الطاعة والأُخوة، وجها عملة واحدة
  • فما نموذج الطاعة الأسمى الذي قدمته جماعة المؤمنين الأولى؟
  • وما مدخلا الشيطان إلى إفساد وحدة جماعة المؤمنين؟
  • وما الحكمة الكامنة في الشرط العاشر من شروط البيعة؟!

 __

أخوة المؤمنين والبنيان المرصوص

انطلاقًا من قول الله تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (1)،

عندما نقرأ بتمعن شروط البيعة وتحديدًا الشرط العاشر، حيث يقول فيه المسيح الموعود :

«أن يعقدَ مع هذا العبد عهد الأخوّة خالصًا لوجه الله، على أن يطيعَني في كل ما آمره به من المعروف، ثم لا يَحيد عنه ولا ينكُثه حتى الممات، ويكون في هذا العقد بصورة لا تعدِلها العلاقاتُ الدنيوية، سواء كانت علاقات قرابةٍ أو صداقةٍ أو خدمةٍ»(2)..

نلاحظ أن الصورة التي وردت بها المفردات والتراكيب المستخدمة هنا ليست عبثية. لم يطالبنا المسيح الموعود بطاعته هكذا مباشرة، وإنما أرادنا أن نرتبط به بآصرة أخوة في الله أولًا، تلك الأخوة هي الأساس المتين الذي سيقوم عليه بنيان طاعتنا الشامخ.. إن السِّياق الذي ورد فيه كلام المسيح الموعود عن الأخوة أولًا ثم الطاعة، يذكرنا بآية قرآنية كريمة وحديث نبوي شريف.. فالآية هي:

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (3)،

أمَّا الحديث، فعَنْ النَّبِيِّ أنه قَالَ:

«إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»(4).

ولأن موضوع الطاعة واسع بما فيه الكفاية، فسيقتصر طرحنا هنا على نوع محدد منها، إنه الطاعة بدافع الأخوة في الله، ذلك لأن الطاعة قد تكون بدافع الخوف، أو التملق، أو الرياء، أو أي سبب آخرٍ كان، لذا ستُخصص سطور مقالنا للحديث عن الطاعة بدافع الأخوة. فالمسيح الموعود في الشرط العاشر من شروط البيعة والانضمام إلى جماعة المؤمنين الآخِرين يطلب منا أولاً خلق رابط الأخوة وبعدها يمكننا أن نتعهد له بالطاعة. ترى ما الحِكمة الخفية وراء ذلك؟!

نموذج الطاعة الأسمى في جماعة المؤمنين الأولى

إذا تخيلنا الأخوة كشجرة مورقة ظلها هو الطاعة، فالطاعة هنا تكون تصرفًا لا يتطلب منا أي جهد، بل تصدر منا بشكل طبيعي وفوري. عندما حاولت استشفاف هذا المفهوم من تاريخ الإسلام، دهشت كثيرًا لأنني حيثما أجلت النظر بحثًا عن الطاعة المثالية من خلال أسوة الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) التي طالما نسمع عنها، وجدت معها أخوة مثالية. ولنرجع سويًّا إلى الوراء، مجتازين فترة 14 قرنًا، كلنا نعرف أن الرسول جاء برسالة الإسلام الحق، وأيقنت مكة كلها بصدقه وأمانته، ولكن لماذا كان أبو بكر، وعلي، وخديجة، رضي الله عنهم أول المؤمنين به دون سواهم؟! لقد كانت تربطهم بالرسول أواصر الحب، والأخوة، دع عنك صلة الرحم، هذا هو السبب. فتعاهدوا على طاعته على الفور دون أدنى تردد. فإنَّ مواقف الصحابة (رضوان الله عليهم) دائمًا كانت على قدر هذا التشريف والتعظيم الذي أكرمهم به الله تعالى، ولم يتهاونوا يومًا في نصرة الله ورسوله وهذا الدِّين القويم الذي دخلوا فيه أفواجًا وما زالوا يقاتلون في سبيله حتى عمَّ بلاد المشرق والمغرب، ومن أشهر مواقف الصحابة كانت مواقفهم في غزوة بدر، عندما سطَّروا في ذلك اليوم أروع آيات البطولة والتضحية والفداء، فلم تضعف هممهم ولم تنكسر عزائمهم، وأظهروا تفانيهم المنقطع النظير في نصرة الله ورسوله، وذلك بعدَ أن عرفَ رسولُ الله والمسلمون أنَّه لا مفرَّ من خوض هذه المعركة الحاسمة.

وقد ذكر الله تعالى هذا الموقف في محكم التنزيل عندما قال تعالى:

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (5)،

عند ذلك قام رسولُ الله ونادى على صحابته طالبًا مشورتهم: «أشيروا عليَّ أيها الناس»(6)، عند ذلك قام أبو بكر الصديق وتكلَّم وأحسن في ذلك كثيرًا وقام عمر بن الخطاب وقال مثل صاحبه، وقام المقداد بن عمرو وقال كلامًا لا يقدَّر بثمنٍ عن التضحية والفداء: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ،

ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد -يعني بلاد الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه»(7). ولكنَّ رسول الله كان يريد أن يعرف مواقف الصحابة من الأنصار أيضًا لأنَّهم كانوا أكثر عددًا، فقامَ سعد بن معاذ وقال أيضًا كلامًا لا يقلُّ عمَّا قاله من سبقه، فقال: «قد آمنَّا بك وصدقناك وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السَّمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسِر بنا على بركة الله»(8)، وهكذا مضى رسولُ الله بهذه الهمم العالية والنفوس المؤمنة التي تبذلُ كل نفيسٍ في سبيل الله وكانت معركة بدر معركةً فاصلة وبدايةً لنهوض دولة الإسلام التي أقامها الصحابة في سنوات قليلة.

لقد بين لنا المسيح الموعود حقيقة أن الكِبر هو الشيطان الذي ينخر أصل شجرة الإيمان، لأن المتكبر لا يستسيغ فكرة أن يطيع، فأنى له أن يؤمن أصلًا، دع عنك أن يحب؟!

مدخلان للشيطان متطرفان

حين تطرح على مائدة الحوار نماذج الطاعة المضيئة التي أبداها أصحاب الأنبياء، وعلى رأسهم صحابة سيدنا خاتم النبيين، وصحابة تابعه المخلص الأمين، لا شك أن البعض يحدثون أنفسهم قائلين أن أولئك أنبياء، وهؤلاء صحابتهم، فأين نحن من هؤلاء وهؤلاء؟! ولا شك أيضَا أن بعضنا يقول في قرارة نفسه أن من الوقاحة أن نقارن بيننا وبين سلفنا الصالح في مستوى الطاعة، لأننا لن نبلغ مبلغهم مهما بذلنا! اعلموا أن هذا مدخل شيطاني، يحقق الشيطان من خلاله مأربه في انفراط عقد الطاعة الذي انتظمنا فيه بالبيعة. يكفي القول أن الله تعالى هو الأعلم بطاقاتنا وقدراتنا العالية، وأنه عز وجل ما كان ليأمرنا بشيء إلا لأنه يعلم مدى قدرتنا على تنفيذه، فحين يأمرنا عز وجل بالطاعة ثلاث مرات قبل وبعد آية سورة النور المتضمنة الوعد بالاستخلاف ضمَّت السياق القرآني التالي:

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)،

يبدو بجلاء أن الآية الكريمة لم تدع مجالًا للشك في قدراتنا نحن الأتباع المتأخرين على بلوغ مستويات الطاعة العليا، وهذا بالطبع ما لا يتمناه الشيطان لنا. فعندما نقول أننا أقل من بلوغ ذلك المستوى من الطاعة، فإننا نقوم بتحطيم أنفسنا. دعوني أشرح ذلك، فكلمة أنفسكم وردت في القرآن على الأقل في 45 موضعًا، وهي كلمة عميقة لها دلالات عديدة، ولكن في أغلبية السياقات تأتي بمعنى أنفسكم (ذواتكم) أو فيما بينكم. سأعطيكم مثالين: يقول الله تعالى:

وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (10)،

وتعني لا تطعنوا بسمعة بعضكم البعض ويمكن قراءتها لا تطعنوا بسمعتكم، ولا تقتلوا أنفسكم أو لا تقتلوا بعضكم البعض. وهنا هو فعل تحطيم للنفس، لأننا عندما نسيء إلى الآخرين فإننا في النتيجة نسيء إلى أنفسنا. لا يمكننا كأحمديين وإخوة أن نسمح للشيطان بالتسلل بين صفوفنا ليأمرنا بألا نكون جزءًا منها.

ويبدو أن الذئب لا يمل إغواء الشياه، فيبذل المحاولة تلو المحاولة في سبيل إقصائها عن كُرز الراعي الصالح، ومن ثم افتراسها دون هوادة. للتوضيح، فالذئب المعني ها هنا هو الشيطان الذي يؤلمه أن يرى نماذج طاعتنا، فلا يتوانى عن الاحتيال علينا بحيلة جديدة، ولكن هذه المرة بوازع الكِبر، موهمًا إيانا أننا أعلى من أن نؤمر فنطيع. لقد بين لنا المسيح الموعود حقيقة أن الكِبر هو الشيطان الذي ينخر أصل شجرة الإيمان، لأن المتكبر لا يستسيغ فكرة أن يطيع، فأنى له أن يؤمن أصلًا، دع عنك أن يحب؟! يقول المسيح الموعود في هذا الشأن ما تعريبه: «الذي لا يريد أن يكون مطيعًا لمبعوث اللهِ ومرسله طاعة كاملة، ينال نصيبًا من الكِبر. والذي لا يُصغي لمبعوث الله ومرسله، ولا يقرأ كتبه بتدبّر، ينال نصيبًا من الكِبر. فعليكم أن تحاولوا ألا يكون فيكم أي نوع من التكبر لئلاّ تَهلَكوا، ولتفوزوا أنتم وأهلكم.”(11)

لماذا الخلافات إذن؟!

بعد ما ذُكر، يبدو لنا أن الطاعة المتأسسة على أواصر الحب والأخوة في الله، هي الخيار الأفضل للبقاء الكريم، ما لم تكن هي الخيار الوحيد. فلماذا الخلافات؟! ولماذا تطيح بنا بعيدًا جدًّا؟! طالما ينادينا المسيح الموعود بأغصان شجرته النضرة، أو نسمح للشيطان بقطع هذه الأغصان الخضراء؟! أو نقول أننا لسنا، والعياذ بالله، جزءًا منها؟! فلننظر إلى ما يحدث في باكستان وفي بانغلادش وإندونيسيا، أبإمكاننا القول أن ما يحدث لإخواننا هناك لا يعنينا؟! قطعًا لا، عندما تكونوا موحدين، فالله تعالى يجزيكم جزاءً كبيرًا. ولن نكون موحدين حتى نكون قبلها متحدين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :

«لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»(12).

حينها لا يجب أن نقلق لما يحدث لأنَّ الله معنا. يقول الله تعالى:

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى (13)،

فلا خوف إذن من اجتماع الأعداء الظاهري. ثم ماذا لو كنا نحن متحدين؟! يقول الله تعالى:

إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (14).

يا إخوان، نحن ملايين!! فلماذا الخوف؟! ومم؟! إنَّ نظام الخلافة المبارك وعلى رأسه إمام الوقت لا يطلب منا أن نستل سيوفنا ولا أن نبذل حياتنا، كل ما يطلبه هو أن نسامح بعضنا البعض، أن نحب بعضنا البعض، وأن نطور علاقتنا الأخوية. أهذا أمر عسير؟! فلنلقن الشيطان وأذنابه من أعداء الإسلام والأحمدية درسًا يعرفون من خلاله أن مخططاتهم الشريرة تبوء دومًا بالخسران والفشل الذريع لأنها ضد إرادة الله،

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (15).

فلنمش على خطى الصحابي الجليل سعد بن معاذ فتقر بنا عين إمامنا وخليفتنا.

الهوامش:

  1. (الحجرات: 11)
  2. حضرة مرزا مسرور أحمد، شروط البيعة وواجبات المسلم الأحمدي.
  3. (الصف: 5)
  4.  (صحيح البخاري, كتاب الصلاة)
  5. (الأَنْفال: 6-7)
  6. ابن هشام، السيرة النبوية، غزوة بدر الكبرى.

7 و8  أمر الأنصار

9. (النور: 55-58)

10. (الحجرات: 12)

  1. حضرة مرزا غلام أحمد، نزول المسيح، الخزائن الروحانية ج 18
  2. (صحيح مسلم, كتاب الإيمان) 13. (الحشر: 15)
  3. (الأَنْفال: 66-67) 15. (الأَنْفال: 31)
Share via
تابعونا على الفايس بوك