قرأت لك

محنة يوسف

“كانت منَّة الله تعالى على يوسف بالجمال الرائع مكمنا لمحنته، ومحنته مكمنا للمنَّة العظيمة عليه وعلى آله وعلى أهل مصر وجميع الأمم التي تقرب من مصر. كما قال ابن عطاء الله السكندري، ربما كمنت المنن في المحن، وكانت تلك المحن أن امرأة العزيز نظرت إلى يوسف وما هو عليه من الخلق السوي والجمال المفرط. فأشعل ذلك في نفسها جذوة الحب، وصار ذلك يزداد بتكرر رؤيتها إلى إن غلبها الحب على حيائها. فأخذت تداعب يوسف وهو يعرض عنها لعامِلَين يكفي كل واحد منهما لعزوفه عما تريد؛ أولهما إيمانه بالله تعالى وامتثاله أوامره بالتزام الطهارة من الأرجاس الخلقية.. تلك الطهارة التي وجد عليها أباه وجده وجد أبيه. ثانيهما أن بعلها سيده الذي حدب عليه، وأكرم مثواه، ومكن له في بيته، وجعله المتصرف في أمواله وخدمه، ووثق به ثقة ليس لها حد، فلا ينبغي أن يقابل نعمه بالكفران. فلو لم يكن له دين يحجزه عن الشر ولزمه الطهارة لكان ذلك كافيا لحفظ سيده في أهله، والبعد عن تدنيس فراشه.

كان ذلك دأب يوسف معها إلى أن هاج بها هائج الغرام واعتزمت على شفاء ما في نفسها من الصبابة. فصارحته القول، ودعته إلى نفسها دعوة لا هوادة معها. واحتاطت للأمر وأخذت عدتها له، وغلقت الأبواب، وقالت ليوسف: هَيْت لك. فأبى، وقال: إنه (أي بعلها) ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون. وفي هذا الموقف العنيف.. شاب في ريعان شبابه وغضارة الفتوة تدعوه سيدته الجميلة إلى نفسها، فيغلبه دينه ويعصمه رعي الذمام لسيده. ثم يولي وجهه شطر الباب يطلب النجاة من شيطان غوايتها، وهي تجاذبه ثوبه وهو العصي حتى تمزق مِن خلفه، إلى أن يغلبها ويفلت من يدها. فيستبقان الباب، هو يريد فتح مغلقه وهي تريد أن تحول بينه وبين ما يشتهي من الإفلات من يدها دون قضاء لبانتها. وحينئذ يجد أن بعلها عند الباب.

اقرأوا قوله تعالى:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ .

وللعلماء في تفسير هذه الآية آراء. فقوم يقولون: أن امرأة العزيز قد همت بيوسف ليضاجعها وهو هم بها، وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، فلما لم يبق شيء دون إتمام ما قصدته وقصده جاء جبريل وأخبره بأنه سيكون نبيا، وهذا العمل لا يليق من الأنبياء، فكف عنها. وهذا برهان ربه. ومعنى الآية: لولا أن رأى برهان ربه لفعل.

وقال آخرون: إن يوسف وهو في تلكم الحال نُوديَ من الله يا يوسف، إنك مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء.. إلى غير ذلك من الأقوال الباردة. والقائلون بذلك لم يفقهوا قول الله تعالى في تلك الآية:

كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

فكيف يكون قد صرف عنه السوء وهو قد تهيأ لفعل الفاحشة وأصغى إلى شيطان الغواية، ولم يرجع، كما يقولون، إلا بعد أن رأى من الزواجر والروادع ما يكفى لصرف أعظم الفسقة والمستهترين عن الغي ومتابعة الشهوة؟ وكيف يوصف بأنه من المخلصين مَن كان انصرافه على هذا الوجه؟

وأغرقُ هذه الأوجه في البعد قولُ من يعتذر عن هم يوسف بأن ذلك كان قبل النبوة، أي فِعل المعصية في هذا الدور غير ممتنع على الأنبياء! فإن صاحب هذا القول غافل عن قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . فإن الرسالة عندما يُختار لها أصحاب الأعمال المرضية، ولا يختار الله رسله من أهل الفسق. فهو يعصمهم عن الخسائس وسائر ما يعير به الناس. وأي عار أكبر من أن يذهب الشخص إلى المعصية، ثم لا يرجع إلا بعد الزجر والنهي.

ويقول آخرون: أنه همَّ همَّ الطبيعة وهو أمر لا اختيار للمرء فيه. وهؤلاء أخف قولا مما تقدم.

ويقول آخرون: أنه هم هم ترك ولست أطمئن إلى هذا القول، وأنه وُجد منه همٌّ على حال.

وتكلف آخرون فقالوا: أنه هم ليضربها.

والقول الذي لا غبار عليه ويلتئم مع قوله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ، ومع قوله في الآية نفسها: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .. أن همّه بها امتنع لوجود البرهان عنده وهو حرصه على الطاعة واستمساكه بآداب آبائه وبأخلاقهم الزكية الطاهرة…..

يوسف وامرأة العزيز

يوجد في الأمثال ضربني وبكى وسبقني واشتكى. ذلكم المثل هو مثل امرأة العزيز مع يوسف. ذلك أنها لما رأت سيدها لدى الباب يريد الدخول وكان معه ابن عمها أرادت أن تشفي غل صدرها وحنقها على يوسف لما فاتها من التمتع به وتوقعه في الشر جزاء إبائه عن مطاوعتها.. تقدمت نحو زوجها باكية شاكية قائلة:

مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .

وأفهمته أنه راودها عن نفسها وأنها أبت عليه. وأما يوسف فقد وجد نفسه في مأزق حرج وأن الصدق سبيل نجاته، وأنه اللائق بمقابلة العزيز بما صنع معه من جميل وما أسدى إليه من المكرمة، فقال: هي راودتني عن نفسي وأنا امتنعتُ وأبيتُ حتى آل أمرها إلى أن نازعتني ثوبي. وهنا ظهرت فراسة ابن عمها في تحقيق الحق من قولها، فقال:

إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ .

لأن الهاجم على المرأة وهي تدافعه إنما يظهر أثر دفاعها في مقدمة قميصه، والهارب من المرأة العالقة بثوبه إنما يظهر أثر ذلك من الخلف لأنه يكون مستديرا لها وهي تجاذبه من خلف. فظهر حق يوسف وكذب امرأة العزيز بأن رأوا قميصه قد من دبره. فعاد الشاهد أو العزيز على امرأته باللوم وقال: إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم. وأَمَرَ يوسف بكتمان الخبر، وأمرها بالاستغفار لذنبها، وصرح بأنها مخطئة فيما صنعت.

اقرأوا قوله تعالى:

مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ .

لطيفة

للإمام الفخر الرازي كلمة قديمة أوردها في تفسيره خلاصتها: إن يوسف قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ . وشهد الشيطان ببراءته بقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ . وشهد ببراءته الشاهد من أهل امرأة العزيز إذ قال:

إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ .

وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيديهن بقولهن: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ . وشهدت ببراءته زوجة العزيز بقولها:

الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

فالذي يريد أن يتهم يوسف بالهم، عليه أن يختار أن يكون من الله أو من حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف. فلا مفر من الإقرار بالحق على أي حال، وهو براءة يوسف من الهمِّ بها.

(قصص الأنبياء، للأستاذ عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1935 ص 157 إلى 161).

Share via
تابعونا على الفايس بوك