حضرة أمير المؤمنين يرد على مطاعن البابا

حضرة أمير المؤمنين يرد على مطاعن البابا

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِين * الرحْمـنِ الرحِيمِ * مَالِكِ يَوْم الدينِ * إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَا الصرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضالينَ *‏

نُشر البارحة خبرٌ مفاده أن “البابا” قد تطرق إلى موضوع التعاليم الإسلامية خلال كلمته في إحدى الجامعات بألمانيا، ونسب إلى الإسلام ومؤسسه والقرآن الكريم – نقلاً عن شخص آخر – أمورًا لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.

هذه طريقتهم المعتادة حيث يذكرون بكل دهاء أمرًا ما بلسان شخص آخر، بهدف أن يقولوا ما يحلو لهم بدون أن يُنسب الكلام إليهم. إن “البابا” لم يقدم بحديثه هذا عن القرآن الكريم والنبي تصورًا خاطئًا فحسب – مما أثار القلق والاضطراب عند المسلمين – بل إن تصريحاته تنمّ عن مشاعره القلبية تجاه الإسلام.

نظرًا إلى المكانة التي يحتلّها البابا في العالم ما كان لائقًا به أن يتفوه بمثل هذا الكلام، مِن أي منطلق كان، ولاسيما في هذه الآونة التي تثار فيها مشاعر النفور والكراهية ضد المسلمين في العالم عمومًا وفي الغرب خصوصًا. فإن كلام البابا في هذه الفترة بالذات لهو بمنـزلة إلقاء الزيت على النار.

كان يجدر به أن يقول بأنه على الرغم من أن بعض المنظمات الإسلامية الشريرة قد تبنّت موقف التزمت والعنف، إلا أن تعاليم الإسلام تهدف نحو إرساء دعائم السلام والأمن، لذلك فلا بد أن نتكاتف ونكثف الجهود حتى ننقذ الإنسانية البريئة من الدمار. وبدلاً من ذلك قد أوهم “البابا” بكلامه السالف إلى أتباعه أن هذا هو تعليم الإسلام حقيقة.

كنت أظن أن “البابا” رجل مثقف وعالِم، ولا بد أنه يعرف شيئًا من تعاليم الإسلام، غير أنه بقوله السالف قد أثبت عدم معرفته بالتعاليم الإسلامية.

كان ينبغي للبابا أن يسعى لإحلال السلام في العالم عملاً بتعليم المسيح الذي يدّعي هو بكونه خليفة له؛ إذ كان ذلك التعليم يحض على الإحسان إلى العدو أيضًا. غير أن كلام البابا ضد النبي والإسلام قد أدى إلى تجريح مشاعر المسلمين من ناحية.. فمن يفقد السيطرة على نفسه وضبط مشاعره من المسلمين سيُقدِم على أعمال سيستغلها هؤلاء “القوم” لمضاعفة الدعاية ضد الإسلام.. ومن ناحية ثانية إن أتباع البابا وأهل الغرب الذين يعتبرون الإسلام دين العنف والإرهاب ستمتلئ قلوبهم بالنفور والكراهية ضد المسلمين أكثر مما هي عليه. ندعو الله تعالى أن يرحم الجميع وينجي العالم من الفتن والفساد.

فأوّلاً يجب أن نكثر من الدعاء ونداوم عليه، ثم يجب أن نرد، في جميع البلاد، على المطاعن التي أثيرت في خطاب “البابا”. لا سلاح لنا سوى هاتين الحربتين اللتين سوف نستخدمهما بتوفيق من الله تعالى. أما أي رد فعل سواهما فلم ولن يَظهر من أي مسلم أحمدي بإذن الله.

ثم إنهم لا ينظرون إلى ما حصل من حروب في التاريخ المسيحي، وما قامت به المسيحية في “أسبانيا” من مجازر أيام محاكم التفتيش، فبأية نظرة ينظرون إليها؟ أنا لا أريد الخوض في التفاصيل لأن الجميع يعرفون هذه الأمور.

الآن أقرأ عليكم ملخص الاعتراضات التي قد أثارها البابا على القرآن ونبينا الكريم ، وقد حصلت على تفاصيلها من جماعتنا في ألمانيا.

يقول البابا: “لقد قرأت حوارًا نشره أحد الأساتذة الجامعيين في ألمانيا. وقد جرى هذا الحوار في عام  1391م في أنقرة بين الإمبراطور المسيحي “مانويل الثاني” وعالِم فارسي. ثم قام الإمبراطور بكتابة الحوار ونشره”.

أقول: إذًا فإنهم يعترفون بأن الحوار قد نُشر من قبل الإمبراطور المسيحي، لذلك فلا بد أنه قد أعطى الأولوية لنفسه فأسهب بكلامه هو. ومن هنا نستكشف الأمانة العلمية لهذا المسيحي بحيث إنه أورد كلامه أكثر من العالم المسلم.

على أية حال، يقول “البابا” عن الاعتراضات التي أثارها: “إني أتناول نقطة مهمة وهي أن الإمبراطور يذكر الجهاد، وهو يعلم آية رقم 256 من سورة البقرة وهي: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “. ثم يقول “البابا”: “إن الإمبراطور كان أيضًا يعرف التعاليم المتأخرة والمتعلقة بالحرب والجهاد التي ذكر القرآن تفاصيلها. منها أنه ينبغي التفريق في التعامل مع الكفار ومع أهل الكتاب”.

وأقول: إن هذا الكلام الأخير أورده البابا من عند نفسه.

ثم يقول: “إن الإمبراطور يستخدم، بشكل محير، كلمات قاسية في توجيهه الأسئلة الأساسية إلى صاحبه، ويتكلم عن العلاقة بين الدين والإكراه. ثم يقول: ما هو الجديد الذي جاء به محمد؟ لن تجدوا سوى التعاليم الشريرة وغير الإنسانية، وبأن يُنشر دينه بحد السيف”.

ثم يقول الإمبراطور: “لماذا يكون نشر الدين بالإكراه مخالفًا للعقل؟ ذلك لأن هذا التعليم يتصادم مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح، إذ إن الله تعالى لا يحب إهراق الدماء. فكل عمل مخالف للعقل يتصادم مع الطبيعة الإلهية، وإن الإيمان إنما هو ثمرة الروح لا الجسد”.

يقول البابا: “إن الجملة السابقة حقيقة واضحة بالنسبة للإمبراطور الذي تلقَّى التربية بحسب الفلسفة اليونانية. وما دام الله، بحسب الإسلام، إلهًا مطلقًا، أو ما دامت مشيئته مطلقة، فإنه لا يتقيد بأية أمور أرضية أو بالعقلانية”.

ثم هناك رجل فرنسي خبير في العلوم الإسلامية، وقد قدم كلام “ابن حزم” ما معناه: ليس من شيء يُكرِه اللهَ لأن يبين الصدق لنا، كلا، بل لو شاء لأكرهَ الإنسان على عبادة الأصنام.

أقول: لا نعرف هل تكلم “ابن حزم” بمثل هذا الكلام أم لا، لأن المتحدث لم يقدم أي مرجع.

ثم يقول البابا: “هل الاعتقاد بأن الله تعالى لا يمكن أن يقوم بأمور مخالفة للعقل هو اعتقاد يوناني، أم هي حقيقة أزلية؟ أرى أن هناك توافقًا عميقا بين هذا الاعتقاد اليوناني والإيمان بالله بحسب تعاليم الكتاب المقدس”.

وهناك أمور أخرى أيضًا قد وردت في هذه المحاضرة الطويلة.

فكما ذكرت سلفا إن “البابا” يعترف هنا بأن الراوي قد ذكر كلام الإمبراطور أكثر من كلام العالم الفارسي. ولا بد أن الكاتب المسيحي لهذه الحكاية سعى لتقوية أدلته، فالواضح أن أدلة الطرف الآخر لم تُقدَّم؛ مما يدل على أنهم لم يؤدّوا مقتضيات العدل والإنصاف، بل قالوا ما يحلو لهم.

على أية حال، ما هو رأينا نحن المسلمين الأحمديين حيال ذلك؟ سوف أقول شيئًا بإيجاز في هذا الصدد على ضوء القرآن الكريم والأسوة النبوية الشريفة. ولكن سوف نحضِّر ردودا مفصلة على مطاعن “البابا” وسنسعى لإيصالها إليه حتى يعرف التعاليم الإسلامية الصحيحة، إذا كان يجهلها إلى هذا الوقت، بشرط أن يقرأها بنظرة العدل والإنصاف ويتدبر فيها. نحن نكِنّ احترامًا عظيمًا تجاه عيسى ونعتبره نبيًّا صادقًا، بل نؤمن بجميع الأنبياء الذين أتوا إلى أقوامهم المختلفة ونحترمهم. فعلى المسيحيين أيضًا أن يراعوا مشاعر المسلمين ويحترموا النبي .

يقول البابا: “إن الإمبراطور كان يعلم آية رقم 256 من سورة البقرة وهي: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ، وأن هذه السورة من أوائل سور القرآن نزولاً”.

أقول: ليست هي من السور الابتدائية لهذه الدرجة بل نزلت في السنة الأولى أو الثانية من الفترة المدَنية.

ثم يقول: “ولكن الإمبراطور كان يعرف السور التي نزلت بعدها، فكان يعلم التعاليم التي جاءت بعد ذلك بخصوص الجهاد”.

أقول: لا نعرف فيما إذا كان الإمبراطور يعلم ذلك أم لا، إلا أنه من البين أنه كان ينظر تجاه هذه التعاليم بنظرة المعارضة والعداء.

ثم يقول البابا: “القرآن يحتوي على تعليم أُمِر بموجبه التفريق في التعامل مع الكفار ومع أهل الكتاب، في حين أنه لا إكراه في الدين. ولن تجدوا في القرآن إلا التعاليم الشريرة واللاإنسانية بما فيها أن يُنشر الدين الإسلامي بحد السيف”.

أقول: إنكم ترون أنهم يختلقون أمورًا من عند أنفسهم ثم ينسبونها إلى الإسلام مع أنها لا تمتّ إليه بصلة؛ ثم يصدرون القرار بأنفسهم أن هذه الأمور تخالف العقل وتتصادم مع عدل الله.

يقولون: “إن العاقل ليس بحاجة إلى الأسلحة ولا إلى استخدام القوة”.

أقول: هذا الكلام صحيح تمامًا. غير أن قواهم الكبرى تتدخل في أمور الآخرين الذين يبعدون عنهم آلاف الأميال. فلماذا هي تستخدم القوة؟ أليس من واجبهم توجيه النصح لأفراد ملتهم أولاً وأن يخبروهم بأنهم يخطئون في هذا ولا يصيبون.

ثم إنهم لا ينظرون إلى ما حصل من حروب في التاريخ المسيحي، وما قامت به المسيحية في “أسبانيا” من مجازر أيام محاكم التفتيش، فبأية نظرة ينظرون إليها؟ أنا لا أريد الخوض في التفاصيل لأن الجميع يعرفون هذه الأمور.

ثم يقول البابا: “كان الإمبراطور يعرف أن التعاليم المنـزلة بعد ذلك -أي بعد نزول آية لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ – تُعلِّم غير ذلك”.

أقول: ما هي تعاليم الإسلام بخصوص نشر الدين، وما هي أسوة الرسول بهذا الصدد؟ فلعل العالم الفارسي كان يجهلها، غير أنني سأقدمها لكم.

إن الإسلام دين الفطرة، فلم يعلّم بأن من ضربك على خدك فأدِرْ له الآخر أيضًا. ولكننا نسأل هؤلاء القوم الذين أُعطُوا هذا التعليم إلى أي مدى تعملون بحسبه؟ الواقع أن مثل هذه الأمور من تعليمهم قد أصبحت بمنـزلة عيوب أدت إلى بُعدِ المسيحيين عن دينهم، فلا أحد يحضر الكنائس ولو مرةً واحدة في الأسبوع سوى العجائز. حتى إنهم قد بدأوا يؤجّرون الكنائس للاحتفالات والمناسبات الأخرى. فترى في الغرب لافتات معلقة على واجهات الكنائس مكتوب عليها: “للبيع”.

لقد كتب بروفيسور أمريكي “أيدون لويس”: “إن الناس في القرن العشرين ليسوا مستعدين لاعتبار المسيح إلهًا”.

ويقول “السير سائرل” رئيس كلية “سينت جيمز” في “أكسفورد”: “يجب التذكر دومًا أن عددًا كبيرا من الرجال والنساء من أوروبا وأمريكا لم يعودوا مسيحيين، ولربما الأصح أن معظمهم قد أصبحوا هكذا”.

كذلك هناك تصريحات مماثلة عن أفريقيا أيضًا، إذ يعترفون بأنفسهم أن التعاليم المسيحية بدأت تتلاشى منها. ونتيجة لهذا الوضع لجأوا إلى هذه الطرق التافهة ضد الإسلام.

تعالوا نر الآن حقيقة الصورة التي يقدمها غير المسلمين عن الجهاد الإسلامي؟!

يقولون: كان الإمبراطور يعلَم بأحكام القرآن.

ولكن ماذا يقول القرآن الكريم بهذا الصدد؟ يقول الله تعالى:

  وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف:30).

لقد أمر الله تعالى هنا نبيّه أن يخبر العالم أن الإسلام حقٌّ، وأن هذا الحق من ربكم، ولكنكم مخيرون في قبوله أو رفضه؛ فمن أراد قبوله فليؤمن ومن أراد رفضه فليكفر، لأنه قد صدر قرار رباني من قبل بأن لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .

ثم يقول تعالى:

  قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (يونس:109)

وقد طبق النبي هذا التعليم بأسوته الحسنة أيضًا. كان الأنصار قد أعطوا أبناءهم لليهود من بني النضير، فلما أُجْلِيَتْ بَنُو النضِيرِ من جراء أعمالهم، أراد الأنصار استعادة أبنائهم، فقال النبي : لقد أعطيتم ما أعطيتم، ولا إكراه في الدين، فليبق هؤلاء عندهم الآن. (1)

كان الصحابة يفهمون هذا التعليم ويعملون بحسبه. يذكر مولى لعمر : كان عمر بن الخطاب يقول لي: أسلمِْ، فأبيت عليه، فكان يقول: لا بأس، لا إكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة أعتقَني، وقال: اذهب حيث شئت. (2)

هذا هو التعليم الإسلامي، وهذه هي الأسوة العملية للمسلمين في حرية المعتقد بحيث لم يمارَس الإكراهُ حتى ضد المماليك والخدم. ويأتي البابا اليوم ويقول: “الإسلام يأمر بالجبر والإكراه في الدين”!!

ثم يقول القرآن الكريم:

  وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران:21)..

أي أن الله وحده يقرر من يعاقبه ومن يغفر له.

هذه هي أحكام الإسلام، والآية الأخيرة قد نزلت بعد فتح مكة حين كان المسلمون غالبين. فبدلاً من توجيه الاعتراضات التافهة عليهم أن يتعقلوا ويلتزموا بالعدل. لا يوجد في الإسلام أي مثال على الإكراه في الدين. إنهم يفترون على النبي بأنه مارس الإكراه في حين أنه كان لا يقبل أن يدخل أحد الإسلامَ نفاقًا. ورد في رواية أن أسيرًا كافرًا عُرض عليه ، فقال: لماذا أسرتموني؟ فإني قد أسلمت. فقال : لو أسلمتَ قبل ذلك لكان مقبولاً، أما الآن فتسلم خوفًا، وتقول ذلك ليُفَكّ أسرك. ثم أطلق سراحه لقاء إطلاق أسرى المسلمين.

إذًا فلم يكن النبي يُدخل الناس في الإسلام قهرًا، إنما كان يهدف إلى أن تُقدَّم إلى الله تعالى قلوب مخلصة.

لقد أمر الإسلام بالحرب، ولكن فقط لصدّ العدوان أو درأً لفتنته، فإن تحسنت الأوضاع وانتهى العدو عن العدوان أو الفتنة فلا جواز لحربه. قال الله تعالى

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة:194)

وقد ورد توضيح هذا الأمر الإلهي في رواية عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله إِذْ كَانَ الإِسْلامُ قَلِيلا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ، إِمَّا يَقْتُلُونَهُ وَإِمَّا يُوثِقُونَهُ، حَتَّى كَثُرَ الإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ (البخاري، كتاب التفسير). أي فلما انتهت الفتنة انتهى ما شُرعَ بسببها.

ثم يقول الله تعالى:

  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:9)

هذا هو العدل الذي أحدث انقلابًا ليس في زمن النبي فقط بل بعده أيضًا. لو ألقيتم نظرة على حياة الصحابة لوجدتم أن الانقلاب الحاصل في حياتهم لا يمكن أن ينشأ بإكراه الناس على تغيير الدين، بل يحدث عندما تتغير القلوب وتتم حتى مع الأعداء معاملةٌ مثالية بحيث تحوّلهم محبين عشّاقًا.

وقد حصل ما يشابه ذلك عند فتح مكة لما فر عكرمة.. أحد ألدّ الأعداء.. وطلبت زوجته من النبي أن يعفو عنه، فعفا عنه. فماذا حدث في حياته بعد ذلك؟ لقد حدث انقلاب لا يمكن حدوثه بالسيف. لقد ازداد إيمانه وارتقى بحيث لا يمكن أن يتأتى ذلك بدون المحبة الحقيقية. لقد عمر القلوب إخلاصٌ لا يحصل إلا نتيجة الحب الصادق، وارتفعت مستويات التضحية بما لا يمكن أن يحدث مثله إلا بعد تغيير القلوب. لقد أبدوا على الإسلام غيرةً لا تأتي إلا بعد الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام. ولقد أظهر الصحابة نماذج رائعة لحبهم للإسلام وغيرتهم عليه، والتاريخ حافل بمثل هذه الأحداث.

لقد شارك عكرمة في جميع الحروب ضد النبي والمسلمين، وسعى جاهدًا للقضاء على الإسلام، وفي نهاية المطاف عندما فتحت مكة فرّ معتبرًا الانقياد للنبي ذلة وهوانًا له. ولكنه لما أسلم ازداد إيمانًا وإخلاصًا لدرجة أنه استبسل في القتال ضد المتمردين في عهد أبي بكر . ففي إحدى المرات كانت المعركة على أشدها وبدأ الناس يُقطعون ويُحصدون بالسيوف كما يحصد العشب بالمنجل. فأخذ عكرمة في هذا الوقت الحرج بعضًا من أصحابه واقتحم جنود العدو حتى وصل في وسطهم. لقد منعه بعض الناس قائلين إن الحرب على أشدها فليس من المحبذ اقتحام جنود العدو في هذا الوقت، ولكن عكرمة لم يكترث لقولهم وتقدم قائلا: “كنت أقاتل بنفسي عن اللات والعزى فأبذلها لهما، أفأستبقيها عن الله ورسوله؟ لا والله أبدًا”. وبعد انتهاء القتال وجدوا جثته ممزقة بجروح الأسنة والسيوف. (أسد الغابة في معرفة الصحابة، والإصابة في تمييز الصحابة)

أما بالنسبة إلى التضحية المالية فكان عكرمة كلما تلقى نصيبًا من الغنائم أنفقه في خدمة الدين. فمثل هذه التغيرات لا تحصل بالسيوف وإنما تحدث بالتغيير في القلوب.

إن التهمة التي تُلصق بالمسلمين أنهم كانوا يُكرهون الآخرين على الإسلام فالتاريخ يكذّبها. ولننظر إلى تعاليم الرسول فيما يتعلق بمعاملة غير المسلمين وكيف كان يحض كثيرًا ويهتم أشد الاهتمام بمعاملتهم بالحسنى.

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي قال:

 “مَن قتَل معاهِدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنة”. (البخاري: كتاب الجهاد، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم)

أما عمر فورد في رواية أنه مرّ بمسلمين يقسون على قوم غير مسلمين لامتناعهم عن أداء الجزية، فوقف عمر وسألهم غاضبًا: ما بال هؤلاء القوم؟ فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذَّبون حتى يؤدوها. فقال عمر: فما يقولون؟ قالوا يقولون: لا نقدر على دفعها. فقال عمر: فدعوهم. لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، فإني سمعت رسول الله يقول: لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذّبون الناس في الدنيا يعذّبهم الله يوم القيامة. وأمر بهم، فخُلّيَ سبيلهم. (كتاب الخراج: فصل: من تجب عليه الجزية)

ونتيجة لوصية النبي وأسوته كان عمر شديد الاهتمام برعاياه غير المسلمين، حتى كان فيما تكلم به عند وفاته “أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفوا فوق طاقتهم”. (كتاب الخراج: فصل: من تجب عليه الجزية)

إذا كان هؤلاء الناس يُكرَهون على الإسلام؛ فكيف يُؤمر المسلمون أن يعاملوهم بهذه المعاملة الطيبة.

وكان النبي بعد هجرته إلى المدينة قد عقد مع يهود خيبر معاهدة، وكان يبعث صحابيه عبد الله بن رواحة للاقتطاع من محاصيل اليهود بحسب المعاهدة. فكان عبد الله بن رواحة يرفق بهم في الاقتطاع نتيجة ما أوصاه به النبي ، فكان يقسمها جزءين، ثم يخير اليهود أن يأخذوا ما شاءوا، ويأخذ هو ما تركوه. (سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب في المساقاة) (3)

وبناءً على وصايا النبي وقدوته كان عمر يهتم بأداء حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية ويعمل على راحتهم لدرجة أنه كان يوصي وُلاته برعاية أهل الذمة، كما كان يسأل الذميين عما إذا كانوا يعانون من شيء.. فقد جاءه ذات مرة وفد من أهل الذمة، فقال لهم: لعل المسلمين يُفضُون إلى أهل الذمة بأذًى وبأمورٍ لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا: ما نعلَم إلا وفاء ًوحُسنَ مَلِكةٍ (أي حسن المعاملة). (تاريخ الطبري، سنة 17: ذكرُ فتح رامهرمز وتستر)

لقد أمر الإسلام بالحرب، ولكن فقط لصدّ العدوان أو درأً لفتنته، فإن تحسنت الأوضاع وانتهى العدو عن العدوان أو الفتنة فلا جواز لحربه.

ولما فتح المسلمون بلاد الشام في عهد عمر أخذوا الجزية من سكانها المسيحيين بحسب المعاهدة، ولكن بعد أيام قليلة أوجسوا خطر الهجوم الجديد من قبل الإمبراطورية الرومانية، فرد الأمير المسلم على الشام أبو عبيدة بن الجراح أموال الجزية كلها إلى المسيحيين قائلاً: ما دمنا لا نقدر على أداء حقوقكم نتيجة هذه الحرب، فلا يحق لنا أن نحتفظ بأموال الجزية التي أخذناها منكم. فأخذ المسيحيون يدعون للمسلمين قائلين: كتب الله تعالى لكم الفتح على الروم، وجعَل حكم هذه البلاد في أيديكم. فلما انتصر المسلمون على الروم فرح المسيحيون فرحة كبيرة وأعطوا أموال الجزية للمسلمين ثانية. (انظر كتاب الخراج لأبي يوسف، وفتوح البلدان للبلاذري: أمرُ حمص ويوم اليرموك)

فليخبرني هؤلاء هل هكذا يكون الإكراه في الدين؟!! الحق أن هؤلاء الذين يلصقون التهم الباطلة بالنبي لو نظروا بعين الإنصاف في أحداث التاريخ؛ لوجدوا أنه لم يُكره أحدًا على الإسلام قط؛ بل كان يدعو إلى الإسلام برفقٍ وحبٍ ولطـفٍ لأن في هذا خـير ومنـفعة الإنسان الذي يدعى إلى الإسلام.

كان النبي وصحابته يراعون مشاعر غير المسلمين زمن غلبة المسلمين وعهد حكمهم. ففي رواية أن غلامًا يهوديًا كان يخدم النبي ، فمرِض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلِمْ. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم . فأسلمَ، فخرج النبي وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذَه من النار.” (البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلَّى عليه)

إن هذه الأحكام القرآنية الكريمة والأسوة النبوية الشريفة وتلك الأحداث وغيرها تكشف بطلان تلك المزاعم الظالمة والتهم الباطلة التي تنسب إلى الإسلام بأنه يُكره الآخرين على قبوله واعتناقه؛ وأنه قد انتشر بحد السيف.  (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك