«فداك أبي وأمي يا رسول الله ما دمت سالمًا فلا أبالي بمن يموت بعد ذلك»

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

وبينما كانت السهام تتساقط غزيرة متسارعة والرسول مثخن بالجراح إذا به يدعو الله قائلاً: «ربِّ اغفر لقوْمي فإنهم لا يعلمون»

غــزوة أُحُــد

بعد فرار جيش مكة من المعركة في بدر، عادوا فأعلنوا عن نيّتهم في مهاجمة المدينة ثانية لينتقموا لأنفسهم من المسلمين لما عانوه في هذه المعركة. وبعد عام واحد شنّوا هجومهم وهم في عدّة تامة. لقد أحسوا بالمهانة وبالعار حتى إن رؤساء مكة حرّموا على أقرباء الذين لقوا مصارعهم في بدر أن يبكوا حدادًا وحزنًا عليهم. وقرروا كذلك أن تساهم أرباح القوافل التجارية في ميزانية الحرب. وهكذا هاجم المدينة جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، كاملي العدة والعتاد والاستعداد تحت قيادة أبي سفيان. وعقد الرسول اجتماعًا للمشورة، وسأل أتباعه ما إذا كانوا يلقون العدوّ في المدينة أو خارجها، وكان هو يُفضل البقاء في المدينة، وأن يأتي العدو المهاجم إليهم في وطنهم، فيضع بذلك مسؤولية العدوان على العدوّ. ولكن تلك الخطة لم تكن مقبولة لدى كثير من المسلمين الذين لم تتح لهم فرصة المساهمة في غزوة بدر، وكانوا في شَوق للقتال في سبيل الله، وأرادوا أن تتاح لهم فرصة قتال مباشر مفتوح، لعلهم ينالون شرف الشهادة في سبيل الله.

وقَبِل الرسول رأيَ الأغلبية، وبينما كان هذا الجدل جاريًا رأى الرسول رؤيا بشأنه، قال:”إني رأيت بقرًا لي تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، ورأيت كأنني أمتطي كبشًا”. وسأله الصحابة عن تفسير ذلك فقال :

“أمّا الدرع الحصينة فالمدينة، وأما انفصام سيفي فأوّلتها أحدًا من أهل بيتي يُقتل أو يموت، وأما البقر المذبح فقتل في أصحابي، وأما الكبش الذي أركب فأوّلته كبش القوم – أي قائدهم – يقتله الله إن شاء الله” (انظر البخاري وابن هشام والطبقات الكبرى).

وكان واضحًا من هذه الرؤيا وتفسيرها أن البقاء في المدينة أفضل للمسلمين، غير أن الرسول لم يصرّ على ذلك، لأن تفسير الرؤيا كان من اجتهاده ولم يكن وحيًا تلقّاه، فقَبِل رأيَ الأغلبية وقرر الخروج للقاء العدو. وبينما هو يعدّ عدّته، راجعت الفئة الأكثر حماسة من أصحابه أنفسهم، وقالوا للرسول بعد أن أدركوا خطأهم: “يا رسول الله، إن ما أشرت أنت به علينا لأحسن، يجب علينا البقاء في المدينة ونلقَى العدوّ في طرقاتنا”. فرد عليهم قائلاً:

“لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. فانظروا ما أمرتكم به فافعلوه وامضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم”. (انظر البخاري والطبقات الكبرى)

ومضى الرسول في قوّة مؤلفة من ألف جندي، وعسكروا على مسافة قليلة من المدينة ليلاً. وكان من عادة الرسول أن يدع قوّاته المقاتلة تستريح قبل لقاء العدو، وفي صلاة الفجر رأى الرسول بعض اليهود وقد انضموا للمسلمين، وزعموا أن لهم معاهدات مع قبائل المدينة، ولأنه كان على معرفة بكيد اليهود فقد صرفهم ليعودوا. وعند ذلك انسحب عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين مع ثلاثمائة من أتباعه قائلاً إن جيش المسلمين أضعف من أن يقوم لعدوّه، وإن دخول المعركة صار موتًا مؤكدًا، وإن الرسول أخطأ عندما أعاد الحلفاء اليهود إلى المدينة. ونتيجة لهذا الانسحاب الذي تم في اللحظة الأخيرة، فقد تبقّى تحت قيادة الرسول عدد لا يتعدّى السبعمائة مسلم، كان عليهم أن يتصدّوا لجيش يفوق أربعة أمثالهم، وأما الفرق بينهما في العدة والسلاح فيفوق أضعاف الفرق في العدد. كان في جيش مكة سبعمائة مقاتل يرتدون الدروع، ولم يكن لدى المسلمين سوى مائة مدرع، وكان جيش مكة يحوي مائتي فرس، بينما لا يملك المسلمون سوى فرسين.

وبلغ الرسول منطقة أُحُد، وعلى ممر مرتفع فوق التلال هناك، وضع خمسين من جنده من الرماة لحراسة الممر، وكلفهم بواجب واضح وهو منع أيّ هجوم على جيش المسلمين من هذا المكان، ومنع استيلاء العدوّ عليه. وأبلغهم الرسول بمهمتهم في جلاء، وأنّ عليهم البقاء صامدين في مكانهم وألاَّ يتزحزحوا عنه حتى يأتيهم الأمر أن يفعلوا، بصرف النظر عما يحدث للمسلمين. ثم ذهب الرسول ليخوض معركته مع 650 من الجنود الباقين ضد جيش يفوقهم عددًا بخمسة أمثالهم تقريبًا، ولكنهم بعوْن الله وفي وقت قصير، شتّتوا جيش العدوّ الذي يتكوّن من ثلاثة آلاف جندي، وراحوا يطاردونهم بعد أن انسحبوا مسرعين.

كان موقع الممر الذي يحرسه الجنود الخمسون خلف ميدان المعركة، فقال الحرس لقائدهم إنّ العدوّ قد هُزم، وهذا وقت الاشتراك في المعركة لنوال الثواب في الآخرة. فأوقفهم القائد، وذكّرهم بأنّ أمر الرسول كان واضحًا، ولكن الرجال فسّروا الأمر بمعناه وليس بحرفيته، فلا معنى للاستمرار في الحراسة بعد هروب العدوّ لينجو بحياته.

النصر يتحول إلى الهزيمة

وبناء على فهمهم هذا ترك الحرّاس الممر، وغاصوا في خضمّ المعركة. وكان خالد بن الوليد.. الذي صار فيما بعد قائدًا عظيمًا من القادة المسلمين.. ضمن جيش مكة المنسحب. وبعينه الفاحصة الحادة لاحظ الممر المهجور، ولم يكن هناك الآن سوَى قلة من الرجال يحرسونه. ونادى خالد على عمرو بن العاص، وهو قائد آخر في جيش المشركين، وطلب منه استطلاع الممر الخلفي، ففعل عمرو ورآها فرصة العمر. وأوقف كل من القائديْن رجالهما المسارعين بالفرار، وانطلقوا يتسلقون الجبل، وقتلوا المسلمين القلة الباقين في الحراسة، ثم بدأوا في الهجوم على المسلمين من موقعهم البارز المتميّز.

وإذا بجيش مكة المنكسر يجمع شتاته ثانية، بعد سماعه لصرخات الحرب الصادرة من رجاله المهاجمين، وعادوا إلى ميدان المعركة. وكان وقْع الهجوم على المسلمين مفاجئًا، إذ كانوا قد تفرّقوا في أنحاء الميدان خلال مطاردتهم لجيش مكة، فلم يتمكن المسلمون من جمع شتاتهم لمقاومة هذا الهجوم الجديد، ولم يكن سوى بعض الأفراد من المسلمين يناجزون العدو، بينما سقط الكثير منهم صرعَى وهم يقاتلون، وتقهقر الباقون، بينما صنعت قلة تبلغ عشرين رجلاً من المسلمين سياجًا من أجسادهم حول الرسول . وهاجم جيش مكة هذه الحلقة المحيطة بالرسول بشراسة، وتحت ضربات سيوفهم تساقط المسلمون المحيطون بالرسول الواحد بعد الآخر، ومن قمة الجبل أطلق الرماة وابلاً من السهام. وفي ذاك الوقت، لاحظ “طلحة” وهو مسلم قرشي من المهاجرين، أن سهام العدو كانت جميعًا مصوّبة نحو وجه الرسول ، فمد يده وستر بها وجهه الشريف. كانت السهام تصيب يده الواحد تلو الآخر ومع ذلك لم تتزحزح ولم تنخفض، مع أن السهام كانت تخترقها مع كل رمية، وتشوّهت اليد إلى أقصى حد، و هكذا فقد طلحة يده، وظل طوال ما بقي من حياته يسعى بيد مشوّهة مشلولة. وفي زمن الخليفة الراشد الرابع للإسلام عندما نشبت فتنه داخلية بين المسلمين، عيّر طلحة أحدُ خصومه بأنه “مقطوع اليد”، فأجاب عنه صديق له قائلاً: “مقطوع اليد؟ نعم، ولكن هل تعلم أين فقد طلحة يده؟ في موقعة أُحُد، حيث رفع يده ليحمي بها وجه رسول الله من سهام العدو”.

وبعد زمن من معركة أُحُد، كان أصحاب طلحة y يسألونه: “ألم يكن وقع السهام يَخز يدك ويجعلك تصرخ من الألم؟ فردّ طلحة: لقد كانت تخزني بالألم وتكاد تجعلني أصرخ، لكنني قاومت الألم والصراخ لأنني كنت أعلم أن يدي لو اهتزت عن مكانها قليلاً لتعرّض وجه رسول الله لوابل من سهام العدو”.

إن الرجال القلائل الذين بقوا مع الرسول لم يكن لهم أن يقاوموا الجيش الذي يواجهونه، فتقدّم قسم من العدوّ ودفعهم بعيدًا فكشفهم عنه، وإذ ذاك وقف الرسول وحده كسدّ منيع، فتعاورته الأحجار حجرًا بعد حجر، الأوّل أحدث به جرحًا عميقًا في جبهته، والثاني جعل حلقتي المغفر تدخلان في خده، وبينما كانت السهام تتساقط غزيرة متسارعة والرسول مثخن بالجراح إذا به يدعو الله قائلاً: “ربِّ اغفر لقوْمي فإنهم لا يعلمون” (مسلم، كتاب الجهاد والسير). ثم انحنى حزينًا ينظر إلى الموتى الذين فقدوا حياتهم وهم يدافعون عنه، وعاد بعض المسلمين ليدفعوا عنه الهجوم المتزايد، فسقطوا صرعَى كذلك، وخرّ رسول الله مغمَى عليه بين هذه الأجساد الصريعة، وعندما رأى العدوّ ذلك حسبوه ميّتًا، فانسحبوا متيقّنين أنهم حققوا النصر المرغوب.

كان عمر بن الخطاب من بين المسلمين الذين دفعهم الهجوم العنيف وأبعدهم عن الرسول أثناء دفاعهم عنه. وكانت ساحة المعركة قد خلت إلا من الغبار الذي ظل يتطاير في الهواء، وأجساد القتلى التي ظلت ملقاة على الأرض، فاستيقن عمر أن رسول الله قد مات لما رأى ذلك المنظر. كان عمر شجاعًا، وقد أثبت ذلك مرارًا، وكان أفضل إثبات لذلك هو قتال إمبراطوريتين في نفس الوقت؛ الروم والفرس، ولم يجفل أبدًا أمام الصعوبات ولا اهتز أمام الشدائد. ومع ذلك، فإن عمر هذا جلس على حجر مبتئسًا، وقد نكّس رأسه، وراح يبكي مثل الطفل الصغير. وفي تلك الأثناء جاء أحد المسلمين، وكان اسمه أنس بن النضر ، وقد تصوّر أن المسلمين قد حققوا النصر، فلقد رآهم يتغلبون على العدوّ، فانسحب من الميدان إذ لم يكن قد ذاق طعامًا منذ ليلة الأمس، ثم عاد ومعه بضع تمرات في يده. وحالما رأى عمر باكيًا توقّف في عجب وسأله: يا عمر ماذا حدث لك حتى إنك تبكي بدلاً من أن تفرح بالنصر العظيم الذي ظفر به المسلمون؟

رد عمر قائلاً بما معناه: “إنك لا تدري ماذا حدث يا أنس، لقد رأيتَ الجزء الأول من المعركة، ولا تعلم أنّ العدوّ انتهز الفرصة واحتلّ الجبل وهاجمنا بعنف شديد. لقد تفرّق المسلمون بعد أن تصوّروا أنهم انتصروا، ولم يجد العدوّ مقاومة إلا من رسول الله وحفنة من حرّاسه الذين صمدوا ضد جيش كامل، وسقطوا جميعًا صرعى وهم يقاتلون”. فقال أنس متسائلاً: “إن كان هذا هو الحق، فما بقاؤنا هنا نبكي؟ فلنذهب إذًا حيث ذهب إمامنا”. كانت التمْرات الأخيرة في يد أنس وكان على وشك أن يضعها في فمه، ولكنه رمى بها بعيدًا قائلاً: “لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه لتكونن حياة طويلة، والله إني لأجد ريح الجنة”. ثم استل سيْفه وألقَى بنفسه في صفوف العدوّ، فكان بمفرده في مواجهة جيش بأكمله من ثلاثة آلاف. لم يستطع أن يفعل الكثير، ولكن روحًا مؤمنة أعظم وأقوَى من جمع غفير. وقاتل أنس بشجاعة، وسقط في النهاية جريحًا، ولكنه استمر يقاتل، وعند ذلك انقضّت عليه جموع العدو، وظلوا يضربونه بسيوفهم بوحشية بالغة. وبعد أن انفضت المعركة، لم يمكن التعرّف على جسد أنس بين القتلى، فقد تمزّق جسده إلى سبعين قطعة. وفي النهاية تعرّفت عليه أخته من أصبع ممزقة بين الأشلاء، فقالت هذا هو جسد أخي. (انظر البخاري).

ولما انسحب العدوّ، عاد المسلمون الذين كانوا في حلقة حول الرسول ثم انكشفوا عنه تحت ضغط هجوم العدو، ورفعوا جسد الرسول من بين القتلى، وقبض أبو عبيده بن الجراح بأسنانه على حلقات المغفر التي انغرست في خدّ رسول الله وجذبها فسقطت ثنيتاه، وبعد قليل عاد الرسول إلى وعيه. وأرسل حرّاسه المحيطون به من ينادي المسلمين ليجتمعوا ثانية إلى نبيّهم. وبدأت تجتمع حوله قوة من المسلمين، رافقته إلى أسفل الجبل.

ورأى أبو سفيان.. قائد العدو.. هذه البقيّة من المسلمين فصاح بصوت عال: “لقد قتلنا محمدًا”. وسمع الرسول الصيْحة المتبجّحة، ولكنه منع المسلمين أن يجيبوه خشية أن يعرف العدوّ الحقيقة فيعاود الهجوم، ثم يضطر المسلمون الجرحَى والآخرون الذين نال منهم التعب والإعياء أن يقاتلوا ضد كل هذا الحشد البربري.

ولما لم يتلقّ أبو سيفان جوابًا من المسلمين، أيقن أن الرسول قد مات، فأردف صيحته الأولى بثانية وقال: “لقد قتلنا أبا بكر أيضًا”. ومنع الرسول أبا بكر أن يرد عليه. فأردف أبو سفيان بصيحة ثالثة وقال: “وقد قتلنا كذلك عمر”. ومنع الرسول عمر أيضًا أن يرد. فصاح أبو سفيان نشوان طربًا بأن الجميع قد قتل، وعندئذ لم يتمالك عمر نفسه فصاح قائلاً: “خسئت يا عدوّ الله. إننا جميعًا أحياء بفضل الله، وعلى استعداد لقتالكم وتحطيم رؤوسكم”. فرفع أبو سفيان عقيرته بالهتاف القومي للمشركين: “أعل هُبَل” (وكان هبل صنم مكة القومي). عندها لم يتحمل رسول الله هذا التباهي ضد الله الذي لا إله إلا هو، والذي لأجله يضحّي هو وجميع المسلمين بكل عزيز لديهم. لقد رفض الردّ على أبي سفيان عندما أعلن عن موته، كما رفض الردّ عندما أعلن عن موت أبي بكر وعمر لأسباب تكتيكية، ولم يكن قد بقيَ له إلا فضلة من قوّة قليلة، وكانت قوات العدو ضخمة، وقد أطربها الفرح، ولكن العدوّ الآن قد سبّ الله تعالى. ولم يتحمّل الرسول إهانة كهذه، فاشتعلت روحه ونظر بغضب إلى المسلمين المحيطين به وقال: “ألا تجيبوا له؟”. قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: “قولوا الله أعْلَى وأَجَلُّ”. ورفع المسلمون هذه الهتافات، فإذا بهتافاتهم وأصواتهم تُذهل العدوّ، وتصيبه بالإحباط بعد أن أدرك أن رسول الله لا يزال على قيد الحياة بعد كل هذا. وأمامهم وقفت حفنة من المسلمين، منهم الجرحَى ومنهم من أنهكه الإعياء، ومع ذلك لم يتجاسر العدوّ على مهاجمتهم مرة أخرى، واكتفوا بما حققوه وعادوا يهللون لنصرهم بفرح وطرب.

لقد تحوّل انتصار المسلمين في موقعة أُحُد إلى هزيمة، ورغم ذلك، فقد أثبتت المعركة صدق الرسول حيث تحققت فيها النبوءات التي أنبأ بها قبل الخروج إلى الميدان. فقد انتصر المسلمون في البداية، وقُتل حمزة .. عمّ رسول الله الحبيب إليه وهو يقاتل وقُتل حامل لواء العدوّ مبكرًا في بداية المعركة، وجُرح الرسول نفسه، كما قُتل الكثير من المسلمين، وكلّ هذا حدث تمامًا كما أنبأ به الرسول في رؤياه.

وبالإضافة إلى تحقّق الأحداث التي سبق الإنباء عنها، فقد قدّمت هذه المعركة دلائل عديدة على إخلاص المسلمين وتفانيهم في حب الله ورسوله. لقد بلغ سلوكهم من المثالية بمكان لم يستطع التاريخ أن يجد ما يوازيه، ولقد سبق أن قصصنا بعض الأحداث التي تثبت هذا بجلاء، غير أن هناك واقعة أخرى تستحق الذكر، وهي تُظهر مدى قوّة الاقتناع واليقين وعمق الولاء الذي أبداه صحابة رسول الله . فعندما تراجع الرسول إلى سفح جبل أُحُد، مع حفنة من المسلمين، أرسل بعض أصحابه لتفقّد الجرحَى في الميدان. ووجد أحد الصحابة بعد طول البحث جريحًا مسلمًا من أهل المدينة، وكان على مشارف الموت، فانحنى الصحابيّ عليه وقال: “السلام عليكم”. ورفع الجريح المسلم يده المرتجفة وأخذ بيد الزائر وقال: “كنت أنتظر أن يأتي إليّ أحد”، فرد الزائر على الجندي قائلاً ما معناه: “إنك في حال حرجة فهل تريد أن أبلغ ذويك وأهلك شيئًا”؟ فرد المسلم المحتضر: “نعم نعم، أقرِئ أهلي السلام وأبلغهم أنني بينما أموت هنا فإني تركت لهم أمانة ثمينة ينبغي عليهم أن يحافظوا عليها بأرواحهم، وهذه الأمانة هي رسول الله . وإنّ وصيّتي إليهم أن لا يخلص العدو إلى رسول الله وفيهم عين تطرف” (الموطأ والزرقاني).

كان لدى المحتضرين الكثير مما يوَدّون قوله لأقربائهم، ولكن هؤلاء المسلمين الأوّلين السابقين لم يكونوا، حتى في لحظات الموت، يُفكرون في أقربائهم ولا أبنائهم ولا بناتهم ولا أزواجهم، ولم يفكروا في ممتلكاتهم، بل كل ما فكروا فيه هو الرسول . لقد واجهوا الموت مستيقنين أن رسول الله قد جاء لينقذ العالم، وأن أبناءهم لو عاشوا بعدهم فلن يحققوا سوَى القليل، ولكنهم لو ماتوا دفاعًا عن رسول الله فسيكونون قد أدّوا حق الله تعالى وحق الإنسانية كلها. لقد آمنوا أنهم عندما يُقْدِمون على التضحية بأنفسهم وبأسرهم فداء لرسول الله، فإنهم يكونون قد أدّوا خدمة جليلة للإنسانية وأرضوا ربهم، وأن موتهم في هذا السبيل هو ضمان الحياة الأبدية للمجتمع الإنساني بأكمله.

وجمع الرسول إليه الجرحَى والقتلى، وتلقّى الجرحَى إسعافاتهم الأوّلية، وتم دفن القتلى. وعلم الرسول أن العدو قد تعامل مع المسلمين بأقصى صوَر البدائية الوحشية؛ فقد مزّقوا أجساد قتلى المسلمين، وقطعوا أذنًا هنا وأنفًا هناك. ومن الأجساد التي مثّلوا بها كان جسد حمزة عمّ الرسول ، فوقف محزونًا بجواره وقال: إن فعل الكفار قد قدم لنا تبريرا لما كنا نعتبره غير مبرر من قبل. حالما قال النبي ذلك أمره الله أن يدَع الكافرين وشأنهم، وأن يظل سائرًا على سبيل الرحمة التي اختطها طوال حياته.

إشاعة عن وفاة رسول الله تصل إلى المدينة

وصلت إلى المدينة إشاعة عن مقتل الرسول وتشتّت جيش المسلمين، وذلك قبل أن تصل بقايا القوّة المسلمة إلى البلدة، وأسرع الأطفال والنساء إلى جبل أحُد في جنون، ومن ثم عرفوا الحقيقة وعادوا مع بقايا الجيش. ولكن امرأة من بني دينار استمرت في المشْي حتى بلغت أحُدًا، لقد فقدت هذه المرأة زوجها وأباها وأخاها في المعركة، وتذكر بعض الروايات التاريخية أنها فقدت أيضًا ولدها. ولقيَها أحد الجنود العائدين وأخبرها أن والدها قد قتل، فقالت: “أنا لا أسألك عن هذا، ولكن أخبرني عن رسول الله”. كان الجندي يعلم أنه لازال حيًا، ومن ثم لم يجب على سؤالها لتوّه ومضى يخبرها عن أخيها وزوجها اللذيْن ماتا أيضا. وفي كل مرة تستمر هي في سؤالها عن الرسول لا تتزحزح عن ذلك: “ماذا فعل رسول الله”؟ لقد كان ذلك تعبيرًا غريب الاستعمال، ولكنا إذا تذكرنا أن امرأة هي التي كانت تتفوّه به زالت الغرابة، فعواطف المرأة قوية، وهي أحيانًا تتحدث إلى الشخص الميّت كما لو كان حيًّا، ولو كان الميّت قريبًا لها فإنها تميل إلى أن تشتكي إليه وتتساءل لماذا تركها وذهب دون أن يهتم بها أو يعتني بها. وهي عادة شائعة عند النساء أن ينُحْن بهذه الطريقة على أعزائهن المفقودين، وعليه فإن تعبيرًا كهذا يناسب امرأة محزونة على موت الرسول . لقد كانت هذه المرأة تعتبر أن الرسول أحبّ إليها من أيّ شخص آخر، ورفضت أن تصدق خبر موته بعد أن سمعت به، وفي نفس الوقت لم تنكر الأنباء، وظلت تقول في حزن نسائي حقيقي: “ماذا فعل رسول الله”؟ وبقولها هذا كانت تتمثل الرسول حيًّا وتشتكي: كيف لقائد مخلص محبّ مثله أن يجرّعهم آلام الفراق عنه.

وعندما وجد الرجل العائد من الميدان أن هذه المرأة لم تهتم كثيرًا بموت أبيها وأخيها وزوجها، أدرك مدى عمق حبها للرسول ، فقال لها: “أمّا رسول الله فهو كما تحبين، حيّ يُرزق”. فطلبت المرأة من الجندي أن يريها إياه، فأشار إلى ركن في ساحة المعركة، فهرعت إليه وبلغت مكان الرسول وأمسكت بطرف عباءته بيديها وقبّلتها وقالت: “فداك أبي وأمي يا رسول الله. ما دمت سالمًا فلا أبالي بمن يموت بعد ذلك”. (انظر ابن هشام)

يمكننا إذن أن نرى مدى العزم والثبات والحب والإخلاص الذي أبداه المسلمون رجالاً ونساءً في هذه المعركة. إن الكُتّاب المسيحيين يقصّون باعتزاز قصة مريم المجدلية ورفقائها، ويحكون لنا عن إخلاصهم وشجاعتهم. وقيل إنهم تسللوا في الساعات الأولى للصباح من خلال اليهود وذهبوا إلى قبر السيد المسيح، ولكن ماذا يكون هذا الفعل بالمقارنة مع إخلاص هذه المرأة المسلمة من بني دينار؟؟

مثال آخر سجله التاريخ. فبعد دفن القتلى وأثناء عودة الرسول إلى المدينة، رأى النساء والأطفال الذين خرجوا إلى ظاهر المدينة للقائه، وكان حبل بغلته في يد سعد بن معاذ سيّد المدينة. كان سعد يقود البغلة بفخر واعتزاز، وكأنه يعلن للعالم كله أنه رغم كل ما حدث، فقد استطاع المسلمون أن يعودوا برسول الله سليمًا معافى إلى المدينة. وحدث أن رأى أمّه العجوز تتقدم لتلقى الجموع العائدة. كانت هذه العجوز ضعيفة النظر جدًا، وعرفها سعد والتفت إلى الرسول قائلاً: “يا رسول الله، هذه أمّي”، فقال الرسول : “دعها تتقدم”. وجاءت المرأة تتقدم إلى الأمام، وببصر كليل حاولت أن تعثر على وجه الرسول ، وأخيرًا، لما استطاعت أن تتبيّنه ظهرت عليها أمارات السعادة.

بلغ الرسول المدينة، ومع أن الكثير من المسلمين قد قُتل وجُرح في هذه المعركة، غير أنه من الصعب القول إنها انتهت بهزيمة المسلمين. والحوادث التي رويناها من قبل تدل على العكس، فهي تثبت أن معركة أُحُد كانت انتصارًا للمسلمين. والمسلمون الذين يقلبون صفحات تاريخهم المبكر يمكنهم أن يستمدوا قوةً وإلهامًا من غزوة أحُد.

وفي المدينة، عاد الرسول مرة أخرى إلى ممارسة مهمّته النبويّة، فانهمك ثانية في تعليم وتدريب أتباعه. ولكن، كما كان الحال فيما مضَى، لم يستمر عمله هذا يمضي طويلاً بلا إعاقة. فبعد غزوة أحُد صار اليهود أكثر جسارة، وبدأ المنافقون يطلون برءوسهم ثانية. لقد ظنوا أن اقتلاع الإسلام قد صار في متناول أيديهم، وما عليهم إلا أن يبذلوا المزيد من الجهد لتحقيق غاياتهم. وبناء عليه، شرع اليهود في استخدام سبل جديدة لإثارة المشاكل والمضايقات، فبدأوا ينشرون السباب في أبيات من الشعر، يهدفون بذلك إهانة الرسول وآل بيته. وحدث مرة أن دُعي الرسول للفصل في خصومة، واضطر للذهاب إلى قلعة يهودية، فدبّر اليهود أمر إسقاط قالب من الحجر عليه ليضعوا نهاية لحياته. وتلقى الرسول إنذارًا مسبقًا من الله تعالى، ولقد تعوّد أن يتلقّى مثل هذه الإنذارات في وقتها المناسب، فترك مجلسه دون أن يلفظ بكلمة، وقد اعترف اليهود بعد ذلك بتدبيرهم الأحمق. وكان اليهود يقومون بالإساءة إلى النساء المسلمات في الطرقات، وفي إحدى تلك الحوادث فقد أحد المسلمين حياته. وفي حادثة أخرى رضخ اليهود رأس فتاة مسلمة بين حجرين وقتلوها بطريقة أليمة. وقد أدّى سلوك اليهود هذا إلى توتر علاقاتهم مع المسلمين، الأمر الذي أعطاهم الحق في قتال اليهود. ولكن المسلمين اكتفوا بإجلائهم عن المدينة، فهاجرت إحدى القبيلتين اليهوديتين إلى الشام، وأما الأخرى فهاجر بعض أفرادها إلى الشام، واستقر البعض الآخر في خيبر؛ القلعة اليهودية الحصينة إلى الشمال من المدينة المنوّرة.

في فترة السلام، بين غزوة أحُد والموقعة التالية، شهد العالم مثالاً بارزًا لا نزاع في أنه يدلّ على مدى تأثير الإسلام في أتباعه، ونحن نشير بذلك إلى تحريم الخمر. وعند وصف الظروف التي كانت تسود المجتمع العربي قبل الإسلام، كنا قد ذكرنا أن العرب كانوا سكّيرين مدمنين، وكان شُرب الخمر خمس مرات يوميًا تقليدًا عاديًا في كل بيت عربي، وأما فقد المرء لوعيه تحت تأثير الخمر فقد كان ممارسة عامة، ولم يكن العرب يشعرون بأيّ خجل من هذا، بل كانوا يعتبرونه فضيلة. وعندما يصل ضيف، كان من واجب الزوجة أن ترسل أدوارا متتابعة من الشراب. وكي يُفطم شعبٌ كالعرب عن هذه العادة المميتة، لم يكن ذلك بالأمر الهيّن.

وفي السنة الرابعة للهجرة، تلقّى الرسول أمرًا بتحريم الخمر، ومع إعلان هذا الأمر اختفت الخمر من المجتمع المسلم. وسجّل التاريخ أنه حين تلقّى الرسول الوَحي بتحريم الخمر، أرسل لأحد صحابته وأمره أن يعلن أمر الله الجديد في طرقات المدينة. وفي تلك الأثناء كان جماعة يشربون الخمر في بيْت أحد الأنصار، كان هناك أشخاص كثيرون مدعوُون، وأكواب كثيرة قد أعدّت للشرب، وجَرَّة كبيرة مليئة بالخمر قد فرغت، وأخرى قد فُتحت للشراب. كان البعض قد فقد وعيه، والبعض الآخر في طريقهم لذلك. وفي هذه الحال سمعوا شخصًا يعلن أن الخمر قد حُرّمت بأمر رسول الله بعد أن نزل إليه وحي الله بذلك. نهض أحد أفراد الجماعة وقال: “يبدو أن هناك إعلانًا ضد شرب الخمر، فلننظر إن كان الأمر كذلك”. فنهض آخر وضرب بعكازه الجرة الفخارية المليئة بالخمر فتحطمت قطعًا وقال: “لنطع الأمر أولاً ثم نستفسر لاحقًا، ويكفينا أن نسمع إعلانًا كهذا، فلا يليق أن نظل نشرب بينما نستفسر عن الأمر، بل ينبغي علينا أن ندع هذه الخمر تسيل في الطرقات أولاً ثم نبحث الأمر بالتفصيل فيما بعد” (انظر البخاري ومسلم كتاب الأشربة). كان هذا المسلم على حق، فلو كانت الخمر قد حُرّمت، لصاروا مذنبين لو استمروا يشربون، ولو لم تكن الخمر قد حُرمت، فلن يكونوا قد خسروا كثيرًا عندما قاموا بترك قدورهم يسيل منها الخمر في الشوارع. ولقد اختفَى شرب الخمر من المجتمع الإسلامي بعد هذا الإعلان. لم تكن هناك حاجة إلى حملة قومية أو جهود خاصة لإحداث هذا التغيير الثوري.

إن المسلمين الذين سمعوا هذا الأمر وشهدوا الاستجابة الفورية التي استُقبل بها، عاشوا بعد ذلك سبعين أو ثمانين سنة، ولم يوجد من بين هؤلاء فردٌ واحد صدر عنه ما يدل على أنه قد شعر بأدنى إحساس بالسخط إزاءه. ولو وُجدت حالة كهذه، فلا بد أنها كانت لواحد من الذين لم ينالوا فرصة وجوده تحت التأثير المباشر للرسول . ولنقارن هذا مع حركة الامتناع عن شرب الخمر الأمريكية، أو الجهود التي بُذلت لترويج فكرة الاعتدال في الشرب ولسنوات طويلة في أوروبا.

في الحالة الأولى كان إعلان بسيط قام به الرسول كافيًا لمحو إثم اجتماعي متفشّ ومتأصّل في أعماق المجتمع العربي.

وفي الحالة الثانية كان المنع مشرّعًا بقوانين خاصة، تساندها الشرطة، والجيش، وضباط الجمارك، ومفتشو الضرائب؛ وكلهم كانوا يبذلون جهودهم المشتركة كفريق موَحد، محاولين القضاء على رذيلة شرب الخمر، ولكنهم فشلوا واضطروا للاعتراف بفشلهم. وفاز السكّيرون، ولم يمكن هزيمة رذيلة شرب الخمر. ويُقال عن عصرنا إنه عصر التقدم الاجتماعي، ولكن حين نقارن عصرنا بعصر الإسلام المبكر فإننا نعجب متسائلين: أيّ العصريْن يستحق هذه التسمية، عصرنا هذا أو العصر الذي أحدث الإسلام فيه هذه الثوْرة الاجتماعية العظيمة.

إن ما حدث في أُحُدٍ لم يكن ليُنسى بسهولة، فأهل مكة رأوا في تلك المعركة نصرهم الأول، ولقد أذاعوا الأخبار في كل أنحاء الجزيرة العربية، واستخدموها لإثارة قبائل العرب ضدّ الإسلام، ولكي يقنعوهم أن المسلمين ليسوا مستعصين على الهزيمة. وإذا كانوا قد حققوا نجاحًا وازدهارًا، فلم يكن ذلك بسبب قوّة سرّية كامنة فيهم، بل كان بسبب ضعف المتمسّكين بالمعتقدات العربية وضعف الوثنيين العرب، ولو قام العرب الوثنيون بعمل مشترك، فلن يكون من الصعب القضاء على المسلمين. وبدأت حملات الكراهية ضد المسلمين تشتد نتيجة لهذه الدعاية، وأخذت القبائل العربية الأخرى تنافس أهل مكة في إزعاج المسلمين، وراح بعضهم يهاجمهم جهارًا، بينما أوْقع البعض بالمسلمين الكثير من الخسائر في الأرواح.

ففي السنة الرابعة للهجرة، أرسلت قبائل عضل والقارة ممثلين عنهم إلى الرسول الكريم ، ورفعوا إليه التماسًا يطلبون أن يرسل إليهم بعض المسلمين المتضلعين في تعليم الإسلام والقرآن، ليعيشوا بينهم، ويعلّموهم الدين الجديد، حيث إن الكثير من رجالهم قد مالوا إلى الإسلام.

كانت هذه في الحقيقة مكيدة مدبّرة رسم خطوطها بنو لحيان، رأس أعداء الإسلام. فقد أرسلوا هذا الوَفد إلى الرسول ، ووعدوا أفراد الوَفد بمكافأة ثمينة.

تلقّى الرسول الطلب دون أن يرتاب فيه، وأرسل لهذه القبائل عشرة من المسلمين ليعلموهم مبادئ الإسلام وعقائده. وعندما بلغ الجمع أرض بني لحيان، جاءت الأخبار إلى رجال القبيلة تأمرهم بالقبض على النفر المسلم أو قتلهم، وبناء على هذا الإيعاز الآثم، خرج مائتا رجل مسلح من بني لحيان لمطاردة النفر المسلم حتى أدركوهم في النهاية عند مكان يقال له “الرجيع”. وحدثت منازلة بين عشرة مسلمين ومائتين من العدوّ، كان المسلمون مملوئين بالإيمان واليقين، ولم يكن لدَى العدوّ من ذلك شيء. وتسلق المسلمون العشرة قمة من القمم وتحدّوا المائتين، وحاول العدوّ أن يتغلب على المسلمين بمكيدة آثمة، فعرضوا عليهم أن يُبقوا على حياتهم إذا هبطوا إليهم، ولكن قائد المجموعة ردّ بأنهم رأوا ما يكفي من وعود الكافرين. ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى بالدعاء، وهو سبحانه العليم بهم، فقد أخبر نبيّه بما هم فيه. وعندما رأى الكافرون ذلك النفر الصغير بهذه الصلابة الشديدة، بدأوا في مهاجمتهم. فقاتل النفر دون أن تطرق خواطرهم الهزيمة، فسقط سبعة منهم وهم يقاتلون. وأعاد الكافرون وعودَهم على مسمع الثلاثة الباقين بالإبقاء على حياتهم لو هبطوا إليهم من القمّة، فصدّقهم الثلاثة واستـسلـموا. وبمجرّد أن فعلوا ذلك أوْثقوهم بسيور القسي، فقال أحد الثلاثة: “هذا أول الغدر والله يعلم ما أنتم صانعون بعد”، وأبى أن يصحبهم، فجرّوه واعتدوا عليه ليصحبهم فأبى، فلما هالهم ما أبداه من مقاومة قتلوه في ذلك المكان. وانطلقوا بالاثنين الآخرين وباعوهما كعبيد إلى قريش في مكة. كان أحدهم الصحابي خُبَيْب ، والثاني كان زيد بن الدثنة ، وكان الذي اشترى خُبيْبا يريد قتله انتقامًا لأبيه الذي قتله خُبيْب يوم بدر. وفي أحد الأيام طلب خُبيْب شفرة للحلاقة، وكان الموسى في يد خُبيْب عندما دخل طفل من أهل البيت واقترب منه في فضول، فأخذ خُبيْب الطفل وأقعده على ركبتيه بحنان. ورأت أمّ الطفل ذلك فأصابها فزع شديد، إذ لم يخطر على بالها إلا كلّ التوَقعات السيئة، فذاك رجل سيقومون بقتله خلال أيام يمسك بشفرة حادة خطرة قريبًا من ولدها، فلم يخطر ببالها سوى أن خُبيْباً يريد قتل الطفل. ورأى خُبيْب الفزع المرتسم على وجه المرأة، وأدرك ما تفكر فيه فقال: “هل تتخيلين أني سأقتل الطفل؟ هل يخطر ببالك لحظة أني أفعل ذلك؟ إنني لا أستطيع أن أرتكب هذا الغدر الدنيء، فالمسلمون لا يغدرون بأحد”. وتأثرت المرأة بصدق خُبيْب وأمانته وخلقه القويم، وظلت تذكر هذا دائمًا، وكانت تقول إنها لم تر مطلقًا سجينًا مثل خُبيْب.

وفي نهاية الأمر، قاد أهل مكة خُبيبًا إلى ساحة مفتوحة للاحتفال بقتله أمام الملأ. ولما حانت اللحظة المرتقبة، طلب خُبيْب أن يتركوه ليصلي ركعتين، فوافقت قريش. وتوَجّه خُبيْب إلى الله بآخر صلواته في هذا العالم أمام الجمهور، وعندما سلّم في نهاية الصلاة قال: “والله لولا أن تقولوا إن ما بي جزعٌ لزدت”. ثم أسلم عنقه إلى الجلاد في هدوء، وتمتم وهو يفعل ذلك بهذه الأبيات:

وولم يكد خُبيْب يتم غمغمته بهذه الأبيات، حتى نزل سيف الجلاد على عنقه، وسقط رأسه جانبًا. وكان سعيد بن عامر واحدًا من الحشد الذي حضر هذا الإعدام العلني، وقد صار مسلمًا فيما بعد. ورُوِي أنه كان كلما سمع قصة قتل خُبيب تُذكر في حضوره، كانت تصيبه نوبة من الغثيان.

وأخذوا السجين الآخر زيد بن الدثنة ليقتلوه. وكان أحد المشاهدين هو أبو سفيان؛ سيد مكة. فالتفت إلى زيد وسأله: “ألا يسرك أن يكون محمد في مكانك لنضرب عنقه بينما تكون أنت في أهلك”؟ فأجاب زيد بأنَفَة واستنكار: “ماذا تقول يا أبا سفيان؟ لا والله، ما يسرّني أني في أهلي وأن رسول الله في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه”. وبهت أبو سفيان لهذا الإخلاص والحب. ونظر إلى زيد مذهولاً وقال بلا تردد، ولكن في نبرة حذرة: “والله ما رأينا أحدًا يحبّ أحدًا مثل ما يحبّ أصحاب محمد محمدًا”. (انظر ابن هشام جزء 2)

لقد تحوّل انتصار المسلمين في موقعة أُحُد إلى هزيمة، ورغم ذلك، فقد أثبتت المعركة صدق الرسول حيث تحققت فيها النبوءات التي أنبأ بها قبل الخروج إلى الميدان….

وحول ذلك الأوان جاء وفد من نجد أيضًا إلى الرسول يسألونه إرسال بعض المسلمين كي يعلموهم الإسلام. ولم يثق بهم الرسول ، ولكن أبا البراء سيد قبيلة عامر، تصادف أن كان موجودًا بالمدينة وقتها، فعرض أبو البراء أن يجير الوفد، وأكد للرسول أن أهل نجد لن يفعلوا سوءًا بالمسلمين، فاختار الرسول سبعين رجلاً من قراء القرآن وحُفّاظه، وأرسلهم مع أبي البراء حتى بلغوا بئر معونة.

ذهب واحد من الرهط المسلم، وهو حرام بن ملحان ، إلى عامر بن الطفيل سيد قبيلة بني عامر، ابن أخي أبي البراء، ليبلغه برسالة رسول الله. وفي ظاهر الأمر تم استقباله بترحاب، ولكنه بينما كان يخاطب سيدهم، انسل رجل خلف حرام وطعنه برمح فقتله لساعته. وبينما كان الرمح يخترق عنق حرام سمعوه يقول: “الله أكبر، فزتُ ورب الكعبة”. (البخاري).

وبعد قتل حرام بهذا الشكل الخسيس. استنفر زعيم القبيلة بني عامر لفوره إلى قتال الباقين من المعلمين المسلمين، ولكنهم أبوا عليه ذلك بسبب البراء، فاستنفر القبيلتين اللتين كانتا قد ذهبتا إلى الرسول تطلب منه المعلمين وقبائل أخرى معهم، فأجابته قبائل عصية ورعل وذكوان، وهاجموا وفد رسول الله.

ولم تجْد مناشدتهم الواضحة السهلة أثرًا عند المعتدين عندما قالوا لهم إنهم قد جاءوا للتبليغ والتعليم وليس للحرب والقتال. فأعملوا فيهم ضربًا وتقتيلاً حتى قتلوهم جميعًا، السبعين، ما عدا ثلاثة. أحدهم كان أعرج، وكان قد تسلق قمة جبل قبل بداية المنازلة، والاثنان الآخران كانا يرعيان سرح المسلمين، وهما عمرو بن أميّة الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر، فلما عادا وجدا ستة وستين من أصحابهم مقتولين. فتشاورا وقال عمرو بضرورة إبلاغ الرسول عما حدث، وعارض المنذر مغادرة المكان الذي أمرهم أميرهم بالانتظار فيه، وراح وحده يقاتل المشركين حتى قُتل مع أصحابه، وأُسِر عمرو ابن أمية، فلما أخبر أنه من مضر، جز عامر ناحيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.

كان في القتلى عامر بن فُهَيرة، الذي اعتقه أبو بكر ، قتله جبّار الذي أسلم بعد ذلك. وذكر جبّار أن سبب تحوّله للإسلام كانت هذه المذبحة الهائلة للمسلمين. وقال: “عندما أردت قتل عامر سمعته يقول: “فزتُ ورب الكعبة”، فسألته: يا عامر، لماذا يقول المسلم شيئًا كهذا عندما يلقى حتفه؟ فأجاب عامر موضحًا: إن المسلمين يرون الموت في سبيل الله سعادة ونصرًا”. وتأثر جبار تأثرا عميقًا بهذه الإجابة، فبدأ في دراسة منظمة للإسلام، تُوّجَت بإسلامه (ابن هشام وأُسد الغابة).

وصلت أخبار الحادثتين إلى المدينة متزامنتين، حادثتان راح ضحيتهما ثمانون رجلاً تقريبًا من المسلمين نتيجة للمكر السيئ. لم يكن هؤلاء القتلى أناسًا عاديين، بل كانوا من حملة القرآن. لم يقترفوا جُرمًا، ولم يُشكلوا خطرًا على أحد، ولم يدخلوا في معركة، بل وقعوا في شباك العدوّ بسبب كذبة قيلت تحت اسم الله والدين. هذه الحقائق كلها تدل بدلالة قاطعة على أن العداوة للإسلام كانت على درجة كبيرة من العمق والتصميم. وفي المقابل، فإن حماسة المسلمين وحميتهم للإسلام كانـت على نـفس الدرجة من العمق والتصميم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك