ثلاث كذبات أم ست كذبات؟!

ثلاث كذبات أم ست كذبات؟!

أبو المحسن عطاء

قرأت لك

ثلاث كذبات أم ست كذبات؟!

 

نقدم فيما يلي ما أرسله لنا هذا الأخ من نقد وردٍّ طريف بين الشيخ عبد الوهاب النجار وبين لجنة من علماء الأزهر.. وذلك حين ألف الشيخ كتابه (قصص القرآن)، وتجنب فيه أخذ الروايات التي تذكر أن سيدنا إبراهيم كذب ثلاث كذبات. (التحرير)

نقد اللجنة

قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام

والسيدة سارة زوجته مع الجبار

 

قال في الصفحة 63 “رحلة إلى مصر”.

“حدث جدب في الأرض. فانتقل إبراهيم إلى مصر وذلك في عهد ملوك الرعاة وهم العمالقة ويسميهم الرومان “هكسوس”. فأظهر أن التي معه أخته، وأراد الملك أخذها زوجة له. فأري في منامه أنها ذات بعل. فعاتب إبراهيم وأعطاه أموالاً وماشية وجواري وعبيدًا. وعاد إبراهيم كما بدأ وكان لوط مع إبراهيم”.

وقال في الصفحة 75 ما نصه “مسألتان: الأولى، إن كان صحيحًا ما جاء في عبارة التوراة من أن إبراهيم اتفق مع سارة على أن يقول أنها أختي وتقول هي أنه أخي وكانا أخوين حقيقة، يكون ذلك قبل تشريع تحريم الأخت على أخيها، وهذا هو الذي أميل إليه، وحينئذ لا حاجة إلى قول (أنها أخته في الدين)، لأن أولئك المتأولين ما دعاهم إلى التأويل إلا اعتقادهم أن الشريعة التي كان عليها إبراهيم كانت كشريعة موسى من تحريم الأقارب دينًا كالأخت والعمة.

ثم أيد ذلك بأن موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله كان متزوجًا عمته كما في الإصحاح 26 من سفر العدد”.

وقال في صفحة 491 ما نصه “تنبيهات” إلى أن قال: “الثاني، قدمنا ما ذكرته التوراة من أن إبراهيم حين تغرب في مصر قال عن سارة أنها أخته فأخذها الملك، وقبل أن يقربها ضُويق في منامه بسببها، وأنه عاتب إبراهيم، لأنه قال إنها أختي ولم يقل هي زوجتي. وفعلا مثل ذلك مع أبي مالك (ملك جرار) واشتد في عتاب إبراهيم.

وقد تأملت في المسألتين فوجدتهما بعيدتي الحصول، لأن سارة ذهبت إلى مصر مع إبراهيم وسنها نحو سبعين سنة، ومن كانت في مثل تلك السن لا يطمع فيها طامع، وعندما كانا في جرار كان سنها تسعين سنة وقبل ذلك بسنة قد قالت عن نفسها (عجوز عقيم)، وقالت (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا). وبعيد في مجرى العادة أن يطمع ملك مترف في بنت تسعين”.

هذا ما ذكره في هذه القصة، وقد اعتمد في بيانها على التوراة واستبعد حصولها من أجل أن سارة كانت سنها إذ ذاك نحو سبعين سنة ومثلها لا يطمع فيها طامع. وقرر أنه يميل، على فرض صحة هذه القصة، إلى أن قول إبراهيم (أنها أخته) محمول على الحقيقة، فإنما كانا أخوين حقيقة، وكان زواج الأخت جائزًا إذ ذاك. فلا داعي إلى التأويل بأنها أخته في الإسلام.

وإنا نلاحظ عليه اعتماده في هذه القصة على التوراة مع أنها ذكرت ووردت في الأحاديث الصحيحة بسياق مخالف لسياق التوراة. وهذه الأحاديث تثبت وقوعها وتدل على خطأ ما رواه ومال إليه من أن سارة كانت أخت إبراهيم حقيقة.

