أول بيت وُضع للناس.. رمز لنعمة عظيمة

أول بيت وُضع للناس.. رمز لنعمة عظيمة

التحرير

من العجيب جدا أن يأمر الله تعالى نبيه إبراهيم أن ينقل ابنه البكر وزوجته الشابة ويضعهما في ذلك الموضع، في وادٍ مِقْفَر غير ذي زرع، حيث لا ماء ولا حياة ولا معين أو كفيل من الناس. فصدع إبراهيم كما صدعت زوجه السيدة هاجر بأمر الله. ومضى إبراهيم بعد أن دعا ذلك الدعاء الذي يفطر القلب، وهو يترك عِرْضَه وفلذة َكبده في ذلك الموضع الموحش. ولكن ما إن نفد الزاد ونفد الماء حتى استدر سعيُ السيدة هاجر وبكاء الرضيع اسماعيل  رحمة َ الرحمن الرحيم، فانفجر زمزم بماء سلسبيل جلب الناس المحيطين كي يقطنوا هذا الوادي الأجرد، ويصبح هذا الوادي ممتلئا بالحياة ويعود قرية بل أم القرى التي نشأت فيها الحضارة في زمن سحيق وعصر عتيق. ثم عاد إبراهيم إلى هذه البلدة الصغيرة كي يرفع قواعد البيت العتيق هو وإسماعيل عليهما السلام، ويطهرا بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود، ثم ليؤذن في الناس بالحج فيأتوه رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.

ولعل من أهم ما هو ملفت للنظر هو أن إبراهيم لم يَبْنِ بيتًا للعبادة في موضع آخر كبلاد الشام التي كانت مسرح أحداث معظم حياته، بل أعاد بناء هذا البيت في هذا الموضع، كأنه يريد أن يشهد العالم أجمع أن الدين الذي سينشأ في هذا المكان هو الدين الذي كنت أحلم به وأدعو له، وهو الدين الذي سيجمع الناس كما جمعهم نداؤه للحج إلى هذا البيت، والذي بقي حيا في قلوب العرب فترة طويلة من الزمن بشكل مذهل، مع أنهم كانوا قد نسوا كل ما جاء به إبراهيم من تعاليم تقريبا.

واستمر العرب في الحج إلى هذا البيت الذي كانوا يعظمونه وهم في جاهليتهم. وجاء الإسلام ونبي الإسلام سيدنا محمد ليجعل الحج إلى هذا البيت العتيق ركنا من أركان هذا الدين، بعد أن طهره من دنس الشرك ومن رجس الأوثان. ولكن المثير للاهتمام هو كل هذا التركيز على هذا البيت. وهذا ما أشار إليه القرآن في بيان موجز ولكنه غاية في الشمول والكمال. فقد بين القرآن الكريم: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . أي أنه أول بيت وضع للناس. ولم يقل القرآن الكريم أنه أول معبد أو أول مسجد وضع لعبادة الله مثلا. ولم يذكر القرآن الكريم اسم بانيه الأول وزمن هذا البناء وإنما أشار أنه البيت الذي سبق كل البيوت. وكان البيت قبل أن تكون مكة وقبل أن تدعى بهذا الاسم. وكان عندما لم يكن الناس منقسمين إلى شعوب وقبائل، بل كانوا في أول خطواتهم تجاه الحضارة. فعندما أراد الله تعالى أن ينقل الناس من مخـلـوقـات لا تعرف الحضارة إلى أناس متحضرين، كان أول شيء قد هداهم الله تعالى إليه هو طريقة بناء البيوت بعد أن كانوا يسكنون الكهوف ويقطنون الغابات. فجاء وحي الله تعالى بالتصميم الأولي لهذا البناء الذي كان اللبنة الأولى في نهضة البشرية. كذلك بما أن الناس لم يكن لديهم الوسائل اللازمة لتجهيز أحجار هذا البناء كالأدوات الحديدية على سبيل المثال، فقد أرسل لهم الله تعالى هذه الحجارة أيضًا. فأسقطها حجارة نيزكية اخترقت الغلاف الجوي فأصبحت سوداء اللون نتيجة احتراقها. وكانت بأحجام يمكن أن يتم استخدامها في بناء جدران هذا البناء البسيط. فكانت هداية الله ووحيه هي الخطوة الأولى في نهضة البشرية والمـَـدَنية، كما أن المواد الخام كانت هدية من الله تعالى أيضا. أي أن هذا البيت أصبح رمزا لإنعام الخالق الرحمن الذي جاء في وقت لم يكن الناس يعلمون أو يقدرون أن ينشئوا فيه أبسط أولويات المـَدَنية والحضارة. فهكذا كان هذا البيت هو الحلقة الأولى من حلقات الرقي الإنساني التي وصلت إلى مراحل لم يعد فيها الناس يذكرون هذه البداية المتواضعة. ولا شك أنه قد قام الناس بعدها ببناء بيوت تشابه هذا البناء في تلك البلدة كي يسكنوا فيها. فكانت تلك البلدة هي أول قرية على وجه الأرض ولهذا فهي أم القرى. ومضت القرون ونسي الناس هذا البـيـت وانمحت آثاره. فجاء إبراهيم ليعيد للناس هذا البيت وبالتالي ليعيد لهم هذه الذكرى. ولكي يذكروا نعمة الله عليهم. ولكي يعودوا آمِّين لهذا البيت بعد أن فرّقتهم العصبيات والانتماءات، فيعودوا كأمة واحدة تذكر نعمة الله تعالى وتأتي كي تتذكر هذه النعمة العظيمة التي أصبح هذا البيت رمزًا لها. وهكذا فإن أولى الناس بهذا البيت هم المسلمون أتباع سيدنا محمد المصطفى الذي كان مضمون رسالته يتلخص في جمع الناس كي يوحدوا الإله الخالق المنعم. فكما أن هذا البيت للناس، فهم ورسالتهم ما هم إلا للناس ولخدمة الناس والإنسانية على وجه الأرض. لأنهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وكان الحج بمثابة تأكيد على وحدة الأمة الإسلامية أولا، وعلى هدفها السامي وهو توحيد البشرية والناس أجمعين والعمل على تحقيق الخير والازدهار للناس كافة دون تمييز. فهذه هي رسالة الحج الأولى التي يريد الله تعالى أن يوصلها للناس والمسلمين خاصة، فعسى أن ينتفعوا بها جميعا.

وللحج شعائر تتضمن رسائل محددة للمؤمنين. فالطواف بالبيت هو استذكار لنعمة الله تعالى الذي هدى وأعطى في البداية وما زال عطاؤه مستمرا. أما استلام الحجر أثناء الطواف فيتضمن رسالة مهمة أيضا. فقد شاء الله تعالى أن يضع المصطفى الحجر بيده عند إعادة بناء الكعبة قبيل بعثته الشريفة. فوضع الحجر على عباءته الطاهرة ثم رفعه جماعة، كل واحد منهم يمثل قبيلة، ثم تناوله بيده الشريفة ووضعه في مكانه. وهذا الحجر له خصوصية لأنه البقية الباقية من الأحجار السوداء الأولى التي بُني بها البيت أول مرة. وقد كان الرسول  يستلمه ويقبله. ولم يوضح الرسول سبب هذا التقبيل ولكن الصحابة الأخيار الأطهار تبعوه فيما فعل دون أن يسألوه. وقد وقف به سيدنا عمر وقال قولته الشهيرة “والله إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله يقبّلك ما قبّلتُك”. وقد كان من العجيب أن يستلم الرسول حجرا ويقبله والمسلمون ما زالوا حديثي العهد بالإسلام بعد وثنية ألفوا عليها آباءهم. وهذا الفعل الذي قد يبدو قريبا من الوثنية قد فعله المصطفى  لحكمة عظيمة جدا، أهم ما فيها هو أن يأخذ المؤمنون من الرسول ما يأمرهم به دون أن يدركوا الحكمة من وراء ذلك دائما. فهو رمز لطاعة الرسول والأخذ بما أمر به. كذلك فإن خلف هذا التقبيل جانب حكمة عظيمة آخر وهو كأن الرسول يستذكر نعمة الله تعالى ويقبلها كما يقبل الحبيب هدية حبيبه. وهكذا يصبح الحجر هدية عظيمة. فهذا الحجر هو جزء من هذه الهدية المباركة التي تجلت في الوحي ببناء أول بيت وأول خطوة في الحضارة الإنسانية والتي رافقها تقديم أحجار البناء أيضا عندما لم يكن للناس حيلة كي يصنعوا ويجهزوا بها الأحجار. فهو حجر لا يضر ولا ينفع وقد صدق الفاروق في ذلك، ولكنه بقية هدية المولى الرحمن الرحيم للناس أجمعين.

ويشتمل الحج على شعائر أخرى كالسعي الذي يذكر بفيض رحمة الله تعالى عند اشتداد الأزمات. وكالرجم الذي يذكر الناس بأن الله هو رب الناس وملكهم وإلههم وليس الشيطان الرجيم. والوقوف بعرفة الذي يذكر الناس بضرورة التوجه لله تعالى ورجاء الرحمة منه. والذبح الذي يذكر بذبح النفس الأمارة والخضوع كلية لله تعالى ولأوامره، وغيرها من الأمور التي أداها المصطفى وصحابته الكرام من بعده اقتداءً به ومن ثم ملايين الملايين من المسلمين من يوم الحج الأكبر إلى يوم الدين.

نرجو من الله تعالى أن يقرب أيام نصره وفتحه المبين، وأن يحقق نصرة الإسلام على الدين كله، فيتوجه الناس جميعا من المسلمين وغيرهم إلى الله رب العالمين. فيكون البيت مثابة للناس جميعا، وأمنًا تحت ظل خير أمة جعلها الله في خدمة الإنسانية جمعاء. أمة تكون مظهرا لعبودية رب العالمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك