكل تلك الصفات. فمثلاً يستحيل لملائكة الموت أن يرحَموا أحدًا، لأن عملهم إزهاق الأرواح، ولا يستطيع الملائكة الموكلون بالرزق أن يُميتوا أحدًا، ولا يستطيع الملائكة الموكلون بإنزال الوحي الإلهي القيام بأي عمل آخر، ولكن الإنسان الكامل يُحيي مرة ويميت أخرى، ويغفر تارة ويعاقِب أخرى. فثبت أن الإنسان هو الذي يحمل الصفات الإلهية كلها، ولكن الملائكة يحملون صفة أو بعض الصفات فقط، لذلك قد أُعطي الإنسان من العلم الكامل لصفات الله تعالى ما لم يُعْطَه الملائكة. وقد وُضع الأساس لهذا التعليم على يد آدم وعند بعثته، لا قبْله، لأن الإنسان قبل ذلك لم يكن كاملاً، ولم يتيسر له هذا العلم، ولم يكن واقفًا على الصفات الإلهية كلها.

وكما أشرت من قبل، فإن من مفاهيم هذه الآية تعليم اللغة أيضًا، لأن اللغة ضرورية لتأسيس مجتمع متمدن. ويبدو أن الله تعالى علّم آدمَ مبادئَ اللغة، فأسّس عليها علم اللغة. والتدبر في هذه الآية يكشف أن تلك اللغة هي اللسان العربي؛ لأن هذه الآية تصرّح أن آدم تعلَّمَ الأسماء بواسطة مسمّياتها، بمعنى أن اللغة التي تعلَّمها كانت قائمة على ما يوجد بين الأسماء والمسميات من علاقة، أي أن كل شيء فيها سُمِّي باسمه بناءً على خواصه، فلم تكن الأسماء بدون سبب يربطها بمسمياتها. واللغة العربية هي التي تتميز بهذه الميزة دون سائر اللغات، حيث توجد فيها علاقة عميقة بين كل الأسماء ومسمياتها، أما اللغات الأخرى فتفتقر إلى هذه الميزة إذ سُمّيت الأشياء فيها من أجل التعريف فقط، ولو غيّرنا أسماء المسميات لما حدث أي خلل. فمثلا في اللغة الأردية يسمى الطعام المصنوع من الغلال “روتي”، ويسمى بالإنجليزية “بِرِد”، وبالفارسية “نان”، ولو استبدلنا هذه الأسماء بأسماء أخرى لما كان لذلك أثر يُذكَر. أما العربية فيسمى فيها هذا الطعام “خبزًا”، وهو اسم ذو معنى، لأن حروف “خ ب ز” تدلّ على الصنع والانتفاخ، فيقال: بزَخ: أي نفَخ صدرَه وأبرزَه، وخزبَ: سَمِنَ بدون مرض أو عيب، وخَبَزَ: صنَع شيئًا بضرب الكفّين بسرعة. والخبز يصنع بالأيدي بسرعة، وهو أيضًا ينتفخ على النار. إذن فهذه الكلمة تصوير حقيقي لهذا الطعام، ولو استبدلناها بكلمة أخرى ما أفادت هذا المعنى.

ومن أسماء الله “الربّ”، ومعناها في العربية الذي يربّي ويطور الشيء من حالة أدنى إلى حالة أعلى، ولا يتأتى هذا المفهوم لو استبدلناها بكلمة أخرى.

ثم كلمة “السماء” مشتقة مِن حروف “س م و”، التي تدل على الارتفاع والعلو، ولكن كلمة “آسمان” الفارسية أو “سكاي” الإنجليزية لا تبين هذا المدلول.

فثبت أن العربية هي اللغة الوحيدة التي اختُرعت فيها الأسماء كلها للدلالة على حقيقة مسمياتها، ولو استبدلناها بأخرى لم تنكشف حقيقة تلك الأشياء، وإنما تكون مجرد علامة. أما اللغات الأخرى فلا أثر لهذه الميزة فيها، إلا ما شاء الله. وعليه فالمراد من تعليم اللهِ آدمَ الأسماءَ أنه تعالى علّمه لغةً ذات نظام محكم، ومبنيةً على فلسفة عميقة، وكان كل لفظ فيها ذا مدلول معين، وبتعبير آخر علّم الله آدمَ اللغةَ العربية التي صارت فيما بعد أُمَّ اللغات. ولمعرفة المزيد عن هذا الأمر الرائع راجِعْ كتاب مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية “مِنَنُ الرحمن” حيث تناول موضوع كون اللغة العربية أُمَّ الألسُن بشكل رائع ولطيف.

ولا أعني بذلك أن سيدنا آدم تعلّم اللغة العربية بشكلها الحالي، أو أنها لم تتطور بعده ، وإنما أعني أن تلك اللغة وُضع أساسها على مبادئ اللغة العربية، أما تغيُّر تلك اللغة وتطورها وتوسعها فلا علاقة له بهذه القضية، ولا يقدح هذا في أفضلية اللغة العربية وخصوصيتها. إن المبادئ والأصول هي هي، غير أن تلك اللغة قد تطورت بحسب هذه الأصول والمبادئ وسوف تتطور في المستقبل أيضًا.

ويمكن تفسير قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء بمفهوم آخر، وهو التعليم الفطري الطبيعي، وهو غيرُ التعليم الحاصل عن الوسائل الخارجية، فالمعنى أن الله تعالى زوّد فطرة آدم بصلاحية تعلُّم شتى العلوم. ومعلومٌ أن أفراد كل جنسٍ يقدرون على تعلُّم العلوم الخاصة بجنسهم ولو بدرجات متفاوتة، ولكنهم لا يقدرون مطلقًا على تعلُّم العلوم التي هي خارج نطاقهم. فثبت أن الله تعالى قد جعل لكل جنس قدرات وكفاءات للتعلُّم تختلف عن قدارت الأجناس الأخرى، فمثلا إن نطاق تعلم الإنسان هو غير نطاق تعلم العصفور أو الببغاء أو الحصان أو الكلب. لا شك أن العصفور أو الببغاء إذا تعلّم بعض الكلمات بالتدريب، فإنه لا يقدر على أن يستوعبها جيدًا، ولا يكون بوسعه أن يتحدث في كل موضوع، ولكن الإنسان قادر على ذلك. وكذلك الحصان والكلب يتعلمان بعض المهارات، ولكن لا يكون نطاق تعلُّمهما واسعًا كنطاق تعلُّم الإنسان. وعليه فيمكن أن يكون أحد مفاهيم هذه الآية أن الله تعالى زوّد الإنسان بصلاحية تعلُّم العلوم الكثيرة والواسعة، والمراد من قوله تعالى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ أنه زود الإنسان بصلاحية تعلُّم خواص الأشياء. وبالفعل نجد الإنسان منذ عهد آدم وإلى اليوم عاكفًا على الاختراع والاكتشاف في شتى المجالات العلمية، ويزداد علمًا كل يوم. فالأسماء في هذه الحالة تعني الخواص والصفات، لكن ليست صفات الله، بل الخواص الطبيعية للأشياء.

أما نظرًا إلى اصطلاح أهل المنطق فالمراد من هذه الجملة أننا جعلنا آدم حيوانًا ناطقًا، أي زودناه بصلاحية التدبر في الأشياء والوصول إلى كنهها وحقيقتها، وكذلك صلاحية تعليم الآخرين، كما يشير إلى ذلك لفظ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ .

كما تتضمن هذه الآية الإشارة إلى أن الخلافة ذات صلة بالأسماء التي سبق ذكر تعليمها لآدم، ذلك أن الله أخبر في الآية السابقة لهذه الآية بأنه تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، ثم في هذه الآية أخبر الله تعالى أنه علَّم آدم الأسماءَ، ثم الآيتان التاليتان تتحدثان عن هذه الأسماء نفسها، ثم بعدهما أخبر الله تعالى أنه أمر الملائكة بطاعة آدم، وهذا يدل على أن خلافة آدم بدأت بعد أن علّمه الله هذه الأسماء، ومنذ ذلك الحين أُمر الملائكة بتأييده ونصرته. فالحق أن الآية الأولى إِنّي جاعِلٌ فِي الأرضِ خليفةً لا تخبر عن خلافة آدم بل تخبر عن الخلافة فقط، ثم بعدها علّم اللهُ آدمَ الأسماءَ، وكان هذا بمثابة إعلانٍ عن شخص اختاره الله خليفة في الأرض.

أما قوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فلا ينخدعنّ أحد من كلمة كلها أنها تعني أن آدم أُعطيَ علمًا كاملًا لجميع الصفات الإلهية كلها، أو للغة كلها. ذلك أن كلمة (الكل) لا تشمل بالضرورة كلَّ فرد من الجنس، بل يُطلَق أحيانًا على ما هو ضروري فقط. وقد ورد هذا الاستعمال في مواضع عديدة في القرآن الكريم كقول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ (الأَنعام 45)، أي أن الأمم التي قبْلك لما نسي أهلها وصايانا فتحنا عليهم أبواب كل أنواع الرقي، ثم بعد ذلك أنزلنا عليهم العذاب. فـ كل شيء هنا لا يعني أنهم نالوا كل نعمة من الدنيا، بل المقصود أنهم نالوا نصيبًا من كل النعم العظيمة في عصرهم أو في بلادهم.

وأيضا قال الله تعالى لأهل مكة أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا (القصص 58)، وليس المراد من ثمرات كل شيء هنا كل الثمار الموجودة في العالم، بل ما هو ضروري منها لصحة أهل مكة ومُتعتِهم ولذّتهم. وهناك آيات أخرى ورد فيها لفظ كل بمعنى الكثير أو حسب الحاجة والضرورة.

واستعمال لفظ كل وما يماثله في المعنى، شائع في كل اللغات بالإضافة إلى العربية، والسياق يحدد ما إذا كان المراد به هو المعنى الحقيقي أم المجازي.

فليس المراد من قوله تعالى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا أن الله تعالى علّمه الصفات الإلهية كلها، أو كلَّ الصفات الإلهية المتعلقة بالإنسان، أو العلمَ الكامل لتلك الصفات، لأن الثابت من القرآن الكريم أن علم الصفات الإلهية المتعلقة بالدين كُشف للناس تدريجيًا، واكتمل على يد الرسول ، كما قال الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة 4). فالصفات الإلهية لم تنكشف كلُّها على آدم ، بل ظلت تنكشف شيئًا فشيئًا عبر العصور، وبلغ انكشافها الذروة والكمال على يد الرسول . وعليه فالمراد من تعليم الله لآدم الأسماءَ كلها أنه انكشف على آدم من صفات الله تعالى ما كان ذا صلة بعصره، وبالقدر الذي كان ضروريًا في زمنه فقط. كما أن لفظ كلها لا يعني أنه انكشف عليه من صفات الله تعالى ما ليس له علاقة بالبشر.

غير أنه يمكن أن يراد من كلمة كلها كل الصفات المتعلقة بالإنسان، وعليه، سيكون معنى هذه الآية أن الله تعالى زود آدمَ وذريتَه بصلاحية إدراك كل الصفات الإلهية؛ بمعنى أن تعليم الله لآدمَ الأسماءَ كلَّها كان بالقوة وبالإجمال، وليس بالفعل وبالتفصيل، أي أن الله تعالى زود آدم وذريتَه بكفاءة إدراك الصفات الإلهية بصفة عامة، وإن كان هذا التعليم قد اكتمل بالفعل وبالتفصيل على يد سيدنا محمد رسول الله .

وكذلك إن تعليم الله لآدمَ أسماء اللغة لا يعني أنه تعالى علّمه كل أسماء اللغة وموادها، بل المراد تعليمه أصولَ اللغة التي تطورت فيما بعد بصورة اللغة العربية المتكاملة.

أما قوله تعالى ثم عرضهم على الملائكة فضمير الغائب “هم” في عرَضهم لا يعود على الأسماء، لأن هذا الضمير لجمع المذكر العاقل، أما كلمة الأسماء فمؤنثة ومؤكدة بكلمة كلها ؛ فثبت أن الذين عُرضوا على الملائكة ليسوا الأسماء نفسها، بل الذين سُمُّوا بها.

كما أن ضمير الجمع للغائب العاقل في عرضهم يدل على أن ما عُرض على الملائكة لم يكن من قبيل الأدوات مثل الكوب أو الإبريق أو القِدر وغيرها من الأشياء، إذ لو كانت هي المقصودة لقيل “عرَضها” بدلًا من عرَضهم ، لأن ضمير “هم” لا يعود في العربية على الحيوانات وغير ذوي العقول، ناهيك أن يعود إلى الجمادات من قدِرٍ وغيرها من الأدوات. فثبت أن الذين عُرضوا على الملائكة كانوا ذوي العقول.

ولا يلزم من قوله عَرَضَهم أن يكون العرض بصورة مادية لأن العرض يعني الإراءة أيضًا، فإذا كان ضمير “هم” عائد على ذرية آدم أو إلى الذين سيكونون أظلالَه الكاملين في المستقبل، فقد يكون المراد أن الله تعالى أرى الملائكةَ مسمياتِ هذه الأسماء، أي أراهم بالكشف أولئك الكُمَّلَ الذين كان من المقَدَّر أن يكونوا مَظاهرَ لتلك الصفات الإلهية في المستقبل.

أما السؤال مَن هؤلاء؟ فنستطيع القول، بالتدبر في السياق، إن الملائكة كانوا يتعجبون من اصطفاء خليفة في الأرض مخافة أن يتسبب في سفك الدماء ونشر الفساد، فأرى اللهُ الملائكةَ أولئك الذين سيكونون في المستقبل مظاهرَ كاملةً للصفات الإلهية التي كانت ستتجلى على آدم وذريته، ثم قال الله للملائكة إذا كان قولكم صحيحًا فأَنْبِئوني بأسماء هؤلاء؛ بمعنى أن الله تعالى أراهم بتقديم هؤلاء الكُمَّل مشهدًا لصفات رحمته أو غضبه التي كانت ستتجلى في المستقبل، وقال لهم هل بوسعكم أن تخبروني عن صفات هؤلاء بالتفصيل؟

كما يمكن أن يكون المعروضون على الملائكة هم أولئك الأعوان والأنصار الذين وهبهم الله لآدم بعد أن تعلّم منه الأسماء وتولّى الخلافة، والذين كانوا مظاهرَ لصفات الله المختلفة، أي أن الله تعالى عرَض هؤلاء الأعوان على الملائكة وقال: أخبِروني عن أسماء هؤلاء، أي عن صفاتهم الكاملة بالتفصيل إذا كان رأيكم في البشر صائبًا. بمعنى أن هؤلاء نموذج مثالي للصلح والسلام، وانعكاسٌ لصفات الله تعالى، وهم الذين قد رباهم آدم، فكيف يمكن أن يقوموا بسفك دم أو فساد. أمّا أعداء آدم، أو الذين يؤمنون بتعاليمه في الظاهر ولا يتبعونه حقًا، فكيف يمكن أن يكون آدم مسؤولًا عن تصرفاتهم وأعمالهم؟

والحق أنه لم يأت حتى اليوم نبي إلا وكانت بعثته مقرونةً بسفك دماء وهياج فتن، لكن ذلك لم يكن نتيجة أعمال النبي أو أعمال أتباعهم، أو بحسب رغبتهم، بل كان ذلك ضد إرادتهم ونتيجة شرور أعدائهم. فالواقع أن الفساد الذي يبدو أنه ظهر حديثًا نتيجة فعل النبي، لا يخلقه النبي في الحقيقة، إنما هو ظهورٌ للفساد الدفين في قلوب المعارضين الأشرار والذي يُشعِله تمرُّدُهم، حيث يصبح النبي سببًا لظهور هذا الخبث والسوء من قلوبهم. والظاهر أن علاج شرورهم الدفينة واجتثاثها محال ما لم تظهر من القلوب إلى السطح.

لقد بين المسيح هذا المعنى بالكلمات التالية:

{لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا، وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 10: 34-36).

لقد أشار المسيح هنا أنه ما جاء إلا للسلام، ولكن المعارضين سوف يغيرون رسالة السلام هذه إلى إعلان الحرب، وسوف يصبح الأخ نتيجةَ الإيمان بي عدوًا لأخيه، والأبُ عدوًا لابنه، وسوف يكشفون عما في باطنهم من خبث وشر وفتنة، وهكذا يشعلون الحرب رغم رسالته الداعية إلى السلام، ويُخيَّل للناس أنه يدعو إلى القتال والفساد مع أنه رسول الصلح والسلام.

كذلك قال الله تعالى وهو يصف حال المسلمين: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (البقرة 217)، أي قد فُرضت عليكم الحرب رغم أنكم تكرهونها جدًا، بمعنى أن المسلمين يحبون الصلح والسلام من صميم قلوبهم، ولكن العدو قد شنّ عليهم الهجوم مرة بعد أخرى حتى اضطر المسلمون للقتال. واليوم يلقي كل العالم المعادي للإسلام اللومَ على المسلمين بأنهم نشروا الفساد وسفكوا الدماء، ولا يفكر أحد منهم أن الكفار هم الذين أجبروا المسلمين على القتال، فالكافرون هم الذين ارتكبوا جريمة سفك الدماء وليس المسلمون، فمَن أجبرَ خصمَه على حمل السيف فلو قتَل خصمَه، أو قُتل بيد خصمه، فهو القاتل في الحالتين، لأنه هو الذي دفَع خصمَه إلى حمل السيف عليه.

