في عالم التفسير
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة:34)

 شرح الكلمات:

غيب: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة….).

السماوات: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (أو كصيب من السماء…).

الأرض: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض…).

تُبْدون: بدا الأمرُ: ظهَر، وأبدى الأمرَ: أظهرَه (الأقرب).

تكتمون: كتمَ الشيءَ (يكتُم كَتْمًا وكِتْمانًا): أخفاه، وربما عُدِّيَ إلى مفعولين فقيل: كتَم زيدًا الحديثَ. كتَم الفرسُ الرَّبوَ: ضاق منخرُه عن نَفَسِه (الأقرب).

فعَجْزُ الفرس عن إخراج نفَسه سُمِّيَ كَتْمًا.

وعن ابن عباس والحسن في قوله تعالى وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا : هو أن تنطق جوارحهم (المفردات).

وكأن ظهور الشيء تلقائيًا هو عدم الكتم، وتقاصُر الشيء عن الظهور هو الكتم. وعليه فقوله تعالى مَا تَكْتُمُون يعني (1) ما تخفون (2) ما لا تستطيعون إظهاره، أي أن الشيء الذي يجب أن يخرج منكم لم يخرج لعدم الصلاحية، بمعنى أنكم خُلقتم خلقةً لا تستطيعون بها إنجاز هذا العمل.

التفسير:

كان الملائكة قد استوعبوا -إجمالاً- الغايةَ مِن خلق آدم ، ولكن -استكمالاً للدليل- أمَر الله تعالى آدمَ ببيان خصائص الكُمَّل مِن أمته أو نسله، لكي تتبين الحقيقة عَمليًّا بعد أن تبينت عِلميًّا.

وليس المراد بهذه الآية أن حوارًا جرى بين رب العزة والملائكة وآدم، إنما هو تعبير عن الحقيقة بلسان الحال طبقًا للأساليب المعروفة الشائعة في اللغة العربية، ومثاله قول الشاعر الراجز:

“امتلأ الحوضُ وقال قَطْنِي       مهلاً رويداً قد ملأتَ بَطْني”

(فِقْهُ اللغة للثعالبي، فصل في إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل على الحقيقة).

فليس المراد أن الحوض صرخ قائلا: كفى فقد امتلأتُ، بل المراد أنه قال هذا بلسان حاله.

وقال غيره: “قالت له العينانِ سمعًا وطاعةً” (لسان العرب).

وهذا التعبير شائع في سائر اللغات، فمثلًا قال الشاعر الشهير عندنا جلال الدين اللكنوي الذي كنتُ أستعين به لإصلاح شِعري في طفولتي:

حكمدل  كا  ہے لگی آكے  بجھاؤ میریعرض كرتے ہیں یہ آنسو كہ جناب آنكھوں سے

أي: قال القلب: أطفِئوا النار التي تشتعل فيّ، فقالت دموع العين: نعمْ، نطفئها.

المقصود هو أن ألم القلب يُجري دموع العين.

فثبت أنهم يستخدمون لفظ “القول” للتعبير عن لسان حال الشيء أيضًا. وعليه فليس ضروريًا أن يكون هناك أي حوار بين الله وبين آدم ، بل المراد أن آدم بدأ بأمر الله تعالى بإظهار الصفات الإلهية التي كانت ستظهر على يد ذريته، وهكذا انكشفت على الملائكة عمليًا حقيقةُ الرُقيّ الروحاني الذي كان من المقدر أن يحرزه البشر.

كما أنه ليس المراد من قوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا أن يكون الله تعالى قد أعطاه دروسًا شفوية وهو جالس أمامه، بل المراد أنه تعالى أعطى آدم علمَ الصفات الإلهية واللغة وخواص الأشياء، إما بالوحي الجليّ أو الخفيّ أو بكلتيهما.

وأما قوله تعالى فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ… ، فيعني أن آدم لما بدأ بإظهار تلك الكمالات والفضائل المقدر ظهورها على يد أمته عمومًا، وعلى أيدي الكُمَّل من ذريته خاصةً، أدرك الملائكة أن لا أحد من المخلوقات يقدر على إظهار الصفات الإلهية كما يقدر البشر.

أما قوله تعالى قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فهو شرح لقوله تعالى من قبل إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، حيث بين الله فيه أنه هو الأعلم بحاجات الأرض، وبكيفية هطول مطر أفضال السماء عليها، وبمقتضى صفاته أيضًا.

وأما قوله تعالى وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فلا يعني أن الملائكة كانوا يخفون في قلوبهم اعتراضًا ويقولون بأفواههم خلافه، وقد بينتُ من قبل أن الملائكة أسمى من ارتكاب الإثم، بل لا قدرة لديهم على المعصية أصلًا، إنما تعني هذه الجملة أن الله هو الأعلم بما أودع في الملائكة من الصفات والكفاءات التي يُبدونها، وأيضًا الأخرى التي لا يمكن ظهورها على أيديهم. لقد بيّنت لدى شرح الكلمات أن الكتم يعني العجز عن إظهار الشيء، وهذا هو المراد من تَكْتُمونَ هنا، أي أنني أعلم مدى قدرتكم على إظهار الصفات الإلهية ومدى قصوركم عنه، ولذلك اقتضت صفاتي الكاملة خلْقَ كائن قادر على إظهار صفاتي كلها.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة 35)

شرح الكلمات:

قلنا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة…).

اسجدوا: السجود: التذلل. وفي قوله اسجدوا لآدم ، قيل: أُمروا بالتذلل له والقيام بمصالحه ومصالح أولاده. وقوله وادخلوا الباب سُجّدًا : أي متذللين منقادين (المفردات).

أو يعني قوله تعالى اسجدوا لآدم : اسجدوا لأجل خلقِ آدم.

سجَد يسجد سجودًا: خضع وانحنى. وسجَد البعيرُ: خفض رأسه. وسجدت السفينةُ للرياح: أطاعتها ومالت بميلها. يقال: فلان ساجدُ المنخر: ذليلٌ خاضع (الأقرب).

فالمراد من (اسجدوا لآدم): أطيعوه.

إلا: حرف استثناء (ينصب ما بعده عادة)، والاستثناء: إخراجُ ما بعده مِن حُكمِ ما قبله. وهو في اللغة على ضربين: (1) استثناءٌ متصل، وهو أن يكونَ المستثنى منه والمستثنى مِن جنس واحد، كقولهم: جاءني القوم إلا زيدًا، فزيد واحدٌ من جنس القوم؛ (2) استثناء منقطع، وهو إذا لم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه كقولهم: جاء القوم إلا حمارَهم.

إبليس: مشتق من (ب ل س)، وأبلسَ يعني: قَلَّ خيرُه؛ انكسرَ وحزنَ؛ يئسَ من رحمة الله. لازمٌ ويتعدى، فيقال أبلسَه غيرُه. وأبلسَ في أمره؛ تحيّرَ؛ وأبلسَ فلانٌ: سكت غمًّا (الأقرب).

فإبليس هو مَن: (1) يئس من رحمة الله، (2) قلَّ جانبُ الخير فيه، (3) تحيّرَ وارتبكَ في أمره، (4) لا يزال مغموما.

أبى: أباه إباءً وإباءةً: لم يَرْضَه (الأقرب).

الإباء: شدّةُ الامتناع، فكلُّ إباءٍ امتناعٌ، وليس كلُّ امتناع إباءً (المفردات).

أباه:كرِهه. الإباء: الامتناعُ عن الشيء والكراهيةُ له بغَضِّه وعدمِ ملايمته (التاج).

استكبر: استكبر الشيءَ: رآه كبيرا وعظُم عنده. واستكبر:كان ذا كبرياء (الأقرب).

الكِبْر: الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبرَ مِن غيره. والاستكبار يقال على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا… والثاني أن يتشبَّع فيُظهِر مِن نفسه ما ليس له (المفردات).

كان: من الأفعال الناقصة، تدخل على المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأَ وتنصب الخبر، وتدلّ عموما على حدوث الفعل في الماضي. وإذا دلت على حدوث الشيء ووقوعه استغنت عن الخبر لأنها دلت على معنى وزمان، تقول كان الأمرُ، فـ (كان) هنا جاءت بمعنى صار. فمعنى كان من الكافرين : كان مِن قبلُ كافرا؛ أو صار من الكافرين.

الكافرين: راجعْ شرح كلمات قوله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم…).

التفسير:

قبل البدء في تفسير هذه الآية كلها أرى من المناسب أن أبين المراد من السجود هنا.

الثابت من القرآن الكريم أن السجود لغير الله تعالى منافٍ لتعاليمه، قال الله تعالى لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ (فصلت 38). وعليه، فكيف يمكنُ أن يقالَ أن الله تعالى أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم السجودَ المعروف.

يقول البعض هنا: ربما كان السجود لغير الله جائزًا في زمن آدم، وجاء النهي عنه فيما بعد. لكن هذا المعنى غير سليم، لأن التمسكَ بالتوحيد حُكمٌ أبديٌ وليس مؤقتًا، حتى يتغيَّرَ عبر العصور. بالإضافة إلى ذلك يقول الله تعالى عن الملائكة صراحةً إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (الأَعراف 207)، فهذه الآية تدل بكل جلاء على أن الملائكة يسجدون لله دائمًا، ولا يسجدون لغيره أبدًا. فما دام الله تعالى قد صرح أن الملائكة وأظلالهم من البشر لا يسجدون لأحد سوى الله أبدًا، فكيف يصح القول أن الله تعالى أمر الملائكة في وقت من الأوقات بأن يسجدوا لغيره، فسجدوا له.

فلما ثبت أن السجود لغير الله تعالى منافٍ لتعاليم القرآن الكريم، وأن الملائكة لم يسجدوا لأحدٍ سوى الله قط، فالسؤال: ما هو المراد بأمر الله للملائكة بالسجود لآدم؟

والجواب:

 أولًا: اللام مع الفعل (سجد) يفيد التأكيد أحيانًا كما في قول الله تعالى وَاسْجُدُوا لِلَّهِ (فصلت 38)، وأحيانًا يفيد العلّةَ والسببَ، كقول الشاعر الشهير امرئ القيس:

ويومَ عقرتُ للعذارى مطيّتي… (من المعلقات السبع).

أي تذكَّروا ذلك اليوم الذي ذبحتُ فيه ناقتي للفتيات العذارى. فاللام هنا ليس لتأكيد المعنى، بل لبيان السبب والعلة، أي قد ذبحتُ ناقتي من أجل الفوز برضا العذارى.

وبالمثل ليس المراد من قوله تعالى اسْجُدُوا لِآدَمَ أن يسجدوا له فعلاً، وإنما المراد أن يسجدوا لله بسبب استخلافه آدمَ، حيث أقام الله تعالى بذلك نظامًا رائعًا. فكأن الله عز وجل بعد أن أثبت للملائكة بالدليل والمشاهدة أن خلافة آدم هي من أفعال الله الحكيمة، إذ أُنيط بها ظهورٌ جديد وتجلٍّ كامل لصفات الله تعالى، أمَرهم أن يسجدوا لله عز وجل سجودَ حمدٍ وشكرٍ على هذه المنة العظيمة، وذلك كما نرى أن عباد الله الشاكرين يخرّون سجّدًا عندما يرون مشهدًا من مشاهد قدرة الله وجبروته عزّ وجلّ.

خلاصة الكلام أن الملائكة لم يؤمَروا بالسجود لآدم حقيقةً، بل أُمروا بالسجود لله تعالى فرحًا بخلافته، وكأن الله تعالى قال لهم اسجدوا من أجل آدم، أي من أجل تولّيه منصبَ الخلافة. ولم يكن هناك حاجة لبيان المسجود له، لأن السجود لا يجوز إلا أمام الله تعالى.

وفي هذا المعنى درس للمؤمن أنه كلما نزل عليه فضل من الله فعليه أن يخرّ ساجدًا لله تعالى، فهذا مدعاة لنزول المزيد من أفضاله جل وعلا. ولكن المؤسف أن كثيرا من الناس عندما ينالون نعمةً يصيبهم الاستكبار، ويَعْزون رقيهم إلى نبوغهم وبراعتهم بدلاً من أن يشكروا الله تعالى.

ثانيًا: يمكن أن يُفسَر السجود هنا بمعنى الطاعة والانقياد.

قد بيّنتُ عند شرح الكلمات أن من معاني السجود الطاعةَ والانقياد بالإضافة إلى السجود المادي، حيث قال الراغب -صاحب المفردات- إن السجود: التذلل. وقال بعض الأئمة إن من معاني قوله تعالى اسْجُدُوا لِآدَمَ أنهم أُمروا بالتذلل له والقيام بمصالحه ومصالح أولاده.

وعليه فالمراد أن الله تعالى لما شرَّف آدم بخلعة الخلافة قال للملائكة إن آدم هو مظهر مرضاتنا في الدنيا اليوم، فساعِدوه في إنجاز مهمته وسخِّروا له من هذا النظام الكوني كلَّ ما هو تحت إدارتكم، والذي أنتم الحلقات الأولى من حلقاته. فسجَدوا ، أي فاندفعوا كلهم لتأييد آدم والعملِ على تحقيق مرامه.

وقوله تعالى إلا إبليس ، يعني أن الملائكة سجدوا كما أمرهم الله تعالى، ولكن إبليس لم يسجد.

مَن هو إبليس هذا؟ سوف أجيب على ذلك مفصلًا لاحقًا، غير أن علينا أن نعلم أن إبليس لم يكن من الملائكة أبدًا، حيث صرّح الله عنه في آية أخرى: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ (الكهف 51). أي كان من الجن فرفض الانقياد لآدم بسبب جبلّته.

قال البعض لو لم يكن إبليس من الملائكة، فلماذا استُثني بلفظ (إلا) الذي هو بمعنى (سوى)، لأن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه؛ فمثلًا: لو قيل: جاء أصدقائي كلهم إلا زيدًا، فمعناه أن زيدًا أيضًا من أصدقائي، فاستثناء إبليس هنا يعني أنه كان من جنس الملائكة.

لا شك أن إلا تُرادف “سوى”، ولا شك أيضًا أن المستثنى بـ (إلا) يكون -عمومًا- من جنس المستثنى منه، ولا يكون شريكًا في الفعل المذكور من قبل، ومثاله: جاء أصدقائي إلا زيدًا، فزيد من أصدقائي ولكنه ليس شريكًا معهم في فعل المجيء. ولكن في بعض الأحيان لا يكون المستثنى بـ (إلا) من جنس المستثنى منه، ومثل هذا الاستثناء يسمى استثناءً منقطعًا، أي أن المستثنى لم يشارك المستثنى منه في الفعل فقط، بل هو ليس فردًا من مجموعة المستثنى منه. ومثال الاستثناء المنقطع هو الجملة الشهيرة عند النحويين: جاء القوم إلا حمارهم، فالحمار ليس من جنس القوم ولم يشترك في فعل مجيئهم أيضًا.

ويقال هنا: إذا كان إبليس من غير الملائكة، فلماذا ذُكر معهم حين أُمروا بالسجود والطاعة؟ فما دام غيرَ مأمور بالسُّجود فما كان له ليسجد معهم؟

والجواب: لقد نشأ هذا الاعتراض لعدم إدراك حقيقة الملائكة. لقد بيّنّا من قبلُ أن الملائكة هم مدبِّرو نظام الكون كما قال الله تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (النازعات:6). فما داموا هم العلّةَ الأولى لإدارة هذا الكون، فالأمر الموجه إليهم يشملُ جميعَ الكائنات التي تحتهم. وسبق أن ذكرنا أيضا أنه ورد في الحديث النبوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : “إن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا نادى جبريلَ : إن الله أحبَّ فلانا فأحِبَّه، فيحبّه جبريلُ. ثم ينادي جبريلُ في السماء: إن الله أحبَّ فلانا فأَحِبُّوه، فيحبّه أهلُ السماء، ويوضَع له القبول في الأرض” (صحيح البخاري). والواقع أن نظام الكون هو كسلسلة، والملائكة هم الحلقة الأُولى فيها، ومَن يحرّك الحلقة الأولى منها فكأنما يريد تحريك الحلقات التالية أيضًا. كذلك حينما يأمر الله تعالى الملائكة أمرًا، فيكون الهدف منه أن يَحدثَ هيجانٌ في العالم الأرضي للعمل به، فالله تعالى حين أمر الملائكة بطاعة آدم كان الملائكة أول المخاطبين بهذا الأمر بلا شك، ولكنه في الواقع كان موجَّهًا للعالم كله، فمَن رفض هذا الأمر عُدَّ من العصاة. ومن أجل ذلك قال الله تعالى في آية أخرى لإبليس مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (الأَعراف 13). فثبت من هنا أن الأمر الموجه إلى الملائكة كان موجهًا إلى الجميع في الحقيقة، وكان إبليس أيضًا ملزَمًا للعمل به كالكائنات الأخرى. فعصيان إبليس لهذا الأمر الإلهي لا يُثبِت أنه كان من الملائكة، إنما يثبت أنه رفض دعوة الملائكة ولم يُطع أمر الله الذي وصله بواسطتهم.

أما قوله تعالى: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فقد بين الله تعالى فيه أربعة أسباب لرفض إبليس دعوةَ الملائكة:

السبب الأول: الإباء، ومعناه- كما شرحنا لدى شرح الكلمات- رفضُ المرء أمرًا يراه ناقصًا وغيرَ صالح له. لقد رأى إبليس دعوةَ الملائكة ناقصةً وغيرَ ملائمة له، فكرِهها ورفَضها. والواقع أن من أكبر أسباب إنكار الناس للحق أنهم لا ينظرون إلى ما فيه من نفع للعالم، إنما ينظرون ما إذا كان يحقق مصالحهم العاجلة أم لا، فإن وجدوه خلاف مصالحهم عارضوه غيرَ مبالين بمصيرهم وبمصالح العالم المنوطة به.

والسبب الثاني لإنكار الحق ورفضه مذكور في قول الله تعالى: استكبرَ . أي رفَض إبليس طاعة آدم لأنه ظنّ أنه من الكبراء، وأنه لو أطاع آدم لفقد مكانته بين القوم، كما قال الله على لسان إبليس وهو يبرّر عدم طاعته لآدم: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف:13)، أي أن آدم طينيُّ الطبع إذ يمكن تشكيله في كل القوالب كالعبيد، وأنا ناريُّ الطبع ومتحررُ المزاج، فأَنّى لي أن أطيع هذا الذي طبعه كطبع العبيد.

وهذا السبب الثاني لرفض الحق أيضًا شائع على نطاق واسع. إن اتّباع الحق يورث المرءَ خُلُق التواضع والانكسار الذي يعدّه أعداءُ الحق معرّةً ومنقصة، ويعتبرونه منافيًا لمصالح الوطن والملّة، ويرون أن هؤلاء المتواضعين خونةٌ للشعب والبلاد. يتباهى هؤلاء المستكبرون بطبائعهم النارية الثائرة والشريرة، ويحسبون أنهم بتصرفاتهم العدوانية سوف ينهضون بالبلاد والشعب إلى القمة، ولا يدرون أن الازدهار الحقيقي إنما يتأتى بالمثابرة والتضحية وطاعة النظام، لا بنشر الفوضى والفساد بما يجتذب الأنظار لبعض الوقت ولا يجلب منافع دائمة.

كما أن في كلمة (استكبرَ) إشارة إلى أن المانع الرئيسي الذي يمنع هؤلاء من قبول الحق هو خوفهم على زعامتهم، إذ لا تهمّهم مصلحة القوم ولا منفعتهم في الواقع.

والسبب الثالث لرفض الحق مذكور في المعنى الآخر للاستكبار، وهو أن يرى المرء ما يُعرَض عليه كبيرًا ومستحيلاً كما ذكرنا لدى شرح الكلمات. وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (الفرقان: 22)، أي قال الذين لا يرجون لقاءنا بعد سماع دعاوى محمد رسول الله : إذا كانت الملائكة تنزل حقًا فلماذا لا تنزل علينا، وإذا كان لأحد أن يرى الله تعالى فلماذا لا نراه نحن. الواقع أنهم قد استعظموا هذين الأمرين في أنفسهم وعدُّوهما من المحال، وتجاوزوا في شرهم الحدود كلها.

هذا الدافع الثالث أيضا يلعب في إنكار الحقائق دورًا كبيرًا. يقول المعارضون بأفواهم إن هذا المدعي كاذب وعدو للشعب، ولكنهم يرون في قرارة نفوسهم أنه يستحيل النهوض بالشعب إلى هذه المكانة كما يدّعي هذا. وبتعبير آخر، إنهم يقولون في الظاهر إننا نعارضه لأنه خائنٌ للشعب، أما في الواقع فإنهم يحسبون أن دعاويه مستحيلة ولن تتحقق أبدًا، وبسبب شدة يأسهم لا يجدون في أنفسهم من الشجاعة ما يدفعهم لتقديم التضحيات التي لا بد منها نتيجة لاتّباع النبي.

والسبب الرابع لإنكار إبليس طاعة آدم مذكور في قول الله تعالى: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، أي أنه كان معتادًا على إنكار الحقائق من قبل. وهذا الأمر أيضًا يصدّ معظم الناس عن قبول الحق. إنهم لا يتحلّون بالأخلاق الحسنة، فيعتادون على إنكار الخير. إنهم لا يجدون الجرأة لقبول الحق رغم انكشافه عليهم بسبب ضعفهم وجبنهم واعتيادهم على ترك الخير. ويوجد مثل هؤلاء بكثرة في كل عصر. وكما أن العنكبوت ينسج حوله بيته ثم يُصبح كالسجين فيه، فإن هؤلاء القوم ينسجون حولهم شبكة من إنكار الحقائق باستمرار، فلا يجدون الجرأة لقبول الحق رغم سطوعه أمامهم.

كان إبليس مصابًا بهذه العيوب الأربعة كلها، فكان أولًا يرى تعاليم آدم خلاف مصلحته الشخصية، وثانيًا كان يرى أنه أرفع شأنًا من آدم من حيث المكانة المادية، فكانت طاعة آدم أمرًا صعبًا عليه. وثالثًا كان يرى أن ما يصبو إليه آدم مستحيل، وأن دعاويه ليست إلا ضربًا من الخبل. ورابعًا كان مقتنعًا إلى حدٍ ما بعقائد آدم، ولكنه معتادًا على عيشة متسخة بالكذب والزور، فكان من المحال أن يقبل تلك العقائد لكون قلبه أسيرًا في سيئاته السابقة.

الواقع أن هذا هو حال منكري الحق اليوم أيضًا. يا ليت الناس يحاولون إدراك الحقائق متخلين عن هذه العيوب الأربعة، فيعرفون أن الله تعالى قد فتح لهم أبوابًا واسعة للتقدم والرقي اليوم أيضًا، وهيأ لانتصار الإسلام وسائلَ عديدة، ولكن قليل هم الذين يستعدون لقبول هذا الموت الذي يُكتب بعده الحياةُ الخالدة لهم وللإسلام. ولكنهم يزهقون أنفسهم من أجل المصالح العاجلة العابرة، متهربين من تقديم التضحيات الدائمة المستمرة. يا ليت قلوبهم انشرحت وتطهرت من الصدأ!

إن (إبليس) مشتقّ مِن (ب ل س)، وقد بيّنت عند شرح الكلمات أن أبلسَ يعني: (1) الذي قل فيه الخير، (2) الذي فقَد الهمة وحزن (3) الذي يأس من رحمة الله (4) الذي احتار ولم يهتدِ إلى سبيل. فمعنى إبليس: مَن قلَّ فيه الخير وكثُر الشرُّ، وفقَد همته، واستولى عليه الغم، ويئس من رحمة الله، ولم يهتد سبيلاً لتحقيق مراده، وأصبح حيران.

ويمكن أن نفهم من هذه المعاني أن إبليس إما لقبٌ أُطلق على كائن روحاني يحمل هذه الصفات، أو أُطلقَ على إنسان -أيا كان اسمه- استحق هذا اللقب نظرًا إلى حالة قلبه، فأطلقه عليه القرآن.

تكشف دراسة القرآن الكريم أن اسم إبليس ورد في أحد عشر موضعًا: (1) الآية التي هي قيد التفسير، (2) سورة الأعراف، (3و4) مرتين في سورة الحجر، (5) سورة الإسراء، (6) سورة الكهف، (7) سورة طه، (8) سورة الشعراء، (9) سورة سبأ، (10و11) سورة ص.

في كل هذه المواضع ذُكر إبليس في سياق إنكار السجود لآدم إلا في موضعين، وهما سورتا الشعراء وسبأ، ففي سورة الشعراء يخبر الله تعالى أن أتباع إبليس يدخلون النار، وأما في سورة سبأ فيخبر الله تعالى أن إبليس صدّق ظنَّه في قوم سبأ، أي أنهم صاروا فريسة له.

باختصار، حيثما تحدث القرآن الكريم عن آدم وإنكار السجود له ذكَر اسم إبليس، وحيثما تحدث عن إغواء آدم ذكَر اسم الشيطان في كل موضع بدون استثناء. وهذا الفرق يكشف جليًّا أن القرآن الكريم يفرّق بين استعمال كلمتيْ إبليس والشيطان فرقًا واضحًا. وهذا يدل على أن إبليس الذي رفض السجود لآدم هو غيرُ الشيطان الذي حاول إيذاء آدم وإغواءه.

نرى أن الله تعالى قد حذر آدم تحذيرًا صريحًا بألا يستمع لإبليس فهو عدو له، ومع ذلك انخدع منه، وهو أمرٌ لا يستوعبه العقل. نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (طه:118)، أي بعد إنكار إبليس لآدم، قلنا لآدم إن هذا عدو لك ولزوجك أو لأصحابك، فحذار أن يخرجكما من الجنة فتقع في الشقاء. ويبدو بعد هذا التحذير الصريح أنه كان من المستحيل أن يقع آدم في خداعه إلا أن يكون قد أراد عصيان الله تعالى؟! ولكننا نجد القرآن الكريم يرفض هذه الفكرة في آية أخرى حيث قال الله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه:116)، أي أن آدم أخطأ ناسيًا، ولم يرتكب هذا الخطأ متعمدًا.

ويمكن التوفيق بين الأمرين باعتبار الشيطان الذي خدع آدمَ غيرَ إبليس الذي حذر الله منه آدمَ. لقد انخدع آدم من الشيطان ولم يعرف أنه من أنصار إبليس وأظلاله، فلم يأخذ منه الحذر كما ينبغي، فوقع في الخطأ.

والدليل على صحة هذا ما سبق ذكره آنفًا بأن القرآن كلما ذكر الكائن الذي امتنع عن السجود لآدم سمّاه إبليس، وهو الذي حذر الله منه آدمَ، وكلما ذكَر الذي وسوس لآدم سماه الشيطان.

لقد ثبت من الآيات المذكورة آنفًا أن إبليس هو الكائن المحرض على الشر إزاء تحريض الملائكة على الخير، والشيطان اسم عام يُطلَق على كل القوى الشريرة، ويمكن أن يُطلَق على إبليس نفسه، أو على غيره ممن يتّبعه، أو ينوب عنه في إغواء الناس وحثِّهم على المنكرات، وتأليبِهم على الأنبياء وعلى رسالاتهم، ومن أجل ذلك لم يُطلق اسم إبليس على أي إنسان في القرآن الكريم، بل كلما ذكَر القرآن إبليس ذكره ككائن مقاوم للملائكة، أو أطلقَه على الروح الخبيثة المحرضة على السيئة، كما هو واضح مما ورد في سورتي الشعراء وسبأ. وعلى النقيض يُطلَق اسم الشيطان على الأرواح الخبيثة كما يطلق على البشر؛ غير أنه أكثر استعمالاً بالمعنى الأول، كما هو ثابت من الأمثلة التالية:

قال الله تعالى في وصف المنافقين: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ (البقرة:15). والشياطين هنا أئمةُ الكفر كما هو واضح من كلمات الآية، والصحابة أيضًا قد فسروا الشياطين هنا بهذا المعنى (للمزيد راجِعْ تفسير هذه الآية في مكانها).

وأخبر الله تعالى أن الناس قالوا للمؤمنين بأن الكفار قد احتشدوا بأعداد كبيرة للهجوم عليكم، ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:176). وكما هو واضح فإن المراد من الشيطان هنا عملاء الكفار الذين يسعون لبثّ رعبهم في قلوب المؤمنين. وقد قال المفسرون القدامى أيضًا إن المراد من الشيطان هنا “نعيم بن مسعود أو أبو سفيان أو عامة الكفار” الذين كانوا يخوّفون المسلمين من قوتهم (فتح البيان وابن كثير).

وكذلك قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً (الأنعام: 113). أي هكذا جعلنا أعداءً لكل نبي الشياطين من الناس، والشياطين من الجن، فيوسوس بعضهم في قلوب بعض.

باختصار؛ قد أطلق القرآن الكربم لفظ الشيطان على الأرواح الخبيثة التي توسوس في قلوب الناس، وكذلك على بعض البشر أيضًا، ولكن اسم إبليس لم يُطلق في القرآن الكريم إلا على الكائن الذي رفض السجود لآدم. فالمراد من إبليس تلك الروح الخبيثة التي هي ضد الملائكة وتوسوس في القلوب، أما الشيطان فيطلق على إبليس وكذلك على أظلاله من البشر الذين يعملون مثل عمله.

والجدير بالذكر هنا أن الله تعالى قد ذكر إبليس باسمين: إبليس والشيطان، وقد ذكرنا عند شرح الكلمات أن معنى إبليس اليائسُ الحيرانُ، وأن معنى الشيطان البعيدُ عن الحق، أو الذي يُبعِد الآخرين عن الحق ويحترق حسدًا. فالاسم الأول الذي أُطلق على هذا الكائن هو إبليس، والاسم الثاني هو الشيطان، وفيه إشارة إلى حكمة من علم النفس، وهي أن الإنسان يميل إلى الضلال والغواية بمرحلتين: فأولاً يأخذه اليأس والحيرة، وبتعبير آخر يحيط به الجهل، ثم يبتعد بعد ذلك عن الحق ويُبعد عنه الآخرين أيضا، ويُصاب بالحسد الذي يشابه الاحتراق في النار. فعلى المرء أن يكافح اليأس والجهل، ولو قُضي على اليأس والجهل من الدنيا لزال منها الضلال والإضلال والحسد تلقائيًا، لأن الحالة الثانية نتيجة للأولى.

“الملائكة” و”إبليس”:

لقد تساءل البعض: لماذا خلَق الله تعالى إبليسَ؟ أيريد الله سبحانه أن يضلل عباده؟

والجواب أن الله تعالى زوّد الإنسان بالقدرة على الخير والشر، وخلق معه الملائكة وأظلالهم وإبليسَ وأظلاله أيضًا، الفريق الأول يُحفِّز القلوب على الخيرات، والفريق الثاني يحفزها على الشرور، فمن لبّى دعوة الملائكة وأظلالِهم استحق الأجر، ومن انقاد لإغواء إبليس وأوليائه استحق العقاب. والكمال الإنساني يتطلب أن يكون الإنسانُ مخيَّرًا بين هذين الحافزين، لكي يحكم بنفسه وينقاد للحافز الذي يرضى به، فيستحق بذلك النعمَ العليا، ولولا تعرُّضه لدواعي الشر لما استحقّ أفضل النعم.

غير أن القرآن الكريم قد أوضح أيما إيضاح أنه ليس لإبليس أو للشيطان أي تصرف على أحد من الناس، فهم مخيرون بين اتّباع خطواته أو مخالفة تحريضه، حيث قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر:43)، أي يا إبليس لن تكون لك الغلبة على عبادي بالدليل والبرهان، إلا أن الغاوين المتمردين سيتّبعونك، لأنهم سيرون أن لأقوالك وزنًا وقيمة.

وأيضا قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء 66)، أي يا إبليس لن تكون لك الغلبة على عبادي بالأدلة والبراهين.

لقد فسّرتُ هنا كلمة (سلطان) بمعنى الغلبة بالدليل والبرهان، والقرآن الكريم يؤكد ذلك في قوله تعالى هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ (الكهف 16)، أي إذا كانوا صادقين فيما يفعلون فلماذا لا يأتون ببرهانٍ بيّنٍ.

وهناك آيات أخرى أيضا ورد فيها لفظ (سلطان) بهذ المعنى.

فالمراد من كون إبليس لا يملك ضد عباد الله تعالى أي سلطان أن ما يقوله إبليس لا يستند إلى دليل وبرهان، بل يغوي العباد بالكذب والترهيب والإغراء الزائف، كما قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (الإسراء:65). حيث بيّن الله تعالى هنا أن إبليس لا يغوي الناس بناءً على دليل وبرهان، وإنما دأبه بثّ الرعب في القلوب والإغراء بالوعود الكاذبة، فالذين ينضمّون إلى صفوفه بسبب تخويفه وكذبه فإنه يخوف بواسطتهم مَن هم أقلُّ منهم فسادًا ويحرمهم من الهدى.

موجز القول إن حوافز إبليس ليست مبنية على أي برهان عند القرآن الكريم، بل أساسها الترهيب والتخويف والوعود المزخرفة الزائفة، فلا يصح القول أن الله تعالى قد عمل على إغواء عباده بخلق إبليس. لو أن الله تعالى أعطى الشيطان برهانًا من عنده لَصحّ هذا الزعم، لكن الأدلة كلها تؤيد الملائكة دون إبليس، فمن يتبع إبليس إنما يتبعه باختياره، وهو مسؤول بنفسه عن عمله.

وليكن معلومًا أن لـمَّة الخير، أي الحافز على الخير، أقوى من لـمَّة الشر، وأولُ دليل على ذلك هو أن الله تعالى جعل إبليس تابعًا للملائكة كما أشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله: إلا إبليس . أعني أن الملائكة هم الذين أُمروا بالسجود لآدم، ولكن إبليس زُجر أيضا لعدم طاعته له، وقد بيّنت من قبل أن معناه أن كل شيء في الكون تابع للملائكة، فالأمر الموجَّه إلى الملائكة كان موجَّهًا إلى إبليس أيضًا. وعليه فقوله تعالى إلا إبليس إشارةٌ إلى أن الحافز الملائكي هو الأصل، والانحراف عنه يسمى الحافز الإبليسي، وهذا يعني أن للملائكة غلبة على إبليس.

والدليل الثاني على أن الله تعالى لم يرد إضلال العباد هو أن القرآن الكريم قد أكد في القرآن مرارًا أن الإنسان مفطور على الخير، ولكن فطرتَه الطيبة يفسدها فيما بعد هو نفسُه أو والداه أو الذين يتولون تربيته، كما قال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:8-11)، أي أننا نقدم النفْس البشرية وتسويتها وتكميلها شهادةً، فبعد تسويتها أخبرناها جيدًا بما سيفسدها وما يحافظ على صلاحها ونقائها، فمَن يحافظ على نقاء نفسه من التأثيرات الخارجية السيئة يفلح، ومن يدسّ نفسه في التراب يفشل.

لقد تبين من هذه الآيات أن النفس الإنسانية مفطورة على النقاء والطهر، ومزودة بالتمييز بين الخير والشر، وليس على الإنسان بعد ذلك إلا أن يعمل بحسب فطرته النقية، ولو فعل ذلك ولم يخضع للتأثيرات الخارحية المنافية لفطرته النقية لَظلَّ يتقدم في مجال الخير باستمرار، بينما سيهلك الذي يعمل العكس ويدنس نفسه النقية بالتأثيرات الخارجية المنافية لفطرته النقية. وبتعبير آخر، إن الإنسان مجبول على قبول توجيهات الملائكة، ويولد بريئًا من أي نصيب من إبليس، ولكنه يهلك فيما بعد إذ يدعو بنفسه إبليسَ إليه.

وهذا المعنى قد بيّنه الرسول في أحاديثه أيضا، حيث قال: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين).

Share via
تابعونا على الفايس بوك