الصيام يكسب الإنسان الحياة الحقيقية
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (186)

شرح الكلمات:

هدى –مصدر بمعنى الفاعل، أي هادٍ للناس.

بينات-جمع بيِّنة وهي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة (المفردات).

التفسير:

يذكِّرنا شهر رمضان بتلك الأيام المقدسة التي نزل فيها للعالم كتاب كامل كالقرآن الكريم. تلك الأيام المباركة التي كانت فيها بداية سعادة الدنيا. الأيام التي فتحت أبواب رحمة الله وبركاته للعالم. الأيام التي ضاق فيها محمد رسول الله برؤية وجه كريه للدنيا وسيئات أهلها.. وتوجه إلى غار حراء معرِضًا عن العالم، وتاركًا أقاربه وأصدقاءه، ليشتغل في ذكر الله تعالى.. ظنًّا منه أنه بفراره من الدنيا هكذا سوف يتمكن من أداء واجبه الذي خلقه الله لأجله.

في هذه اللحظات من الوحدة، وفي هذه الأوقات من الخلوة. وفي هذه الساعات من التدبر والتفكر.. جاء عليه شهر رمضان. وبحسب الراويات الموثوقة.. في الرابع والعشرين من رمضان. تلقّى هذا الذي أعرض عن الدنيا وآثر الانفراد والعزلة أمرا من خالقه وربّه ومعلمه ومحبه أن اذهبْ إلى الناس وادْعُهم ودُلّهم على طريق الهدى. أنت تبحث عني في هذه الخلوة في غار حراء.. ولكنك ستجدني في أزقة مكة بين شغب الناس وضجيجهم. اذهب وبلِّغ قومك بأنني ما خلقتكم في هذه الدنيا في حالة أدنى ثم منها ربيتكم ورقَّيتكم.. لتأكلوا وتشربوا وتموتوا بدون أن تُسألوا عما فعلتم.

عندما تلقى هذا الصوت أخذته الدهشة، فقال لجبريل في حيرة: ما أنا بقارئ (البخاري، الوحي).. أي أنني أستغرب هذه الرسالة. هل تليق هذه الكلمات من فمي أمام أهل مكة؟ هل يُعير قومي أذنا صاغية لهذه الرسالة ويقبلونها؟ ولكن الله أمره باستمرار: اذهب واقرأ هذه الرسالة على الناس. عندئذ-تلبية لهذا الصوت وامتثالا لهذا الأمر-خرج النبي من هذه العزلة واختار الجلوة وبرز لمحافل الناس. ولم تكن هذه المحافل بالنسبة إليه مكانا يجد فيه الإنسان صديقا يبث إليه شكواه، أو يسمع منه ما يفرحه ويسره، أو تزول فيه متاعبه النفسية، ولم تكن بالنسبة إليه مجالس للقصص والأساطير والشعر، أو مجالس يتجاذب فيها الناس أطراف الحديث في المناظرات والمباحثات.. وإنما كانت ندوات يُبدي فيها النبي حبه وإخلاصه للطرف المقابل.. ويتلقّى منه السباب والشتائم والتهديد والتخوف دائما. كانت ندوات لو زارها الإنسان مرة لم يبق في قلبه رغبة لزيارتها بعد ذلك. كان يتلقى من السباب والوعيد ما يجعلهم يظنون أنه لو كان عنده أدنى حس وشعور فلن يكرر حديثه لهم غدا. كانوا يفرحون أنهم أسكتوا محمدا اليوم، ولكن عند طلوع شمس يوم جديد كان هذا العاشق الصادق لله يخرج مرة أخرى لتبليغ رسالة ربه لأهل مكة، ومرة أخرى يتلقى نفس السباب والوعيد والتخويف إلى أن يحل المساء. وعندما يحول حاجز الليل بينهم وبينه كانوا يرجون أن يكون قد آثر السكوت وقرر الصمت من اليوم. ولكن كيف يمكن لمن كان نداء الله يدوي في آذانه أن يرتعب منهم فيسكت؟ لو كان يقضي ليله نائما لنسي هذه الرسالة، ولكن مَن نومه كيقظته كيف ينساها؟ إن الدرس الذي لا يعاد ولا يراجَع يمكن نسيانه، ولكنه كان بمجرد أن يأوي إلى فراشه يسمع نداء (اقرأ) فكيف يمكن –والحال هذه –أن ينسى الرسالة؟

في شهر رمضان تلقى النبي هذا النداء، وفي رمضان نفسه خرج من غار حراء لتبليغ الناس رسالة الله، وإلى ذلك يشير قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وأيضا قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر) (القدر).

ورمضان من الرمض الذي يعني الحرقة (الأقرب)، وسواء كانت حُرقة الشمس أو حُرقة المرض. فمعنى رمضان: موسم الشدة والصعوبة. وفي سورة القدر قال: إنا أنزلناه في ليلة، والليل أيضا يدل على الظلام والمصيبة. وهكذا بيّن الله في الآيتين أن نزول الوحي والإلهام يتم في أيام الشدائد والمصائب. فما لم يتعرض قوم إلى المصائب والبلايا، وما لم يتحول نهارهم إلى ليال حالكة، وما لم يذوقوا شدة الجوع والعطش، وما لم يتحمل الجسم الإنساني الشدائد من الداخل والخارج.. لا يمكن أن ينزل عليهم كلام الله تعالى.

وبانتخاب هذا الشهر لنزول القرآن أمّل الله المسلمين أنكم إذا أردتم أن ينفتح عليكم باب كلام الله، فلا بد لكم من المرور من أتون المصائب والمحن، وبدون ذلك لا يمكن أن تتيسر لكم نعمة مكالمة الله تعالى. فرمضان يذكِّر المسلمين بكلام الله، ومن أجل ذلك أمر النبي بالإكثار من تلاوة القرآن في رمضان، ولذلك نهتم –نحن الجماعة الإسلامية الأحمدية –بإلقاء دروس القرآن الكريم فيه. فعلى الإخوة أن يكثروا في هذا الشهر من تلاوة القرآن الكريم، والتدبر في معانيه، حتى تتولد فيهم روح التضحية التي لا يمكن أن تزدهر أمة بدونها.

تلبية لهذا الصوت وامتثالا لهذا الأمر-خرج النبي من هذه العزلة واختار الجلوة وبرز لمحافل الناس. ولم تكن هذه المحافل بالنسبة إليه مكانا يجد فيه الإنسان صديقا يبث إليه شكواه، أو يسمع منه ما يفرحه ويسره، أو تزول فيه متاعبه النفسية، ولم تكن بالنسبة إليه مجالس للقصص والأساطير والشعر، أو مجالس يتجاذب فيها الناس أطراف الحديث في المناظرات والمباحثات.. وإنما كانت ندوات يُبدي فيها النبي حبه وإخلاصه للطرف المقابل

هذا الشهر يعلِّم أن الذي يريد الغلبة على الدنيا فعليه أن يختار عزلة كعزلة غار حراء، فالدنيا لا تُنال إلا بتركها. يجب الابتعاد عنها وتركها أولاً.. وعندئذ يمكن التغلب عليها. ولكنها غلبة روحانية. هناك غلبة مادية مثل التي حققها “الدجال” وسبيلها أن يَقِفَ الإنسان نفسه لأجل الدنيا، ولكن الذي يريد الغلبة على الدنيا مع بقائه عبدا لله فلا سبيل له إليها إلاّ بتركها. إن أبا جهل سعى لينال الدنيا فنالها، ولكن رسول الله تركها ومع ذلك نالها، بل نالها بما هو أعظم من أبي جهل. كان أبو جهل رئيسا وكبيرا من كبار أهل مكة، ولكن الرسول أصبح في حياته ملكا على الجزيرة العربية، ثم صار فيما بعد ملكا على العالم كله. فمتى نال أبو جهل من الدنيا ما ناله الرسول ؟ ولكن ما حققه أبو جهل من الدنيا حققه بجهد وسعي لها، ولكن ما ناله المصطفى منها فقد ناله بتركها. فالدنيا تأتي للجماعات الروحية إذا تركوها. أما أهل الدنيا فينالونها بكسبها وبذل الجهود لها. يعلمنا رمضان أنكم إذا أردتم النجاح في أهدافكم للزم أن تقبلوا الشدائد والمصائب، وترضوا بظلمات الليالي، وألا تخافوا منها لأنها سبب نجاحكم.

فرمضان شهر له أهمية كبيرة خاصة، والذي في قلبه حب صادق للإسلام واهتمام بالإيمان لا بد أن يشعر بهيجان خاص في قلبه، ورعدة سارية في جسمه.. كلما حل شهر رمضان.. مهما طالت القرون بيننا وبين سيدنا محمد .. ومهما باعدت السنون والأيام بيننا وبين سيدنا محمد .. إلا كلما حلَّ علينا رمضان شعرنا أن هذا الشهر طوى كل هذه الشقة من الشهور والسنين والقرون، وقرّبنا من محمد رسول الله . لم يقربنا إليه فحسب، بل بما أن القرآن نزل من الله فيخيل إلينا أن رمضان قد طوى هذه المسافة وأوصلنا إلى الله. هذه المسافة التي تكون بين الإنسان وبين الله، والبعدُ الذي يكون بين المخلوق والخالق، والشقة التي تكون بين عبد ضعيف حقير وبين خالق السماوات والأرض.. قد انكمشت وانمحت وزالت زوال ظلمة الليل بأشعة الشمس. وإلى هذه الحالة يشير الله في قوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب). عند حلول رمضان يسألك عبادي: كيف يمكن لنا الوصول إلى الله؟ فقل لهم إن مجيء رمضان هو بمثابة مجيء الله تعالى. إن هذا هو الشهر الذي تجلّى الله فيه لعباده، وأراد فيه أن يجتذبهم إليه بكلامه الذي هو بمثابة حبل الله.. طرف له عند الله وطرفه الآخر في يد العباد، ومن واجبهم أن يتسلقوا بهذا الحبل ليصلوا به إلى الله تعالى.

ولقوله تعالى (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) ثلاثة معان:

الأول –وردت (في) بمعنى السبب والعلة، والمعنى أن شهر رمضان هو ذلك الشهر الذي لأجله نزل القرآن الكريم. أي أن صيام رمضان المبارك من الأهمية بمكان حتى أن الله تعالى أنزل الوحي في بيان أحكامه في القرآن الكريم. والأمر الذي ينزل فيه الوحي القرآني يمكن أن يقدّر الإنسان أهميته وضرورته.

هذا المعنى ثابت من اللغة. يقولون: تكلمت معك في هذا الأمر. ونظيره في القرآن الكريم قول الله حكاية عن امرأة العزيز (فذلكُنَّ الذي لُمْتُنّني فيه) (يوسف: 33).. أي هذا هو الشخص الذي وجهتن اللوم إليّ بسببه. وكذلك ورد في الحديث (عُذِّبت امرأة في هرة حبستها) (البخاري، المساقاة).. أي أن الله عذب امرأة لأنها حبست قطة ولم تطعمها فهلكت.

والمعنى الثاني-أن بداية نزول القرآن الكريم كانت في شهر رمضان. والثابت من الحديث أن القرآن الكريم بدأ نزوله في رمضان. هناك اختلاف في تعيين التاريخ، ولكن المحدّثين عامة يرجحون يوم الرابع والعشرين من رمضان (ومنهم العلامة ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري والإصابة، والعلامة الزرقاني صاحب شرح المواهب اللدنية وصاحب تفسير البحر المحيط).

والمعنى الثالث –هو أن كل القرآن نزل في رمضان، وقد ورد في الحديث رواية عن عائشة رضي الله عنها.. أن رسول وهو في مرض الموت قال للسيدة فاطمة رضي الله عنها.. إن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي (البخاري، فضائل القرآن).. أي أن جبريل في شهر رمضان من كل سنة كان يراجع معي ما ينزل عليّ من القرآن، ولكنه في رمضان من هذه السنة ختم معي القرآن مرتين.. وأرى من ذلك أن أجلي قد اقترب.

ولا شك أن نزول القرآن كان يتم في شهور أخرى غير رمضان، ولكنه يتميز عليها بأن جبريل كان يقرأ مع النبي ما نزل من القرآن الكريم حتى هذا الشهر، وكأن نزول القرآن على النبي كان يتم مرة أخرى في هذا الشهر في كل سنة.

وذُكر هذا الموضوع نفسه في رواية عن ابن عباس قال: (كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة) ) (البخاري، بدء الوحي).

يتأكد من هذه الراويات أن بداية نزول القرآن كانت في شهر رمضان، ثم في كل رمضان كان جبريل عليه السلام –يراجع مع النبي ما نزل إلى ذلك الوقت منه، وبناء على ذلك يمكن القول بأن كل القرآن كان ينزل في رمضان.. بل كانت بعض أجزائه قد نزلت عدة مرات، حتى يمكن لنا القول بأن الرسول .. مضى عليه منذ مبعثه إلى وفاته ثلاثة وعشرون شهرا من رمضان.. وبالتالي نزلت عليه بعض أجزاء من القرآن الكريم ثلاثا وعشرين مرة وبعضها اثنتين وعشرين وبعضها إحدى وعشرين مرة وهكذا. أما الآيات التي نزلت في السنة الأخيرة من حياته الشريفة فقد نزلت مرتين، لأن جبريل راجع معه القرآن مرتين فيها. والثابت من القرآن الكريم أن ما تفعله الملائكة إنما تفعله بأمر من الله (التحريم: 7)، لذلك لا يمكن القول بأن ما كان يفعله جبريل ليس نزولا.. لأن الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله، وهذا هو النزول والإنزال في المصطلح الإسلامي. إذن فمن معاني (أنزل فيه القرآن) أن جميع القرآن نزل في رمضان.

ويجب أن نتذكر أيضا أن (رمضان) اسم إسلامي لهذا الشهر، أما اسمه في زمن الجاهلية فهو الناتق (فتح البيان، تحت هذا الآية).

وقوله تعالى (هدى للناس وبيّناتٍ من الهدى) هدًى وبينات حال، والمعنى أن هذا القرآن أولا سبب لهداية الناس، وثانيا أن فيه أدلة على الهدى.. لأنه لا يقول للناس: افعلوا ولا تفعلوا فقط، وإنما يسوق أحكامه مع الأدلة أيضا. وقوله ’للناس‘ يشير إلى أن هذا القرآن هداية للعالم أجمع وليس لبعض الناس. وكلمة ’الفرقان‘ تشير إلى أن فيه من الأدلة التي تميز بين الحق والباطل.

قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصُمْه) أي أن من وفَّقه الله لأن يُدرك هذا الشهر المبارك –وهو ليس مسافرا أو مريضا –فعليه أن يصوم الشهر كله بدون انقطاع.. ويجمع له ما يكون سبب خير وبركة، ولا يضيع هذه الأيام المباركة في كسل وغفلة.

وقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) أي فرضنا عليكم صيام رمضان لأننا لا نرضى أن تؤمنوا ومع ذلك تعيشوا في عُسر. كيف قال ذلك مع أن المؤمنين في أيام الصوم يشقون على أنفسهم أكثر فيما يبدو؟ الحقيقة أن هذه الآية تبين نكتة عظيمة.. ألا وهي أن تحمل الجوع في سبيل الله وتقديم التضحيات لدينه لا يضر الإنسان أبدا وإنما ينفعه تماما. فالذي يظن أن الإنسان يجوع في رمضان يكذّب القرآن الكريم، لأنه تعالى يقول: كنتم جياعا ففرضنا عليكم الصيام لتأكلوا. فتبين أن الطعام الحقيقي هو ما يطعمه الله، والحياة الحقيقية هي أن يضحي الإنسان لوجه الله تعالى، ثم يأكل ما تيسر له شاكرا ربه. وأما ما سواه من الطعام فيُهلك آكله روحانيا. فعلى المؤمن أن يفكر عند تناول كل لقمة.. لأجل من يأكلها؟ فإذا كان يتناولها لله تعالى فهي الطعام، وإذا كان يأكلها لنفسه فليست طعاما وإنما هي حجر يأكله. كذلك إذا لبس لوجه الله تعالى فهذا هو اللباس، أما إذا لبس لنفسه فهو عريان. فانظروا كيف بيّن الله -بأسلوب لطيف- أنكم ما لم تصبروا على الشدائد والمصائب لمرضاته لن تستمتعوا بالرفاهية واليسر حقيقة.

وهذه الآية تبطل عمل أولئك الذين يتخذون من رمضان ذريعة للأكل حتى يسمنوا، كما قال الإمام المهدي: إن رمضان عند بعض الناس بمثابة أيام الأكل والراحة. يكثرون فيه من أكل الحلوى والمشويات والمقليات فيخرجون منه سمانا كما يخرج الحصان من أيام راحته وأكله. هذه الأمور تحرم الإنسان من الكثير من بركات رمضان. كذلك يجب أن لا يكون هناك تكلف وتنوع في الإفطار والسحور، ولا يظنن الإنسان أنه ما دام قد جاع طوال النهار فليأْكلْ الآن كثيرا متنوعا. إن أصحاب الرسول في زمنه لم يكونوا يتكلفون في إفطارهم وسحورهم، وإنما كانوا يرون الكفاية في الإفطار ببعض التمر أو الملح أو الماء أو الخبز. ومن واجبنا أيضا أن نتبع هذا الطريق ونحيي سنة الرسول وصحابته مرة أخرى.

قوله تعالى (ولتكملوا العدة) ذكر المفسرون لهذه الجملة معنى كنتُ أبيّنه أنا أيضا، وهو أن الله ذكر هنا سبب فرض الصيام لشهر كامل، قائلا: إننا عيَّنا شهر رمضان للصيام لكي تكتمل عدة أيام الصوم. لو أنه فرض الصيام بدون تعيين لصام بعض الناس عشرة أيام مثلا، وصام بعضهم أقل من ذلك وصام آخرون الدهر. لذلك فرض الله الصوم لشهر كامل كي يصوم المؤمنون كلهم أياما هي ضرورية لتكميل الروحانية.

هذا المعنى صحيح في محله، ولكن هناك أيضا معنى آخر.. هو أن الحياة الحقيقية للإنسان إنما هي ما ينقضي منها في الخير. أما ما ينقضي منها في كسب الدنيا فيضيع سدى. والله قد فرض الصيام لكي يكمل الإنسان عمره الحقيقي، لأن الذين يشتغلون في كسب الدنيا وحدها ليسوا أحياء، بل هم أموات بحسب المصطلح القرآني: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) (الإسراء: 73). ولما كان لا مناص للإنسان من المأكل والمشرب لاستمرار حياته.. فلا يستطيع أن يصوم طوال السنة، ولذلك فرض الله صيام شهرٍ، وقال الحسنة بعشر أمثالها (الأنعام: 161).. وهكذا جعل صيام شهر رمضان بمثابة صوم السنة كلها.. فكأن الذي صام هذا الشهر صام العام كله، وصارت حياته حياة حقيقية.

ثم قال (ولتكبروا الله على ما هداكم). من العجيب أن الله ذكر من قبل فضيلة صيام رمضان بقوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) هنا استخدم قوله (ولتكملوا العدة) إزاء كلمة (شهر) لبيان أنه لو لم يعين شهرا للصيام لاختلف الناس في قدر أيام الصيام فنقصوا أو زادوا.. وهكذا ما استطاعوا تحقيق الرقي الروحاني الذي يتحقق بصوم شهر كامل. ثم قال هنا: (ولتكبروا الله على ما هداكم) مقابل قوله (رمضان الذي أنزل فيه القرآن).. لبيان أننا لم نحدد لكم أي شهر آخر، لأنكم إذا تذكرتم أن نزول القرآن قد تم في رمضان يتولد في قلوبكم حماس خاص لفعل الخيرات، فكلما جاء شهر رمضان فكرتم أن هذا هو الشهر الذي مَنَّ الله علينا فيه منة عظيمة؛ إذ أنزل فيه كتابا عظيما مثل القرآن.. وبالتالي سوف تميل قلوبكم تلقائيا إلى أن تكبروا اسم الله.

ثم بقوله تعالى (ولتكبروا الله على ما هداكم) نبّه على أن هذه الأيام هي لتكبروا الله فيها شكرا على أنه هداكم، وليس لأن تشكو إليه شدة الجوع. بل عليكم أن تفكروا أن الله قد مَنَّ عليكم مِنّة عظيمة إذ أنزل عليكم نعمة الصيام. الحق أن الله قد وضح هنا ما هي وجهة نظر المؤمن. إنه كلما وجد فرصة للتضحية اعتبرها فضلا من الله. والأمة التي تكون هذه وجهتها لا يمكن أن يهلكها أحد، بل لا بد أن تفوز وتنجح. وهي التي تحيا حقا. إن الذي يفكر أن ما أُلقي عليه من واجبات دينية هو فضل خاص من الله لا بد أن يكبِّر الله، والذي يشتغل في تكبير الله تعالى لا بد أن يكبّره الله. لقد أمرنا الله في القرآن الكريم أنكم (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (النساء: 87).. فلا بد أن يعمل هو أيضا بهذا المبدأ، وإذا قدَّم له الإنسان هدية ردَّ عليه بأحسن منها. فالذي يكبّر الله فلا بد أن يكبره الله، ولكن بشرط ألا يكون هذا التكبير بكلمات الفم فحسب. إن التكبير الذي يسره سبحانه وتعالى هو أن يتحمل الإنسان في سبيله السب والضرب والرجم، ومع ذلك يكبّره ويشكره لأنه هيّأ له هذه الفرصة للتضحية. وكأن التكبير الحقيقي هو أنه كلما تعرض الإنسان للاضطهاد خضع لله قائلا: ما أكثر نعم الله عليّ! وكلما حلّت به مصيبة كبر الله وأثنى عليه. ومن كبر الله هكذا فلا بد أن يزيده الله فضلا ويهيئ أسبابا لرفع مكانته.. وإلا فإن التكبيرات من اللسان فقط لا تجديه نفعا.

وأما قوله تعالى (ولعلكم تشكرون) فجاء به إزاء قوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).. ليشير إلى أننا أعطيناكم هذه الرخصة لتكونوا شاكرين.. وتتحدثوا كيف أن الله قد هيّأ لنا هذه التسهيلات لنيل المدارج العليا.. وتبقى جباهكم ساجدة على عتبتي دائما، وتضيئوا صدوركم وقلوبكم بحبي.

فهنا ذكر الله ثلاثة أحكام، وذكر إزاءها ثلاث حِكم. والأحكام هي أولا – أن تصوموا شهرا، وثانيا –أن تصوموا في رمضان، وثالثا – أن للمرضى والمسافرين رخصة إكمال هذه العدة في أيام أخر.

والحِكم الثلاث إزاءها هي:

أولا –حكمةُ صيام شهر كامل.. وهي أننا حددنا عدد أيام الصوم حتى لا يختلف الناس، فلا تكتمل العدة التي هي ضرورية للرقي الروحاني. وثانيا –حكمة الصيام في رمضان.. وهي ألا يختلف الناس ويختار كل منهم شهرا خاصا به، فعيّنّا رمضان للجميع لكي يتذكروا نزول القرآن في هذا الشهر، فيتحمسوا لذكر الله وعبادته أكثر. وثالثا-حكمة الترخيص لبعض المرضى والمسافرين بعدم الصوم، لكي تروا هذه التسهيلات، فتميل قلوبكم إلى شكر الله أنه رعانا هذه الرعاية.. أنزل هذه الأوامر لصالحنا، ثم منحنا هذه التسهيلات أيضا.

ويشير قوله تعالى (لعلكم تشكرون) أيضا إلى أننا فرضنا صيام رمضان لكي تكونوا شاكرين. فعند كل تكبيرة تشكرون الله، لأنه وفّقكم لهذا التكبير، ثم تشكرونه على هذا التوفيق للشكر السابق، ثم تشكرون على هذا التوفيق للشكر اللاحق.. وهكذا تستمر سلسلة من حلقات الشكر لا تنتهي، فيبقى الإنسان ساجدا على عتبة الله في كل حين، ويصبح عبدا لا يترك باب سيده بحال من الأحوال.

Share via
تابعونا على الفايس بوك