ملخص القول إن من معاني هذه الآية:

(أولاً): أن الله تعالى أظهرَ للملائكة بواسطة الكشف أولئك البشر الكاملين، سواء أكانوا كاملين في التقوى أو كاملين في الكفر، الذين كان من المقدر أن يُخلقوا في المستقبل، وسأل الملائكةَ: هل تستطيعون أن تخبروني عن صفاتي التي سوف تتجلى من خلال هؤلاء؟

و(ثانيًا) أن الله تعالى عرض على الملائكة أولئك الذين كانوا سيُحرِزون الكمال الروحاني نتيجة تربية آدم ويستفيدون مما يعلّمهم من الصفات الإلهية، وسأل الملائكةَ: هل تقدرون على التحلي بمثل صفاتهم وخواصّهم، وليس المراد أنه سألهم: ما اسم هذا وما اسم ذاك. وكان الهدف من ذلك أن يبين للملائكة أن الذين سوف يُربّيهم آدمُ لن يسفكوا الدماء ولن ينشروا الفساد في الأرض، بل إن الأعداء هم الذين يعارضون هؤلاء الطيبين المسالمين ويبدأونهم بالحرب، فالأعداء هم الذين يرتكبون سفك الدماء لا آدمُ ولا أتباعه، وإن كان هؤلاء الأعداء الكفار يتشدقون دائما: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة: 12).

أما قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فليس معناه: إن كنتم تصدقون القول، ذلك أنه سبق أن أثبتُّ أن وقوع الملائكة في الإثم محال بحسب القرآن الكريم، فليس المراد أنكم إن لم تكونوا كاذبين فأخبروني بصفات هؤلاء، بل المراد إذا كان رأيكم صائبًا فأَنْبِؤني بصفاتهم. وقد بيّنت لدى شرح الكلمات أن (الصدق) لا يعني دائمًا قول الحق، بل يعني أيضًا الإصابة في الرأي، وهذا هو المراد هنا.

ويتضح من معاني هذه الآية أيضًا أن الله تعالى يُطلِع أنبياءه -إلى حد ما- على مواهب أتباعهم والأنبياءِ المبعوثين من بعدهم، ونرى هذه السنة الإلهية مستمرة مع الأنبياء الذين بعثوا بعد آدم، فإنهم ظلوا يُنبِئون ببعثة نبي أو أنبياء يأتون من بعدهم، أما سيدنا ومولانا محمد الذي كان جامعًا للكمالات والفضائل كلها فقد أنبأ ببعثته كلُّ نبي سابق. وكذلك يتضح بالنظر في حياة الأنبياء أن أحوال الخواص من أتباعهم تنكشف عليهم انكشافًا إجماليًا، ولذلك لم يخطئ نبي في اختيار أصحابه وأنصاره قط، أي لم تجتمع أغلبيتهم على الخطأ بتاتا. ويا ليت إخواننا الشيعة أدركوا هذه الحقيقة، فكَفُّوا عن معاداة الخلفاء الراشدين.

حكمة لطيفة: مِن طرق التعليم الحديثة ما يُسمى “روضات الأطفال” التي ابتكرتها ألمانيا، حيث لا يعلّمون الصغار من الكتب، بل يعرضون عليهم الأشياء ويعلّمونهم أسماءها، مما يساعدهم على حفظ الدرس جيدًا بدون عناء. في هذه الطريقة التعليمية يأخذون الأولاد إلى الحديقة ويحفّظونهم أسماء الأشياء، أو يعرضون أمامهم صورها ونماذجها المصنوعة من الطين أو الخشب. وتعتزّ أوروبا، ولا سيما ألمانيا، بهذه الطريقة التعليمية كثيرًا، ولكن انظروا كيف أن القرآن الكريم قدم في هذه الآية الوجيزة فكرةَ روضات الأطفال تقديمًا لطيفًا رائعًا، فإن الله تعالى لم يعلّم آدمَ اللغةَ بحفظ الكلمات عن ظهر غيب، بل علّمه أسماءَ الأشياء بعرضها عليه وببيان خواصها له عمليًا. ثم عند تعليم الملائكة، لم يجبهم الله تعالى بالكلمات فقط، بل اتبع الأسلوب نفسه، أعني عرَض عليهم الأشياء أو صورها في الكشف، ثم قال لآدم أَنْبِئْهم بأسمائها. ذلك لأن هذا الأسلوب هو الناجح للتعليم؛ حيث تُعرض الأشياء الأصلية، أو نماذجها، أو صورها، مع أسمائها وخواصها ووظائفها. فأوّل درس على منهاج روضة الأطفال لم يتمّ في ألمانيا، بل تم في الجنة، أو روضة آدم، فكانت بذلك أول روضة لتعليم الأطفال، حيث علّم الله آدمَ بوحيه أولًا، ثم علَّم الملائكة الأسماءَ بعرض مسمياتها، لكي يُنقش الدرس في الذهن مع كل تفاصيله وكيفياته.

ومن الأمثلة الحديثة للتعليم الإلهي ما جرى مع مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في هذا العصر، فهو لم يتعلم في أي مدرسة، ومع ذلك لما بدأ في تأليف الكتب باللغة العربية امتثالاً لأمر الله تعالى، علّمه الله في ليلة واحدة أربعين ألف لفظ من اللغات العربية (الخزائن الروحانية ج 11، عاقبة آتهم صفحة 234). فقام بعدها بتأليف الكتب متحديا العلماء في العالم كله بأن يأتوا، جميعًا أو فرادى، بمثلِها في بلاغتها ومعانيها اللطيفة الرائعة، ولكن لم يكن لأحد أن يأتي بمثلها حتى اليوم، رغم كثرة توزيع تلك الكتب في البلاد العربية وقتئذ. ومثل هذا الإعجاز ليس إلا ثمرة لإعجاز القرآن الكريم وتصديقًا له.

هناك سؤال لا بد من الرد عليه. يُقال: إذا كان الملائكة لا يستطيعون التعلم، فما الفائدة من إخبارهم بهذه الأسماء؟ وإذا كانوا قد تعلموا فقد بطُل القول بوجود التفاوت بين آدم والملائكة من حيث التعلم!؟

والجواب هو أن عِلْمَ آدم كان تفصيليا، أما علم الملائكة فإجمالي، والعلم الإجمالي بالشيء يمكن أن يتيسر للذين ليس عندهم صلاحية تعلُّم ذلك الشيء بالتفصيل. كان الله تعالى يريد فقط أن يخبر الملائكة أنهم غير قادرين على معرفة الصفات الإلهية كما يقدر على معرفتها آدم بسبب ما أُعطيَ من صلاحية لذلك، وكان بوسع الملائكة إدارك الأمر إلى هذا الحد إذا عُرض عليهم الكاملون من أولاد آدم وأتباعه، وليس المراد أن الملائكة حازوا العلم المفصل لصفات الله تعالى كلها بمجرد رؤية هؤلاء الكاملين.

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة :33)

 شرح الكلمات:

سبحانك: يقال سبحان الله، أي أبرّئ الله من السوء براءةً. (الأقرب)

(للمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى (ونحن نسبح بحمدك….).

الحكيم: العالم؛ صاحبُ الحكمة؛ المتقن للأمور. والحكمة: العدلُ؛ العلمُ؛ الحلمُ؛ ما يمنع من الجهالة؛ كلُّ كلامٍ موافقٍ للحق؛ وقيل: وضعُ الشيء في موضعه؛ وصوابُ الأمر وسداده (الأقرب).

وحَكَمَ: أصلُه منَع منعًا لإصلاحٍ، ومنه سُمّيت اللجامُ حَكَمةَ الدابةِ… قال الشاعر: “أبَني حنيفةَ أَحْكِموا سفهاءَكم” (المفردات). أَحْكِموا سفهاءكم يعني: امنَعوهم من السفاهة.

التفسير:

قال الملائكة بعد رؤية هؤلاء الكُمَّل، ربنا أنت بريء من كل عيب، وإننا لا نعلم إلا ما قد علّمتنا، وإنك أنت العليم الحكيم. أي أننا لم نكن نستوعب مسألة خلافة آدم، حيث ظننا أن خلافته ستؤدي إلى سفك الدماء والفساد، ولكننا قد علمْنا الآن أنه رغم وقوع سفك الدماء والفساد بعد خلافته، إلا أنه لن يكون مسؤولًا عن ذلك، بل إنها نتيجة حتمية لمنصبه، وسببُه الأعداءُ من الخارج، أو الضعفاءُ من الداخل، وليس الخليفةُ وأتباعه. لقد أدركنا الآن أن هذه الخطة لا تخلو من حكمة، وهي دليل على كونك حكيمًا.

ويقول البعض خطأً بأن الله تعالى علّم آدم فتعلّم، ولكنه تعالى لم يعلّم الملائكة فلم يتعلموا، فما ذنب الملائكة في ذلك، وكيف تصحّ تخطئة كلامهم؟

إنما نشأ هذا الاعتراض عند أصحابه لأنهم ظنوا أن الآية السابقة التي تضمنت الإعلان عن بدء الخلافة في الأرض تعني ما يلي:

(1)ـ أن الله تعالى استشار الملائكة، (2)ـ فقال الملائكة في الجواب إننا نسبّح بحمدك فما الحاجة إلى خليفة معنا، ألا نكفي لتسبيحك.

ولكن كلا الأمرينِ اللذين استنتجوهما من هذه الآية باطل، لأنه:

(أولا): لا تتحدث هذه الآية عن أي استشارة من قِبل الله تعالى، بل تقول إن الله تعالى قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً . لا تدل في هذه الكلمات أبدًا على أي استشارة. لو أراد الله استشارتهم لقال: ما رأيكم أيها الملائكة، هل أجعل في الأرض خليفة أم لا؟ ولكن لم يرِد مثل هذا القول هنا ولا في أي موضع آخر في القرآن الكريم. فما دام الله تعالى لم يستشرهم، فكيف يقال: لماذا استشار الله تعالى الملائكة الذين لم يكن عندهم علمٌ بالأمر، وما دام قد استشارهم فلمَ الاعتراض على رأيهم؟

و(ثانيًا): لقد سبق أن بينت في تفسير هذه الآية إنه ليس في قول الملائكة أبدًا ما يدل على أنهم قالوا: أي حاجة إلى أي خليفة ونحن موجودون؟. وأَنَّى للملائكة أن يقولوا ذلك خاصة وأن الله تعالى يخبرهم عن اصطفاء خليفةٍ في الأرض وليس في السماء؟.

الواضح من كلمات الملائكة أنهم كانوا يريدون أن يفهموا الحاجة الداعية إلى إقامة هذا النظام الجديد في العالم مع إمكانية سفك الدماء والفساد بعد ذلك. فالحق أن سؤالهم كان من أجل فهم الحقيقة، ولم يكن اعتراضًا على الله تعالى، أو إثباتًا بأنهم أحقُّ بالخلافة. وكان للرد على سؤالهم طريقتان: إما النفي الباتّ لإمكانية سفك الدماء والفساد بعد الخلافة، أو إقرار هذه الإمكانية مع التأكيد أن هذا النظام الجديد بالغُ الأهمية للبشر، وأن نفعه أكبر من ضرره. ولما كان الجواب الأول هو الأصحّ والأولى بصدد نظام الخلافة الإنسانية، فبِهِ ردَّ الله على سؤالهم. ولمْ ينفِ سبحانه وتعالى إمكانيةَ سفك الدماء والفساد على يد بعض الجناة في هذا النظام، غير أنه صرّح أن هذا النظام سيُنتِج شخصيات عظيمة متحلية بعديد من صفات الله عز وجل، لذا فخلْق مثل هذه الشخصيات العظيمة، بالرغم من وجود شخصيات ناقصة أيضًا، ضروريٌ من أجل إظهار الصفات الإلهية على الأرض ونافعٌ لنظام الدنيا.

وكان من الممكن أن يتم هذا الجواب أيضا بإحدى طريقتين:

الأولى: بِدَعْمه بالأدلة العقلية.

الثانية: من خلال إظهار مواهب هذا الخليفة الأول وكفاءاته بصورة عَملية وبتقديم الكاملين من أتباع آدم للملائكة كشفًا.

والظاهر أن الطريقة الثانية للجواب هي الأقوى تأثيرًا والأدعى إقناعا. وهذا ما فعل الله تعالى، إذ علّم آدمَ صفاتِه، فأثبت بالتصبغ بصبغة صفات الله أن إظهار الصفات الإلهية إظهارًا كاملاً محالٌ إلا من خلال كائن مزودٍ بقوى الخير والشر، ومُخيَّرٍ بينهما، ليستولي عليه الحبُ الإلهي، فيندفع نحو إنماء قوى الخير في نفسه، فيحظى بقرب الله تعالى. لما كان لزامًا، من أجل الظهور الكامل لصفات الله تعالى في الدنيا، أن يُخلَق كائنٌ يُعلَّم ما هو الخير وما هو الشر، ويُعطى القدرة على اختيار ما شاء منهما، فكان لابد من التغاضي عن خطر وجود أفراد ناقصين يسفكون الدماء ويعيثون الفساد باتباعهم طريق الشر. ولو لم يُعطَ هذا الكائنُ القدرةَ على الاختيار، وأُجبرَ على اتباع الخير فقط، لما سُمّي مَظْهَرًا لصفات الله تعالى، بل عُدُّ أداةً طيعة لا حياةَ فيها ولا إرادة ولا مقدرة.

بعد استيعاب حقيقة هذا الجواب لا يصعب على المرء أن يدرك ضحالة الاعتراض القائل بأن الله تعالى علّم آدمَ ولم يعلّم الملائكة، فكيف قال لهم أَنْبِئوني بخواص وصفات هذه المسميات؟ ذلك أن الملائكة إنما سألوا عن السبب الداعي لخلْق هذا المخلوق القادر على ارتكاب الإثم والذي يُعَدّ مجرمًا بمنظور الشرع. ولا يمكن الرد على سؤالهم إلا أن يقال: لا شك أن البشر يكونون قادرين على ارتكاب الإثم، ومع ذلك سيكون بينهم الكُمَّل الذين يسلكون سبل الخير رغم قدرتهم على ارتكاب الشر، ويتصفون بالصفات الإلهية بحسب نطاقهم، ثم يقومون بإرشاد غيرهم إلى سبل الصلاح تحت النظام، وهذا هو الأمر الذي يجعلهم مقرّبين عند الله تعالى، ويمثّل دليلًا على كمالهم وفضلهم. فما هو السبيل لكشف حقيقة الأمر وكنهِ الكمالات الإنسانية إلا أن يُرِيَ اللهُ الملائكةَ هؤلاء الكُمَّلَ من البشر الذين يفوقون الملائكةَ في دائرة أعمالهم، ويتسببون في تجلّي الصفات الإلهية كلها بصورة أفضل. فهذه الآيات ليست مدعاة للاعتراض، بل قد بينت حقيقةً ساميةً بأفضل وأكمل أسلوب ممكن.

إن هؤلاء يقدمّون هذا الاعتراض وكأن الملائكة قد اعترضوا، مع أن جواب الملائكة يكشف أنهم اطمأنوا بهذا الجواب الرباني معترفين بأن علمهم محدود وأن البشر أوسع منهم علمًا، ومقرّين بأن الله هو العليم الحكيم، أي أن عِلم الله كاملٌ، ولا يخلو فعلٌ من أفعاله من الحكمة.

يعترض البعض على هذا ويقول: هذا يعني أن الله هو العليم، وليس للإنسان أي فضل وكمال شخصي؟

والجواب أن الإسلام يُعلِّم أنه ليس في أحد ميزةٌ ذاتية في الحقيقة سوى الله تعالى، وهذا هو الحق، وهذا ما أقرَّ به الملائكة في جوابهم الأول إذ قالوا منذ البداية: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ . فلم يكن هناك أيُّ نقاش فيما إذا كان عند الله العلمُ الكامل أم لا، وإنما كان السؤال: هل هناك حاجة أو غاية لخلْق البشر أم لا؟ وهذا ما أجاب الله عليه بإعطاء آدمَ عِلْمَ الصفاتِ الإلهية، حيث بيّن الله تعالى أن هذا المخلوق القادر على فعل الخير أو الشر؛ هو أكثرُ صلاحيةً لتعلُّم العلوم الربانية مِن الكائنات التي تقدر على فعل الخير فحسب دون الشر. وقد أدرك الملائكة هذه الحقيقة وأقرّوا قائلين: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، بمعنى أنهم لا يستطيعون أن يكونوا مظهرًا كاملاً لصفة الله العليم، بل إن الإنسان هو القادر على ذلك، فلا شك أنه خُلق وفقًا لصفة الله العليم، أي أن في خلقه حكمةً إلهيةً بالغة.

لقد تبين مما سبق من الشرح أن الله تعالى قد ذكر هذه التفاصيل من قصة آدم ليبين الغايةَ من خلق الكون وحكمته، ويخبر أن الهدف من نزول الوحي السماوي في كل زمن إنما هو تحقيق هذه الغاية نفسها، فالذين يعترضون على بعثة الأنبياء فكأنهم يقولون: لِما يريد الله تعالى تحقيق غاية خلق الإنسان؟! إنه اعتراض واهٍ وسخيفٌ، وما كان الله ليمتنع عن بعثة الأنبياء بسببه.

أما قول الملائكة: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا فليس معناه أن علمهم مقصور على ما عَلَّمهم الله، فهذه حقيقة بينة مفروغ منها، إنما يعنون بقولهم هذا أن علمهم لا يزداد كازدياد علم الإنسان الذي زوده الله بالقدرة عليه. ويعني قولهم أيضا أن ما وهبهم الله من قوى لا يستطيعون بها مباراة الإنسان في علومه المتنوعة الجامعة. وكأنهم قالوا لقد أدركنا أن الإنسان مخلوق لحكمة، وأنه مكلّف بعمل ما لا يستطيعونه، وأن خلق البشر ضروري ومليء بالحِكم، رغم أن بعضهم سيسفكون الدماء، أو يكونون سببًا في ذلك، أو سيُضطرون لسفك الدماء للقضاء على شرور الأشرار منهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك