وإنك لعلى خلقٍ عظيم 

وإنك لعلى خلقٍ عظيم 

التحرير

الأخلاق هي السجايا والطِّباعُ والدِّينُ، وتطلق اصطلاحا على الصفات التي ترتسخ بالنفس فيستحق الموصوف بها مدحا أو ذمّا.. والأخلاق نوعان: فاضلة وقبيحة، وتستقي كل واحدة منها جذورها من النفس وحالاتها. والإنسان لا يمكن أن تتجلى إنسانيته الحقيقية إلا بخُلق ذي جذور روحانية أصيلة، نوازعَهُ تنبع من إيمان بالله وبتعاليمه المنـزّلة التي هي بمثابة المطر تسقي حديقة النفس فترويها.. وعلى هذا الأساس كانت دعوة كل الرسل والأنبياء تشترك في هذا النوع من الإصلاح الأخلاقي الوثيق الصلة بالإيمان. لقد جاءوا بتعاليم روحية زرعت بذور نوازع الأخلاق في صدور الناس وعلموا أتباعهم كيفية الرقي بالنفس إلى حيث الأخلاق الروحانية. وقد تجلى هذا الإصلاح بقوة وجلاء في رسالة سيدنا محمد المصطفى أكمل وأعظم الأنبياء الذي جاء بالهدي الكامل والإصلاح الشامل لبني نوع الإنسان فأكمل تعليمه منظومة الأخلاق البشرية حيث اختزل عليه الصلاة والسلام مقاصد بعثته حينما قال: إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق! أي أن يصل الخُلُق ذروته متجردا من صبغته الطبعية، بحيث يمكن أن يُسَمَّى كلُّ سلوك خُلُقاً ربانيا، ذلك الخُلق الأصيل ذو جذور روحانية، والذي لا يمكن لأحد أن يتفوق عليه بعُرْف أو عادات أو فلسفات مهما كانت في مظهرها وشعاراتها مُثْلَى.

وما خَلَتْ العرب قبل بعثة الرسول وبُعَيْدَ بعثته من عادات وأخلاق ومُثُلٍ حسنة رغم المفاسد والرزايا الجاهلية، وما كانت خالية يوما من كرم وجود وغيرها، بَيْدَ أن هناك من اشتهروا في ذاكرة تراثهم بخصال حميدة نالت شهرة وذاع صيتها في الجزيرة العربية، كحاتم الطائي وغيره، لكن ذلك وإن كان خُلُقاً محمودا في الظاهر لكنه لم يكن سوى نَزْعَة حَمِيَّةٍ قَبَلِيَّة وعُرْفٍ متعارف عليه، وتقليدٍ متوارث عن الآباء والأجداد.. بينما لو استقرأنا سيرة وأخلاق شخص كرسول الله لعلمنا الفارق الجوهري الذي يميز جذور وطبيعة أخلاقه عن تلك التي أَلِفَهَا العَرَب! ، فما هو السر الذي جعل الموالين والمعادين من أهل قريش مع كل إرثهم وقيمهم وعاداتهم الأصيلة يرون محمدا متفردا بأخلاق عظيمة قبل بعثته وبعدها مقرّين بتفرده بصفات أخلاقية لا ينازعه فيها أحد من قبل أو من بعد!، ونذكر في هذا المقام إلى حادثة تاريخية شهيرة لعل القارئ الكريم يستوعب ما نطمح أن نوصله إليه..

لما قامت قريش بترميم الكعبة قبل بعثته تشاجروا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، فاتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فشاء قدر الله أن يكون أول داخل هو رسول الله ، ففرحوا جميعًا وقالوا جاء الأمين جاء محمد!. لقد قدَّموا صفته الأخلاقية نعتا له، وأَخَّرُوا اسمه محمدا! وهذا ثناء عظيم يشهد على نوعية خصاله المتفردة عليه الصلاة والسلام… وبعد هذه الحادثة بفترة صعد ذات يوم على الصفا وجعل ينادي قائلاً: يا بني فهر يا بني عدي، بطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا ليستفسر عن ماهية هذا الأمر، وحضرت قريش وعلى رأسها أبو جهل، فقــال لهم رسول الله :أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟، قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا! قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!. وها هو أشد أعداء رسول الله أبو جهل ما استطاع أن يتجرأ لينكر صدقه حينما قال: “إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به . وقد سجل القرآن ذلك المنطق العجيب فقال:

  قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الأنعام: 34

ولما قال الأخنس بن شريق لأبي جهل: “يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟” فقال: “ويحك والله إن محمدًا صادق وما كذب محمد قط”! الخ.. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان إن كانت قريش تتهمه بالكذب قبل دعواه أجاب بالنفي أيضا!!. لقد كان بحق محمود الخصال فكان بحق محمدا ظاهرا وباطنا، وشهدت الأرض بعظمة أخلاقه، وشهدت السماء!!: وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم ومن أصدق من الله شهادة!.

هناك كثير من المجتمعات القديمة والحديثة التي تتمسك بقيم وأعراف أخلاقية تبدو في مظهرها العام منسجمة ومقياس الأخلاق الفاضلة بحيث قد يعتبرها البعض أنها غاية في الكمال، لكن المتمعن في جذورها الحقيقية يجدها غير نابعة من وازع إيماني، بل هي على الأغلب مجموعة من الذَّوْق والتربية واللَّبَاقة الاجتماعية! بمعنى أنها أفكار وفلسفات اجتماعية، كالتقاليد والأعراف، أو منطلقات فكرية متأثرة بالدهرية والمادية كما هو في عصرنا! وبهذا المنظار يرى الإنسان المعاصر غالبا الأخلاق‏، ولكن كيف يمكن اعتبار ذلك السلوك الاجتماعي خُلُقاً فاضلا نابعا من جذوة الإيمان وهو منـزوع الصِّلَةِ بالخالق!، ويرى أصحاب هذه الأخلاق المجردة أن الأخلاق لا حاجة أن تُسْتَقَى من تعليم سماوي أو حتى أن ترتبط بوجود الله!؟ إن أخلاق مثل هؤلاء الدعاة من البشر غير المؤمنين مهما كانت تتسم بمظهر لائق، إلا أن هذا لا يعدو أن يكون ما للكلب من صفة الوفاء! لمجرد أنه يألف الإنسان ويخضع له ويؤنسه ويخلص له؟! فهل يسمى هذا خُلُقاً فاضلا؟! وهل هذا يؤدي إلى الرقي بهذا الحيوان إلى حال أعلى ليتجاوز حيوانيته! وهل يستقطب اهتمام أحد! فيشير إليه بالبنان مثلا؟!. كما أن العقلاء من الناس لا يفاضلون بين الحيوانات لعلمهم بخصائصها الغريزية وصفاتها التي لا يخلو منها النوع الحيواني؟ وبالتالي لا يصح أن تنسب تلك الصفات السلوكية التي يتحلى بها أصحاب الدعوات الفلسفية والإلحادية مهما كان ظاهرها جميلا إلا بما يتصف به الحيوان وبالتالي يجب أن لا تُقْرَنَ بالمعنى الأخلاقي الصحيح للأخلاق كما فسرتها تعاليم الأنبياء؟! لأن الأخلاق كما جاء بها الأنبياء غايتها جعل العقل مسيطرا على السلوك والغرائز باسترشاد الوحي؟ في حين أن المتحررين من الوحي يعودون بالإنسان إلى حالة طبعية دون ضابط أو وازع!

إن الأخلاق التي وازعُهَا الإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يولّد ثورة في النفس وهو الذي يصقل المواهب الأخلاقية لتكون روحانية، وإيمان كهذا هو من يغذي سلوكياتنا لتكون وفق مقياس الشريعة، ومن دون هذا الإيمان والحب لا يمكن أن تتطور أخلاق الناس لتكون أخلاقا حقّة.. وحيث إن الإنسان هو مناط التكليف دون سائر الكائنات كونه الكائن العاقل، فقد هيأ الله له في الشريعة الكاملة التي هي القرآن كل ما سيساعده للرقي بسلوكه رقيا يُعَدِّلُ حالاته الطبعية والأخلاقية والروحانية لتتحول إلى أخلاق حقّة، لأن ما تسعى إليه تعاليم القرآن في مقاصدها أن يُستعمل كل خُلق في محله المناسب تحت توجيه الوحي القرآني وإعمال العقل الإنساني.

ولا ننسى أن الإسلام ربط بين الإيمان وعمل الصالحات برباط وثيق لا ينفصم كما يتجلى في آيات كثيرة من القرآن الكريم هو أشبه ما يكون بالأرض الخصبة التي هي في حاجة إلى جهد فلاح يفلحها ويبذرها ويرويها لتؤتي ثمرها فينتفع منها ومن غلالها، وهذا الإيمان المقرون بالعمل الصالح هو الخُلق الحقيقي الذي يمكن تسميته خُلُقا، وهذه هي منظومة الأخلاق التي يقدمها الإسلام للإنسانية لا كما تقدمها الأعراف والمفاهيم الاجتماعية والفلسفية على مر العصور..

Share via
تابعونا على الفايس بوك