وقبل أن نورد تلك الأحاديث ونبين من أخرجها من أئمة الحديث، رأينا أن نبدي ما لحقنا من الدهشة لعدم الإشارة لتلك الأحاديث المتعلقة بهذه القصة في مثل هذا الكتاب الذي يدرس لعلماء التخصص في فرق الوعظ والإرشاد. ولذلك أخذنا نتلمس الحكمة في تركه الإشارة لتلك الأحاديث ونطلب المعاذير. فاجتمع لدينا احتمالات أربعة نذكرها ونبدي رأينا في كل احتمال منها.

الأول

أنه لم يقف على تلك الأحاديث التي وردت في هذه القصة. ونرى أنه احتمال بعيد إذ يستبعد جدًا من أستاذ فاضل متخصص في التاريخ نصب نفسه لتأليف كتاب في قصص الأنبياء ليدرس العلماء المتخصصين في الوعظ والإرشاد ألا يقف على تلك الأحاديث، خصوصًا وأنه جعل صحيح البخاري من الكتب التي رجع إليها وقت التأليف وهي مذكورة فيه. وأيضًا فإن كتب التاريخ المشهورة كتاريخ ابن الأثير والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير ذكرت هذه القصة على نحو ما وردت به الأحاديث، بل صرح ابن كثير بالنقل عن البخاري. وأيضًا قد استدل المؤلف نفسه بحديث الشفاعة في قصة نوح.

الثاني

أنه وقف على تلك الأحاديث، ورأى فيها مطعنًا أخرجها عن دائرة الاحتجاج بها في الحوادث التاريخية. وهو بعيد أيضًا لأنه لو كان كذلك لذكرها ونبّه على ضعفها وكان ذلك خيرًا من اعتماده على التوراة المعلوم أمرها من حيث القبول والرد، وأفيد من الوجهة العلمية.

الثالث

أنه وقف على تلك الأحاديث ولم يعلم فيها مطعنًا، ولكنه يرى أن الأحاديث وإن صحت لا تصح مصدرًا للحوادث التاريخية. وهذا الاحتمال لا يتصور أن يصدر عن مثل فضيلة الأستاذ، بل لا يصح أن يصدر من مسلم.

الرابع

أنه يعلم تلك الأحاديث ويعلم أنه لا مطعن فيها، ويعتقد أن الأحاديث الصحيحة أهم مصدر بعد كتاب الله للحوادث التاريخية، إلا أنه حين تدوينه لهذه القصة سها عن تلك الأحاديث. وهذا الاحتمال هو الذي نميل إليه. والله أعلم بحقيقة الحال.

وإنا نورد تلك الأحاديث ونبين من أخرجها:

عن أبي هريرة أن النبي قال: لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا بثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا؛ وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك. فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيرك وغيري. فلما دخل أرضه رآها أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها. فأتى بها. فقام إبراهيم إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلت. فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم انصرف فقال لها: مهيم. فقالت: خيرًا، كف الله يد الفاجر وأخدم خادمًا. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.

هذا الحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء من طريقين مرفوعًا وموقوفًا. وقال الحافظ بن حجر أن ابن سيرين كان غالبًا لا يصرح برفع كثير من حديثه. وأخرجه أيضًا مرفوعًا من طريقين في كتاب النكاح. وأخرجه أيضًا من طريق كتاب البيع.

وأخرجه مسلم في الفضائل مرفوعًا واللفظ الذي ذكرناه له.

وأخرجه أحمد بسياق مخصوص. قال الحافظ بن كثير. وقال ابن حاتم حدثنا أبو سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله في كلمات إبراهيم الثلاث إلخ.

الخامس

حديث الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة هو حديث طويل يتضمن أن أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدًا بعد واحد يطلبون منهم الشفاعة عند ربهم. وفيه أنه حينما يأتون إبراهيم عليه السلام يطلبون منه ذلك يقول: لست هناكم. إني كذبت ثلاث كذبات؛ قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: لامرأته أخبريه إني أخوك.

أخرج هذا الحديث البخاري من عدة طرق في أبواب متعددة. أخرجه في تفسير سورة البقرة عن أنس، وفي تفسير سورة بني إسرائيل عن أبي هريرة، وفي كتاب الرقاق عن أنس، وفي التوحيد عن أنس من طريقين. وأخرجه مسلم من حديث ابن خزيمة عن أنس. وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود، والطبراني من حديث عبادة بن الصامت. وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي. وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة. وأخرجه أبو عوانه من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق. ثم إنه رُوي مطولاً ومختصرًا. فإن في بعضها الاختصار على القول بأن كل رسول يذكر خطيئته، وفي بعضها التصريح بالخطيئة بأن يقول إبراهيم كذبت ثلاث كذبات، وفي بعضها يبين الكذبات الثلاث كما ذكرناه أولاً، وفي بعضها زيادة قول النبي : ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين الله..

لا يقال أن في هذه الأحاديث نسبة الكذب إلى إبراهيم . وقد قرر علماء التوحيد أن ما ورد فيه نسبة المعصية إلى نبي من الأنبياء فإن كان مقطوعًا به وجب تأويله وإن كان منقولاً بآحاد وجب رده. وقال الإمام الرازي في تفسيره في شأن الحديثين اللذين ذكرناهما ما نصه “فلأن يضاف الكذب إلى الرواة أولى من أن يضاف إلى الأنبياء”.

لأنا نقول: هذه من قبيل المعاريض وهو نوع من البديع، وإبراهيم قد صرح بذلك إذ قال: “فإنك أختي في الإسلام” وحينئذ فليس فيه نسبة الكذب حقيقة إليه. وأما كلام الإمام الرازي فمردود وقد رد عليه العلماء وخطئوه وأثبتوا صحة الأحاديث وهو نفسه قال: فإن صح فهو محمول على المعاريض.

ومن راجع ما سبق لنا من بيان من خرج من الأحاديث قطع بصحتها بل تواتر القدر المشترك فيها. والله أعلم.

ولا يقال: إذا كان الصادر من إبراهيم ومن غيره من باقي الرسل المذكورين في حديث الشفاعة ليس بخطيئة فلم امتنعوا من الإقدام على الشفاعة وأظهروا حالة الخوف من الله تعالى لصدور ما ذكروه عنهم لأنا نقول: لأن ما صدر عنهم وإن لم يكن خطيئة في الواقع فهو صورة خطيئة. وعدم صدوره بالنسبة لمقام الأنبياء أولى من صدوره (من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين). فلم يروا في أنفسهم بالنسبة إلى ذلك أهلية الشفاعة العظمى التي هي من خصائص سيد الخلق على الإطلاق سيدنا محمد ..

هذا ولنختم هذا الموضوع بما ذكره الحافظ بن كثير في تاريخه في نسب سارة ليعلم منه خطأ القول بأنها أخته حقيقة. فقال: قيل أنها ابنة ملك حران، والمشهور أنها ابنة عمه هاران. ومن قال إنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن العبسي فقد أبعد النجعة وقال بلا علم. ومن ادعى أن ذلك كان مشروعًا في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فإن الأنبياء لا تتعاطاه.. والله أعلم.

رد المؤلف على نقد اللجنة

ذكرت في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ذكرته التوراة إلى آخر ما نصه أصحاب الفضيلة أعضاء اللجنة. وقد رابهم من شأني أني تركت الأحاديث ونصصت ما قالته التوراة، وأبدوا احتمالات أربعة..

والذي أجيب به حضراتهم أني أعلم هذه الأحاديث، وأعلم أنها من الأحاديث التي صح إسنادها، ولكنها ترمي إلى إسناد الكذب إلى إبراهيم. فهي تنص على وجوب الكذب في جانب إبراهيم . والأحاديث وإن كانت صحيحة الإسناد لا يمكن أن تكون برهانًا على إثبات أمر اعتقادي.

نقل صاحب الفتح ج 8 ص 431 قول العلماء: الأحاديث إذا كانت في مسائل عملية يكفي في الأخذ بها بعد صحتها إفادتُها الظن، أما إذا كانت في العقائد فلا يكفي فيها إلا ما يفيد القطع (متنًا وسندًا). وعلى ذلك فلا تصلح تلك الأحاديث أداة لتقرير اعتقاد كذب إبراهيم لوجوه:

1.إن إبراهيم نبي كريم، ومن أخص الصفات الواجبة للأنبياء الصدق، اللهم إلا أن يكون من يريد إثبات الكذب واتصاف إبراهيم به ممن يجوز على أنبياء الله الكذب، ولست منهم.

2.قال الله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُون (النحل: 106). وما كنت لأسمح لنفسي أن أنظم إبراهيم في سلك الذين لا يؤمنون بآيات الله بنسبة الكذب إليه ولو على سبيل الصورة، لأن أقل ما فيها أن أسيء الأدب في حقه بنسبته إلى ذلك الوصف الدني، ولو صورة.

3.قال الله تعالى في حق إبراهيم : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (النحل: 121-122). وما كان الله ليجتبي كذابًا، ولا من الهداية إلى الصراط المستقيم أن يكون المهدي كذابًا.

4.يقول الله لمحمد : ثمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (النحل: 124). وما كان الله ليأمر أنبياءه باتباع ملة رجل كذاب.

5.أمر الله رسوله محمد بأن يقول للزائرين عليه أنه هُدي إلى ملة إبراهيم بقوله: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأَنعام: 162).

6.قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (الأنبياء: 52). وليس من رشد الرجل في شيء أن يكون كذابًا.

7.بعد أن ذكر الله تعالى إبراهيم وما حاج به قومه وذكر معه سبعة عشر نبيا قال لرسوله محمد : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (الأَنعام: 91). فهل كان الله تعالى يأمره بالاقتداء برجل كذاب؟

8.قال الله تعالى في إبراهيم: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين (النحل: 123). قال البيضاوي في تفسير هذه الآية بأن الله حببه إلى الناس حتى أن أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه.

9.وقال تعالى: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (الشعراء: 84-85). قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: أي وفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذي لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.

10.قال الله تعالى في إبراهيم: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . أي أبقينا له دعاء الناس في الزمن الباقي وتسليمهم عليه أمة بعد أمة وسلامهم الحسن وثناءهم عليه. فأي ثناء حسن يبقى لرجل ينبذ بأنه كذاب قارف الكذب ثلاث مرات أو ستا في الدنيا، والكذب ينتظره أيضًا يوم القيامة. وقد قال المفسرون في قوله تعالى كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل بين الأمم.

11.سئل رسول الله : أيكون المؤمن جبانا. قال: نعم؟ قيل: أيكون بخيلاً؟ قال: نعم. قيل: أيكون كذابًا؟ قال: لا. والكذاب جريء على الله، جبان أمام الناس، فهو يستخفي من الناس بكذبه ويجابه الله بلا حياء. وما كنت بالذي يصم إبراهيم بذلك.

هذا، وقد نص العلماء على أن الحديث إذا كانت روايته آحادا وفيه نسبة المعاصي أو الكذب إلى الأنبياء يرد، وقد أورد ذلك حضراتهم. ففي شرح العصام على العقائد النسفية بعد أن ذكر وجوب اتصاف الأنبياء بالصدق ما نصه:

“إذا تقرر هذا فما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة”.

وجاء في الحاشية عليه “قوله فما كان منقولا بطريق الآحاد” سواء بلغ حد الشهرة أو لا فمردود لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء. وما كان بطريق التواتر فقسمان ما يمكن حمل خصوصياتها على أمر يخرجها عن كونها ذنوبا كحمل قول إبراهيم : إني سقيم فيما بعد فيحمل عليه إن أمكن وإلا فيحمل لفظ الذنب الواقع فيه على ترك الأولى” إلخ، راجع ص 468.

وجاء في شرح عبد الحكيم السيالكوتي على العقائد العضدية ما نصه: “وإذا تقرر هذا فما نقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مما يشعر بمعصية أو كذب فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة ص 203”.

نظرت إلى ذلك وإلى الأحاديث التي فيها رمي إبراهيم بالكذب وهي أحاديث آحاد، فتركتها وصرفت النظر عنها.

لقد افترضت أنها منقولة نقل تواتر، وإني أشرع في تأويلها على وجه ملائم إن أمكن، ولكني وجدت قراء كتابي سوف لا يكونون من صنف واحد ومتى سمعوا الأحاديث وفيها كذب إبراهيم ثلاث كذبات يعلق ذلك في أنفسهم ولا ضمان على اقتلاع ذلك من عقولهم بالحمل والتأويل فيكون ذلك سببا لضلالهم.

وقد نظرت أيضًا إلى ما نصه الفخر الرازي ج 6 ص 12 الطبعة الثانية سنة 1324 هـ في تفسيره سورة الأنبياء فوجدته يقول: “فإن قيل: قوله “بل فعله كبيرهم” كذب. والجواب: للناس فيه قولان. أحدهما وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب. وذكروا في الاعتذار عنه وجوها. ثم أطال في تلك الوجوه وبعد ذلك قال القول الثاني وهو قول طائفة من أهل الحكايات:

إن ذلك كذب. واحتجوا بما روي عن النبي أنه قال: “لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هي أختي.

وفي خبر آخر أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال: إني كذبت ثلاث كذبات. ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا: الكذب ليس قبيحًا لذاته. فإن النبي إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان وجاء الظالم وسأل عن حالة فإنه يجب الكذب فيه. وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو.

وأعلم أن هذا القول مرغوب عنه.

أما الخبر الأول، وهو الذي ردوه، فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن كذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه. وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها. ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قاله (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).

فأما قوله تعالى: “إني سقيم”، فلعله كان به سقم قليل، واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه. وأما قوله “بل رفعه كبيرهم”، فقد ظهر الجواب عنه (أي في كلام الفخر).

أما قوله لسارة أنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين. وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق (سورة يوسف، من الفخر الرازي ج 5 ص 119).

وأعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي أنه قال: “ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات”. فقلت: الأولى ألا تقبل مثل هذه الأخبار. فقال على طريق الاستنكار: فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة. فقلت له: يا مسكين، إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم ، وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة. ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.

لذلك كله نحيت الحديث أو تنحيت عن طريقه حتى لا يشهد الجمهور اصطدام الحديث بآيات الكتاب الكريم، وتركت تكذيب الفخر الرازي وغيره لسند ذلك الحديث وإجابة المجيبين وتوجيه الموجهين، لأن الجمهور لا خير له في الوقوف على هذا الضرب من الكر والفر..

لينظر القارئ الكريم معي إلى لفظ الحديث الذي يعزونه إلى رسول الله ، فإنه واجد قول إبراهيم لسارة: “إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك. فإن سألك فأخبريه أنك أختي إلخ”. فالمنطق المعقول يقتضي أنها إذا كانت امرأته يتركها لأنها مشغولة وإذا كانت أخته فإنه يأخذه لأنها غير مشغولة ببعل.

