نَظَراتٌ "أحمدية" في القرآن الكريم

نَظَراتٌ “أحمدية” في القرآن الكريم

نذير أحمد القزق

 

  • متى خُلق الكون؟

بعض الناس يعتقدون بأن الكون قد خُلِقَ أو تكوَّن في ستة أيامٍ، والبعض يقولون بستة آلاف سنة، والآخرون يعتقدون باختلاف عن الاثنين معًا. هل قال الله تعالى لنا شيئًا بهذا الخصوص. في سورة “يونس” يقول الله تعالى:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ (يونس: 4)

وكلمة “يوم” في اللغة العربية تعني:

  • وقت أو زمان، نهارًا كان أو ليلاً ، قصيرًا أو طويلا،
  • يوم من الشروق إلى الغروب،
  • الوقت الحاضر أو الآن،
  • “وأيام الله” تعني ثواب الله وعقابه، (الأقرب وقاموس لين). يقول الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (الحج: 48).

وفي مكان آخر، يقول الله تعالى:

فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة (المعارج: 5).

بل في مكان آخر يقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (المائدة: 4) فكلمة (اليوم) هنا تعني بوضوح (الآن).

في الآية الرابعة من سورة يونس، إن كلمة”أيام” التي مفردها “يوم” لا تشير إلى الفترة أو الوقت المحدد بشروق الشمس وغروبها، لسبب واضح وهو أن الآية تتكلم عن وقت حيث أن الشمس لم تكن موجودة بعد، ولكن بما أن الشمس هي جزء من هذا الكون، فإن حدوث وجودها وتكوينها كان في وقت واحد مع وجود وتكون الكون. إذًا فإن كلمة “أيام” بالحتم لم تستعمل هنا بمعنى الأيام العادية المتكونة من 24 ساعة.

ففي ضوء هذه المعاني لكلمة “يوم”؛ فإنه لايسعنا إلا أن نقول بأن معنى “يوم” في سورة يونس الآية 4، ما هو إلا وقت أو زمان، فترات من الوقت أو الزمان، أي أن الله قد خلق السماوات والأرض في ستّ فترات في الزمان يعني على ستّ مراحل.

كثير من المراجع البارزة مثل مجاهد، وأحمد بن حنبل، وابن عباس قد قالوا بأن كلمة “يوم”، ومدة هذه الفترة هي ألف سنة (راجع ابن كثير). وقد استنبطوا هذه النتيجة من الآية الواردة في سورة الحج الآية 48، حيث أن اليوم يساوي ألف سنة. لا شك، عندهم الحق بالاعتقاد بأن كلمة “يوم” في هذه الآية لا تدل على الفترة الزمنية والمحددة بدورة الأرض، ولكنهم ليسوا على حق في اعتقادهم بأنها تدل على ألف سنة، لأنه حسب القرآن الكريم فإن هناك كلمة “يوم” (فترة) بما يعادل خمسين ألف سنة (المعارج:5).

وإذا حسبنا فترة ستة أيام على هذا الأساس فإن خلق السموات والأرض قد تمَّ في ثلاثمئة ألف سنة. ولكن لا يمكننا أن نفترض بأن الله قد أفصح لنا عن مدى أيامه. إذا كانت بعض أيام الله تمتد على فترة من ألف سنة والأخرى على خمسين ألف سنة، فإذًا يمكن أن يكون بعض الأيام التي تمتد على فترة من ملايين أو بلايين السنين.

لقد اكتشف العلم الحقيقة، وهي أن السموات والأرض قد نشأت وتتطورت عبر ملايين السنين قبل أن تصبح على ما هي عليه الآن. وهناك رؤية للعلاّمة المسلم البارز محي الدين ابن العربي تؤكد هذه الحقيقة العلمية أيضًا.(الفتوحات المكية، تفسير سورة البقرة، آية:31). فلا يمكننا تحديد مدة “ستة أيام” التي قد تم خلالها خلق السماوات والأرض. كل ما يمكننا قوله هو بأن الله كان يحدث بعض التغييرات المختلفة على فترات مختلفة، بعضها كان يأخذ ألف سنة، ولكن البعض الآخر كان يأخذ فترات أطول. ومجمل الكلام أن خلق السماوات والأرض قد تمَّ في ست فترات أو مراحل..

