الشهداء أحياء
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (155).

شرح الكلمات:

لا تقولوا لمن يُقتل-إذا جاءت اللام بعد القول فمعناها توجيه الكلام إلى أحد. يقولون: قال لِفلان..أي خاطبه قائلا. وكذلك إذا قيل: قال لِفلان..أي قال في شأنه. فالمعنى: لا تقولوا لهؤلاء مخاطبين إياهم: أنتم أموات. أولا تقولوا في شأن هؤلاء الشهداء إنهم أموات.

وهناك محذوف قبل أموات وأحياء، والتقدير: لا يقولوا لمن يقتل في سبيل الله أنهم أموات بل هم أحياء.

التفسير:

في هذه الآية يقول الله عن الشهداء في سبيله إنهم أحياء. ذلك لأن العرب كانوا إذا ما قُتل أحد وأُخذ ثأره سموه حيّا، أما القتلى الذين لا يؤخذ ثأرهم فكانوا يسمونهم أمواتا. وكانت هذه الفكرة شائعة بينهم لدرجة أنهم زعموا أن القتيل الذي يؤخذ ثأره تتحول روحه إلى بومة تصرخ طوال الليل، فإذا أُخذ ثأره ارتاحت روحه وكفت عن الصياح ونال صاحبها النجاة. ومن هنا اعتقدوا أن أخذ ثأر القتيل يجعله حيّا، ومن لم يؤخذ ثأره ظل ميتا. قال الشاعر الجاهلي الحارث بن حِلِّزة في مُعلقته:

إن نَّبَشْتُم مَّا بين مِلْحَة فالصّـ            ـاقب فيه الأمواتُ والأحياءُ

يخاطب الشاعر القبيلةَ المعارضة له ويقول: تحسبون أنفسكم سادة شرفاء.. وهذا غير صحيح. اذهبوا إلى هذا المكان بين ملحة والصاقب حيث دارت بيننا وبينكم المعارك.. تجدوا هناك قبورا للقتلى.. منهم الأموات ومنهم الأحياء.. يريد أن الأموات هم قتلاكم الذين لم تستطيعوا الثأر لهم منا، والأحياء هم قتلانا الذين ثأرنا لهم وقتلنا منكم كثيرين مكان الواحد منا. وكان العرب حساسين في هذا الصدد حتى أنهم يعيرون أهل القتيل الذي لم يثأر له ويتهمونهم بعدم الغيرة والإباء.

فتعني الآية إذن: لا تقولوا لهؤلاء الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله أنهم أموات، بل هم جنود لله أحياء.. لأنه سبحانه سوف ينتقم لهم. وفعلا لو قُتل صحابي واحد لقُتل من المشركين في مكانه خمسة. ففي كل معركة كان قتلى الكفار أكثر من شهداء المسلمين، إلا في غزوة أُحُد حيث استشهد عدد أكبر من المسلمين، ولكن الله تعالى ثأر لهم من الكفار فيما بعد.

وهناك معنى آخر للآية..فمن مات وخَلَفَه من يتم عمله يقال عنه (لم يمت)، أما من لم يترك بعده من يكمل عمله فهو ميت. يحكى أن الملك الأموي عبد الملك زار مدرسة للزهري، وكان من طلابها الأصمعي النحوي الشهير، وامتحن الملك الأصمعيَّ بسؤال، فرد عليه بجواب معقول، فسُر الملك وقال للزهري: ما مات من خلف مثلك.

فمعنى الآية أيضا: لا يمكن أن يسمى هؤلاء الشهداء أمواتا لأن وراءهم من ينجز ويكمل العمل الذي قدموا أرواحهم من أجله، وإذا مات منهم واحد نهض ليأخذ مكانه اثنان. فلا تقولوا عنهم إنهم أموات، لأن الله تعالى خلق لهم من ينوبون عنهم بأحسن طريق، وهم أكثر عددا من الراحلين. الميت من يرحل وليس له من يحل محله.

الحق أنه لا تموت أمة يأخذ أفرادها مكان شهدائها. الأمة التي تصنع من يحل محل الأولين، مهما كانت صغيرة، فلن تهزم في مجال الصراع. تحسبون المسلمين قد ماتوا؟ كلا، لم يموتوا، بل هم أحياء. إذا مات منهم واحد، أخذ غيره مكانه. إذا مات عدد من المسلمين في غزوة بدر حل محلهم آخرون أكثر عددا في غزوة أُحُد. وإذا تضرر ومات بعض المسلمين في غزوة أحُد قام الكثيرون ليحلوا محلهم في غزوة الخندق. ويوم فتح مكة كان عدد الجنود المسلمين أكبر كثيرا من عددهم يوم الخندق. وإذا تأذّى المسلمون شيئا ما يوم فتح مكة فإن عدد المسلمين يوم تبوك كان أكبر كثيرا. ففي كل موقعة كان عدد المسلمين يتزايد لتقديم تضحية أعظم ممن كانوا قبلهم، والأمة التي تسمو إلى هذا المقام الرفيع من التضحية لا يمكن أن يقضي عليها أحد. ومثل هذه الأمة هي تلك التي يقيمها الله تعالى.

والمعنى المجازي الثالث هو أن هؤلاء أحرار من أي نوع من الحزن والألم. فمن كان عاقبته أن قُتل في سبيل الله تعالى…كيف يمكن أن يجد حزنا وألمًا في الآخرة؟ ما دام هؤلاء مسرورين في الآخرة فقد نالوا حياة أفضل مما تركوها، فلا يمكن أن تسَمُّوهم أمواتا، لأن الموت يدل على حالة من الغم والألم. الثابت من القرآن أن الحياة بعد الموت سوف ينالها المؤمن والكافر على السواء.. فالمراد من قول الله تعالى: لا تقولوا عنهم أمواتا أن وصف أحد بالموت يحمل معنى الألم، ولكن هؤلاء في راحة وينالون من الله نِعَمًا …فكيف يمكن أن يسَمّوْا أمواتا؟

والمعنى الرابع هو أن الشهيد ينال فورا بعد الموت الحياة الكاملة، بينما يقضي الآخرون فترة ما بين الموت والحياة الكاملة. فقد ورد في بعض الأحاديث أن الشهيد يحيا بعد ثلاثة أيام، وينال ذلك الكمال الذي يناله الآخرون بعد فترة طويلة. يقول: إن هؤلاء الشهداء ينتقلون بعد مقتلهم إلى حياة روحية كاملة.. وإن كان الجميع شركاء في الحياة، بل إن أبا جهل سينال الحياة بعد الموت، إذ كيف يدخل جهنم إذا لم يحصل على الحياة؟ فالمؤمن والكافر كلاهما ينال الحياة بعد الموت ولكن الشهيد –الذي يضحي بحياته في سبيل الله تعالى –فإنه يُعطى الحياة الروحية الكاملة بعد موته مباشرة.

ثم إن هذه الآية تعتبر الشهيد حيّا أيضا لأن المؤمن الصادق لا يخاف من الموت في سبيل الله تعالى إلا خشية الحرمان من الاستمرار في أداء الأعمال الصالحة من عبادة ودعوة إلى الله وخدمة لخلق الله، مثلا، إذا كان هناك شخص مات في الأربعين، لو أنه مكث إلى الستين لأنجز كثيرا من الخيرات. هذه هي الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تمنع الإنسان المؤمن من الاستعداد للموت … وإلا إذا كان المؤمن حقا يقدّم الآخرة على الدنيا فلا يمكن أن تمنعه أي فكرة دنيوية من هذا السبيل. وقد أقر الله معقولية هذا الخاطر وردّ عليه قائلا: (لا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء)..أي أن أعمال الشهيد لا تنقطع، وإنما هو حيّ وأعماله في الخير مستمرة، بل وتزداد يوما بعد يوم. إنه ضحّى بحياته في سبيل الله لذلك لم يُرد الله تعالى انقطاع أعماله. فما من صلاة تصلونها وتثابون عليها إلا يثاب عليها الشهيد، وما من رمضان تصومونه وتثابون عليه إلا وينال الشهيد ثوابه، وما من حج تحجونه بشق الأنفس وتفوزون بثوابه إلا ونال ثوابه. هؤلاء الشهداء ينالون نفس البركات التي تنالونها، ويزدادون قربًا إلى الله تعالى كما تتقربون.

لقد بيّن الله في هذه الآية فلسفة الحياة والممات بأسلوب رائع لطيف. وذكر أن من ينال درجة الشهادة ينال حياة أبدية. كم كان جنود يزيد مسرورين عندما قتلوا الإمام الحسين (رضي الله عنه)، وكم تفاخروا بأنهم قضوا على خصمهم، ولكن هل انتهت القضية بهذا الحادث؟ الدنيا ترى أن الإمام الحسين حي إلى اليوم، ولكن يزيد ميت عندهم في ذلك الوقت واليوم أيضا. كذلك كل من يضحي بحياته في سبيل الله تعالى لا يضيع دمه، بل يأتي الله مكانه بقوم فيدخلهم في جماعته.. لذلك يقول الله تعالى: لا تقولوا لمن يقتل في سبيلي أموات..بل إنهم أحياء. كيف يقال عن الشهيد إنه ميت؟ فالمقربون لدى الله والشهداء في سبيله لا يموتون أبدا. لقد علّق اليهود المسيح على الصليب، ثم أُنزل من على الصليب حيًّا، وإن ظن أنه مات على الصليب –كما ذكرهم القرآن –(النساء: 158).. فماذا كانت عاقبة أولئك الذين حاولوا قتله على الصليب؟ فرغم مرور تسعة عشر قرنا على هذه المحاولة الفاشلة … لا يزال اليهود معلّقين على نوع من الصليب.. مع أن الناس ينسون أعداءهم بعد خمسين أو ستين سنة، بل نقابل عشرات من الناس لا يعرفون أسماء جدهم، وربما لا يعرف اسم أجداده من القرن السابق إلا واحد في المليون من الناس، ولكن رغم أنه انقضى على محاولة قتل عيسى ابن مريم أكثر من تسعة عشر قرنا إلا أنه لا يزال اليهود يعلَّقون ويُعدَمون إلى اليوم.

وكذلك حاول كبراء مكة قتل محمد ، ولكن هل تجدون أحدا يذكر اسمهم وينتسب إليهم؟ في غزوة أحُد نادى أبو سفيان: هل فيكم محمد؟ ولما لم يتلقَّ جوابا نادى: لقد قتلنا محمدا. ثم نادى هل فيكم أبو بكر؟ وعندما لم يتلق ردّا قال: قد قتلنا أبا بكر. ثم سأل هل فيكم عمر؟ (البخاري، كتاب المغازي). اذهبوا اليوم إلى أركان العالم واسألوا: هل فيكم أبو جهل؟ لن تجدوا أي صوت يقول: نعم فينا أبو جهل. ولكن لو ناديتم: هل فيكم محمد؟ فسوف تسمعون مئات الملايين من الأصوات تهتف وتقول: نعم فينا محمد؛ لأننا نتشرف بالانتساب إليه وتمثيله. لا يزال نسل أبي جهل موجودين في العالم، ولكن لن يتجاسر أحد منهم أن ينتسب إليه. هناك نسل لعُتبة وشيْبة في الدنيا إلى اليوم، ولكن هل هناك أحد يقول إنه من أولادهما؟ إن الذين يُقتلون في سبيل الله لا يموتون أبدا، بل إنهم أحياء إلى يوم القيامة، وإن ذريتهم ليدْعون الله لهم بذكر أسمائهم، ويتذكرون محاسنهم، ويحاولون تتبع خطواتهم.

توضح هذه الآية صحة موقفي فيما يتعلق باختلافي مع المفسرين الآخرين بصدد تحويل القبلة، وتبيَّن صوابُ قولي إن الآية (ومن حيث خرجت…) تعني: عليك أن تنظر دائما إلى هدف فتح مكة، وليس أن تتجه إلى القبلة في الصلاة. وإلا فلا علاقة لهذه الآية مع سائر الآيات، ولا صلة بين ذِكر الشهداء والقبلة. يكون ذِكر الشهداء مع الحرب والقتال، أما ربط الشهداء مع قضية تحويل القبلة فلا يبدو مناسبا ولا حقًّا. يقول الله هنا: لو اضطررتم لدخول الحرب من أجل فتح مكة فلا تخافوا.. لأن في هذا بقاءكم وحياتكم. والذين يُقتلون في سبيل الله لا تسموهم أمواتا، بل هم أحياء. الذين –لجهلهم يسمونهم أمواتا –ينقصهم الإحساس بأهمية هذا الأمر.

ويتضمن هذا أيضا الجواب على من يقول: ما الحاجة إلى الحروب وإزهاق الأنفس؟ يقول الله: إنكم لم تُمنحوا تلك البصيرة التي نالها المؤمنون الذين يُستشهدون في سبيل الله، إنكم لا تدرون أن في موتهم الأساس لانتصار الإسلام، ولكنهم يدركون جيدا أن في موتهم منفعة عظيمة للإسلام. جاء في الحديث “(عن جابر بن عبد الله يقول “لَقِيَني رسولُ الله فقال لي: مالي أراك منكسرا؟ قلت: يا رسولَ الله، استُشهد أبي وترك عيالا وديْنا. قال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك قال: بلى يا رسول الله. قال: ما كلَّم الله أحدا قطُّ إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلَّمه كفاحا [أي مشافهة ]،وقال يا عبدي، تَمَنَّ عليَّ أُعْطِك. فقال: يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية. قال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون) (الترمذي، أبواب التفسير). وهذا يؤكد أن صادقي الإيمان يعرفون أن في موتهم إحياء للأمة، وأنه ينتظرهم ثواب كبير في الآخرة، فلا يخافون الموت. هؤلاء يبقون أحياء رغم تضحية أرواحهم، ولكن الذين لا يقدمون حياتهم يظلون أمواتا رغم حياتهم.

تنبأ سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن موت القسيس عبد الله آثم، وعندما انقضى الموعد ولم يمت آثم صاح المتشبثون بالظواهر: إن نبأ المرزا لم يتحقق وتبين كذبه. واستهزأ بعض الناس بهذا النبأ في مجلس حاكم ولاية بهاولبور بالهند، وقالوا أن النبأ ثبت كذبه. وها هو آثم حي يُرزق إلى اليوم. وكان ولي الله الخواجة غلام فريد من بلدة تشاتشران في المجلس، وكان الحاكم مريدا له. وأثناء الحديث قال الحاكم: نعم، لم يتحقق نبأ المرزا. فثار الخواجة غلام فريد بكل جلال: من يقول إن آثم حي؟إنني أرى جثته*. فسكت الحاكم (إشارات فريدي: ج3صفحة15)[1].

فبعض الناس يبدون أحياء، ولكنهم أموات. وبعضهم يبدون أمواتا في الظاهر ولكنهم في الحقيقة أحياء. فالذين يضحون في سبيل الله بأنفسهم إنهم أحياء في عيون أهل البصيرة الروحانية. يُحكى أن وليّا من أولياء الله كان يقيم في المقابر فسئل: لماذا تركت الأحياء وتعيش في المقابر بين الأموات؟ فقال: إنني أرى الأموات في المدينة، وأرى هؤلاء أحياء (تذكرة الأولياء للشيخ فريد الدين العطار، ذِكر إبراهيم الأدهم). فليس من السهل معرفة الأحياء والأموات الروحانيين، ولكن الله تعالى ذكر علامة ظاهرية تسهل إلى حد كبير معرفة هؤلاء وهؤلاء.

قوله تعالى (ولكن لا تشعرون). الشعور هو العلم الذي ينبع عن داخل الإنسان. مثلا لو سمع أحد شيئا من غيره وتوصّل منه إلى نتيجة.. فهذه النتيجة لا تسمى شعورا، ولا يقول: شعرتُ، بل يقول: علمتُ. ولكن إذا توصل إلى تلك النتيجة بتفكير من داخله بدون إخبار من أحد عندئذ يقول شعرتُ. وحينما يبلغ الطفل سن البلوغ يقولون: لقد وصل إلى “سن الشعور” مع أنه يحصل على بعض المعلومات من قبل أيضا. وكذلك يسمّى الشَّعر شَعرًا لأنه ينبت من الداخل. ويسمى اللباس الملاصق للبدن شِعارا لأنه داخلي. وسمي الشِّعر شِعرا لأن موضوعه يعبر عن الأحاسيس الداخلية للإنسان، وبقراءته يشعر الإنسان أن هذا هو في ذهنه أيضا. وإلى ذلك يقول الشاعر غالب في قوله.

[1] القسيس آثم كان خطيبا في جامع آغرا بالهند ثم تنصر وجعلوه قسيسا. وكان يتطاول على سيدنا محمد بوقاحة حتى سمّاه كذابا والعياذ بالله، فأنذره سيدنا المهدي بناء على إلهام أن الله سيهلكه خلال مدة عيّنها له. فأرعبه الإنذار وتوقف عن شتائمه، فنجا من العقاب، فأثار المعارضون ضجة أن النبأ لم يتحقق.. فقال الإمام المهدي إن الرجل أقلع عما كان يفعل، فنجا من عقاب الله، واسألوه يخبركم. ولكن آثم لزم الصمت، فقال الإمام المهدي إن سكوته إخفاء للحق فلا بد أن يهلكه الله، فأهلكه الله خلال الموعد المضروب. ولمزيد من التفاصيل راجع [نبوءات لسيدنا المهدي –دراسة تحليلية، نعيم عثمان ميمُن ]
Share via
تابعونا على الفايس بوك