ولكن المفسرين قالوا: إن السياسة كانت على أن القوم كانوا لا يتعرضون لغير ذات البعل وإنما كانوا يتعرضون لذات البعل ويأخذونها قهرا. أقول: سلمنا جدلا أن السياسة كذلك، فما بالكم ناقضتم أنفسكم ونقضتم ما أبرمتم، وقلتم إن الجبار أخذها. وما هو الحامل للجبار على مخالفة القاعدة التي زعمتم أنها كانت متبعة مرعية بين أولئك الأقوام؟!

وبعد هذا فأين النقل الصحيح لذلك؟ على أن حضرات أصحاب الفضيلة لو تحروا الحق في شأن إبراهيم وكان كاذبا “حاشاه” كما يقولون، لو جدوه قد كذب ست كذبات وهي: (1) قوله: إني سقيم، (2) قوله: بل فعله كبيرهم هذا، (3) قوله عن زوجه: إنها أختي، (4) قوله: هذا ربي، حين رأى كوكبًا، (5) قوله: هذا ربي، حين رأى القمر، (6) قوله: هذا ربي، حين رأى الشمس.

فهذه ست كذبات ينتظره كذبات غيرهن يوم القيامة حين يهرع الناس إليه طالبين أن يشفع لهم في فصل الخطاب إذ (يقول لهم: لست هناكم. إني كذبت ثلاث كذبات)، مع أنهن ست. وهكذا يجعلونه كذابا في الدنيا، كذابا في الآخرة. ولم يكفهم تلك الست من الكذبات حتى يتأولوا فيهن، فتكون نتيجة التأول أنه احتال على الناس وصرفهم عن إجابة طلبهم إلى الشفاعة في الموقف بما ليس عذرا حقيقيا إذ كذباته ليست ما يوجب عقابا. فإجابته إنما هي تملص من طلبهم الذي افتدى منه بإلصاق الكذب بنفسه. وهو اعتذار لا يحسن لأن كذبه لا تبعة عليه فيه! فهل هذا لسان الصدق الذي جعله الله لإبراهيم؟ اللهم اشهد عليّ أنت وملائكتك أني أشهد أن إبراهيم لم يكن كاذبا ولا مفتريا.

بقي أن أقول أن رد الفخر الرازي للحديث الذي ينبذ فيه إبراهيم بالكذب هو الصواب الذي لا يشوبه خطأ، والحق الصريح الموافق لأصول الإسلام، لأنه حديث آحاد يلصق بأحد الأنبياء بل بأبي الأنبياء من بعده وهو خليل الله إبراهيم نقيضة شنيعة وهي الكذب والتهاون في العرض. وقد مر بك أيها القارئ الكريم أن مثله يرد طبقا لما جاء في العقائد النسفية وشرحها والرسالة العضدية وحاشية عبد الحكيم السيالكوتي عليه وما نقلناه عن ابن حجر في فتح الباري.

كتب أصحاب الفضيلة في الرد على ما ذهب إليه الفخر الرازي من عدم قبول الأحاديث الدالة على كذب إبراهيم ، فأجابوا عن شق وقالوا: لقد رد عليه العلماء، ومع كونهم هم ومن ردوا على الفخر الرازي لم يصيبوا المحز ولم يطبقوا المفصل لأنهم لم ينقضوا الأصل الذي رمى إليه وقد اجتمعت عليه كلمة المتكلمين وأهل الحديث. فقد تركوا ما أورده من القطع بأن الله تعالى لا يرخص لأحد من أنبيائه في الكذب، لأن ذلك يرفع الثقة من الأوامر الإلهية والنواهي، لاحتمال أنها مما رخص الله فيه لهم بالكذب.

وبعد هذا، فهل ما حصل من إبراهيم هو كذب أو صورة كذب كما يدعون. والجواب كلا، فإن قوله (إني سقيم) يحتمل أنه كان به سقم خفيف أو أنه كان سقيم الباطن والضمير قلق الخاطر مألومًا في نفسه لرؤيته قومه يعبدون غير الله ولا يصغون لعظة ولا نصيحة. وأما قوله (بل فعله كبيرهم هذا) فإن الجواب عليه يحتاج إلى أن نشرح ما هو الكذب فنقول: الكذب الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه في الواقع مع اعتقاد المخبر أن ما قاله غير مطابق للواقع قاصدا بذلك خديعة السامع لخبره وإيهامه أن الشيء على ما أخبره به ابتغاء إضلاله عن الحق مع إمكان أن يقع كلامه من السامع موقع الصدق. فإذا كان الكلام لا يمكن أن يفيد ذلك لم يكن هناك كذب في الخبر.

فهل كان يضلل قومه ليعتقدوا أن الصنم الأكبر قد حطم سائر الأصنام؟ كلا، فإن الذي يعتقد أن الصنم المصنوع من خشب أو غيره من حجر أو معدن يأخذ الغيظ من أمثاله فيعمد إلى تحطيمهن، لا يكون عنده ذرة من عقل، وما كان القوم بهذا المقدار من الغباء. بل مثله في ذلك الإخبار مثل من يأتي إلى مصحف قد كتبته بخط بديع، فيقول لك: أأنت كتبته؟ فتقول له وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب: بل أنت كتبته، على سبيل التهكم والاستهزاء به، فإنك لا تريد أن تضله عن الحق وتجعله يعتقد أن الكتابة الجميلة من صنع يده. ومتى خرج الخبر إلى التهكم خرج عن الخبرية إلى الإنشاء ولم يكن محتملا للصدق والكذب أصلاً. فإبراهيم إنما قال لهم ما قاله على سبيل الاستهزاء بهم، وليجرهم إلى إقامة حجته واضحة جلية. ومعلوم أنه لا كذب في ذلك.

وأما قوله عن زوجته: (أختي) فإنه إذا كان قد وقع منه ذلك فيحتمل أن تكون أخته حقيقة كما يحتمل أن تكون ابنة عمه، وإطلاق الأخت على بنت العم سائغ لا تنكره اللغة، ويحتمل أن تكون بعيدة منه وأنه يريد أختي في الدين. كل محتمل ولا كذب فيه. وعلى ذلك لم يحصل من إبراهيم كذب ولا صورة كذب.

بقي أن أقول: إن لي سلفا في رد الأحاديث الناطقة بكذب إبراهيم (نزهه الله عن ذلك) وهو الفخر الرازي. وقد حاول حضراتهم الحط من هذا القول، لأنهم متى زيفوا الفخر الرازي فقد زيفوا قولي. وأكبر ظني أنهم لو لم يجدوا كلام الفخر الرازي مطابقا لما أوردته لما خطر ببالهم هذا الخاطر لأني أنا المقصود بذلك دون غيري. وآية ذلك أنهم يعلمون أن الفخر الرازي قال ذلك قبل أن يصدر كتابي، ومع ذلك فلم تنشط بأحد منهم همته إلى الرد عليه وأن يعلنوا ذلك للأمة حتى لا تضل بقول الفخر الرازي.

وبعد هذا فهل يظن حضراتهم أن قولهم ومن ردوا على الفخر الرازي أولى عندي بالقبول من قوله؟ أو أن ثقتي بعلم الرادين وصحة فكرهم في كتاب الله وثقوب ذهنهم أكبر عندي من الثقة بالفخر الرازي في ذلك كله؟ إذا كان أحد قد أخبرهم بذلك فقد افترى إثما عظيما ولم يصدقهم سن بكره.

على أني لو كان حتما علي أن ألغي عقلي ولم يكن لي بد من أن أقلد فإني لا أختار حضراتهم ومن ردوا على الفخر الرازي أن أكون تابعا خطواتهم سائرا على نهجهم، بل أختار الفخر الرازي ومن كانوا على سبيله أن أقتدي بهم إذا كان لا بد من الاقتداء، فإني لم أعهده إلا قولا للحق غير متجانف عن سبيل الرشد ولا محكم هواه ولا حاطب في حبل غيره، وهو مأجور على ما يبدي من رأي أو فهم أصاب أو أخطأ، لأنه مجتهد في تحصيل الحق على كل حال.

قال أصحاب الفضيلة: “هذا ولنختم هذا الموضوع بما ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه في نسب سارة ليعلم منه خطأ القول بأنها أخته حقيقة. قيل: إنها ابنة ملك حران، والمشهور أنها ابنة عمه هاران. قال: ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن العبسي فقد أبعد النجعة وقال بلا علم. ومن ادعى أن ذلك كان مشروعا فليس له على ذلك دليل. ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فإن الأنبياء لا تتعاطاه”.

والذي أقوله: إني لم أجزم بأن سارة كانت أختا لإبراهيم حقيقة، بل قلت: (إذا صح أنها كانت أخته حقيقة وصح أنه قال أنها أختي كما قالت التوراة إلخ، فإيهامهم أني جزمت في كلامي بأنها أخته غير صحيح. قولي (هو الذي أميل إليه) ليس قطعًا مني بذلك، بل هو الذي أميل إليه إذا تحققت الفروض السابقة. ووجهة نظري في ذلك أني أعلم كما يعلم حضرات أصحاب الفضيلة أن الأصل في الأشياء الإباحة إلى أن يأتي الشرع بالحظر كما في شرب الخمر، فإنه كان مباحًا إلى أن أتى دين الإسلام بالحظر. ونعلم ويعلمون أن آدم كان يزوج أبناءه من بناته. فهذا الأصل، وهو الإباحة يستصحب إلى أن يأتي أمر الشارع بالمنع.

وبعد هذا نقول يحتمل أن تكون سارة أختا لإبراهيم كما يحتمل أن تكون أجنبية منه أو قريبة له قرابة بعيدة أو قريبة. وإني على أتم الاستعداد للقول بأنها غير أخته قطعا متى أوقفني حضراتهم على نص من عندنا معشر المسلمين يقطع بأنها ليست أختا له.

وأما قول الحافظ بن كثير والمشهور أنها ابنة عمه هاران فإني أقول يحتمل أن يكون لإبراهيم عم اسمه هاران، ولكني لم أقف على ذلك ولم أدر من أين أخذه. ولو صح ذلك كان إطلاقه لفظ الأخت على بنت العم سائغا لجريان العرف بذلك. فلعلهم كانوا مثلنا في ذلك. وأما قوله: فإن الأنبياء لا تتعاطاه، فهذه الدعوى ينقصها الدليل. وعلى ذلك فيبقى الأمر محتملا كما قدمت.

إن الضجة التي أثارها أصحاب الفضيلة حول هذه المسألة التي ربوها حتى صار أمرها أمرا وشبت عن الطوق، وكانت سببا في إطلاق ألسنة المستهزئين والخلعاء في إبراهيم ونسبته إلى ما أنزه إبراهيم عنه، وأنزه لساني عن أن ينطق به وقلبي عن أن يخطه حتى أن بعضهم شبه موقفي مع حضراتهم بموقف عبد الرحمان بن الحكم مع معاوية.  أما كان الأجدر بحضراتهم أن يطووا هذا الأمر كما طويته وأن يربأوا بأنفسهم عن أن يكونوا سببا في قالة السوء عن نبي كريم وإطلاق ألسنة من يساوى ومن لا يساوى في حقه؟ أأمنتم أن يلاقيكم إبراهيم في الآخرة وأن يعاتبكم على ما كان  منكم من جعله عرضة لقالة مكروهة أو منديلا يمسح به أعداء الله ورسله مقاذيرهم؟ أيكون اعتذارهم بأنهم قد عز عليهم أن تكون ساحته بريئة من الكذب فأحبوا أن يكملوا نقصه؟

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

(قصص الأنبياء، للشيخ عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، 1935 م، مصر).

Share via
تابعونا على الفايس بوك