في سورة يونس الآية 4 تعني كلمة “ثم” أنه بعد إتمام خلق السماوات والأرض في ستة “أيام” أو ست “مراحل”، فإن الله تعالى استوى على العرش في اليوم السابع. وإن كلمة “سبع” في اللغة العربية تُستخدم عادةً لتدل على الكمال، وعلى هذا الأساس فإن الآية تعني بأنه في اليوم السابع عندما أصبح الله مقيمًا بالتثبيت على عرش قوته وعظمته، فإن الكون قد أصبح في كامل نظامه العملي أو ما يسمى الآن بالقانون الطبيعي لسير الكون.

  • مراحل التطور الروحي للإنسان

ما هي الشروط التي يجب توفرها في المؤمن قبل أن يطمح إلى تحقيق النجاح في الحياة، ويحرز أسمى وأرفع غرض من أجله قد خلقه الله تعالى؟

الجواب على هذا السؤال مكتوب في سلسلة من الآيات القرآنية في سورة المؤمنين. يقول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . فكلمة “المؤمنون” في هذه الآية تعني ذوي الدرجة الروحية العالية والذين ذُكرت خصائصهم وعلاماتهم المميزة في الآيات القادمة. إن الآية تقول بأن المؤمنين سوف يحققون الفلاح، وليس بأنهم سيحصلون على النجاة، ذلك لأن تحقيق الفلاح الذي هو غرض حياة الإنسان هو مرحلة أعلى بكثير من تحقيق النجاة التي تدل فقط على التخلص من المصاعب والحرمان.

الآن وقد شرحنا معنى كلمة “المؤمنون” فإنه يمكننا البدء بالإجابة على السؤال أعلاه بالقول بأن هذه الشروط يمكن اعتبارها على عدة مراحل في التطور الروحي للإنسان.

المرحلة الأولى

يقول الله تعالى:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ .

الخطوة الأساسية في هذه المرحلة الروحية هي بأن يتجه المؤمن لله تعالى بكل خشوع، خائفًا من العظمة الإلهية وبقلب ثابت وروح متواضعة.

المرحلة الثانية

يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ .

المرحلة الثانية في رحلة الإنسان الروحية تتكون من الابتعاد عن كل الأفكار العقيمة والكلام غير المجدي الفارغ، التافه، وأيضًا بالابتعاد عن الأعمال العابثة التي لا طائل ولا فائدة منها. فالمؤمن الحق لا يصلي لله تعالى بمنتهى خشوع القلب فقط، ولكنه يأخذ الحياة بجدية. الحياة هي حقيقة جدية ومروعة، وعليه أن يأخذها على هذا المحمل. عليه أن ينتهز كل لحظة منها ويستفيد بها، وأن ينأى عن كل المساعي العابثة غير المجدية، أي المساعي غير القادرة على عمل أي منفعة، لا لنفسه ولا لجاليته أو لبلده. إن الإعراض عن اللغو أو المساعي العابثة ما هو إلا النتيجة الطبيعية والحتمية للخضوع في الصلاة كما هو واضح في آية أخرى من القرآن الكريم:

إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (العنْكبوت: 46).

المرحلة الثالثة

يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ .

هذه الآية تعود إلى الدرجة الثالثة من السُلَّم الروحي .فالمؤمنون الحقيقيون لا يتوجهون لله تعالى بمنتهى خشوع القلب والابتعاد عن كل أنواع العبث والأمور التافهة فقط، ولكن في الحقيقة يشغلون أنفسهم بالمساعي التي تنقيهم وتصفيهم، كصرف وقتهم الثمين وأموالهم التي كسبوها بالجهد وتوظيف كل الطاقات الطبيعية والقدرات التي منحهم الله تعالى إياها في سبيل إعلاء الصدق والحق. إنهم مستعدون لتحمل جميع التضحيات.

في المرحلة الثانية، قد وُصف المؤمنون بأنهم يعرضون عن اللغو وهي فضيلة رفض أو نفع وليست ذات مرتبة عالية، أما الآية الحاضرة، فهي تشير إلى فضيلة إيجابية تتكون من عمل الخير الذي ينقي النفس وينفع الآخرين أيضا، كما تتكون من إعطاء المال الذي كسبه الإنسان بعرق جبينه في سبيل الله تعالى. وهذه في الحقيقة فضيلة إيجابية كبيرة. الحقيقة أن الإسلام يعتبر مشاركة الفقير في ثروة الغني حقا له غير قابل للتحويل، وعندما يسدد رجل غني الدَينَ الذي يدينه للفقير بدفع الزكاة، فإنه لا يعمل معروفًا لأي إنسان بل يعطي ما استحق عليه فقط. يقال بأن الرسول قد قال بما معناه: لا يتخيل أحدكم بأن ثروته أو منزلته أو قوته هي مجرد نتيجة مجهوده الخاص أو مشروعه، إنه ليس كذلك، بل إن قوتكم ومركزكم وثرائكم كلها مكتسبة من خلال مجهود الفقير. (الترمذي، أبواب الزهد).

الغرض من الزكاة ليس فقط إعانة المحزون أو المكروب أو رفع صالح القطاعات الأقل حظًا اقتصاديا والموجودة داخل المجتمع، ولكن أيضا لمنع إدخار المال والسلع، وبذلك تضمن تداولاً سريعًا ومنعشًا للاثنين معًا، وتنتج عن ذلك تسويات اقتصادية صحية.

المرحلة الرابعة

يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ .

أولا، علينا أن نشرح كلمة فُروج. وهي جمع فَرْجٌ، مشتقة من فَرَجَ. فَرَجَ الشيءَ، يعني فَتَح الشيء بحيث يعمل ثغرة أو صدعًا. والفرج يعني العضو أو الأعضاء من شخص التي لا تليق بأن تُعرض، أو الأجزاء الخارجية للأعضاء من نسل الرجل أو المرأة. المكان الذي بين جانبي الوادى مثلاً؛ المدخل؛ حدود للعبور إلى بلد.

هذه الآية تشير إلى المرحلة الرابعة لتطور الإنسان الروحاني. هي في الحقيقة علامة مرحلة راقية جدًا. الدرس مكتوب بالخطوط العريضة على صفحات التاريخ، ويقول بأن هناك عدة أمم قد آلت إلى الخراب والدمار لأنها مالت إلى الممارسات غير الأخلاقية. إن صفة الأخلاق الجنسية تلعب دورًا هامًا في بناء الصفة القومية للشعوب. والإسلام حريص جدًا على هذه الناحية. إنه يعتبر العفة الجنسية من أقدس الواجبات على المؤمن. لقد أغلق الإسلام الباب على كل الطرق المؤدية إلى الانحلال الخلقي. إن الكلمة “فرج” تدل على تلك الطرق التي من خلالها تتسرب الأفكار الشيطانية إلى قلب الإنسان. إنها تشمل جميع أجزاء وأعضاء الجسم، مثلاً: العينان، الأذنان، اللسان، اليدان، القدمان والعورة إلخ. الإسلام ينظر بازدراء شديد إلى كل الممارسات التي من شأنها إثارة الأهواء الإنسانية، والتي هي مشهورة جدًا في الغرب أو بين الشعوب المفتونة بطرق الحياة الغربية. هذه الآية تدل على مرحلة أعلى في ارتقاء الإنسان الروحي عن الآية السابقة والمذكورة في المرحلة الثالثة. إن صرف المال في سبيل الله تعالى، أسهل بكثير من أن يتغلب الإنسان على أهواءه الجسدية حين إثارتها، ولكن الإنسان عانى من إشباع شهواته الجسدية أكثر مما عانى من أي شيطان آخر. إن كبح جماح الرغبات الجسدية يتطلب تهذيبًا وضبطًا للعقل أكثر من أن تصرف الثروة في دواعي الخير.

المرحلة الخامسة

يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ .

هذه الآية تشير إلى مرحلة أعلى عن سابقتها في التطور الروحي للإنسان. إنها تعني بأن الصالحين الحقيقيين عندهم الحذر الكامل للواجبات التي يجب أن يؤدوها لله تعالى وللإنسان أيضًا. إنهم لا يفعلون الأعمال الحسنة بسطحية أو بطريقة عشوائية، ولكن ينظرون إلى دقائق تفاصيلها بحذر شديدٍ، وهم يحرصون أيضًا على أن لا يهملوا مظاهر أخرى من  أعمالهم. هؤلاء المؤمنون لهم حرص دقيق في توزيع مسؤولياتهم. إنهم لا يسترخون في المحاولة حتى يبقوا صادقين لأماناتهم وصادقين في عهودهم واتفاقياتهم التي يعقدونها مع الناس الآخرين. هذا ما تدل عليه كلمة “راعون”.

المرحلة السابقة أو الرابعة حيث إن المؤمن يضبط تمامًا على أهواءه الجسدية، تصبح الآن فضيلة رفض بالمقارنة مع هذه الدرجة الخامسة من الارتقاء الروحي. في تلك المرحلة أي الرابعة إنه يمتنع فقط عن الانغماس في الرذيلة، ولكن في هذه المرحلة أي الخامسة إنه دائم الترقب، ليكتشف أرق وأرهف أسطح الفضيلة، ويحاول أن يعمل بها. هذه حتمًا مرحلة أعلى من سابقتها.

المرحلة السادسة

يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .

هذه الآية هي آخر وأعلى مرحلة في التطور الروحي. بالوصول إلى هذه المرحلة يصبح عابر السبيل الروحي تقريبًا ذا مناعة عن إمكانية البعد عن خالقه. إنه يَنعم ويشمس بشمس حب الله تعالى، كما أن روحه تتغذى من ينبوع فضله ورحمته. إنه قد أحرز هدفه، وبالتالي فإن كل خوف من العثار أو السقوط يختفي. في هذه المرحلة تصبح عبادة وذكر الله تعالى طبيعة ثانية له، و جزءًا لا يتجزأ من وجوده وكيانه، ومصدر سُرور وسكينة لروحه. فلا يحتاج بعد ذلك إلى تذكار أو نصح في هذا المجال. إنه يشعر بجذبٍ لا يقاوم نحو صانعه وخالقه. إن المؤمن في هذه المرحلة يعتني عنايةً خاصة بأعمال العبادة الجماعية التي تتضمن مصلحة الجميع فتصبح فيه قوية جدًا. ثم يحاول أن يوقظ الحب في الآخرين ويُخضع الفائدة الشخصية لخير جماعي وقومي. هذه هي دلالة الكلمات: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . فقد قيل بأن الرسول قد قال: “الصلاة معراج المؤمن”.

في المرحلة الخامسة المذكورة في الآية السابقة كان عابر السبيل الروحي صادقًا لأمانته ومسؤولياته من أجل الفضيلة، أما في هذه المرحلة الأخيرة من التطور الروحي فإنه صادق لها من أجل حب الله تعالى وهذا بكل وضوح مرحلة أعلى وأسمى. عندما يرقى المؤمن إلى هذه المرحلة، يهبط الله تعالى على فؤاده، فيصبح في ذات معه.

إن كلمة “صلوات” قد استُعملت في صيغة الجمع. هذا يشير إلى أن المؤمنين لا يحافظون على صلواتهم وحدهم، ولكن يحثون الأقارب والأعزاء على أن يحافظوا على صلواتهم أيضًا. كما أن كلمة “يحافظون” تدل على أنهم يؤدون صلواتهم بكل الأحكام والشروط المتعلقة بها، مثلا:

  • يؤدونها بانتظام وفي مواعيدها الموقوتة
  • يؤدونها مع الجماعة،
  • يؤدونها بروح صادقة وبمنتهى خشوع القلب، ولا يسمحون لأفكار هائمة بإفسادها، ثم إنهم يفهمون ويدركون تمامًا معنى الكلمات التي يقولونها.
  • إنهم لا يؤدون الصلوات الخمسة اليومية فقط، ولكن صلوات النوافل أيضًا، خصوصًا الصلاة في المنتصف الأخير من الليل، وهي صلاة التهجد.

يقول الله تعالى:

أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

بما أن المؤمنين المذكورين في الآيات السابقة قد جمعوا في أنفسهم العديد من الفضائل، فإذًا سوف يُسْكنُون في حدائق تشمل كل شيء موجود في أية حديقة. ولما كانوا قد قضوا على رغباتهم، فإن الله سوف يعطيهم بالمقابل الحياة الأبدية وينالون كل ما يشتهون. هذه المرحلة هي النتيجة الحتمية للمراعاة الشديدة للنظام والتهذيب الروحي الذي يخضع له المؤمن نفسه.

  • مراحل التطور الجسدي للإنسان

إن العلم لم يكتشف حتى الآن أي شيء معارض للتعاليم القرآنية وفي موضوع بحثِنا اليوم سوف نرى كيف أن القرآن الكريم الذي أُنزل قبل أكثر من 1400 سنة قد تداول المراحل المختلفة للتطور الجسدي للإنسان، من مرحلة ما قبل الجنين إلى أن يصبح طفلاً كاملاً.

لقد ذُكر في الآيات العشر الأوائل من سورة “المؤمنون”، المراحل المختلفة لتطور الإنسان الروحي، وفي الآيات التالية يصف القرآن المراحل المختلفة لتطوره الجسدي، وبهذا ينشىء موازاة ملحوظة بين نمو وولادة الإنسان الروحية والجسدية.

يقول الله تعالى في سورة “المؤمنون”:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (المؤمنون: 13).

وكلمة “طين” تعني: صلصال، وحل، أرض، تراب ناعم غني بالمادة العضوية، تربة. (قاموس لين والأقرب).

بهذه الآية يبدأ وصف عملية أشرف خلقٍ لله تعالى وهو الإنسان، عندما كان في صورته البدائية ممثلاً على شكل غبار. إن المركبات العضوية للأرض، تتحول خلال عملية معقدة ودقيقة إلى جرثومة حياة عن طريق الطعام، مثل الخضار والفواكه واللحوم.. الخ. وهذا الطعام منشأه وأصله التربة التي يعيش وينمو ويعتمد عليها.

مراحل النمو الجسدي للإنسان

المرحلة الأولى

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ .

هذه الآية تشير إلى مرحلة الجنين، إذ أن النطفة تستقر في الرحم، فتجد فيها مستودعًا آمنًا، ثم تبدأ في النمو.

المرحلة الثانية

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً .

وكلمة “عَلَقة” مشتقة من (علق) ولها عدة معانٍ: عَلِقَ به: التصق به بشدة؛ كان أو أصبح متدليًا به؛ شيء يخص الإنسان أو المادة. علقت المرأة: أصبحت حاملاً. و(عَلِقٌ): دمٌ، أو دمٌ شديد الاحمرار أو كثيف؛ أو دمٌ متخثر أو متكتلٌ بسبب تلاصقه. فالعلقة تشير إلى كتلة كثيفة تتعلق بجدار الرحم.

بوصول البويضة المخضبة بالنطفة إلى فجوة الرحم فإنها تختار بالتجاذب المتبادل مكانًا لمستقرها في الجدار الداخلي للرحم، وهناك تصبح متعلقةً به ولا تنساب إلى الخارج. ثم تحدث التحامًا في تلك البقعة. ثم تأخذ طريقها إلى طبقات الرحم الداخلية التي تسقط عند الولادة. عندئذ تصبح محاطةً بالدم فتشكل اتصالاً معه. في هذه المرحلة إنها تبدو مثل كتلة من الدم المتجمد أو الدم المعقود، ولهذا يسميها القرآن الكريم “علقةً”، وهي لا تعني دمًا متجمدًا، بل تشير أيضًا إلى اتصالٍ بشيء آخر. كلمة صغيرة مختصرة ولكنها وصفت هذه المراحل للبويضة الملقحة مثل تجاذبها واتصالها وتشكيل عروق الدم فيها.

المرحلة الثالثة

فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً .

كلمة “مضغة” مشتقة من “مضغ”، يقال “مَضَغَ الطعام”. “ومُضغة” تعني قطعة من اللحم أو لقمة من اللحم، وتعني الجنين عندما يصبح مثل كتلة من اللحم. (قاموس لين والأقرب).

في هذه المرحلة تصبح البويضة ما يسمى “البلاستولة”، وهي ما سماها القرآن الكريم “مضغة”. هذه المضغة تتكون من ثلاث طبقات التي منها تنشأ جميع أعضاء الجنين.

المرحلة الرابعة

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا .

هذا يعني بأن الله تعالى يخلق العظام من تلك الكتلة من اللحم المسماة بالمضغة.

المرحلة الخامسة

فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا .

في هذه المرحلة من نمو الإنسان الجسدي يغطي الله تعالى العظام باللحم والجلد والأعضاء الأخرى.

المرحلة السادسة

ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ .

وفي هذه المرحلة السادسة والأخيرة يتمم الله تعالى خلقه الداخلي، ولكنها تعني أيضًا كما ذُكر في سورة الحج:

فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (الحج: 6)

أي أن الله تعالى يبعث هذا المخلوق الجديد على شكل طفل.

إن خلق الإنسان ونموه الجسدي عمليةٌ من التطور والانتفاخ التدريجي. هو تطور من مرحلةٍ إلى أخرى، من مادةٍ لا حياة فيها إلى بذرة، ثم إلى بويضة مخصبة، ثم إلى جنين، ثم بعد ذلك تتوج بولادة كائن بشري كامل التكوين. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .

الآن وبالنظر إلى تلك المراحل، نرى بأن الله قد خلق الإنسان وأتم تكوينه في ست مراحل، وفي ستّ مراحل أيضًا قدَّر له تطوره الروحي. ولكن وكما ذُكر هُناك موازاة جميلة كما وصفها القرآن بين التطور الجسدي والروحي للإنسان وهي كالآتي:

مقارنة بين التطور الجسدي والتطور الروحي

المرحلة الابتدائية لتقدم الإنسان الروحي مذكورة في القرآن الكريم كما يلي:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون: 3)..

الذين يتخذون موقفًا من التواضع والطاعة لله تعالى وهم يؤدون الصلاة. أما المرحلة الابتدائية من التطور الجسدي، والمماثلة لهذه المرحلة الابتدائية من التقدم الروحي، فهي مرحلة النطفة، أو البويضة الملقحة التي هي عبارة عن بذرةٍ تجمَعُ في داخلها، وعلى شكل مصغر، كلَّ القدرات المختلفة والخواص المتنوعة والأعضاء الداخلية والخارجية، وكل الملامح التي تصبح بارزة في المراحل المتقدمة من النمو الجسدي. والنطفة هي أكثر تعرضًا للخطر من الجنين في مراحله المتقدمة، وما هي إلا مثل البذرة التي أُلقيت على الأرض ولم تشكّل بعد أي اتصال بالمحيط من حولها؛ أي أن جذب الرحم لم يعطها حتى الآن مكانًا معينًا من النمو والتطور، ولذلك فإنها معرضة للانسياب إلى الخارج لتتلف بعد ذلك في الممرات التناسلية، تمامًا مثل البذرة التي تقع على أرض صخرية. وإن ما هو صحيح عن النطفة التي تشكل المرحلة الأولى من تطور الإنسان الجسدي، فهو مساوٍ في الصحة عن الإنسان في المرحلة الأولى من تقدمه الروحي. هذه المرحلة الأولى هي تلك الحالة من الخشوع عندما يصلي المؤمن لله تعالى، وإنها كمجرد بذرة أُلقيت في روح الإنسان، وتشمل في شكل غير متطور كل القدرات والملامح التي تنكشف في شكل جاذب للغاية في المراحل الأخيرة لتقدمه الروحي. ولكن كما أن النطفة ما زالت في حالة عدم الثبات حتى تشكل اتصالاً مع الرحم، كذلك فإن الخشوع في الصلاة معرض للخطر الدائم حتى يشكل الإنسان بعض الاتصال الروحي مع خالقه، وبدون هذا الاتصال فإن الخشوع في الصلاة ما هو إلا مرحلة مُزلِقة، حيث يبقى عابر السبيل الروحي معرضًا للسقوط والعثار في كل خطوة يخطوها.

  1. المرحلة التالية في تطور الإنسان الجسدي هي مرحلة “العلقة”، أي عندما تشكل النطفة اتصالاً دمويًا مع الرحم، ثم تأخذ شكل دمٍ متجمدٍ، وتصبح آمنة من أن تتلف.

يماثل هذه المرحلة من العلقة، التي هي المرحلة الثانية من تطور الجنين، الحالةَ الروحية المذكورة في قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . في هذه المرحلة، فإن الاتصال الذي يُنشئه الإنسان مع الله تعالى هو مثل الاتصال الذي تُنشئه البويضة المخضبة مع الرحم، عندما تصل إلى المرحلة الثانية. وكما أنه غير ممكن التخلص كليًا من الرغبات العابثة والمساعي التي لا طائل منها إلا إذا وصل الإنسان إلى المرحلة الثانية من التقدم الروحي إذ أن الخشوع والتواضع يبقيان معرَّضين للفشل، كذلك فإن البويضة يمكن أن تنتهي إلى العدم قبل أن تصبح علقة. ولكن الاتصال الذي أنشأه الإنسان مع الله تعالى في المرحلة الثانية والذي يُمكّنه من التخلي عن الأشياء العابثة والمساعي غير المثمرة، هو أيضًا شيء مؤقت وضعيف، لأن عقله لم يتحرر حتى الآن كليًا من حب الرفاهيات المادية والرغبات الجسدية. على هذا الأساس، تصح مقارنة هذه المرحلة بمرحلة العلقة، لأن العلقة ما زالت ملطخة بالدم الملوث.

  1. المرحلة الثالثة من تطور الإنسان الجسدي، مذكورة في كلمات الله تعالى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً . في هذه المرحلة يتحرر الإطار الجسدي للإنسان من تلطيخ التلويث إلى حد كبير، فيصبح أنقى وأصلب من المادة. وعلى مثيل هذا، تكون المرحلة الثالثة من تقدمه الروحي، والمذكورة في كلمات الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . فالمؤمن الحق لا يُعرض عن اللغو فقط، ولكن حتى يطهَّر نفسه من تلويث الشحّ (البخل) فإنه ينفق جزءًا من ماله في سبيل الله تعالى. على هذا الأساس، سُمّيَتْ مرحلة التطور الجسدي التي تماثل هذه المرحلة الروحية في القرآن الكريم بمرحلة المضغة.

إن مرحلة المضغة كمثيلها من المرحلة الروحية، هي أرفع مقامًا من سابقتيها.. مرحلتي النطفة والعلقة، لأنها أكثر تقدماً وأكثر اتصالاً بالرحم، وقد تميزت بكثافة أكثر وصلابةٍ أكثر أيضًا. إن المرحلة الروحية الثالثة تتميز بثلاث خصائص تماثل الخصائص الثلاث من مرحلة المضغة. في هذه المرحلة ينفق المؤمن جزءًا من ممتلكاته طوعًا أي بكل طيب خاطر، في سبيل الله تعالى، ويعطي الآخرين ما اكتسبه بعرق جبينه، وبالتالي فإنه أكثر تقدمًا روحيًا من الشخص الذي يبتعد عن المساعي غير المثمرة. علاوة على ذلك، فإن اتصاله بالله تعالى يصبح أشد ثباتًا، لأن إنفاق المال الحلال تضحية أكبر من مجرد الانتهاء عن الأشياء العابثة. وآخر ما يقال هو أن التضحية الأكبر يتبعها ثبات أكبر وصلابة أكبر في الإيمان.

  1. وكلمات الله تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا يشير إلى المرحلة الخامسة من التطور الرحمي، وهو المماثل للمرحلة الخامسة من التطور الروحي الوارد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . فكما أن الصلاح أو التقوى تزيد من جمال الإنسان الروحي، كذلك فإن تغطية العظام باللحم يجعل الهيكل العظمى يبدو جميلاً. هناك تشابه خاص بين هاتين الحالتين. إن الله تعالى يتكلم عن التقوى وكأنها “لباس” حيث قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ، كذلك فإن التعبير الوارد في وصف الحالة المماثلة من التطور الرحمي هو “كسونا”. وبالتالي، فإن اللحم الذي يغطي العظام قد وُصف مثل اللباس وخَدم غرض اللباس أيضا، تماما كما أن التقوى هي مثل اللباس الذي يزيد من الجمال الروحي للإنسان.
  2. المرحلة السادسة والأخيرة في تطور الإنسان الجسدي قد ذُكرت في كلمات الله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ، بنفخ الروح فيه. إن الكلمتين: “خلقًا آخر” تعنيان أن المخلوق الجديد هو ما وراء فهم وإدراك الإنسان، بمعنى أن العقل البشري لا يمكن أن يُدرك كُنهه أي كُنه الروح. إن الإنسان ما زال عاجزًا عن فهم ماهية الروح. مع العلم أن القرآن الكريم يرى أن الجسد نفسه هو الأم للروح.

هذه المرحلة الأخيرة من التطور الرحمي تماثل المرحلةَ السادسة والعليا من التقدم الروحي التي أشير إليه في قوله تعالى:

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .

في هذه المرحلة، فإن نورًا سماويًا يهبط على قلب المؤمن، كما أن الحب الإلهي يستولي على كل كيانه فيضيئه ويُنعشه. في هذه المرحلة يصبح عبادة الله وذكره جزءًا لا يتجزأ عن وجوده، وبدونها لا يستطيع العيش أو الحياة. إنه الآن يتلقى حياة روحية جديدة، فيصبح ضائعًا ومفقودًا في حب الله تعالى.

ثم بعد آيتين يقول سبحانه وتعالى:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (المؤمنون: 18)

إن المراحل الست في التقدم الروحي والمذكورة في الآيات الأولى من سورة المؤمنون تصبح سبع مراحل إذا حسبنا الفردوس (أي الجنة) المرحلة الأخيرة للتقدم الروحي، وذلك عندما يحقق الإنسان غرض خَلْقه في هذه الحياة. على مثل ذلك، إذا أضفنا المرحلة التحضيرية السابقة لتكوين النطفة، أي خلق الإنسان من الطين أو التراب، فإن عدد مراحل التطور الجسدي يصبح أيضًا سبع مراحل. وعلى هذا فإن المراحل السبع التي أشار إليها الله تعالى في الآية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ تشير إلى المراحل السبع لتطور الإنسان الجسدي. ومن خلال المراحل السبع أيضا يجب أن يمر الإنسان حتى يحقق أعلى درجة من التطور الروحي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك