آيات الله مقابل التدابير العقلية
  • ما السنة الربانية الثابتة في زوال الأمم أو بقائها

__

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا   (56)

شرح الكلمات:

قُبُلاً: القُبُلُ: نقيضُ الدُّبُرِ (الأقرب).

التفسير:

أي أن القرآن مليء بدواعي الهدى بحيث يزيل كل عائق في سبيل الهداية. فكان الأجدر بهؤلاء أن يتوبوا من عقائدهم الخاطئة ويهتدوا بهدي القرآن، ولكنهم لا ينتفعون به، وكأنهم قد آلَوا إلا أن يروا العذاب. علمًا أن قولـه تعالى سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يعني الدمار الشامل النهائي، بينما قوله تعالى أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا يعني أنواع العذاب الذي سيحلّ بهم قبل ذلك الدمار النهائي. فالله تعالى يعلن أن هؤلاء يريدون بعملهم العذاب بنوعيه.

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (57)

شرح الكلمات:

ليُدحضوا: أَدحضَ القدمَ: أزلَّها. أَدحضَ الحُجّةَ: أَبطلَها وأَزالَها ودفَعها (الأقرب).

التفسير:

قولـه تعالى لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ يعني أن الكافرين يخاصمون ويمارون بالباطل كي يمحقوا به الحقَّ ويزيلوه من العالم.

والمراد من قوله تعالى وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا أننا نُري الآيات فعلاً ولكنهم يستهزئون بها. وهذا هو دأب الأوروبيين في العصر الحاضر، حيث لا يولون للآيات الإلهية أدنى اهتمام، بل يعدّونها ضربًا من أوهام الحمقى. يهتمّون بالتدابير العقلية،  أما آيات الله فيحتقرونها احتقارًا.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (58)

التفسير:

أي مَن أظلم ممن إذا قُرئت عليه آيات الله تعالى احتقرها معرضًا عنها، ولم يفكّر أن أعماله – التي قام بها معتمدًا على عقله – قد أسفرت عن المزيد من الفساد والفتن والحروب. وبالرغم من أنه قد جرب أنه قد فشل في توطيد السلام بناء على عقله فشلاً ذريعًا، إلا إنه لا يلتفت إلى المعونة الإلهية والهداية السماوية؛ وهذا يدل على أنه يرفض ما جرّبه بنفسه. فكم هي شنيعةٌ جريمةُ وغفلةُ تلك الأمة التي تدّعي أنها تؤسس أعمالَها على التجارب، إذ تولي اهتمامًا شديدًا للتجارب الجزئية، ولكنها لا تنتفع من نتائج الخبرة التي هي خبرة القوم كلهم. إذًا فليس مآل ذلك إلا أن يحرمهم الله من الفهم السليم إذ قد رفضوا عمليًّا أن يستعينوا بالفهم السليم، وأن يتركهم وشأنهم لأنهم لن ينتفعوا من نصح ناصح مهما قدّم لهم مِن نُصحٍ.

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (59)

التفسير:

يعلن الله تعالى إنه لو عاقبهم على جرائمهم لأهلكهم من زمان، ولكنه تعالى لا يهلك قومًا بدون إنذار، لذلك سوف يحذّرهم أولاً، وسيؤاخذهم بعد إقامة الحجة عليهم بواسطة المأمور الذي يرسله في ذلك الوقت.

وقولـه تعالى بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً يعني أنه تعالى قد حدد لهم موعدًا، ولن يجدوا للنجاة منه ملاذًا سوى الله تعالى.

والمراد من قوله تعالى وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا أننا نُري الآيات فعلاً ولكنهم يستهزئون بها. وهذا هو دأب الأوروبيين في العصر الحاضر، حيث لا يولون للآيات الإلهية أدنى اهتمام، بل يعدّونها ضربًا من أوهام الحمقى. يهتمّون بالتدابير العقلية،  أما آيات الله فيحتقرونها احتقارًا.

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (60)

التفسير:

أي قد خلت قبلهم كثير من الأمم التي لما ظلمتْ، أي لم تصحح موقفها رغم الإنذار السماوي، دمّرها الله تعالى حسبما أنبأ عن هلاكهم سلفًا. إذًا فينبغي لهؤلاء أيضًا أن يفكّروا أنهم مهما أحرزوا من رقي وتقدم فإنهم بشر على كل حال، فأنى لهم أن ينجوا من الهلاك جراء إعراضهم عن الله تعالى وقد هلك البشر قبلهم للسبب ذاته.

واليوم أيضًا يرى 99 % من الناس أن أوروبا لن تُدمَّر بعد الآن. ولكن الله تعالى ينبئ هنا أنه ظن خاطئ يدل على جهل أصحابه. فمن ذا الذي كان يتصور أن الإمبراطوريات السابقة ستدمَّر في يوم من الأيام. ومن ذا الذي كان يتصور أن إمبراطوريات المسلمين أو الرومان أو الفرس ستزول في يوم من الأيام؟ ولكنها كلها هلكت وبادت. فاستغراب الناس من زوال ملك هؤلاء القوم ينافي العقل.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (61)

شرح الكلمات:

لا أبرَحُ: ما برِح فلان كريمًا أي بقِي على كرمه (الأقرب).

أمضي: مضى الشيءُ يمضي ومضَا يمضو: ذهَب وخلا (الأقرب).

حُقُبًا: الحُقُب جمع الحُقْبِ وهي ثمانون سنة، ويقال: أكثرُ من ذلك. والحُقْب: الدهرُ؛ السنَةُ، وقيل: السنون (الأقرب).

التفسير:

لقد تحدّثَ الله تعالى في الآيات السابقة عن موضوع الصراع بين المسيحية والإسلام بلغة تمثيلية، حيث بيّن أنه صراع بين القوي والضعيف فيما يبدو، ولكن التدبر البسيط يكشف أن القوي من يتجه إلى الله تعالى، وليس مَن شغلته أمور الدنيا. كما أشار أيضًا أنه من المقدر للمسيحية أن تزدهر أول مرة حتى مبعث النبي ، ثم سيُحرز الإسلامُ الرقيَّ لفترة من الزمن، لتزدهر المسيحية ثانيةً. أما الآن فقد تناول الله تعالى الموضوعَ نفسه على أساس ما ورد في الكتب السماوية من أنباء بهذا الصدد.

واليوم أيضًا يرى 99 % من الناس أن أوروبا لن تُدمَّر بعد الآن. ولكن الله تعالى ينبئ هنا أنه ظن خاطئ يدل على جهل أصحابه. فمن ذا الذي كان يتصور أن الإمبراطوريات السابقة ستدمَّر في يوم من الأيام. ومن ذا الذي كان يتصور أن إمبراطوريات المسلمين أو الرومان أو الفرس ستزول في يوم من الأيام؟ ولكنها كلها هلكت وبادت. فاستغراب الناس من زوال ملك هؤلاء القوم ينافي العقل.

وليكن معلومًا أن معارضي الإسلام – كما بيّنتُ من قبل- يطعنون في هذه السورة بأنها قد جمعت أحداثًا مختلفة من دون أي رابط بينها؛ بل إن اجتماع هذه الأحداث فيها كان باعث حيرة حتى للمسلمين أنفسهم، الذين اقتنعوا بقولهم إن اليهود سألوا النبي عن بعض الأمور فجُمع جوابها في هذه السورة.

ولكن الأمر ليس كذلك كما هو ظاهر، لأن النبي إذا كان قد سئل بالفعل عن أصحاب الكهف وذي القرنين فلماذا أقحم الله تعالى بين ذكر أصحاب الكهف وذي القرنين كلَّ هذه التمثيلات المذكورة آنفًا وكذلك حادثَ موسى مع فتاه الذي يبدأ بهذه الآية؟ لِمَ لم يذكر الإجابة عن أصحاب الكهف وذي القرنين على الأقل في مكان واحد؟

الحق أن هذه المواضيع كلها قد وردت هنا بترتيب محكم، وقد جيء بكل حادث ومثال في محله وبمقتضى الضرورة. لقد سبق أن بيّنتُ الحكمة من ورود هذه الأمثال خلال قصة أصحاب الكهف، وأبين الآن الحكمة من ورود قصة موسى في هذا المكان.

لقد سبق أن بيّنتُ أن ثمة في الحياة القومية للمسيحيين أمرًا لم أجد لـه نظيرًا في حياة أية أمة أخرى. ذلك أن الأمة المسيحية نالت الرقي بعد عيسى لمدة من الزمان، ثم توقف رقيها لفترة بعثة نبي آخر وهو نبينا حيث حققت أمته الرقي لفترة من الزمان، لتستأنف بعدها الأمةُ المسيحية رقيها ثانية؛ وقد أُشير إلى هذا الأمر من قبل بكلمة نَهَرًا في المثال السابق حيث قال تعالى وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا . أما الآن فقام بتوضيح نفس الأمر بذكر قصة موسى هنا. ذلك أن موسى مثيلٌ لنبينا بحسب النبوءة التوراتية التالية: “أُقيم لهم نبيًّا مِن وَسَطِ إخوتهم مِثلَك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أُوصيه به” (تثنية 18: 18). كما أشار القرآن الكريم أيضًا إلى هذه النبوءة في قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (المزّمِّل:16). إذًا فقد ذكَر القرآن واقعةَ موسى هذه بين عصري رقي المسيحيين للدلالة على أن ظهور هذا النبي المثيل لموسى بين هذين العصرَين كان ضروريًّا؛ وهكذا دفَع الشبهةَ القائلة بأنه لو كان هذا الذي ادعى النبوة بعد الرقي المسيحي الأول نبيًّا صادقًا فلماذا لم ينته الرقي المسيحي بعد ظهوره كليةً؟ أليس استئناف الرقي المسيحي بعد ظهوره بفترة من الزمن وبقوة أكبرَ يشكّل دليلاً على أن هذا المدعي لم يكن نبيًّا صادقًا، وإلا لأوقف مد الرقي المسيحي؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك