غجر أوربا

بقلم: الأستاذ تشودري خالد سيف الله *

تناقلت الصحف مؤخرًا خبرًا مفاده: إنّ مائة وخمسين مجريًّا تمكّنوا من الدخول إلى بريطانيا بقصد اللجوء، قادمين من تشيكيا وسلوفاكيا.

لقد أقدم الغجر على ذلك على الرغم من علمهم الأكيد بأنّ قوانين الهجرة في بريطانيا متشدِّدة وفي منتهى الصرامة، وأنّ الحصول على اللجوء هنالك ليس أمرًا هيِّنًا، كما أنّهم على علم بما لاقاه أسلافهم من مصاعب ومعاناة قاسية في ظل الحكومة البريطانيّة، حيث كان رجالهم يتعرَّضون لصنوفٍ من العقوبات، أما نساؤهم فكانت تكوى جباههنَّ بالأخشاب المشتعلة، في حين أنّ الأطفال كانوا عرضةً للسياط علنًا. ولقد تفاقم أمر تعذيبهم في زمن “هنري الثامن” حيث كان يسوِّغ للسلطة تنفيذ عقوبة الإعدام حتى ضدَّ الذي كان يجالسهم أو يتردَّد إليهم دون أن تُرفع أيّة دعوى.

عُرِفَ الغجر بألوانهم الرصاصيّة لذلك لم يكن صعبًا التعرَّف عليهم. كان الأوربيّون يخافون منهم أيّما خوف حتى إنّ رؤية الأوربييّن إيّاهم وحدها كانت بمثابة دقِّ أجراس الخطر لهم. وأُشيعَ عنهم إثر هذا الخوف أنّهم إذا تمكّنوا من القبض على إنسان، لم يتورَّعوا عن أكل لحمه.

___________________

*  مراسل جريدة الفضل من أستراليا

اشتُهرت نساؤهم بالسحر بسبب تعاطيهم مهنة قراءةِ الطالع وكشف المستقبل. أما صنائعهم المختارة، فقبل الحرب العالمية الثانية كانوا يشتغلون بالحدادة والبيطرة وتصليح الأواني وترويض الدِببة، وبعضهم كان يكسب رزقه بأعمالٍ أخرى كصناعة الخشب وغير ذلك. إلا أنّ شغلهم الشاغل هو الرقص والغناء.

كان الغجر عُرضةً لعمليات “هتلر” القمعيّة، ويُذكر أنّ هتلر قتل حوالي خمسمائة ألف غجري. قد يكون هذا الكلام مبالغًا فيه إلا أنّ ما لا يشكُّ فيه أحد هو أنّهم قُتِلوا بالألوف.

أما بالنسبة إلى عدد الغجر في كلّ أنحاء العالَم فقد جاء في تقرير لرابطة الأمم سنة 1925م أنّهم قُرابة خمسة ملايين. لكنهم قالوا في مؤتمرهم -الذي عقده غجر أوربا سنة 1944- إنّ عددهم في العالَم بأسره بلغ إثنتي عشر مليونا، منهم ستة ملايين يعيشون في أوربا الشرقيّة.

يتحدَّث معظم الغجر لغة الناس الذين يعيشون بينهم، إلا أنّ لهم لغةً خاصة بهم تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندية الإيرانيّة. والسؤال المطروح الآن: ما هو موطِنهم الأصلي الذي خرجوا منه؟ وكيف انتشروا في جميع أرجاء العالَم؟.. يقول المؤرِّخون في الإجابة عن هذا السؤال: إنّهم كانوا قُطَّان شبه الجزيرة الهنديّة وتفصيل ذلك كالآتي:

لقد بدأ قدوم شعب “الآريا” من آسيا الوسطى إلى الهند حوالي 1500 ق.م لكن قبل قدومهم كانت ثمة فرقة من بين سكان الهند الأصليين -الذين عُرفوا فيما بعد باسم المنبوذين أو الطبقة الاجتماعيّة الدُنيا- اشتُهِرت بالرقص والغناء تُسمّى “الدوم (Dome) – يرى المؤرِّخون عامة أنّ جذور غجر أوربا ترجع إلى قوم “الدوم”.

ظَلَّ الغجر متخذين المنطقة الشماليّة الغربيّة في الهند موطنًا لهم حتى قبل 1000 سنة من يومنا هذا.

والجدير بالذكر أنّ المنطقة المذكورة تُعرف اليوم بباكستان. فقد غادروا المنطقة قبل 1000 سنة لنكبةٍ غير معروفة حلّت بهم ولجأوا إلى إيران. ولم يستقرّ بهم المقام هناك فانتشروا في بلاد الشرق الأوسط. وما فتؤوا يواصلون ترحالهم حتى وصلت معظم قوافلهم إلى أوربا الشرقيّة. وقيل إنّهم دخلوا أوربا قادمين من بلاد تُسمّى مصر الصغيرة (Little Egypt) ولذلك يسميِّهم الإنكليز “جيبسي (Gypsy)” وهو اختصار كلمة (Egypt).

لقد اتَّخذ ألوفٌ من الغجر بلاد “رومانيا” ملاذًا لهم وتعايشوا مع شعبها، فدخل من جرّاء هذا الاختلاط إلى لغة الغجر كم هائل من كلمات اللغة الرومانيّة حتى باتَ أهل أوربا الغربيّة يطلقون عليهم وعلى لغتهم كلمة “روماني (Romany).

لم يمنعهم من الاستقرار المؤقَّت برومانيا عن ترحالهم فقد انتهوا إلى اليونان حتى القرن الثالث عشر، وخلال بداية القرن الخامس عشر وصل انتشارهم إلى شمال ألمانيا.

لم يأنس الناس بالغجر بصورةٍ عامة، فقد نظروا إليهم نظرةَ نفورٍ وازدراء بسبب اختلاف لون البشرة والجنسيّة والعادات والتقاليد، إلا أنّ الغجر حاولوا بشكلٍ أو بآخر إعطاء صورةٍ محترمة عن شخصيّتهم، أحيانًا بلبسهم جُببًا طويلة مُطرَّزة بأسلاكٍ ذهبيّة وفضيّة، وتارةً بارتدائهم أزياء رؤساء أوربا الشريفي النسب، وطورًا بالكلام المبجَّل عن نُبلِ مَحتَدِهم. وهكذا استطاعوا إحراز بعض النجاح الذي تجلّى في ترحيب الأوربيين بهم في بادئ الأمر، غير أنّهم سرعان ما انقلبوا عليهم لما رأوهم يجوبون الأزّقة يقرؤون البَخت أحيانًا، ويتسوَّلون أحيانًا أخرى.

والذي لا بدَّ منه عند قراءتنا عن الغجر هو شعورنا بسعادةِ أولئك الآخرين الذين يعتزّون بانتمائهم إلى بلادهم، الذين يقولون رافعين رؤوسهم إنّ هذا هو بلدنا نحن، ثم يَسعونَ جاهدين للإسهام في تطويره ورُقيِّه وازدهاره، ومنبع كلّ ذلك هو الحبّ الخالص لتراب الوطن. لذلك قيل إنّ: “حبّ الوطن من الإيمان”.

وعندما اكتُشِفت أمريكا وبدأ الأوربيّون الاستيطان هناك، هرولَ عددٌ كبيرٌ من الغجر صوب الأراضي الجديدة ليستقرُّوا فيها بشكلٍ دائم. أما غجر أوروبا فلا يزالون مُترَحِّلين. ولكن يبدو الآن وكأنّ الترحال الممتد على أحقابٍ طويلة من الزمن، أتعبهم بحيث إنّ الكثير منهم بدؤوا يستقرون في مختلف البلاد مودِّعين الحياة الغجريّة. ومع كلّ هذا لا يزال التعرُّف عليهم ميسورًا، وذلك بسبب عاداتهم وتقاليدهم المتميِّزة التي لم يستطيعوا التخلّي عنها بعد.

لقد دأب الإنسان على الهجرة منذ فجر التاريخ، واستوطنَ بلادًا جديدة تاركًا وراءه وطنه ومسكنه. غير أنّ الهجرة في العصور الغابرة كانت بطيئةً وقليلة نسبيًا. أمّا اليوم، فبفضل الثورة العلميّة الهائلة وبسبب الاكتشافات الحديثة والإنجازات المعاصرة، تعدَّدت وسائل النقل السريعة المتطورة، وكثُرت الروابط الإنسانيّة، وأصبح بمقدور الإنسان قطع مسافة آلاف الأميال خلال ساعات من الزمن دون أن يمسَّه التعب، الأمر الذي كان مستحيلاً في الأزمنة الماضية. لذلك نرى اليوم سرعةً متزايدة في الهجرة والانتقال إلى أراضٍ جديدة لدرجة أنّه باتَ بالإمكان رؤية أُناسٍ مختلفة موطنًا وجنسًا ولونًا وبشرةً في أكبر مدن العالَم، إذ أنّهم توافدوا من كلِّ حدبٍ وصوب وحطُّوا رِحالهم هناك بشكلٍ دائم.

والذي لا بدَّ منه عند قراءتنا عن الغجر هو شعورنا بسعادةِ أولئك الآخرين الذين يعتزّون بانتمائهم إلى بلادهم، الذين يقولون رافعين رؤوسهم إنّ هذا هو بلدنا نحن، ثم يَسعونَ جاهدين للإسهام في تطويره ورُقيِّه وازدهاره، ومنبع كلّ ذلك هو الحبّ الخالص لتراب الوطن. لذلك قيل إنّ: “حبّ الوطن من الإيمان”.

هنا أتساءل قائلاً: ألا يربط الحبّ الغجرَ بأيِّ قطرٍ من أقطار العالَم حتى يُلقوا فيه عصا الترحال ويستوطِنوه؟

– أَوَهُمْ كارهون لكل بلاد المعمورة فلا يستقرُّون في أيٍّ منها؟

– أَوْ أنَّ ترحالهم بحثٌ عن كنزٍ جميل فقده أسلافهم؟

– أمْ أنَّ الأمرَ أكبر من ذلك فهم يبحثون عن هويَّتهم؟.

(نقل هذا المقال إلى العربيّة الداعية الإسلامي الأحمدي محمد طاهر نديم. جريدة «الفضل» الناطقة بالأُرديّة تصدرها أسبوعيًّا الجماعة الإسلامية الأحمدية من لندن.)

Share via
تابعونا على الفايس بوك