الخَلق والخُلق

ويجدر بي أن أعرّف هنا كلمةَ الخُلُق باختصار. فاعملوا أنّ الخَلْق اسم للتكوين الظاهري، وأنّ الخُلُق اسم للتكوين الباطني. وبما أنّ الخِلْقة الباطنة إنما تتكامل بالأخلاق وليس بالميول الطبعية وحدها، لذلك أُطلق لفظ الخُلُق على الأخلاق دون الميول الطبعية.

ومن المناسب أيضًا بيان أنّه من الخطأ الفاحش ما يزعمه الناس عامة أنّ الخُلُق إِنما هو عبارة عن الحلم والرّفق والتّواضع. كلا، بل المراد بالخُلُق جميع كيفيات الكمال البشري التي أُودعت باطنَ الإنسان بمحاذاة أعضائه الظاهرة. مثلا.. يبكي الإِنسان بالعين، وتقابل هذا البكاء قوةٌ في النفس هي رقة الفؤاد؛ فإِذا استعملها الإِنسان في محلها باسترشاد من العقل الموهوب له صارت خُلُقًا. وكذلك يقاوم الإِنسانُ العدوَّ بيديه، وتوازي هذه الحركةَ الظاهرية قوةٌ في النّفس.. هي الشّجاعة؛ فإِن استخدمها الإِنسان طبقًا لما يلائم الموقف أصبحت أيضًا خُلُقًا. وكذلك يريد الإِنسان أحيانًا استخدامَ يديه لإنقاذ المظلوم من الظالم، أو لإعطاء العاجز المعدم شيئًا، أو لخدمة بني نوعه بطريق آخر.. فهذه الحركة تماثلها في النفس قوةٌ هي الرحمة. وآونةً يعاقب الظالمَ بيديه، ونظيرُ هذه الحركة الجسدية قوةٌ في القلب نسميها الانتقام. وتارةً يستنكف الإنسان من أن يقابل المعتديَ بالمثل فيصفح عنه، وبإِزاء هذه الحركة قوةٌ في النفس تسمَّى العفو والصبر. وطورًا يستخدم يديه أو رجليه أو عقله لخير بني نوعه، ويبذل ماله لنفعهم، وتقابل هذه الحركة قوةٌ في النفس تُدعَى السّخاء والجود. فإذا استعمَل الإنسان جميع هذه القوى في مواضعها وظروفها الملائمة سمِّيَت أخلاقًا.

يخاطب الله جل شأنه نبيَّنا بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم (القلم:5). ومعنى هذه الآية – طبقًا للشرح المذكور – إنك مستوعب لجميع أقسام الأخلاق من سخاء، وشجاعة، وعدل، ورحمة، وإِحسان، وصدق، وهمة، وما شاكلها. وباختصار: فإِن جميع القوى الطبعية الموجودة في الإِنسان مثل الحشمة والحياء والأمانة والمروءة والغيرة والاستقامة والعفة والزهد والعدل والمواساة والشجاعة والجود والعفو والصبر والإِحسان والصّدق والوفاء وما شابهها من الحالات الطبعية.. إِذا أظهرها الإنسان في أوقاتها ومواضعها الملائمة بإِعمال الفكر وإِيماء العقل، كانت كلها أخلاقًا. إِنها في الأصل غرائز الإنسان، وإِنما تُسمى أخلاقًا عندما يتصرّف فيها بالإِرادة حسب اقتضاء الزّمان والمكان. وبما أنّ من خصائص الإِنسان الطبعية أنّه كائنٌ قابل للرّقي والتّقدّم.. لذلك يستطيع أن يبدِّل طباعه هذه إِلى أخلاق باتباع الدّين الحقّ والتعاليم الحسنة، والصّحبة الصالحة.. الأمر الذي لا يتّصف به كائنٌ آخر.

Share via
تابعونا على الفايس بوك