الكبرياء

الكبرياء

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارئ اليوم بعضا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

حضرة السيد الفاضل: لي في البلدة التي أسكنها كرامة الحاكم، لأني أشغل وظيفة عالية فيها، وقد بدا لي أن أختلف إلى المسجد لصلاة الجمعة، فاختلفت حتى فاجأني يومًا من الأيام ما لم يكن في الحسبان.

حدث أن صعلوكًا يعرفني، ويعرف مقامي، تمادى في وقاحته وسوء أدبه، حتى وقف بجانبي في الصلاة، فاشمأزت نفسي من هذا الأمر اشمئزازًا عظيمًا، فخفت إن أنا طردته أن يؤاخذني الناس به، فهل تعرف مسوّغًا شرعيًا يفرّق بين درجات الناس في مواقف الصلوات؟ “سائل” يا مولانا الحاكم: رحماك بهذا الصعلوك المسكين الواقف بجانبك، لا تضن عليه بمذقة من ظلك الظليل أن تمتد إليه فتقيه أشعة التصعلك الحارة التي يتلظى فيها، ولا تحرمه نفحة من نفحاتك العطرة التي تهب من بين أردانك عله يجد فيها روح الحياة، ويتنسم منها نسيم السعادة والهناء، فيهدأ ساعة من الزمان عن الشعور بمصائبه ورزاياه، وأحسن كما أحسن الله إليك، إن الله يحب المحسنين.

ليفرج روعك وليثلج صدرك، واعلم أن هذا المسكين الواقف بجانبك لا يستطيع مهما نال منه العدم، وبرح به الشقاء، أن يقتطع قطعة من سعادتك أو يفتلذ فلذة من شرفك، فشرفك كالمصباح تستمد منه المصابيح، ونوره نوره، وبهاؤه بهاؤه. لا تظلم الرجل ولا تقل إنه وقح الوجه، أو سيء الأدب، فإني -بما أعلم من أخلاق هؤلاء البائسين وطباعهم وآمالهم التي تعتلج بها صدورهم وتهتف بها أحلامهم- أعتقد أنه ما وقف بجانبك إلا طمعًا في دورة الفلك التي علت بك، وأنزلتك منازل العظماء، أن تدور به كذلك فتنزل منزلتك، وتعلو به إلى مقامك، فاغفر له جهله وقصوره، فمثلك من يقيل العثرة ويستر الزلة إنك تريد مني أن ألتمس لك من أبواب الشريعة الإسلامية بابًا يسوغ لك طرد هذا الصعلوك المجترئ عليك من موقفه الذي اختاره لنفسه بجانبك فاسمع ما ألقي عليك. إن الذي وقفت بين يديه في صلاتك أعظم شأنًا وأجل خطرًا، من أن يحفل بثوبك اللامع وجبينك الساطع، وردائك المطرز، وقميصك المحبر، وأن يعرف لك من الفضل والشرف أكثر مما تعرف لصاحبك فما كان له أن يأمرك بالتقدم عليه في موقف الصلاة، ولا أن يأمره أن يقف منك موقف العبد من السيد، والمحكوم من الحاكم.

إن للجمعة والجماعة فضائل كثيرة، وحكما جمة، أرادها الشارع منها، وأنك لن تجد بين هذه الحكم، وتلك الفضائل حكمة أغلى، ولا فضيلة أنفس من خلق التواضع الذي يشعر به العظيم عندما يرى أنه قد وقف من الفقير في ذلك الموقف المقدس موقف الأخ من أخيه والكفئ من كفيئه.

إن كنت تريد يا مولانا الحاكم من اختلافك إلى المسجد ألا تترك للفقير موقفًا من المواقف يملك فيه الخيار لنفسه، حتى موقفه بين يدي ربه، فخير لك أن تستصحب معك عند ذهابك شرطتك وأعوانك لتأمرهم فيه بما يرضيك من طرده وإقصاؤه والتنكيل به جزاء له على وقاحته وسوء أدبه، فإن تم لك من ذلك ما أردت، فاحذر أن تنطق بعد ذلك بكلمة العبودية، بعد ما نطقت بكلمة الألوهية، حتى لا تجمع على نفسك بين رذيلتي الظلم والرياء.

فإن كنت تريد الصلاة للصلاة فاعلم أن الله لا يقبلها منك ولا يجزل لك ثوابها، حتى تقف بين يديه موقف من خالطت الخشية قلبه، وملكت عليه السكينة سمعه وبصره، فلم يعد يبصر شيئًا مما حوله، ولا يعلم أواقف هو في صفوف الملوك، أو في زمرة الصعاليك؟

أيها العظماء: ليست العظمة التي تعرفونها لأنفسكم إلا منحة من الفقراء إليكم فلولا تواضعهم بين أيديكم ما علوتم. ولو لا تصاغرهم في حضرتكم ما استكبرتم فلا تجزوهم بالإحسان سوءًا، ولا تجعلوا الكفر مكان الشكر، تستدفعوا النقم، وتستديموا النعم.

أيها العظماء:

ما هذه القصور التي تسكنونها، ولا هذه الدور التي تغمرونها، وهذه الأردية التي تجرون أذيالها، إلا ألوانًا وأصباغًا لا علاقة بينها وبين حقائق نفوسكم، ولا صلة لها بجواهر أفئدتكم وقلوبكم، وما هو إلا أن تطلع عليها شمس الحقيقة حتى تذهب بها ذهابها بألوان السحب وأصباغ الثياب، فإذا أنتم عراة مجردون، ولا تشفع لكم إلا فضائلكم، ولا تنفعكم إلا مواهبكم ومزاياكم.

أيها العظماء:

لا عذر لكم في الكبرياء في جميع حالاتكم وشؤونكم، فإن كنتم من أرباب الفضائل فحري بالفاضل أن لا يشوّه وجه فضيلته برذيلة الكبرياء، أولا، فما تحمل الأرض على ظهرها اسمج وجهًا ولا أصلب خدًّا من جهلة المتكبرين، فانظروا أين تنزلون، وفي أي مقام تقيمون؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك