يسروا ولا تعسروا

يسروا ولا تعسروا

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد (أيدَّه الله) الخليفة الرابع لسيدنا الإمام

 المهدي والمسيح الموعود . بتاريخ 31 يوليو / تموز 1998م

نُشرت في جريدة “الفضل العالمية” بتاريخ 18، 24 أيلول 1998م.

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر[1]

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (العنكبوت: 8)

في هذه الآية وعد الله تعالى عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات:

لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ثم قال تعالى: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ أي سنجزيهم على كافة أعمالهم -سواءً الأحسن منها أو الأدنى- بحسب ما يترتّب على الأحسن منها من الجزاء.

هذا هو موضوع خطبتي اليوم، وبناء على الآية التي تلوتُها عليكم آنفًا أودُّ تقديم بعض النصائح إليكم في ضوء أحاديث الرسول ومقتبسات من كلام سيدنا المسيح الموعود .

فقد جاء في صحيح البخاري: “عن سعيد ابن أبي بُردة عن جده أنّ النبي بعثَ معاذًا وأبَا موسى إلى اليمن فقال: يسِّرا ولا تُعسِّرا وتَطَاوَعَا ولا تَخْتَلِفا”. (كتاب الجهاد، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب)

والحديث الثاني اقتبستُه من البخاري كتاب العلم، جاء فيه:

“عَنْ أَنَسْ بِنْ مَالِك عَنْ النَّبيِّ : قَالَ يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا”.

بمناسبة تواجد كثير من أفراد الجماعة وكثير من الزوار من غير أبنائِها من مختلف أنحاء العالَم هنا للاشتراك في الاجتماع السنوي في بريطانية أودُّ أن أُذكِّركم مرةً أخرى بنصيحة النبيّ هذه. الحق أنّ الغاية المنشودة من تأسيس الجماعة الإسلامية الأحمدية قد ذُكر في هذين الحديثين. التعامل مع الآخرين بقسوة أو تعليمهم الإكراهَ والعنفَ أمرٌ معارضٌ للإسلام. كما أنّ كلمة “الإسلام” نفسها تنافي هذا النوع من التعليم، إذ ليس من الممكن أن يكون اسم هذا الدين “الإسلام” أي الدين الذي يحمل رسالة الأمنِ والسلام، ثم يُعلِّم القسوة والكراهيّة من ناحيةٍ ثانية. لذا يجب أن تستوعبوا جيدًا أن مهمتنا لنشر الدين مبنيّةٌ على التقيُّد والتمسك بمواعظ سيدنا رسول الله هذه وتنفيذها في حياتنا بكل حرصٍ وحذر.

وهناك حديثٌ آخر ورد في صحيح البخاري جاء فيه: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنّ النَّبِيَّ  … قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا  وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ” (صحيح البخاري، كتاب اللباس)

فبما أنّ الجماعة الإسلامية الأحمدية العالَميّة في كافة أنحاء العالَم تُوجَّهُ أنظارهم بكثرة ودائمًا إلى أن يتحمّلوا أعباء مسؤوليات الدنيا كلّها ويقوموا بخدمة الإنسانيّة قدر المستطاع، لذا لابدَّ من أن نشرح لهم سُبل الخدمة وأساليبها أيضًا حتى يستطيعوا القيام بالخدمة بالمثابرة والاستمرار دون الكلل والملل ولا يتخلّوا عنها سَأمًا. هذا هو تعريف الخدمة الذي علّمنا إيَّاه سيدُنا رسول الله ، فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ”. ولكن تذكَّروا جيدًا أن قدرتكم ستظل تزداد بقيامكم بالأعمال الصالحة. لذا فالنصيحة في غايةِ العمق من حيث المعنى والمفهوم. يُتوقع منكم إنجازُ مهماتٍ كبيرة ولكنكم لا تستطيعون إنجازها جميعًا دفعة واحدة. فلا تقلقوا ولا تحاولوا القيام بأعمال أكبر من مقدرتكم واستطاعتكم وإلا فستمَلُّون وتضطرون طوعًا أو كرهًا إلى أنْ تتركوا العمل في نهاية المطاف. لذا ينبغي أن تتذكروا موعظة النبيّ هذه جيدًا. إنّكم تملّون وأنّ الله لا يملُّ، فإنّ أعمال الله تعالى الواسعة النطاق تبقى مستمرة في العالَم كله دون انقطاع.

وإنّ دعوة الناس كافة إلى سبيل الله تعالى ثم مساعدتهم للسير في هذا السبيل وجعْلَهم متقين -بعدما كانوا بعيدين عن الله- بالسَّهر على تعليمهم وتربيتهم، ليس أمرًا سهلاً بحيث يستطيع أي قوم إنجازه حسب مقتضياته. فلو حمَّلتم أنفسكم مشقةً أكثر من المستطاع ظنًّا منكم أنكم سوف تتمكنون من إنجاز عمل الله، فاعلموا أنّ هذا عملٌ ليس له نهاية، وليكن معلومًا أنّ الله لن يَمَلَّ، وإن أردتم أن تسبُقوا الله تعالى في هذا المجال، فيمكن أن تجرِّبوا وسوف ترونَ أنّكم تملّون وأنّ الله لا يملّ. لذا قال النبيُّ “وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ”

وهناك حديثٌ آخر ورد في صحيح البخاري، جاء فيه:

 عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كانَ عبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خَمِيسٍ، فقالَ له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنا كُلَّ يَومٍ. قالَ: أما إنَّه يَمْنَعُنِي مِن ذلكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بالمـَوْعِظَةِ، كما كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُنا بها، مَخافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا. (صحيح البخاري، كتاب العِلم)

كان من سُنّة النبيّ أنه كان ينتبه ألا يسأم الضعفاءُ، وألا يُحمِّل المرضى عبأً أكثر من المفروض. وكان يتقيَّد بهذا المبدأ في الصلاة أيضًا. مما يعني أنّه عندما كان النبيّ يحضُرُ في حضرةِ الله تعالى ويُسلِّم نفسه كُليًّا له جل جلاله، ففي هذه الحالة أيضًا كان من شأنِ بكاءِ صبيٍّ أيضًا أن يسترعي انتباهه. فجاء في حديثٍ آخر:

“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :‏ إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ” (صحيح البخاري، كتاب الآذان)

وهناك حديثٌ آخر يقول:

حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رضى الله عنه- كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلاَةَ. فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ – قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ‏.‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاَثًا، اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏‏ وَ‏‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏‏ وَنَحْوَهَا‏”‏‏ (صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يرَ إكفار من قال ذاك متأوِّلاً أو جاهلاً)

أولاً يجب أن ننتبه إلى أنّ المراد من الصلوات المذكورة في هذا الحديث ليس صلاة الفجر على ما أرى، لأنّه لم يكن من الممكن لِمُعاذ بن جبل أن يُصلِّي خلف رسول الله صلاة الفجر ثم يعود إلى قومه ويصلي بهم ويقرأ السور الطويلة فيها. والمراد هنا صلاة المغرب أو العشاء لأنّ الإمام يجهر قراءة القرآن فيها أيضًا. ففي إحدى المرات قرأ مُعاذ سورة البقرة في الصلاة. إنها لسورةٌ طويلة تتضمن كافة التعاليم القرآنيّة تقريبًا. يقول الراوي: إنّ شخصًا صلَّى لوحده صلاةً خفيفة وانصرف فزعمه مُعاذ منافقًا. فبلَغَ ذلك الرجلَ، فَأَتَى النَّبيَّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ونجلب المياه على إبلنا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ. (تبيَّن من قوله “صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ” أنّ الصلاة المذكورة هنا هي صلاة العشاء حيث يمكن القراءة الطويلة، حتى منتصف الليل أيضًا، إذ لا يمكن القراءة الطويلة في صلاة المغرب أيضًا)، فصلَّيتُ لوحدي صلاةً خفيفة فزَعَمني مُعاذ مُنافقًا. يبدو أنّ معاذًا كان موجودًا هنا حين رُفعت الشكوى ضده إلى النبيّ لأنّه كان دائمًا يحضر صلاة العِشاء بل كلّ الصلوات، فَقَالَ النَّبِيُّ ‏لِمُعَاذُ ثلاثَ مرّات، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ ثم قال: اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏‏ وَ‏‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏‏ أو نَحْوَهَا.

وهكذا كانت سُنّة النبيّ في الخطب أيضًا أنه كان يختصر الخطب أيضًا. وفي بعض الأحيان كان حضرته يتصرَّف على عكس ذلك أيضا.

أوضِّحُ لكم هذه الأمور لأنكم ترونَ أنني أُلقي الخطبات إلى سبع أو ثماني ساعات دون انقطاع أحيانًا، حين أوجِّهُ إلى أبناء الجماعة نصائح هامة. كما أنني في بعض الأحيان أضطر لإلقاء خطب طويلة في برامج القناة الفضائية الإسلامية الأحمدية مهملاً المواعد الأخرى ما عدا الصلوات، وأحيانًا أخرى أشترك في مجالس طويلة. وكذلك تستغرق هذه الخطب أيضًا * وقتًا طويلاً. فلا يخطرنَّ ببال أحد أنني أخالف أو أغضُّ الطرف -والعياذ بالله- عن سُنّة الرسول ، هذا مستحيلٌ تمامًا. فالنبيُّ أيضًا كان يتصرَّف حسبما يقتضيه الموقف.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في هذا الصدد ما معناه: “في بعض الأحيان كان النبيّ يخطب طويلاً بحيث تكاد الخطبة تستمر من الصباح إلى المساء. وإذا حان وقت الصلاة أثناء الخطبة، صلَّى بالناس ثم عاد إلى الخطبة”.

فإذا كان النبيّ قد بدأ بالخطبة بعد صلاة الصبح وظلَّ يخطب إلى أن غابت الشمس كما ورد في الحديث المشار إليه آنفًا، فلا يمكن ذلك إلا إذا كان الحادث قد وقع في رمضان وكان النبيُّ صائمًا، لذا كان ينهي الخطبة عند صلاة المغرب، وإلا فمن المستبعد على ما أرى أن يجوع هو طول النهار ويُكره أصحابه أيضًا على الجوع والعطش. فهذا ما يُعرف عن سُنّة النبيّ وقد أشار إليه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . إنّ أحاديث الرسول التي سبق ذكرها كلُّها تحتوي على تعليمٍ يوجِّه إلى اليُسرِ والسهولة. لذا ليس لي أن أقبل أنّ الحادث المذكور يكون قد حدث في غير رمضان حيث كان النبيُّ وحده صائمًا دون غيره. لا بدَّ أنّ الخطبة كانت قد أُلقيتْ في يومٍ كان الصحابة كلّهم صائِمين فلم يتعرَّضوا لمعاناة الجوع بسبب التذكير الطويل.

على أيّة حال هذه كلّها توضيحات لشرح موقفٍ سبق ذكره، أمّا كلمات الحديث فهي: “حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الظُّهْرُ. ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الْعَصْرُ. ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ”. (مسند أحمد بن حنبل)

لقد لاحظتم أنّ الحديث لا يقول إنّ الخطبة استمرت إلى صلاة العِشاء. لذا فالاستنتاج الذي قمت به كان صائِبًا إذ يمكن إطالة الخطبة في حالة الصوم إلى صلاة المغرب فقط.

فقد جاء في روايةٍ أخرى:

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : … فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ. قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. (الترمذي كتاب الإيمان، في حرمة الصلاة)

ففي هذا الحديث إنذارٌ كبير. لا بدّ للخائِضين في لغو الكلام إلا أن يراقبوا لسانهم. في بعض الأحيان يتفوه الإنسان في المزاح وبغير قصدٍ منه بما يكون منافيًا للأدب واللباقة. فكلمةٌ صغيرة (حسبما ورد في حديثٍ آخر للرسول ) من شأنها أن تُبعد صاحبَها من الجنة -بعدما كان قريبًا منها- حتى يدخل النار. لاشكَّ أنه من المستحيل أن يتمالك الجميعُ لسانهم كما يجب -إلا أن يشاء الله تعالى- أما إذا فرض الإنسان على لسانه مراقبة شديدة بحيث يحسب فيما يعزم قوله حسابًا دقيقًا ويزن بالحيطة والحذر الشديدين ما ينوي التفوه به، عندها يمكن أن يوفقه الله تعالى لمحاسبة لسانه. ولكن المشكلة أن بعض الطوائف يكونون ثرثارين وسريعي الكلام بطبيعتهم. لنأخذ على سبيل المثال أهل منطقة يو بي (إقليم في الهند)، ولا سيما السيدات من هذا الإقليم قد اشتهرنَ بالثرثرة. فهل مثل هؤلاء الناس أيضًا سيؤخذون بزلات لسانهم؟ إنّ في هذا الصدد حديثًا مُبشِّرًا آخر قاله النبي في ضوء القرآن الكريم حيث قال الله تعالى:

لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ

مما يعني أنه يجب أن تحافظوا ألسنتكم قدر الإمكان، ثم لو زلَّت ألسنَتُكم بسبب الثرثرة وأفلتت منها كلمة بسبب اعتيادكم على الثرثرة فمن الواجب أن تفكِّروا فيما فعلتم حتى تشعروا بِخطَئِكم ثم لتستغفروا الله تعالى كثيرًا قبل أن يحلَّ بكم بطشٌ من الله ، ثم اعقدوا العزم على عدم العودة إلى ذلك الخطأ. هذا ما فهمته من هذه الرسالة الكامنة في الأحاديث النبويّة الشريفة وأرجو أن أكون قد أصبتُ الفهم.

أوضِّحُ لكم هذه الأمور لأنكم ترونَ أنني أُلقي الخطبات إلى سبع أو ثماني ساعات دون انقطاع أحيانًا، حين أوجِّهُ إلى أبناء الجماعة نصائح هامة. كما أنني في بعض الأحيان أضطر لإلقاء خطب طويلة في برامج القناة الفضائية الإسلامية الأحمدية مهملاً المواعد الأخرى ما عدا الصلوات، وأحيانًا أخرى أشترك في مجالس طويلة. وكذلك تستغرق هذه الخطب أيضًا * وقتًا طويلاً. فلا يخطرنَّ ببال أحد أنني أخالف أو أغضُّ الطرف -والعياذ بالله- عن سُنّة الرسول

وجاء في حديث آخر:

“حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَكْثَرِ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ: إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ. (الترمذي، كتاب الدعوات)

هذا الدعاء أيضًا يحمل لنا -ولا سيّما في الفترة الراهنة- أهمية كبيرة. هناك أمور كثيرة في هذا الدعاء يجب الانتباه إليها. أولاً، من المعلوم أنّ النبيّ كان يحظى بثبات القلب على دين الله بحيث شهِد ربُّ العرش عليه مرارًا وتكرارًا، فلماذا كان النبي يدعو بهذا الدعاء كثيرًا؟ هناك سببان لذلك على ما أرى. أحدهما: التواضع الذي كان يتحلَّى به النبيُّ بطبيعته والذي بدوره كسب له هذا الثبات. ولم يخطر ببال النبي ولا للحظة أنني حظيتُ بهذا الثبات بفضل محاسني الشخصيّة، بل كان يعرف كل حين وآن أنّ الله تعالى هو الذي وفَّقني لذلك.

ثانيًا، إنّ النبي من خلال دعائه هذا نصح أمته وقال: أنا -وقد شهِدَ الله تعالى على ثباتي مرارًا وتكرارًا- لا زلتُ أنا أيضًا محتاجًا إلى رحمة الله تعالى ورضاه. إنّه تعالى يحرِم مِن رِضَاه مَنْ يريد، وإرادته هذه دائمًا تكون مبنيّة على حجَّةٍ قاطعة ولكن الإنسان لا يعرف في كثير من الأحيان سببًا لقراره هذا. فنظرًا إلى مثل هذه الأسباب التي لا يدركها الإنسان، ورغم معرفتي أني رقيبٌ على قلبي في بادي الرأي، فإنني لا أعرف الكيفيّات والأسرار الكامنة في القلب التي أعملها بل يعلمها ربّي . لذلك فُرِضَ هذا الدعاء على الأمة أن يسألوا الله تعالى دائمًا أن يُثبِّت القلوبَ على الصواب ولا يصدر قراره أن قلبًا كذا وكذا يكاد يزيغ.

فقُدوة النبيّ هذه كلها كانت مبنيّة على التواضع والمعرفة أنّه لا يمكن أن يَتمَّ شيء بدون فضل الله تعالى. وكانت أفضالُ الله ونِعَمهُ عليه من الكثرة بحيث كان يرى أنّه لا يقدر على حقِّ شكرها أيضًا دون فضلٍ من الله وتوفيقه. فكان يشكر الله طوال الليل، وبقيَ على أسوته هذه على مدى الحياة وذلك ليقينه الكامل أنه لم يدرِ ماذا عسى أن تكون عاقبته ما لم يقبل الله شُكرَهُ. فقد ورد في الحديث الشريف:

عن عَائِشَةَ رَضي اللَّه عنها أَنَّ نَبِيَّ الله كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْدًا شكُورًا. (صحيح البخاري، كتاب التفسير)

لاحِظوا كم هو عجيبٌ أمرُ النبي !! في حين أنّ كثيرًا منا يشاهدون نِعَمَ الله تنزل عليهم كالأمطار الغزيرة ولكنهم نادرًا ما يشكرونه عليها. قد يتفوَّهون بكلمة “الحمد لله” بلسانهم مرارًا كثيرة ولكن أين هذا النوع من الشكر الذي يوقظ صاحبه أثناء الليل؟ والذي تهتزُّ له أرجاء السماء حتى يتسبَّب هذا الشكر في نزول نِعَمِ الله من السماء. هذا هو أسلوب الشكر الذي يجب أن نتخذه أسوةً لنا، وبدونه لا يمكننا أن نتوقّع أيَّ فلاحٍ حقيقي في الدنيا. وتذكَّروا أيضًا أنه بقدرِ ما تشكرون الله بقدرِ ما تنزل عليكم رحمة الله تعالى أكثر، وبقدرِ ما تنزل عليكم رحمة الله تعالى، يجب أن تسألوا الله دائمًا أن يوفِّقكم للشكر عليها أكثر فأكثر.

وهناك حديثٌ آخر اقتبسته من صحيح المسلم، جاء فيه:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ. (كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله)

لماذا ما طمع بجنته أحد؟ لأنّ المؤمن يجب أن يأخذ بالحسبان دائمًا أنّ الإنسان معرَّض لارتكاب الذنوب لدرجة أنّه قد يقع في الذنوب بغيرِ قصدٍ منه أيضًا، وأنّ إمكانيّة صدور الخطأ منه تلازمه دائمًا. ولو أخذه الله على كلِّ خطأٍ يصدر منه لوجب عليه العقاب، ولو عرف الإنسان مدى شدّةِ بطشِ الله تعالى لَفقدَ أملَ الجنّة ولَباتَ على يقين أنّه لن ينالها. وكذلك لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنطَ من جنّته أبدًا ولصار هو بدوره على يقين أنّه لن يُحرَم من رحمة الله الواسعة أحد.

يبدو في بادي الرأي أنّ هناك تناقضًا بين هذين الأمرين. فمن ناحية هناك تخويفٌ شديد على خطأٍ بسيط بأنّ الله سوف يبطِشُ صاحبه بطشًا شديدًا، ومن ناحية ثانية هناك بارقةُ أملٍ تُبشِّر بأن الله يمكن أن يغفر ذنوبًا -حتى ولو كانت مثل الجبال- ارتكبها أحدٌ طيلة حياته. يبدو في بادي الرأي أنّ هناك تناقضًا بين هذين الأمرين، ولكن الحقيقة أنّه ليس ثمّة أيّ تعارضٍ ولا تناقضٍ إطلاقًا. بل هو الجسر الدقيق الذي توجَّهُ إليه أنظارُنا ويُقال: يجب أن تَعبروا هذا الصراط بالانتباه الشديد وأخذِ الحيطةِ والحذر بالحسبان حتى لا تقعوا إلى حيث غضبُ الله وسَخطِه، بل يجب أن تعبروه راجينَ الوصول إلى رحمة الله تعالى. هذا هو الصراط الذي يدعو إليه الحديث النبويّ الشريف.

قبل أن أقرأ عليكم مُقتبسًا من كلام سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في نهاية الخطبة أُريد أن أنصحكم بألا تعقِدوا العزم فقط لتنفيذ كلِّ المواعظ التي سبق ذكرها، بل تمسَّكوا بها جيدًا ونفِّذوها فعلاً في حياتكم. فيجب أن تكون تصرُّفاتكم كلّها أثناء إقامتكم هنا للاجتماع السنويّ مبنيَّةً على هذه التعليمات القيِّمة، لأنّ التَريُّثَ في تنفيذ أوامر النبيّ بعد سماعها لا يجوز بشكلٍ من الأشكال، لأنّ الحياة لا ضمانَ لها، ومَنْ يدري متى سَيدعُوه مَلَكُ الموت. لا يدرك أحدٌ في أيّةِ لحظة سَيوافيه الأجل. نرى أُناسًا كانوا يتمتَّعون بكامل الصحّة والعافية ويُغبط بصحّتهم الآخرون، ولكنهم فارقوا الدنيا فجأةً. كثيرًا ما تصلني الرسائل بهذا الخصوص. لقد تلقيتُ البارحة رسالةً قال فيها صاحبها ما معناه: إنّ أبانا كان صحيحًا سليمًا، لم يتعرَّض لمرضٍ طيلة حياته، ولكنه فارقَ الحياة فجأةً. فَمَلَكُ الموت عندما ينزل بأحدٍ بصورةٍ فجائيّةٍ هكذا. لا يميّز بين المريض والسليم ولا ينتظر أن يمرض أحدٌ قبل أن يقبض روحه. فبما أننا لا ندري إلى متى سنحيا وكم مِن لحظةٍ بقيت مِن حياتنا، لذا فالتريُّثُ في تنفيذ المواعظ الحسنة بعد سماعها قد يؤدّي إلى نتائج وخيمة. لا شكَّ أن أمرَ إطالة فترة الحياة لأحد هو في يدِ الله تعالى.. يطيلها لمن يشاء ويجعلها قصيرةً لمن يشاء. لذا أرجو أن تتمسَّكوا بمواعظي هذه جيدًا. ولَسوفَ أُلقي ضوءًا أكثر على الموضوع نفسه في خطبتي الافتتاحيّة للاجتماع السنويّ اليوم وسأُبيّن ماذا يجب عليكم القيام به.

والآن أُنهي خطبتي هذه بعد قراءة مُقتبس من كلام سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، يقول حضرته: “إنّ حالتكم الروحيّة لن تتحسن فقط بالتوبة أو بالصلاة المستعجلة التي تقومون بها بين حينٍ وآخر أو بالصوم العادي. فمِن أجل تحسين حالتكم الروحيّة ولأكلِ الثمرات من هذه الحديقة يجب عليكم أن تَسْقُوا هذه الحديقة بماءِ عيونكم عن طريق الصلوات في حضرة الله تعالى وفي مواقيتها”.

ما أَبْلَغَهُ وما أجْمَلَهُ من كلام!! يقول: إذا كنتم فعلاً تُحسِّنونَ حالتكم الروحيّة فلا بدّ أن تُوهبوا ثمراتٍ لجهودكم بصورة جنّاتٍ تُعطي أُكلَها في هذه الدنيا وفي الآخرة، ولا مندوحةَ من ريِّ الحدائق كما هو معلوم.

المؤمن يجب أن يأخذ بالحسبان دائمًا أنّ الإنسان معرَّض لارتكاب الذنوب لدرجة أنّه قد يقع في الذنوب بغيرِ قصدٍ منه أيضًا، وأنّ إمكانيّة صدور الخطأ منه تلازمه دائمًا. ولو أخذه الله على كلِّ خطأٍ يصدر منه لوجب عليه العقاب، ولو عرف الإنسان مدى شدّةِ بطشِ الله تعالى لَفقدَ أملَ الجنّة ولَباتَ على يقين أنّه لن ينالها.

فإذا كنتم تتمنّون أن تأكلوا من ثمرات هذه الحديقة: “فاسقوها بماءِ عيونكم عن طريق الصلوات في حضرة الله تعالى وفي مواقيتها وبماءِ النهر الجاري للأعمال الصالحة”. لقد شَبَّه الأعمال الصالحة أيضًا بالماء لأن الأعمال الصالحة هي التي سوف تروي هذه الحديقة في هذه الدنيا أو بصورة الجنّات في الآخرة. وإن لم تكن هناك أعمالٌ صالحة فالنوايا الصالحة وحدها لن تنفع أبدًا. والدليل على كون النوايا صالحة وصادقة في الحقيقة هو أنّ صاحبها يوفَّق للعمل بها أيضًا. وإذا لم تكن صادقة فلا حقيقة لها ولا أهميّة أكثر من كونها الأماني الفارغة. فيقول سيدنا المسيح الموعود :

“فاسقوها… بماء النهر الجاري للأعمالِ الصالحة حتى تخضرَّ وتزدَهِرَ وتصبح صالحةً لأنْ تأكلوا من ثِمارِها.”

هذا ما توقَّعَ حضرتُه من جماعته، وماذا عسى أن أتوقَّع منكم غيره!! فأرجو أنّكم لن تتحدَّثوا عن الحدائق المذكورة فحسب بل يجب ألا يقرَّ لكم قرار ما لم تبدؤوا بأكلِ ثمارها. وميّزة هذه الثمار هي أنّها حين أكلتموها أصبحتم على يقين أنّها لَثِمارٌ نازلةٌ من السماء وستخضرُّ حياتُكم كلُّها من الرأسِ إلى أخماصِ الأقدام ومن أخماصِ الأقدام إلى الرأس. إنّ معاملة الله تعالى برحمةٍ وفضل منه لا تمرُّ بالإنسان مرَّ الكِرام بل تجعل الإنسان يشعرُ بها على شكلٍ غير عادي. أنتم تعرفون مدى سعادةِ أحدنا وابتهاجِه حين يعامله أبوه أو أمّه أو أحدٌ من أقاربه بالرِّفق واللُّطف، أما لُطفُ الله تعالى ورحمته فشأنُها أغرب من ذلك، ولا يُدرك مدى عظمتِهِ إلا الذي وُفِّقَ لأكلِ الثمرات من هذه الحديقة.

فيضيف حضرته ويقول: “اعلموا أنّ الإيمان بدون الأعمال الصالحة ناقص. كيف يمكن ألا تصدر الأعمالُ الصالحة إذا كان الإيمانُ كاملاً؟ استكمِلوا إيمانكم واعتقادكم وإلا فلن يجديكم نفعًا. الناس لا يستكمِلون إيمانهم ثم يَشكُونَ أننا لا نتلقَّى النِّعمَ الموعودة”. فإن لم تَسقُوا الحديقةَ كيف تحملُ الأثمَار؟ كلا، بل سوف تتحوَّل إلى خُشُبٍ جافّةٍ جديرة بالإحراق.

لقد قال الله تعالى:

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ .

إنّ وعْدَ الله هذا صدقٌ وحقٌّ، ونؤمن إيمانًا كاملاً أنّ الله يفي بالميعاد لا محالة. إنّه رحيم وكريم، والذي يكون لله ينجِّه من كل ذلَّةٍ وهوان، ويكون له حافظًا ونصيرًا. ولكن الذين يدَّعون التقوى من ناحية ويشكُونَ من ناحيةٍ ثانية أننا لا نتلقّى من البركات شيئًا، فأّيُّ الفريقين نكذِّبُ وأيّهما نصدِّق؟ لا نستطيع ان نتَّهم الله بشكلٍ من الأشكال لأنه يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فلا بدَّ أن نعتبر مثل هؤلاء المدَّعين من الكاذبين. الحقيقة أنّ تقواهم وصلاحُهم لا يكون على مستوى بحيث يستطيع أن يحظى بالتقدير والأهميّة في حضرة الله، أو إنّهم لا يتَّقون الله وإنّما يتَّقون الناس أو إنّهم أُناسٌ يُرَاؤون”. هذا هو الخطر الكبير الذي يُحلِّق على رؤوس الناس كلّ حين كالسيف البتَّار. إنهم يتظاهرون بتقوى الله تعالى ولكنهم في حقيقة الأمر يخافون الناس. يعبدون الله ظاهرًا ولكنهم في الحقيقة ينوون الرياء.

يستأنفُ حضرته قائلاً: “فبدلاً من الرحمة والبركات تحلُّ بهم اللَّعنة التي تجعلهم مُحتارين من أمرهم ومأخوذين في مصائب الدنيا. إنّ الله لا يُضيع المتَّقي أبدًا وهو صادقٌ وثابتٌ في وعوده”.

والآن سَاُنهي خطبتي بعد قراءة مُقتبسٍ وجيز لسيدنا أحمد يقول حضرته:

“يقول حضرة داؤد في الزَبور ما معناه: كنتُ طفلاً، فأصبحتُ شابًا، ومن الشباب دخلت الشيخوخة ولكني لم أرَ مُتَّقيًا يتسوَّلُ قطّ”

(الملفوظات، الخزائن الروحانية رقم 1، المجلد 5 ص 243، 244)

فإن كنتم ترغبون في أنْ تُعامَلوا أنتم أيضًا بهذه المعاملة فتوجَّهوا إلى أعمال الذين يعاملهم الله تعالى هكذا. وفّقنا الله لذلك (آمين).

* (مثل الخطب في الاجتماعات – من المترجم)

[1] داعية إسلامي أحمدي

Share via
تابعونا على الفايس بوك