حوار الحضارات والديانات، حقيقة أم نفاق؟

حوار الحضارات والديانات، حقيقة أم نفاق؟

أيمن عودة

طبيب، باحث، كاتب وشاعر

لقد تابعت عن كثب في الصحافة العربية والعالمية ردود فعل الشارع الإسلامي، تجاه تصريحات البابا بندكت السادس عشر حول الإسلام ونبي الإسلام، وكذلك الاعتذارات الغامضة التي قدمها البابا بعد ردة الفعل الغاضبة التي اجتاحت العالم الإسلامي. وقد تباينت ردود الفعل الإسلامية بين استدعاء سفراء الفاتيكان ومطالبة البابا بالاعتذار وتوضيح موقفه تجاه الديانة الإسلامية – وهي من الردود المقبولة طبعا ومن حق المسلمين المطالبة بها –  وصولا إلى تهديد البابا بالانتقام منه بحجة أنه يجب قتل من يتهجم على الإسلام ونبيه، وكذلك التعرض للكنائس وقتل راهبة وحارسها. وهي من ردود الفعل التي لا يمكن القبول بها ولا يمكن السكوت عليها، حيث إنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل من شأنها أن تصب في مصلحة الاتهامات التي ذكرها البابا بحق الإسلام.

كل هذا في ظل الحديث عن حوار الحضارات والحـوار بين أهـل الديـانات المختلـفة، والذي يؤكد عليه كلا الطرفين الإسلامي والمسيحي من أجل جسر الهوة وتقريب وجهات النظر. وقد استوقفني هذا الحديث عن حوار الحضارات والديانات في خضم المعمعة التي أثارتها اقتباسات البابا متسائلا عن مدى الصدق في هذا الحوار المزعوم والنتيجة المتوخاة منه إن كان من الممكن الوصول إلى أي نتيجة فيه؟

إنه لمن الصعب تقبُّل حديـث البـابا عن حوار الحضارات بعد الاقتباسات التي أوردها ضد الإسلام والنبي محمد  والضجة التي أثارتها في العالم الإسلامي، كما أنه من الصعب أن يصدق المسلمون الاعتذارات التي أتت بعد كل ذلك سواء كانت غامضة أو واضحة، وذلك لأن إقحام البابا تلك المقتبسات خلال محاضرته دون إبداء رأيه تجاهها في المحاضرة نفسها، لا يمكن فهمه إلا أنه يتبناها ويريد أن يعمل للترويج لها خاصة أمام حشد من المثقفين في جامعة أو كلية أيا كانت.

واليوم يسعى تلاميذ هؤلاء من رجالات الدين والمثقفين للنيل من الإسلام ونبيِّه بعرض نفس هذه الاتهامات من جديد بصورة أقوى وأكبر مما كانت عليه من قبل نظرا للاستعانة بطرق الإتصال الحديثة كالفـضائيات والإنترنت وهو ما يجعل هذه الموجة أقوى وأخطر مما كانت عليه سابقا.

الحقيقة المرة التي لا بد من الإشارة إليها أن البابا لم يكن سباقا في عرض هذه الاتهامات ضد الدين الإسلامي، وهو ليس الوحيد في هذا الميدان، بل إننا نشهد في الآونة الأخيرة موجةً من الهجوم اللاذع على الاسلام من قبل بعض القسس ورجالات الدين المسيحي، لا بل وبعض المثقفين والسياسيين الغربيين الذين جعلوا من التهجم على الاسلام شغلهم الشاغل بنفس الاتهامات التي أدلى بها البابا في محاضرته التي تتلخص بما يلي:

  1. الإسلام دين دموي إرهابي يحض ويشجع على قتل الأبرياء.
  2. الإسلام لا يعترف بحرية الرأي والحرية الدينية بل يُكره الآخرين على الدخول فيه.
  3. الإسلام انتشر بقوة السيف.
  4. الإسلام لا يتمشى مع المنطق والعقل بل يمنع أتباعه من التساؤل في شتى الأمور.
  5. التعرض للقرآن الكريم من حيث اللغة والنصوص والتشكيك في مصداقيته بشكل عام.
  6. التعرض للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وكذلك اتهــامـات واعتراضات أخرى مختلفة. إن هذه الموجة الشرسة من الهجوم الفكري على الديانة الإسلامية التي توَّجتها تصريحات البابا بنفسه، ليست وليدة الساعة بل إنها تعود إلى ما قبل مئات السنين كما يظهر من اقتباس البابا للامبراطور البيزنطي من العصور الوسطى، ولكنها أخذت زخما جديدا وكبيرا أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في مناطق مختلفة من العالم عندما غزا الغرب الدول الشرقية بخيله ورجله، حيث صحبته ثلة من القسس ورجالات الدين المسيحي التي عملت جاهدة على تنصير الشرق بأكمله أمثال القس الدكـتور فاندر (DR C.G.Pfander)   الذي عمل في التبشير المسيحي في الهند. كما ولعب المستشرقون أمثال جورج سيل ودوزي دورا فعالا في هذه الهجمة الفكرية على الإسلام حيث روجوا لهذه الاتهامات بشكل كبير وسعوا جاهدين على تـشويه التاريخ وصياغته صياغة جديدة من أجل تشويه الصورة الحقيقية للديانة الاسلامية. واليوم يسعى تلاميذ هؤلاء من رجالات الدين والمثقفين للنيل من الإسلام ونبيِّه بعرض نفس هذه الاتهامات من جديد بصورة أقوى وأكبر مما كانت عليه من قبل نظرا للاستعانة بطرق الإتصال الحديثة كالفـضائيات والإنترنت وهو ما يجعل هذه الموجة أقوى وأخطر مما كانت عليه سابقا.

إن هذه الأعمال القسرية للنيل من الديانة الإسلامية في مثل هذه المساحة الواسعة من الزمن وبهذه الضراوة والشراسة لا يمكن أن تكون مجرد هواية لبعض الهواة من العلماء ورجالات الدين بل إنها تؤكد أن المؤسسة الدينية المسيحية جعلتها من أجندتها اليومية وتعمل عليها وعلى تدريسها لمريديها ومتبعيها بصورة منهجية أو غير منهجية، بل وأخشى أن تكون قد جعلتها مضمارا للتسابق بينها فتارة يطل علينا القمّص القبطي وتارة البابا الكاثوليكي وكأن الكنائس والطـوائف المسيحية على اختلافاتها الكبيرة وجدت لها قاسما مشتركا وهو التهجم على الإسلام.

كل هذا الهجوم الشرس  يتبعه ماذا؟  ومن له أن يصدق؟…. الحديث عن حوار الحضارات …. يا للسخرية ويا للمفارقة.

ولا يظنن أحد أنني لكوني مسلما عمدت على اتهام المؤسسة الدينية المسيحية وتحميلها وحدها المسؤولية إزاء هذه الهجمات التي تشن على الدين الاسلامي من قبل أتباعها بل إن جزءا من المسؤولية في رأيي يقع على المسلمين أنفسهم وبالأخص المؤسسة الدينية الإسلامية التي لا تتوانى هي الأخرى عن الحديث عن حوار الحضارات والحوار بين أهل الديانات كما ظهر من ردود الفعل الإسلامية على تصريحات البابا. فكيف للمسلمين وللمؤسـسة الدينـية الإسلامية أن تتحدث عن هذا الحوار مع كون الكثير من النظريات والأفكار الإسلامـية التي تعـتبر جزءا لا يتجزأ من الفكر الإسلامي المعاصر التي تؤمن بها الكثير من الفرق الإسلامية، تحث على ما يهدم وينقض هذا الحوار؟ وباعتبار هذه النظريات والأفكار من المسلمات الثابتة في الفكر الإسلامي لا يجرؤ الكثيرون على التحدث عنها والاعتراض عليها رغم أنها لو درست دراسة استقرائية موثقة لوجدت أنها لا تمت إلى الإسلام الحقيقي الذي جاء به سيدنا محمد بصلة، ولا بد هنا من ضرب بعض الأمثلة على هذه النظريات:

  1. مسألة الجهاد بمفهومها السطحي السائد بين عامة المسلمين، والإيمان بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وما ترتب عنه عبر الزمن بقيام العلماء المسلمين بتقسيم العالم إلى قسمين، دار الحرب ودار الإسلام، وضرورة إخضاع دار الحرب تحت السلطة الإسلامية بالقوة.
  2. نظرية قتل المرتد عن الإسلام، وهي التي لا تتيح للمسلم أن يغير دينه وتحد من تفكيره وتقيده من البحث عن الحقيقة إن كان يشك في حقيقة دينه.
  3. مسألة التكفير التي تحض على عدم تقبل الرأي الآخر إلى درجة إهدار دم المخالفين والمعارضين في الرأي وهو ما ترتب عليه ونتج عنه معظم المصائب وإهراق الدماء في التاريخ الإسلامي.
  4. نـظرية النـاسخ والمنسوخ في القـرآن الكريم التي من بين نتائجها السلبية على الفكر الإسلامي أنها تقوض من أركان التعاليم السلمية التي يحث عليها القرآن الكريم.

هذا بالإضافة إلى أفكار ونظريات أخرى لا مجال لذكرها هنا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه النظريات خاصة الجهادية منها هي التي تمتـطيها بعض الحركات الإسلامية الدينية والسياسية من أجل شرعنة أعمال العنف المختلفة التي تقوم بها، واستخدامها للقوة التي قد يذهب ضحيتها الأبرياء من الناس، وهي نفسها التعاليم التي أفرزت إلى هذا العالم بن لادن والظواهري والزرقاوي وغيرهم ممن يمتطي الإسلام لتحقيق مصالح سياسية مختلفة.كما وهي نفس النظريات التي تتيح لبعض السياسيين أو حتى الحركات والأحزاب الدينية الأكثر اعتدالا من بن لادن أن تصبغ الصراعات السياسية التي تعم العالم الإسلامي بصبغة دينية إسلامية، الأمر الذي من شأنه أن يظهر للعالم وكأن الدين الإسلامي هو المسؤول الأول عن هذه الأعمال التي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء وهو ما صبغ الدين الإسلامي بصبغة حمراء وأظهره للعالم بأسره أنه دين الإرهاب وسفك الدماء.

إن هذه الأفـكار والنظريات التي تؤمن بها بعض من قطاعات جماعات وأفـراد من المسلمين هي الذريـعة الرئيسية للهجمات التي يشنها غير المسلمين على الديانة الإسلامية، حيث يستخدمها هؤلاء المغرضون من أجل عرض الإسلام وكأنه كله يتلخص بهذه النظريات البالية دون الأخذ بعين الإعتبار أنها مجرد نظريات واجتهادات خاطئة لعلماء الدين الإسلامي. ولهذا فإن جزءا من المسؤولية بل وجزءا كبيرا منها -في هذه الهجمة التي تشن على الديانة الإسلامية – يقع على رأس مثل هؤلاء المسلمين وإقناع الغرب والإخوة المسيحيين بالنية الصافية للقيام بهذا النوع من الحوار؟ فكيف يمكنهم عرض الدين الإسلامي للعالم بأسره على أنه دين السلام والمحبة والأخوة وحرية الرأي، في نفس الوقت الذي يأخذون به بهذه النظريات والتفاسير – التي لا تمت إلى الإسلام بصلة قريبة أو بعيدة – لمجرد أنها وضعت من قِبل هذا العالم أو ذاك قبل قرون عديدة دون القيام بعملية نقدية نزيهة لها.

إنني لا أشكك في نوايا الكثيرين من أهل الديانتين بصفاء نياتهم على القيام بمثل هذا النوع من الحوار، ولكن كل الجهود سوف تذهب هباء و أدراج الرياح إن لم تقم المؤسـستان الدينيـتان الإسلامية والمسيحية بعملية نقد ذاتي مسبقة، من أجل التخلص من الأفكار العدائية التي تحتضنها تجاه الدين الآخر…

ومن ناحية أخرى على المؤسسة الدينية المسيحية أن لا تكتفي بالإعلان والترويج للحوار المرجو بين أهل الديانات بل عليها أن تقوم بعملية نقد ذاتي للتعاليم التي تؤمن بها وتروج لها بما يخص الدين الإسلامي وأن تقـاوم بنفسها تلك الهجمة الشرسة التي تشن ضد الديانة الإسلامية من قبل بعض القسس ورجال الدين المسيحي وذلك بمنع التعرض لشخص الرسول محمد وعلى عِرضه وأخلاقه. إنني لا أتوقع من هذه المؤسسة أن تقوم بعملية دفاعية عن الدين الإسلامي ولكن على الأقل أن تحافظ على احترام المقدسات الإسلامية في أي نقد توجهه ضده. وأن تمتنع عن نشر الأفكار التي من شأنها أن تثير مشاعر المسلمين في العالم، أما إذا لم تقم بهذه العملية فسيبقى حديثها هي أيضا عن حوار الحضارات مجرد مداهنة ورياء.

إن الحوار بين أهل الديانات لهو أمر في غاية الأهمية ولا بد من جميع الأطراف العمل على إنشائه وتطويره من أجل أن يفهم كل طرف حقيقة الطرف الآخر والديانات التي لا يؤمن بها، إلا أن هذا الحوار يجب أن لا يقتصر على مجرد اللقاءات الشكلية لزعماء الديانات المختلفة وما يرافقها من مآدب الطعام والاحترامات الشكلية التي تعودنا عليها. بل إن هذه اللقاءات لا بد أن تحوي نقاشا بناء عن المعتقدات الدينية لدى كلتا الديانتين، بحيث يحاول كل طرف تبيان محاسن دينه حسب رأيه مع طرح الأسئلة الناقدة للطرف الآخر من أجل تلقي الأجوبة الشافية عليها. إن توجيه أي نقد تجاه أي ديانة هو حق لمن يريد ذلك ما دام هذا النقد يراعي شروط النقد البناء الذي يوجب احترام الطرف الآخر، وعلى الأخص احترام مؤسسي الأديان المختلفة سواء في مضمون النقد أو بالأسلوب الذي يعرض فيه. فعلى سبيل المثال في مثل هذ الحوار أو هذه اللقاءات يحق للبابا أن يعرض الإنتقادات التي ساقها في محاضرته للطرف المسلم متسائلا عن مدى مصداقيتها، من أجل سماع ما عند الطرف الآخر من رد عليها، ليُترك الأمر في النهاية للملأ للحكم في هذا الموضوع أو أي موضوع آخر يطرق في مثل هذه المناسبات، فشتان ما بين هذه الوضعية وتلك التي أدلى بها البابا بتصريحاته دون أي مبرر ودون أن يعبر عن رأيه تجاهها، الأمر الذي من شأنه أن يومئ بأنه يقف من ورائها ويؤيدها.

إنني لا أشكك في نوايا الكثيرين من أهل الديانتين بصفاء نياتهم على القيام بمثل هذا النوع من الحوار، ولكن كل الجهود سوف تذهب هباء و أدراج الرياح إن لم تقم المؤسـستان الدينيـتان الإسلامية والمسيحية بعملية نقد ذاتي مسبقة، من أجل التخلص من الأفكار العدائية التي تحتضنها تجاه الدين الآخر، وإن لم تفعل ذلك سيبقى كل حديثها عن الأخوة والتسامح بين أهل الديانات مجرد تملق ومداهنة ونفاق ليس إلا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك