إِذ قال له ربه أَسلم قال أَسلمت لرب العالمين

إِذ قال له ربه أَسلم قال أَسلمت لرب العالمين

التحرير

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (132)

شرح الكلمات:

أسلمت– أسلم: انقاد؛ تديَّن بدين الإسلام؛ سلَّم أمره لله (الأقرب).

التفسير:

عموما يتعدى الفعل (أسلم) بحرف (إلى)، ولكنه هنا تعدى بحرف (اللام)، ويرى المفسرون أن (اللام) هنا بمعنى (إلى). ولكني لا أرى هذا القول صحيحا، وذلك لأن إبراهيم رد على قول الله (أسْلِم) بقوله (أسلمتُ)..وهذا يتضمن تلقائيا انقياده لله تعالى، لأنه ما كان لينقاد إلا لله فقط. فلم تأت (اللام) هنا ليظهر انقياده لله تعالى، وإنما الحق أنه بين سبب إسلامه فقال: إنني لم أُسلم نفسي لربي ولا أطيعه لمنفعة شخصية. .وإنما أفعل ذلك لأجل رب العالمين، لكي أناله، لأنه محسن لي ولكل العالمين، ولا أحب أن أبقى بعيدا ومنفصلا عنه. وكأن هذا موضوع زائد بيَّنه بقوله (لرب العالمين).

لقد أمره الله (أسْلِم).. أي يا إبراهيم.. لا آمرك فقط ألا تسجد لصنم، وإنما أريدك أيضا أن تسخِّر خطرات قلبك كلية في طاعتي. فأجاب على الفور: أسلمت لرب العالمين. .يا رب، إن كل ذرة من كياني فداء لك. إن عقلي وعملي وذكائي رهن إشارتك، وكل قواي مسخرة في سبيل رب العالمين. كأنه قال: إن حياتي ليست لي، وإنما هي وقف للعالم كله، وأن الشفقة على كل الخلق هي ضمن برنامجي ما دمت مظهرا لصفة (رب العالمين) فلن أهمل خلقه أبدا، ولن أطلب الخير لنفسي فقط وإنما أطلبه للإنسانية جمعاء.

وبقوله (أسلمت) أشار إلى أن كل ذرة من كياني وروحي فداء من قبل الله، فيا رب عامِلْني كما شئت. وبقوله (لرب العالمين) بين أني وقفتُ نفسي لكل العالم. لأني مظهر للصفة الإلهية (رب العالمين). ولما كان سيدنا إبراهيم حائزا على مقام (أسلمت لرب العالمين) دعا قائلا: (ربنا ابعث فيهم رسولا منهم).لم يكن إبراهيم مبعوثا للعالم كله ولذلك التمس: يا رب، ابعث من ذريتي في المستقبل رسولا عظيما لخير الدنيا كلها حتى يستفيد منه خلق رب العالمين.

 وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (133).

التفسير:

يقول الله تعالى إن كلا من إبراهيم وحفيده يعقوب وصّى أبناءه وأكّد عليهم ألا يجعلوا خيرهم محصورا في ذاتهم أو أمَّتهم، بل يوسعوا دائرته ليشمل العالم. والمراد من (الدين) في قوله تعالى (اصطفى لكم الدين) هو خطة عمل لخير الإنسانية جمعاء. وكأن إبراهيم وصّى حتى أولاد أحفاده أن يجعلوا أنفسهم مظاهر الصفة الإلهية (رب العالمين)، وألا يحرموا أمة من الأمم من خيرهم ونصحهم.

قوله تعالى (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) له معنيان: الأول –أن تبقوا دائما في حالة الإسلام. الإنسان لا يعرف وقت الموت.. لذلك من واجبكم أن تظلوا مطيعين لرب العالمين على الدوام؛ فتعيشوا في انقياد تام له حتى إذ جاءكم الموت وجدكم في حالة طاعة كاملة لله.

والثاني- أن تنشئوا مع الله علاقة قُرب بحيث لا يرضى بهلاككم، فلا يميتكم إلا وقد أصبحتم مؤمنين كاملين من أهل رضوانه.

يتبين من القرآن الكريم أن كل إنسان يمر بحالات من القبض والبسط. فحينًا يستغرق في حب الله استغراقا ينسيه الدنيا، وحينا آخر ينهمك في الأمور الدنيوية انهماكا ينسيه ربَّه، ورد في الحديث أن شخصا جاء النبي وقال له يا رسول الله لقد صرت منافقا. قال: كيف؟ قال: يا رسول الله، عندما أكون عندك أصير في حالة روحانية عالية، وعندما أرجع إلى البيت أكون في حالة دون ذلك. قال: لا تخف، لو أن الإنسان بقي في حالة واحدة من الروحانية السامية لأهلكته[1].

الحق أن للقبص والبسط درجات مختلفة. فحالة القبض لدى المؤمن الكامل كحالة البسط عند المؤمن الأدنى منه درجة. والأنبياء أيضا يمرون بحالة من القبض والبسط، ولكن القبض لدى الأنبياء يكون بمثابة البسط لدى الصديقين. ويشير الصوفيون إلى ذلك في قولهم: “حسنات الأبرار سيئات المقربين”

(تشييد المباني في تخريج أحاديث مكتوبات الإمام الرباني، ص34). وهذا يعني أن ما يعتبره الناس حسنة يُعتبر عند الخاصة الكُمَّل في الروحانية سيئة، وأن ما يُعتبر سيئة لدى المتوسطين يُعتبر حسنة عند من هم أدنى منهم درجة. وما دام الإنسان يمر بهاتين الحالتين ولا يعرف وقت الموت، لذلك قال إبراهيم: عليكم أن تزدادوا قربا من الله، فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم أفضل حالة من القرب، ولا يأتيكم ملك الموت لِقبْضِ أرواحكم إلا وأنتم على صلة صادقة بالله تعالى.

 

[1] وأقرب حديث لما ورد في التفسير هو ” عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ الْعَيْنِ فَقُمْتُ إِلَى أَهْلِي وَوَلَدِي فَضَحِكْتُ وَلَعِبْتُ. قَالَ فَذَكَرْتُ الَّذِي كُنَّا فِيهِ، فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: نَافَقْتُ نَافَقْتُ‍‍‍، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا لَنَفْعَلُهُ، فَذَهَبَ حَنْظَلَةُ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا حَنْظَلَةُ لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ أَوْ عَلَى طُرُقِكُمْ. يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً” (ابن ماجة، الزهد)

Share via
تابعونا على الفايس بوك