نظرات أحمدية في القرآن الكريم الحلقة الثالثة

نظرات أحمدية في القرآن الكريم الحلقة الثالثة

نذير أحمد القزق

  (5) حقيقة نِعَمْ الجنة

 

لقد أشار الله تعالى في القرآن إلى أوصاف الجنة في الدنيا والآخرة فأساء بعض المسلمين فهم تلك الأوصاف، كما أن منتقدي الإسلام قد رفعوا عدة قضايا بهذا الشأن. سنذكر بعض هذه الانتقادات، كما سنذكر بعض الآيات القرآنية التي تداولت في وصف الجنة، ونفسر معناها حتى نقيم الحجة على منتقدي الإسلام، ونبين لمن أساء فهم تلك الأوصاف الحقيقةَ والجمال من ورائها.

في سورة البقرة يقول الله تعالى:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 26).

قبل أن نفسر الآية الكريمة نوضح معاني بعض الكلمات. جنات: وهي جمع جنة ومشتقة من جنَّ الشيءَ: أي حَجَبهَ وأخفاه وغطَّاه. إذًا فالجنة تعني: حديقة فيها أشجار تغطي الأرض أي تحجبها وتخفيها؛ بستان من الثمار؛ أو حديقة فيها خضرة كثيرة.

وقد سُميِّت الجنة كذلك لأن:

  • رحمة الله تعالى سوف (تغطي) ساكنيها تمامًا مثل أشجار البستان التي تغطي الأرض.
  • أو لأن الجنة هي مثل الحديقة، حيث تمثل الأشجارُ الإيمانَ الجيد الخالص وتمثل الأنهارُ الأعمالَ الصالحة.

الأنهار: جمع نهر، وهي مصدر من نَهَرَ أي تدفق أو انساب بقوةٍ. والنهر معناه أيضًا جدول أو غدير. وكلمة (نهر) تعني أيضا الاتساع والوفرة أو الضوء. (الأقرب)

أزواج: جمع زوج، وهنا تدل على أي شيء واحد من اثنين، سواء كان ذكرًا أو أنثى. كلمة زوج معناها أيضا رفيق أو صاحب. (الأقرب)

خالدون: مشتقة من خَلَدَ. خلد بمكان: بقي وأقام فيه. والخلود يعني البقاء أو العيش بدون تغير أو تلف لمدة طويلة، ولكن ليس بالضرورة إلى الأبد. (الأقرب والمفردات).

اعتراضات الأعداء على نعماء الجنة

لقد ذكرنا سابقًا بأن ناقدي الإسلام قد وجهوا أنواع الاعتراضات إلى هذا الوصف للجنة، إذ يقولون مثلا:

  • إن الوعد بتلك المكافآت هو مجرد مناشدة للطمع والجشع، وأن الإيمان المبني على الجشع لا يستحق الثناء.
  • إن القرآن يَعِدُ المؤمنين بمكافآت مادية، وهذا غير لائق بدين سماوي.
  • إذا كانت المكافآت في العالم الآخر مادية، فيجب أن نؤمن بأن نفس الجسد المادي الذي نملكه في هذه الحياة سوف يُبعثُ بعد الموت؛ وهذا مخالف تمامًا للعقل والإدراك، لأن هذا الجسد يفنى.
  • المؤمنون موعودون بالنساء في الجنة، وهذا يدل بأن العلاقات الجنسية سوف تستمر في العالم الآخر، وإن المناشدة إلى الجنس تنافي الغايات الروحية. ثم إن العلاقات الجنسية هي لاستمرار الذرية في هذه الدنيا فقط. إذًا، فلماذا توجد مثل هذه الأشياء في الآخرة؟
  • إن الجنة القرآنية تبدو وكأنها مكان رفاهية وملذات حسية وشهوانية، ولا يوجد شيء روحي في المفهوم الإسلامي للحياة الآخرة.

نِعَم الجنة غير مادية

إن هذا النقد مبني على فشلهم في فهم حقيقة التعاليم الإسلامية. وسنثبت ما نقول بناءً على آيات من القرآن الكريم. إن القرآن الكريم قد أوضح بأنه لا يمكن للإنسان في هذه الحياة أن يدرك طبيعة المكافآت في الآخرة يقول الله تعالى:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (السجدة: 18)،

هذا يعني بأن أي شيء يقوله القرآن عن الجنة والنار هو مجرد مجاز أو استعارة، فيجب ألا نأخذ هذه الأوصاف بالمعنى المادي.

ويقول الرسول عن نِعَمِ الآخرة بما معناه: ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (البخاري). على هذا فإن نعم الدار الآخرة يجب أن تختلف تمامًا عن نعم الحياة الدنيا.

ب- يقول الله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الرعد: 36)، نرى بهذه الآية بأن أنهار الجنة وثمارها وظلها كلها دائمة بينما ثمار وأنهار هذه الحياة ليست دائمة. إذًا فثمرة الحياة الآخرة وأنهارها يجب أن تؤخذ على أنها شيء غير مادي.

يجب أن نتذكر أن الأشجار في وصف الجنة تدل على إيمان المؤمنين، بينما الأنهار ترمز إلى أعمالهم. وكما أن الأشجار بدون الماء تذبل وتيبس، كذلك فإن الإيمان بدون الأعمال الصالحة شكلي لا معنى له ولا وزن و لا قيمة.

ويعني قوله تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا بأن ثمار الجنة وكذلك ظلها دائمة، ويعني بأن تلك الثمار لن ترى الخريف ولن ترى فصلاً تتعفن فيه. إذًا فلن يكون هناك انقطاع لنعم الجنة. إن الثمار والأشجار والظل تمثل النعم الداخلية والخارجية وتعني بأن المؤمنين سيُسعدون في الجنة بجميع أنواع النعم والهبات الخارجية والداخلية.

ج – يقول الله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (محمد: 16)، فلا يوجد شيء مادي في هذه الأوصاف، وسنعود لشرح هذه الآية في نهاية هذا البحث.

د – وعن خمر الجنة يقول الله تعالى: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (الصافات: 48).. أي لن يكون في الجنة سُكرٌ ولن يكون المؤمنون فيها سكارى فاقدي الحواس.

ه – ثم يقول الله تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (الإِنْسان: 22)، نرى بأن خمر الجنة لن يكون صافيًا فقط، بل سوف يطهّر ويصفى شاربيه أيضًا.

و – في مكان آخر يقول القرآن الكريم بأن خمر الجنة النقي سوف يُلَطَّف ويُخفَّفُ بماءٍ من تسنيم: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (المطففين: 28)، وكلمة (تسنيم) مصدر من سَنَمَ. يقولون سنم الشيءَ رَفَعَه؛ وسنم فلان الإناءَ ملأه. وكلمة (تسنيم) مأخوذة على أنها ينبوع من الجنة؛ ماء متدفق من الأعلى؛ معرفة الله تعالى.

ز – وكأس الخمر التي ستتداولها الأيدي في الجنة، لن يكون فيها أي شيء باطل أو خطيئة، كما يقول الله تعالى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (الطور: 24)، ولكن خمر هذه الدنيا قد وُصف في القرآن الكريم كالآتي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاة (المائدة: 91-92)، هذا يدل على أن خمر الآخرة مختلف تمامًا عن خمر الدنيا، لأنه صافٍ يطهِّر ولا شيء مادي فيه في الحقيقة، لا يوجد شيء مشترك بين نعم الجنة ونظيرها من نعم هذه الدنيا إلا الاسم.

حكمة اختيار أسماء مادية

والسؤال الذي يطرأ على الأذهان هو: لماذا أُعطيت نعم الجنة أسماء الأشياء المادية في الدنيا؟

والجواب أن الإسلام جاء لجميع الناس. إنه لا يخاطب الناس المتقدمين فكريًّا فقط، ولكن الآخرين أيضًا، ومن أجل ذلك فقد استعمل كلمات بسيطة حتى يستطيع الجميع فهمها. إن الكفار كانوا يقولون بأن الرسول قد نهى عن الأشياء الممتعة في هذه الدنيا، وبالتالي فإن صحابته قد حُرمُوا من كل النعم، لذلك عندما وَصَفَ الله تعالى ما جعل للمسلمين من النعم استعمل أسماءَ أشياءٍ ممتعة في هذه الحياة وأخبر المؤمنين بأنهم سيحصلون على كل هذا بشكلٍ أفضل في الجنة. وعند هذه المقارنة استُعملت كلمات مألوفة، ولكن لا يوجد شيء مشترك بين متع هذه الحياة وبين نعم الآخرة.

إن الماء في هذه الحياة يفسد، ولكن ماء الجنة لن يفسد أبدًا. إن الحدائق والأشجار هي من نعم هذه الحياة أيضا، وتتعفن وتتلاشى، ولكن حدائق المؤمنين في الجنة فستدوم إلى الأبد. الكفار قد شربوا الخمر المثمل فجعلهم سكارى وأبطل أحاسيسهم وأصبحوا كالأغنياء، ولكن الخمر الذي سيناله أصحاب الجنة هو صافٍ طاهر.

الآخرة ليست حالة ذهنية محضة

ويجدر بالذكر أن الحياة الآخرة عند الإسلام ليست حياة روحية محضة بمعنى أنها ستكون مكونة فقط من حالة ذهنية ولا شيء آخر، وإنما في الحياة الآخرة يكون لروح الإنسان نوع من الجسم، ولكنه ليس ماديًا. ويمكن لنا أن نأخذ فكرة عن هذا من ظواهر الأحلام. يقول الله تعالى:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر: 43)

إن الموت والنوم متشابهان، ولكن الفرق هو أنه في حالة الموت تنفصل روح الإنسان عن الجسد كليةً وبشكل دائم، بينما في حالة النوم يكون الانفصال مؤقتًا وجزئيا. هذه قاعدة أزلية وقانون إلهي، أنه لا يمكن لبشرٍ وإن كان نبيًا رسولاً أن يبقى الاتصال بين روحه وجسده بعد الموت. إن الجسد يفنى ويتلاشى ولا يعمر طويلاً، أما الروح فإنها تذهب لملاقاة ربها.

وإن المناظر التي يشاهدها الإنسان في الأحلام لا يمكن أن نسميها مجرد مناظر ذهنية أو روحية خالصة تماما، لأن النائم يكون له جسد أيضًا في أحلامه. فيجد نفسه في بعض الأوقات في حدائق وجداول، ويأكل الثمار والفواكه، ويشرب اللبن. فمن الصعب أن نقول بأن أحداث الأحلام هي حالات ذهنية فقط. إن اللبن الذي يستمتع النائم بشربه خبرة حقيقية لا شك، ولكن لا نستطيع أن نقول بأنه نفس اللبن المادي الموجود في هذه الدنيا.

إن الأحلام لها تفسيراتها الخاصة. فعلى سبيل المثال، أكل فاكهه المانجو في الحلم يرمز إلى طفلٍ صالح أو قلب طاهر، وأكل العنب يدل على الحب ومخافة الله تعالى، وأكل الموز يرمز إلى مورد الرزق الشرعي والنافع الذي يمكن الحصول عليه بسهولة أيضا.

فالنعم الروحية في الحياة الآخرة لن تكون مجرد تحقيق وهمي لهبات الله تعالى التي وُعدنا بها في هذه الحياة ولكن ما نستمتع به هنا هو مجرد تمثيل لهبات الله الحقيقية الخالصة التي سيجدها الإنسان في الحياة الثانية.

معنى الحدائق و الأثمار

ونكرر القول بأن الحدائق والأشجار تمثل الإيمان الصادق والأنهار تمثل الأعمال الصالحة. وكما أن الحديقة والأشجار لا تنمو وتزدهر بدون الأنهار، كذلك الإيمان لا يرقى ويزدهر بدون الأعمال الصالحة. لذا لا يمكن فصل الإيمان عن الأعمال من أجل تحقيق النجاة والإخلاص. في العالم الآخر ستُذكِّر الحدائقُ المؤمنين بإيمانهم في هذه الحياة، وستذكرهم الأنهار بأعمالهم الصالحة، وعندئذ سوف يعلمون بأن إيمانهم وأعمالهم الصالحة لم تذهب عبثًا.

معنى (تجري من تحتهم الأنهار)

إن تدفق الجداول أو جريان الأنهار تحت الجنة يعني أيضا بأن كل شخص في الجنة سيكون له في جزئه أو قسمه السعادة الحرة غير المقيدة، أي مطلق الحرية. في هذه الحياة عادة يخدم النهر الواحد عدة حدائق، ويكون هناك إمكانية الشجار والخصام على شأن هذا النهر، ولكن في الجنة سيكون لكل حديقة نهرها الخاص بها، كما يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (يونس: 10)

وكلمة (تحت) تستعمل مجازًا للدلالة على الخضوع والطاعة. وبناءً على هذا المعنى فإن كلمتي (من تحتهم) تدلان على أن نزلاء الجنة سيكونون أسيادًا وأصحابًا لأنهارها، وليس مجرد مستعمليها مثل المستأجرين أو السكان المقيمين.

ويجدر الإشارة أيضًا بأن كلمة (تحت) تستعمل أيضًا كاسم، وتعني شخصا يكون حالتُه دون الوسط ويكون من أصلٍ فقير. يقال بأن الرسول قال: “لا تقوم الساعة حتى تظهر التُحوت وتُهلك الوعولَ”، أي حتى تفوز طبقة الفقراء والعاملين وتهلك طبقة الأثرياء. (التاج)

معاني هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا..

إذًا فمن الخطأ أن نستنتج من الكلمات: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بأن المؤمنين في الجنة سيحصلون على ثمار مثل الثمار التي كانوا يأكلونها في هذه الحياة. هذا الاستنتاج خاطئ لأن ثمار الآخرة ستكون صورة عن نوعية إيمانهم. عندما يأكلون تلك الثمار التي حصلوا عليها في هذه الحياة، وشكرًا وعرفانًا لنعم الله يقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ .

وكلمة الَّذِي رُزِقْنَا ، يمكن أن تعني أيضًا الذي وُعدنا به في الحياة الدنيا.

أما كلمة “مُتَشَابِهًا” فإنها تشير إلى التشابه بين أعمال العبادة التي يقوم بها المؤمنون في هذه الحياة ستظهر للمؤمنين وكأنها ثمار في الآخرة. كلما كانت عبادة الإنسان أدق وأخلص، كلما زاد استمتاعه بقسمه وجزئه من ثمار الجنة. على هذا فلكل إنسان أن يُحسِّن نوعيه ثماره كما يرغبها.

وتعني كلمة “متشابها” أيضا أن الطعام الروحي في الجنة سوف ينسجم تمامًا مع الحياة الآخرة حتى أن إمكانية المرض الروحي ستكون معدومة نهائيًا. وتعني أيضًا بأن الطعام في الجنة سيكون ملائمًا لكل شخص حسب مرحلة تقدمه ودرجة تطوره.

أما كلمات وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، فإنها تدل على أن المؤمنين الذي يسكنون الجنة لن يكونوا عرضة للتغيير أو التلف. إن الإنسان يموت فقط عندما لا يستطيع أن يأكل الطعام أو عندما يقتله أحد. إذا توقف البشر، وإن كانوا أنبياء أو رسلاً، عن أكل الطعام فإنهم سيموتون. ولكن بما أن أكل الجنة سيكون ملائمًا لكل شخص، وبما أن الإنسان سيكون برفقة أصحاب مسالمين وطاهرين، فإن الموت والتلف سيتلاشيان تلقائيًّا.

في الجنة سيكون للمؤمنين أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ أي سيكون لهم رفقة وصحبة طاهرة. إن الزوجة الصالحة هي سلوى وراحة وسعادة. إن المؤمنين يحاولون أن يصطحبوا الزوجات الصالحات في هذه الحياة، وسيكون لهم هذه الصحبة الفاضلة الصالحة في الآخرة أيضًا ولكن هذه المتع والسعادات لن تكون بشكلٍ مادي في الجنة.

هناك العديد من الآيات القرآنية التي تداولت وصف الجنة، ونذكر آية أخرى. يقول الله تعالى :

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ .

وكلمة أنهار كما ذكرنا من قبل تعني فيما تعني الاتساع أو الوفرة أو الضوء (الأقرب). أما كلمة (عسل) فهي مصدر من عَسَل. يقال عسل الطعامَ: حضر الطعام بالعسل. وعَسَله أي جعله غرضًا من المديح والحب. وعسلٌ: طعام العسل؛ أزهار الشجرة المثمرة لأن العسل يصنع منها؛ عمل فاضل وصالح؛ المديح الذي يعتبره الإنسان عذبًا وحلوًا.

إن الآية تذكر أربعة أنواع من النعم التي وُعد بها المؤمنون في هذه الحياة والآخرة وهي: أنهار من الماء النقي الصافي؛ وأنهار من اللبن الذي لا يتغير طعمه؛ وأنهار من الخمر الذي يعطي الابتهاج والسرور؛ وأنهار من العسل المصفى. إن كلمة أنهار تعني: الضوء والوفرة أيضا. وبناء على هذا المعنى للأنهار فالآية تعني أن الصالحين يُعطون بكثرة ووفرةٍ النعمَ التالية:

  • الماء، وهو مصدر كل الحياة، كما جاء في قوله تعالى : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 31).
  • اللبن، الذي بجانب أنه يعطي الصحة والنشاط للجسم، فإنه يمثل المعرفة الروحية.
  • الخمر الذي يعطي الأحاسيس السارة التي تنسي المشاكل.
  • العسل، وهو شفاء لعدة أمراض، ويمثل الأعمال الصالحة الفاضلة التي تجعل المؤمنين محبوبين من الناس.

إذ أخذنا ذلك بالمعنى الحسي بما يخص هذه الحياة، فإن الآية تدل على أن المؤمنين سينالون في هذه الحياة كل هذه الأشياء بوفرة، مما يجعل حياتهم هنيئة وسارة ونافعة. وإذا أخذنا ذلك بالمعنى الروحي، فإنها تعني بأن المؤمنين سيكون لهم حياة كاملة، وأنهم سيمنحون المعرفة الروحية، كما أنهم سيشربون من خمر حب الله تعالى وسيعلمون أعمالاً تُكسبهم حب واحترام الناس.

سكوت التوراة والإنجيل عن الآخرة

يجدر الإشارة إلى أن كتب المسيحيين واليهود لا تذكر أوصاف الجنة أبدًا. ذلك لأنهم بقوا منهمكين جدًا في أمور هذه الدنيا ومحوا حتى ذكر الحياة الآخرة من كتبهم، فلا تذكر عنها إلا القليل جدًا والنادر. لقد أخذوا وعود أنبيائهم عن الدار الآخرة على أنها تخص هذه الحياة، لذا لم يتأثر أي واحد بهذه التعاليم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك