في عالم التفسير
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة :31)

شرح الكلمات:

قال: ورد في المفردات: “القولُ يُستعمل على أوجهٍ، أظهرُها أن يكون للمركَّب من الحروف المبرَز بالنطق، مفردًا كان أو جملة…

الثاني: يقال للمتصوَّر في النفس قبل الإبراز باللفظ قولٌ، فيقال: في نفسي قول لم أُظهره.

الثالث: للاعتقاد، نحو: فلان يقول بقول أبي حنيفة. (أي بعقيدة أبي حنيفة). الرابع: يقال للدلالة على الشيء، نحو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قَطْني.”

وليس المراد أن الحوض تكلم باللسان، بل المراد أنه قال بلسان حاله أنه قد امتلأ، ولم يبق فيه مكان للمزيد من الماء.

وهناك أمثلة كثيرة للدلالة على بيان الأمر الواقع، كقول الشاعر:

قالت له العينان سمعًا وطاعةً… وحدّرتا كالدُّرّ لما يُثَقَّبِ

وقال غيره:

قالت له الطيرُ تقدَّمْ راشدا … إنك لا ترجع إلا حامدا (لسان العرب)

فقد نُسب القول هنا إلى أشياء غير ناطقة، والمراد أنها قالت ذلك بلسان حالها.

ويتابع الراغب في مفرداته في بيان معاني القول:

“الخامس: يقال للعناية الصادقة بالشيء……

السابع: في الإلهام، نحو قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ (المفردات).

فالقول لا يعني دومًا أن يخاطب المرء غيرَه ويتكلم معه بلسانه بألفاظ وكلمات، بل إن للقول معاني مختلفة في مناسبات مختلفة.

ربّك: راجع شرح كلمات قوله تعالى رَبِّ الْعَالَمِينَ في سورة الفاتحة.

الملائكة: جمعُ الملَك، وهو عند البعض مِن أَلَكَ، أي أبلغه الخبرَ. ويرى آخرون أنه مِن أَلاكَ، ومعناه أيضًا أبلغه الخبر. والمـَلْأَكُ: الرسالة. وقال البعض إنه مِن المِلْك حيث ورد في “المفردات”: “قال بعض المحققين هو من المِلْك. قال: والمتولي من الملائكة شيئا من السياسات يقال له مَلَكٌ بالفتح، ومِن البشر يقال له مَلِكٌ بالكسر…. والملائكة والمـَلَكُ أصلُه مَأْلَك. وقيل هو مقلوب عن الـمَلْأَك الذي هو من أَلَكَ.”

بينما يقول صاحب “لسان العرب” إن مَلْأَك مقلوب مِن مَأْلَك.

وهذا يتفق مع القواعد، وإن كنا لا نفهم أنه ما دام أَلَكَ وألاكَ بمعنى بَلَّغَ الرسالة فما الحاجة للقول بالقلب؛ إذ يمكن ويجوز أن يُصاغ منهما الملَك والملِك.

ثم يقول صاحب المفردات: “والمألَك والأُلوك الرسالةُ، ومنه: أَلِكْني، أي أَبْلِغْه رسالتي.”

لم يوضح صاحب المفردات الأمر أكثر من ذلك، والحقيقة أن أَلِكْني يعني اجعلْني رسولا، ولكنهم بدأوا يستخدمونه بمعنًى مقلوبٍ، أي خُذْ مني الخبر وبلِّغه فلانا. ومثاله قولنا: الميزاب يجري، مع أن الماء هو الذي يجري في الميزاب. وقد وضّح هذا الأمرَ صاحبُ اللسان.

وقد حصل من صاحب المفردات سهو آخر هنا وهو أنه قد ذَكَرَ كلمة “أَلِكْني” تحت مادة أَلَكَ، مع أن فعلَ الأمرِ مِن أَلَاكَ هو آلِكْني، أما أَلِكْني فهو أمرٌ من أَلْأَكَ، وليس من ألَكَ.

بينما يرى البعض أن الـمَلَك مِن لَاكَ، يقال: ألاكَ إلى فلان إلاكةً: أبلغَه عنه. وعليه فأصلُ المـَلَك: مَلْأَك، وحُذفت الهمزة للخفّة فصار ملَكًا (الأقرب).

وقال صاحب تاج العروس إنه مِن لاكَ الشيءَ، أي أداره في فمه، وقد لاكَ الفرسُ اللجامَ يلوكه لوكًا: عَلَكَه.

وكأن الرسول يلوك ويردّد في فمه كلماتِ الرسالة، ومن هنا سميت الكائنات التي تحمل رسالات الله ملائكة.

فالملائكة تعني  الكائنات التي تحمل رسالات الله إلى العباد وتنفذ مشيئته في الدنيا، أو: الكائنات القوية المقتدرة.

الأرض: راجع شرح كلمات قوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا… .

خليفة: الخليفة: مَن يخلف غيرَه ويقوم مقامَه؛ السلطانُ الأعظم؛ وفي الشرع: الإمامُ الذي ليس فوقه إمام. والخلافة: الإمارةُ؛ النيابةُ عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه أو لموته أو لعجزه أو لتشريف المستخلَف (فإن الله تعالى عندما يجعل أحدًا من عباده خليفة فإنما يجعله تشريفًا له وليس لسبب آخر). والخلافة في الشرع: الإمامة. (الأقرب)

يسفك: سفك الدمَ: صبَّه. (الأقرب)

الدماء: جمْعُ الدم. (الأقرب)

نسبِّح: سبّح اللهَ: نزَّهه (مِن جميع العيوب والنقائص)، وقد يُعَدَّى باللام، فيقال: سبّح له؛ وسبَّح: أي صلّى؛ قال سبحان الله. (الأقرب)

التسبيح: التنزيه. وسبحان الله معناه: تنزيهًا لله من الصاحبة والولد. وقيل تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به… وجماعُ معناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أن يكون له مِثلٌ أو شريك أو نِدٌّ أو ضِدٌّ (لسان العرب)

وقال صاحب تاج العروس: سبحانك، أي أنزِّهك يا رب من كل سوء وأبرئك… ثم نُزِّل “سبحانَ” منزلةَ الفعل، وسَدَّ مَسدَّه، ودلّ على التـنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه المشركون… وفي العجائب للكرماني… أن سبحان الله مصدر سَبَحَ، إذا رفَع صوته بالدعاء والذِّكر… والتسبيح قد يُطلق ويراد به الصلاة والذكر والتحميد والتمجيد، وسُمّيت الصلاة تسبيحًا لأن التسبيح تعظيم الله وتنزيهه من كل سوء (تاج العروس).

وقال الإمام الراغب في المفردات: السَبْحُ المرُّ السريع في الماء وفي الهواء… والتسبيح تنزيهُ الله تعالى، وأصلُه المرُّ السريع في عبادة الله تعالى… وجُعل ذلك في فعل الخير كما جُعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله؛ وجُعل التسبيح عاما في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نيّةً. (المفردات)

بحمدك: لمعرفة معنى الحمد راجعْ شرح كلمات قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ في سورة الفاتحة)

نقدّس: قدَّس الرجلُ اللهَ: نزَّهه ووصَفه بكونه قُدُّوسًا. (الأقرب). أي نزّه اللهَ تعالى عن كل عيب وأقرَّ بكونه تعالى جامعًا للصفات الحسنة كلها.

وورد في المفردات: التقديس التطهير… وقوله وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ أي نطهّر الأشياء ارتسامًا لك، وقيل: نقدّسك أي نصِفك بالتقديس.

وورد في لسان العرب: مِن صفات الله عز وجل السُّبُّوح القُدُّوس… السُّبُّوح الذي يُنزَّهُ عن كل سوء، والقُدُّوس المبارك، وقيل الطاهر.

ومعنى المبارك: الجامع لجميع المحاسن، ومعنى الطاهر: الطاهر بنفسه والمطهِّر للآخرين.

فالفرق بين التسبيح والتقديس أن التسبيح هو التنزيه، والتقديس هو التنزيه والتعظيم أيضًا.

التفسير:

قبْل الكتابة في موضوع هذه الآية أرى لزامًا ذكر آراء المفسرين السابقين حولها وما ورد في الكتب السابقة.

اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فمنهم من قال إن الخليفة في قوله تعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً هو آدم ، وكان الملائكة يعيشون في هذه الدنيا قبل الناس، فقال لهم الله تعالى سأدعوكم إلى السماء وأخلق مكانكم كائنا آخر هو آدم (ابن كثير). وفي هذه الحالة يكون لفظ الخليفة بمعنى اسم فاعل أي الخالف.

وقد قال بعض من يحمل هذا الرأي: ليس سبب تسمية آدم خليفةً لأن الملائكة كانوا يعيشون قبله في الأرض وجاء وأخذ مكانهم، بل سُمي خليفًة لأن الجنّ كانوا يعيشون على الأرض، فدفعهم الله من السهول إلى الجبال وأسكن آدم مكانهم. (ابن جرير عن ابن عباس، وابن كثير)

وقال بعضهم يجوز أن يكون الخليفة هنا بمعنى المخلوف أي يخلُفه غيرُه مِن بعده (فتح البيان). فالخليفة في هذه الحالة اسم مفعول، ومثاله الذبيحة بمعنى المذبوحة.

وقال بعضهم: ليس المراد من الخليفة هنا آدم، بل نسله. ويستدلون على ذلك بقراءة أخرى هي “إني جاعل في الأرض خليقةً” (القرطبي عن زيد بن علي).

وتبنى بعضهم هذه الفكرة بناءً على قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (فاطر 40).

وقال قتادة أيضا إن المراد من الخليفة هنا بنو آدم، حيث قال: “فكان في علم الله أنه تكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة” (ابن كثير).

والقائلون بهذا الرأي يستدلون عليه بقول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، فهؤلاء المفسدون هم بنو آدم وليس آدم، لأن آدم ما كان ليفسد أو يسفك (ابن كثير).

وقال آخرون إن المراد من الخليفة هو آدم، لأن الخليفة مَن ينفذ أحكام الآخر وأوامره نيابةً عنه، فلأن آدم كان نبي الله تعالى وكان سيُبعث لتنفيذ أوامر الله تعالى في الدنيا فسمِّي خليفة (القرطبي).

وأرى أن هذا الرأي هو الصحيح، أي آدم سمي خليفة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه في الدنيا، وكان فيه إشارة إلى أن الله تعالى سيبعث الآن نبيًا في الدنيا.

أما القول بأن الملائكة كانت تعيش في الدنيا قبل آدم فلا دليل عليه، وكذلك لا دليل على أن الجن -أي مخلوقات سوى البشر- كانوا يعيشون في هذه الدنيا قبل البشر، فلا يصحّ أن يكون ذلك سببًا لتسمية آدم أو ذريته بخليفة، لأن الله تعالى هو الأعلم متى بدأ خلق المخلوقات. أما لو أُريد بالخليفة هنا مخلوق يأتي بعد مخلوق آخر، فيجب أن يسمى كل مخلوق خليفةً، لأنه ينوب عمن سبقه من مخلوقات، لأننا لا نستطيع القول أن الله تعالى قد أخذ يتجلى بصفة الخلْق منذ بضعة آلاف أو بضع مئات الآلاف من السنين فقط، ولم يكن قبل ذلك أي شيء!

ولا أرى أيضًا أن المراد من الخليفة هنا ذرية آدم، لأنه كلما استُخدمت هذه الكلمة في القرآن بحق شتى الأمم والأقوام فإنما وردت بصيغة الجمع، كقول الله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ (الأَنعام 166)، وقوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (فاطر 40)، وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (يونس 15)، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ (يونس 74)، وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ (الأَعراف 70)، وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ (الأَعراف 75)، وقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ (النمل 63).

فثبت من هذ الآيات أن القرآن الكريم كلما ذكر خلافة قوم استخدم صيغة الجمع، لأن القوم يشتمل على أفراد كثيرين، وكل فرد منهم خليفة لمن كان مثله في الأمم السابقة. فما لم يكن هناك حكمة خاصة فلا مبرر لاستعمال صيغة المفرد بحق الجمع. بينما نجد على النقيض أن القرآن الكريم كلما ذكر خلافة الفرد استخدم صيغة المفرد أي لفظ الخليفة، كقوله تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (ص 27).

فثبت من هنا أن الخليفة في هذه الآية يعني آدم وليس بني آدم.

أما السؤال: إذا كان المراد من الخليفة هو آدم ، فلماذا قالت الملائكة إنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ سوف نجيب عليه عند تفسير هذه الجملة من الآية.

والآن أتناول تفسير هذه الآية.

إن ما يربط هذه الآية بما قبلها من الآيات أن الله تعالى قد أعلن في بداية سورة البقرة أن القرآن الكريم كلام الله الذي أنزله لهداية الناس، وكان الكفار يعترضون على هذه الدعوى كما أشير إلى ذلك في قول الله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ، وتدليلاً على صدق هذه الدعوى قدم الله تعالى هنا قصة آدم، وبين أن نزول الوحي الإلهي ليس بدعًا، بل لم يزل وحي الله تعالى ينزل منذ أن خلَق الإنسان، فكان آدم أول إنسان بدأ نزول كلام الله تعالى منذ زمنه. فالاعتراض على نزول الوحي ليس معقولا. ما دام الله تعالى قد أنزل وحيه منذ خلق الإنسان فلماذا لا ينزله الآن؟ باختصار، قد قدَّم الله تعالى نزول وحيه منذ خلق الإنسان باستمرار برهانا على نزول الوحي على محمد . وهذا الدليل حجة على أتباع الديانات كلها، لأنهم، سواء الهندوس والزرادشتيون واليهود والنصارى، كلهم يؤمنون بنزول الوحي منذ خلق الإنسان. قد ذكر الله تعالى آدم ونزول الوحي عليه بعد ذكر نزول الوحي على محمد ليبين للناس أنه لم يهمل الإنسان بدون هُدى، بل ما زال ينزل له الهُدى منذ خلقه.

تبدأ هذه الآية بالحرف إذ الذي يدل على الماضي، وهناك محذوف قبله، وهو: اذكروا، والحرف إذ دليل على المحذوف، والمراد: أيها الناس، اذكروا قصة آدم إذ تحدث الله تعالى مع الملائكة بهذا الكلام عند خلْقه.

وقد أشار إلى هذه الحوار بين الله وبين الملائكة ليبين الله تعالى أن الناس لا يدركون قبل بعثة النبي الحاجة إلى مجيئه، لأن بعثته غيب من غيوب الله تعالى، لا تنكشف حكمته وضرورته تمامًا إلا بعد أن يكمل مهمته. وعند وقوع التطورات والانقلابات على يده لا يجد الناس بدًّا من الاعتراف أنه لولا بعثته لحُرمت الدنيا من ثورة نافعة جدا؛ فالثورة العظيمة التي سيحدثها محمد رسول الله لن تُعرف قيمتها إلا بعد أن يُظهر كفاءاته التي وهبه الله إياها، أما قبل وقوع تلك الثورة فتصورها صعب على الناس؛ فالأمر الذي قد فشل الملائكة المقربون في استيعابه كيف يستوعبه الجاهلون؟ فلينتظروا وليروا نتيجة عمله ولا يستعجلوا في إنكاره. لقد بين الله تعالى هذا الموضوع في آية أخرى فقال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (النحل 2-3)، أي قد قرب زمن الثورة المقدرة من عند الله تعالى، فلا تستعجلوا لرؤيتها، لأنها لن تظهر إلا في موعدها، فإذا ظهرت تبين للناس أن الله بريء من العيب وأسمى من إشراك الناس به.

إن من سنة الله أن يرسل ملائكته بكلامه إلى عباده المقربين، ويقول لهم: أنذروا الناس بأن لا إله إلا أنا، وإياي فليتقوا.

لقد بين الله تعالى هنا أن الأنبياء يُبعثون لإرساء وحدانية الله ودعوة الناس إليه، ولكن ليس بوسع الناس أن يصدّقوا أن الأنبياء سيفلحون في هذا الهدف الذي يبدو لهم غير معقول في الظاهر، ولكنهم يفلحون فلاحًا يذهل العالم، ويقوم ملكوت الله في العالم ويسود التوحيد ثانية. عندما أعلن النبي نبوته، فمن ذا الذي كان يستطيع القول أنه سيستأصل الشرك من أساسه من الدنيا كلها، وليس من الجزيرة العربية وحدها. كلا، ما كان لأحد أن يدرك هذا في بداية دعوة النبي ، ولكنه عندما أنجز مهمته اضطر الجميع للاعتراف بوقوع هذه الثورة فعلاً.

باختصار، إن الحوار بين الله والملائكة في قصة آدم إشارةٌ إلى أنه حتى الصلحاء ذوو الصفات الملائكية لا يدركون عند بعثة النبي عظمة الثورة التي ستقع على يده، ناهيك أن يدركها الآخرون. فمن مقتضى المروءة أن الإنسان إذا لم يؤمن بالنبي فلا يعارضه على الأقل، وينتظر اليوم الذي ينجز فيه النبي مهمته، لأنّ إنجازاته ستبين صدقه من كذبه.

لقد بين الله تعالى هذا الأمر في قصة موسى على لسان رجل من قوم فرعون إذ قال: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ (غافر 29)، أي أيها القوم إذا كان موسى كاذبًا فلماذا تثورون غضًبا، فإن كذبه سيهلكه، أما إذا كان صادقًا فسوف يحلّ بكم عذاب الله بسبب معارضته.

والحكمة الثانية في ذكر الملائكة هنا هي أن القرآن الكريم يعلن -وهذا ما تقول به كل الأديان بطريقة أو بأخرى- أن الله تعالى يدير نظام هذا الكون بواسطة الملائكة. فالملائكة موكّلون بمختلف الأعمال: بين مسؤول عن الموت، ومسؤول عن دوران الكواكب والأجرام، ومسؤول عن نظام المطر. وسوف نتناول هذا الأمر مفصلا في محله لاحقا، أما هنا فنكتفي بهذا القدر.

فالحكمة في إخبار الله الملائكةَ بجعل آدم خليفةً وأمرِه لهم بالسجود لآدم عند خلقه هي أنه عندما يظهر نبٌّي في الدنيا يؤمَر الملائكة المدبرون لنظام العالم بتأييده ونصرته، فينتصر النبي في نهاية المطاف رغم معارضة جميع الناس له، ذلك لأن نظام الكون كله يؤيده، إذ كل مدبري هذا النظام مأمورون بتأييده. ونجد على ذلك أمثلة في تاريخ الأنبياء لا يسع أحدًا إنكارُها، فإن نجاةَ نوح من الطوفان، ونجاةَ إبراهيم من النار رغم محاولة الأعداء حرقه بها، ونجاةَ موسى وقومه عند عبور البحر وحدوث الطوفان وتغطية المياه الأرض بمجرد دخول فرعون مع جنوده في البحر، وهبوبَ العاصفة عند تعليق المسيح على الصليب، ونجاتَه من الموت على الصليب نتیجة إنزاله عنه بعد سويعات من تعليقه بسبب عقيدة اليهود ألا يبقى أحد معلقا في يوم السبت، وانتصارَ “رام شندر” على “راوَن” مع كونه وحيدا ومحاصرا بين الأعداء، وغلبةَ “كرشنا” على أعدائه الأقوياء مع خذلان أصحابه له، ونجاحَ “زرادشت” ضد أعدائه الأقوياء، ثم في الأخير انتصارَ النبي بأروع صورة، رغم مواجهته للعرب كلهم وحيدا منفردا، وانتصاره عليهم بأسباب خارقة، كلَّ هذه واقعات لا يمكن أن ينكر كونها خارقةً إلا من أعماه التعصب، وكلها تدل على أن الله تعالى عندما يبعث نبيًا في الدينا يسخّر العالمَ كله في تأييده ونصرته. ولأن الملائكة مدبرو نظام العالم فإن الله تعالى يطلعهم على مشيئته هذه قبل بعثة النبي، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة 31)، حيث بين الله تعالى أنه أطْلع الملائكةَ بإرادته عند بعثة آدم، فهَبّوا لنصرته، ولذلك نجح آدم في تحقيق غاية بعثته، بينما خاب أعداؤه وخسروا في النهاية رغم انتصارهم المؤقت في البداية. كما أن الله تعالى قد أشار بذكر هذه القصة إلى أنه قد سخّر أيضا ملائكته الآن لتأييد محمد رسول الله ، ليحدثوا في العالم تغيراتٍ وانقلاباتٍ ستؤدي أخيرًا إلى نجاح محمد رغم قوة الأعداء وشدة معارضتهم له.

كما تثبت هذه الآية أن آدم قد خُلق في هذه الدنيا، وقد أخطأ الذين ظنوا أن آدم قد أُسكن في الجنة التي يدخلها الناس بعد الموت. من المدهش أن الله تعالى يقول إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة 31)، مع ذلك يقول البعض: إن آدم كان قد أُسكن في الجنة!

وقد حلّ البعض في زعمه هذه المعضلة بقوله إن الله خلق آدم في هذه الدنيا ثم أخذه إلى الجنة. ولكن هذه الآية لا تسمح بهذا التأويل أيضا، لأن الله تعالى يقول: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، وواضح أن الله تعالى قد جعله خليفة في الدنيا لغاية، فكيف تحققت تلك الغاية بعد نقله من الدنيا إلى الجنة فيما بعد؟ كيف يمكن أن يجعل الله آدم خليفة في الأرض لإنجاز مهمة ثم يُسكنه في الجنة حيث لا تتحقق تلك المهمة؟ فمن ذا الذي كان سيحقق مهمة آدم في الدنيا بعد أن أُسكن في الجنة؟

ثم هناك آيات أخرى تفنّد هذه الفكرة، ومنها قوله تعالى في صفة الجنة لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (الطور 24)، أي لن يكون في الجنة أي شيء عبث، كما أن أهلها لن يُتَّهموا بالإثم، بمعنى أنهم كلهم سيكونون مبرئين من أي خطأ. ولكن الجنة التي أُسكن فيها آدم دخلها الشيطان أيضا، ودفع آدمَ إلى مخالفة مشيئة الله تعالى.

ثم ورد عن صفة الجنة لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (الحجر 49)، ولكن آدم أُخرج من الجنة التي كان يسكنها.

وقال الله تعالى عن صفة الجنة التي يدخلها الناس بعد الموت: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (فصلت 32)، أي سوف تنالون في الجنة كل ما تتمنون، ولكن آدم أُخرج من الجنة التي كان يسكنها عند تحقيقه رغبته، أعنى عند اقترابه من الشجرة.

وورد عن الجنة التي يدخلها الناس بعد الموت أن أهلها سيقولون: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ (الزمر 75)، ولكن قيل لآدم في الجنة التي أُسكن فيها: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ (البقرة 36).

فالجنة التي يدخلها الناس بعد الموت قد وصفها القرآن الكريم بوصف مختلف تماما عن وصف الجنة التي أُسكن فيها آدم، فثبت أن جنة آدم كانت منطقة من هذه الدنيا، إذ جُعل خليفة للناس في هذه الدنيا نفسها، وكان لا بد له أن يبقى فيها حتى الموت.

Share via
تابعونا على الفايس بوك