لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب

التحرير

 

ما هو الشيء المميز في قصص الأنبياء الذي ذكره القرآن الكريم؟ وما هو الشيء الذي تكرر في كل القصص التي سردها الذكر الحكيم؟ يعتقد الكثيرون أن ما أراده الله هو أن يبّين بأن نصر الله آت للنبيين ومن تبعهم من المؤمنين وهذه القصص إنما هي لتثبيت الفؤاد فيستمعها المؤمنون فيلزموا سبل الرشاد وأن ما واجههم من متاعب وما قابلتهم من مصائب لا بد لله أن يكشفها، فاصبروا وصابروا يا معشر المؤمنين، وهذا فعلاً من أغراض هذه القصص باعتراف نص القرآن الكريم، ولكن خلف هذه القصص حكمة بالغة وعبرة رائعة.

إن في هذه القصص عبرة ولا بد للمؤمنين أن يلقوا عليها نظرة ليلتمسوها وأن الله عندما سرد هذه القصص قد سردها بطريقة توضح وسائله في النصر وأسبابه التي على المؤمنين أن يلتزموها، فافعلوا ما عليكم ودعوا الله يري آياته، ويبدي بوسائله بعضًا من قدرته وصفاته، واعتبروا وانظروا كيف جاء نصر الله ومتى، وفي أي لحظة بزغ النصر وأتى، فقيسوا على ما لديكم واعلموا أنكم إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، وأنكم كمن كان قبلكم ستقولون أنتم ورسولكم متى نصر الله والله لن يترك أعمالكم، فترقبوا النصر وتحلوا بالصبر وانظروا كيف جاء النصر، والله هو مدبر الأمر وكاشف الضر.

نلاحظ في كل قصص الأنبياء أن النبي جاء دومًا في زمن سادت فيه الظلمات، وانتشرت فيه الموبقات، واستبيحت فيه الحرمات، وظهر في الأرض الفساد، وكان في قوم النبي دومًا بضعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يقودون المنكر ويعلون للفساد صرحًا، ولا يقبلون الحق ولا يستمعون نصحًا، وهم دومًا في قومهم الأقوياء، ويعتبرون من هم دونهم جماعة من الأراذل، وهؤلاء العصبة كانوا مرة ملكًا وحاشيته، وأخرى زعيمًا ومعاونيه، وأخرى مجموعة من الزعماء والنبلاء الذين يذيقون من هم دونهم سوء البلاء، ويأتي النبي دومًا فيتبعه الضعفاء النبلاء الذين يذيقون من هم دونهم سوء البلاء، ويأتي النبي دومًا فيتبعه الضعفاء النبلاء، ثم ينصرهم الله بوسائل من السماء، لا يقدرون هم عليها ولا يقدر أعداؤهم على ردها، وهذا ما هو واضح للعيان، ولكن هل عدتم إلى بداية القصة من أولها؟، وأدركتم أن كل نبي عظيم أتى، كان خلقه أو استمرار حياته أو نجاته في وقت انقطعت فيه الأسباب المادية، وتعاظمت فيه البلية، حتى اعتُقِدَ فيه أنه لا سبيل لوجوده وولادته حينًا ولنجاته أحيانًا، فهذا آدم الذي خلقه الله من تراب وكانت الدنيا تعتقد أن لن يبعث الله أحدًا، فأوجده الله بطريقة لا يزال يكتنفها الغموض وإن كان الله قد أشار إلى أن مثله كمثل ابن مريم فكلاهما من تراب ثم قال لكل منهما كن فكان، وما نفهمه من هذا البيان أن الموضوع يدل على تشابه كبير في الخلق المعنوي والمادي لكليهما ولكن المهم في الموضوع أن آدم جاء في وقت استغربته الملائكة وظنت أن الأرض قد شهدت من فساد الإنسان مبلغًا من الطغيان وسفك الدماء ما جعلهم ييأسون من أن يبعث الله فيهم صالحًا، فهم جنس خطّاء سفّاك للدماء، ولكن الله أراد أن يُظهر أن هذ المخلوق الذي خلقه فأحسن خلقه، والذي اصطفاه لعبادته وجعله مظهرًا لصفاته يمكن أن يكون أكثر المخلوقات قربًا لله وأن فطرة الله التي أودعها إياه سوف تنتصر على ميوله الشيطانية ونزعاته الطينية وسوف يعرج في السماء ويصل إلى سدرة المنتهى، ويُنشئه الله خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. كل ذلك كان والدنيا قد يئست من هذا الإنسان الذي خلقه الله فقدره ثم السبيل يسره.

ثم يأتي بعد ذلك نوح الذي يئس من قومه ويئسوا هم منه فأخبره الله أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فلم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّارًا، وتفجرت الأرض أنهارًا، والسماء انهمرت أمطارًا ونجا نوح ومن معه برحمة الله، وأنشأ الله من المؤمنين قومًا آخرين ليرثوا الأرض ويكونوا من الصالحين وأغرق الله الظالمين. ثم لننظر في قصص من تبعه من النبيين من هود وصالح وشعيب ولوط كيف أن الله دمّر أقوامهم بعذاب أليم ولعنهم إلى يوم الدين، وجعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة يذوقون عذاب الجحيم وأنقذ النبي ومن معه من المؤمنين، كل ذلك كان بوسائل من السماء ليس للنبي وأصحابه فيها يد ولا يستطيع المجرمون لها ردًّا.

ثم إذا أتينا على إبراهيم أبي الأنبياء، فنجد أن ما واجهه كان غاية في البلاء. ففي أول عهده بالنبوة أُلقي في النار، ولولا فضل الله ورحمته لهلك وانقطعت به الأخبار ولكن الله نجاه منها ومن بطش قومه ومن النمرود وجعل النار ونار العداوة عليه بردًا وسلامًا ونجا من الموت وسعى في الأرض لينشئ ذرية النبوة، ووهبه الله على الكبر إسماعيل وإسحاق بعدما يئس هو من أن تكون له ذريّة. وكان من نصيب هذه الذرية ميراث النبوة فماذا كان سيحدث لو هلك إبراهيم في النار أولاً أو مات ولم ينجب تاليًا. ثم إذا أتينا على سلالته من إسحاق فماذا كان مصير بني إسرائيل لو هلك يوسف في البئر أو لو قُتل موسى مع الأطفال الذين قُتلوا في عام ولادته أو لو غرق في اليم وهو طفل بعدما وضعته والدته فيه، ألم تكن حياته في خطر شديد؟ ولكن الله يفعل ما يريد. ثم عيسى بن مريم الذي ولد من امرأة دون رجل ليظهر الله للناس أنه أراد أن ينفذ أمره فهو ليس بحاجة للناس وأنه مالك الأسباب وإذا قضى أمرًا فلا راد له إلا هو وعندما أرادوا قتله ومكروا مكرًا ومكر الله مكرًا وهو خير الماكرين نجّاه من الموت الصليبي وآواه وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين كل ذلك والأسباب المادية انقطعت وإرادة الله انتصرت وظهرت، ومن قبله يحيى الذي مهد طريقه فقد ولد من عجوزين عقيمين بعدما ظنّا أنهما سيأتي عليهما الفناء دون أن يكون لهما أبناء ويفعل الله ما يشاء، فهلاّ نظرنا كيف أن هذه السلالة وجدت واستمرت ورُعيت بأيد سماوية ومضت إرادة الله في وقت ظن الناس ألا سبيل للفرج فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.

أما إذا نظرنا إلى الفرع العتيد والركن الشديد من الدوحة النبوية والسلالة الإبراهيمية فنجد أنها ابتدأت ببلاء عظيم حيث ترك إبراهيم ابنه الوحيد هو وأمه في وادٍ غير ذي زرعٍ، فلولا رعاية الله لهما لهلكا جوعًا وعطشًا أو لأكلتهما السباع ولكن الله حماهما وآواهما، حتى إذا بلغ السعي مع أبيه أتاه أمر الله بذبحه وهو وحيده الذي أتاه بعد طول شوق، فما كان منه إلا أن سلّم أمره لله هو وابنه، فالله من أعطاه وإذا أراد الأخذ فلا حول ولا قوة إلا بالله. فلما أسلما لله جعلهما الله أجداد المسلمين ومَنْ في نسلهم سيأتي الإنسان الكامل الذي سيقود أمةً صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين. ورفعا قواعد البيت الذي ستهوي إليه أفئدة من الناس. كل ذلك كان بعد الاختبار المرير الذي كان الوالد على وشك أن يضحي فيه بابنه والابن بنفسه. فماذا لو ذبح إبراهيم إسماعيل؟

ثم نأتي بعد ذلك على خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام وكيف أن جده كان على وشك ذبح أبيه إبرارًا بنذره، وافتداه بعد أن اقترع بمائة من الإبل كلما اقترع على عشر منها وعلى عبد الله كانت القرعة تأتي على عبد الله، فماذا لو اقتنع عبد المطلب بأن عليه ذبح ابنه لا محالة لأن القرعة أتت عليه عشر مرات؟ ولكن ما لبث هذا الابن الذي افتدي بمائة من الإبل أن مات بعد زواجه بفترة وجيزة -قبل ولادة المصطفى- فماذا لو ذُبح عبد الله أو ذبح إسماعيل من قبل هل كان لمجيء النبي من سبيل؟

نلاحظ من ذلك أن الأنبياء الذين كانوا يحملون الفرج للدنيا بأسرها قد أتوا بعد عناء شديد، وشدة لو عهدناها لظننا، ألاّ سبيل للخلاص، وليس لنا من بؤسنا مناص، فلنقِسْ الآن على ما نحن فيه من الشدة، وكيف أننا في زمن خارت فيه قوانا وذقنا الويلات على أيدي أعدائنا، والمتفكر في هذا العصر يظن ألا سبيل إلى خلاصنا ولكن الله القدير الذي يملك الأسباب وهو القاهر فوق عباده لا بد أن يتجلى بما هو غريب على الناس وليس بغريب عليه، فهذه الشدة العظيمة التي كانت أكثر ما يشغل بال نبينا علينا ويخشى علينا أن نضل فيها، والتي ذكرها وخفض فيها ورفع حتى ظن أصحابه أنها في طائفة النخل والتي بين فيها أن شاهدًا منه سيأتي لقيادة الأمة في هذه الظلمات فهل أنتم في زمرة الحق أم في زمرة الباطل؟ وهل جاءكم نبيكم فعرفتموه أم أنتم له منكرون؟، فابحثوا عن نبيكم الذي لا بد أن تأتي عليه سنة من قبله من النبيين وسيأتي في شدة وسينكره قومه وسيهلك الله بعد ذلك أعداءه وسينصر أولياءه، فإن لم تعتبروا فستقولون يومئذٍ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاتقوا الله وسيهديكم الله وهو العلي الكبير، مالك الملك وهو على كل شيء قدير، آن الأوان لنصره والظروف والأنواء تنبئ بأن نصره قريب، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وابحثوا عن سبيل نجاتكم وانظروا في أمركم هل أنتم في زمرة الفجار أم الأبرار، ولقد كان في قصصهم عبرة فويل للقاسية قلوبهم من النار، يحلون فيها بعد أن أحلوا قومهم دار البوار، والذين آمنوا دومًا لهم عقبى الدار. والحمد لله مالك الملك القوي العزيز الواحد القهار.

Share via
تابعونا على الفايس بوك