الهروب من الواقع

الهروب من الواقع

التحرير

قد يتعمد المرء في فترات معينة من حياته إلى الهروب من مواجهة ظروف الحياة الصعبة. ويختلق في قرارة نفسه الأعذار ويجد لها مبررات مهما كانت بعيدة وواهية. ولا شك أنه لما يفعل ذلك يلجأ إلى ما ينسيه مشكلته ويخفف عنه أوزارها، فربما فعل أشياء غير مقتنع بها، وسار في طريق لم يخطر بباله يوما أنه سيسير فيه …

من هنا تبدأ نقطة التحول، ويرسم خط بين الطريقين …. بين أن يرجع إلى نفسه، ويقف وقفة تأمل محاولا إصلاح الخلل كي يتمكن بعد ذلك من قضاء حياته بطمأنينة وهدوء، وبين أن يستسلم لواقعه، ويركن إلى مصيره، فيتحول مساره إلى الاتجاه الخاطىء ….ربما يعكس ما نقول حالات تتواجد في مجتمعنا المسلم وهي التي تساهم في تعطيل تقدمه وازدهاره. ويكمن العيب في الآلية المفقودة والمهارات النادرة. ربما لو نظرنا إليها بمنظور إسلامي معاصر لتغلبنا عليها كي نتمكن من الالتحاق بالركب الحضاري …

ولا تتطلب بعض المواقف منا كثيرًا من العناء والجهد، بل قد تحتاج فقط لنفَسٍ طويل، وأفق واسع يصرف عن إحداث مضاعفات تزيد في الطين بِلَّة. ثم تنفرج الأزمة تلقائيا بإذن الله .

وتتطلب مواقف أخرى من المرء فكر هادىء وعقل منطقي كي تأخذ طريقها إلى الحل، ذلك أنها من النوع الذي يحتاج إلى الحوار والنقد البناء … ولكن تحتاج مشاكل أخرى إلى حل حاسم، ورأي حازم لا يعطي فرصة للتخبط، أو مجالا للحيرة …ويتولى من هذا ميزان دقيق يفرق بينها جميعا، وتأتي هنا مهارة الاستفادة من أخطاء الماضي. فيتعلم المرء كيف يتعامل مع كل مشكلة على حدة، وكيف يعطي كل واحدة منها الوقت والجهد الذي تستحقه .

إن عدم ثقة المرء بإمكانياته ومؤهلاته تقوده إلى السلبية والتردد حتى تصل به إلى الخيبة التامة وهي بداية طريق الفشل الحتمي الذي ينتظر ذلك الخائف الواقف على حافة الطريق. وتتميز شخصية المسلم بثقة بالنفس مستمدة من يقينه الكامل بمصداقية دعوته وخلوص دينه، وكلما يتطور إيمانه تتحسن علاقته بالله وهذا ما يكسبه مزيدا من الثقة في نفسه. ولعل الكثير من المحللين والنقاد لا يعيرون ذلك الأهمية التي تستحقها، فيربطون ثقتهم بعوامل أخرى. ولا شك أنها تؤثر في المرء، مثل التربية ونسبة الذكاء والبيئة والنجاح أو الفشل الذي يواجه الشخص في بداية حياته … إلى غير ذلك من العوامل. ولكن الإيمان بالفكرة والاقتناع التام بالهدف هو أعظم العوامل التي تؤثر في نجاح ذلك العمل أو فشله، يتأكد ذلك بمجرد دراسة الدعوات المختلفة الموجودة على الساحة العالمية … فإذا ما سرنا على طريق الحق ونزلت علينا بركات العون الإلهي سنكون إن شاء الله من الناجين.

وتتميز شخصية المسلم بثقة بالنفس مستمدة من يقينه الكامل بمصداقية دعوته وخلوص دينه، وكلما يتطور إيمانه تتحسن علاقته بالله وهذا ما يكسبه مزيدا من الثقة في نفسه.

فالحج وهو من ركائز الإسلام الخمس يتمكن المرء من خلاله تثقيف شخصيته وذوقه وحساسيته الروحية والأخلاقية ….وإذا أخذنا على سبيل المثال حلق الرأس والإحرام  والتضحية لم نجد فيها تربية دينية للنجاح فحسب بل إنها تحتوي على أبعاد نفسية وروحية لو وعى الحاج مغزاها لحصل في داخله ثورة روحية ونفسية تهز كيانه وتغيره تغيرا جذريا… فحلق شعره الرأس والإحرام يعطي انطباعا للحاج أنه بمثابة المولود الجديد الذي يحلق شعره إقتدا بسنة خير خلق الله سيدنا محمد المصطفى . أما الإحرام في حد ذاته فهو بمثابة أول لباس يوضع على المولود الجديد وغالبا تكون قطعة قماش بسيطة لم تصلها يد الخياطين. ومن هنا نبدأ الرحلة الروحية للمسلم خلال الحج إذ يعطيه هذا المنسك فرصة ذهبية كي يتخلص من جميع الأعباء التي ركبت روحه ونفسه خلال سنين عمره الطويلة .

وإذا ما عمل حسب مقتضى ومتطلبات هذا المنسك ووعى مغزى الحكم المخفية بين طياته يتخلص الحاج من أعباء مختلفة ويكتسب ثقة في نفسه لا مثيل لها ….

فعالبا ما يسبب الخوف من المجهول … أي ماذا سيكون مصيرنا في المستقبل؟ أو الحزن على ما فاتنا أو من فارقنا من أحبة أزمات نفسية متشعبة. وهكذا تفقد الثقة في النفس تدريجيا … ولكن المسلم يؤمن إيمانًا يقينيا أن ثقته في نفسه ما هي إلا ثقته في خالقه. فالله عند حسن ظن عبده به. ومن هذه القاعدة يبدأ الحاج رحلته الروحية ويعيد بناء شخصيته وتركيبته الروحية من البداية. ويختتم هذا التحول بتقديم قربانا في سبيل الله وفي ذلك إشارة خفية وهي أنه من هنا فصاعدا ستكون التضحية في سبيل الله وخدمة مخلوقاته شغله الشاغل وهمه الوحيد. ويخرج بعد هذه الحملة التدريبية الروحية والنفسانية بفضل الله شخصا جديدا لا يشتكي من عاهات نفسية وروحية .

إن الرقي الإنساني منحصر في الاجتماعات الدولية حيث تتخذ القرارات وتناقش المشاريع الجديدة. واقتضت رحمة الله وفضله أن يخصص هذا الاجتماعي العالمي الفريد من نوعه (الحج) لجميع بني نوع الإنسان كي يتخلصوا من أوزارهم وأسقامهم ويصلحوا ذات شأنهم ويؤسسوا علاقة متينة بينهم وبين خالقهم وبينهم وبين باقي المسلمين من جميع أنحاء المأمورة … وفي هذه الحال لا يهرب المسلم من الواقع ولكن الواقع يخضع لمصداقية إيمانه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك